حضارة التزكية

حضارة التزكية

حضارة التزكية

Loading

حضارة التزكية

وإن شئت فقل: (حضارة التصوُّف)… ولعلّ القارئ الكريم يتفاجأ من هذا العنوان الذي يجمع بين كلمتين لا يظهر بينهما ارتباط، بل تبدوان متناقضتين حسب ما يُروَّج اليوم، فالحضارة: علمٌ، وعملٌ، وابتكارٌ، وإبداعٌ، وبناءٌ، وازدهارٌ، وانتصارٌ، أمّا التزكية والتصوُّف: فزهدٌ، وعبادةٌ، وفقرٌ، وإعراضٌ عن الدنيا…

إنَّ هذه النظرة السلبيّة إلى التصوُّف تُخالف حقيقته الأصليّة والمعنى الذي نقصده. فالتصوُّف هو تطبيق الدين بكماله من عبادةٍ، وسلوكٍ، وتزكيةٍ للنفوس، مع الشعور بالخلافة لله في الأرض بالتعبُّد بعمارتها، ونشر العلوم المفيدة، وإقامة العدل، وبذل الطاقة في نفع الأمّة، مع الإخلاص لله، والابتعاد عن الحظوظ النفسية (حظوظ النفس) ، وعدم التعلّق بالدنيا، وتزكية النفس من حبِّ الظهور، والرياء، والعجب، والكبر، ونحوها من الصفات الذميمة.  

فهذا هو المعنى الحقيقيُّ للتصوّف الذي كان عليه سلف الأمَّة، وإنّ كبار أعلام المسلمين وخلفاءهم وعلماءهم وأبطالهم الذين صنعوا الحضارة الإسلامية كانوا من ذوي التزكية والسلوك منذ صدر الإسلام، فالخلفاء الراشدون، والقادة الفاتحون، والأبطال المقاتلون، وعلماء السلف، كانوا متحقّقين بمعنى التصوّف من تزكيةٍ وزهدٍ، وإليك أنموذجاً يتجلَّى فيه هذا المعنى من  الفاتحين من الرعيل الأوّل:

 عندما انتصر المسلمون في معركة القادسيّة، ورأوا ما لم يخطر في بالهم من الذهب، والجواهر، والتُّحَف، والبهرج، والنفائس التي كانت في مُلك كسرى، لم يأبهوا بها، ولم يدخل أفئدتهم الهلع والاستعظام، ولم يركنوا إلى الدنيا، بل استهانوا بكلِّ ذلك، وكان في أعينهم كالحجارة؛ لأنَّ قلوبهم كانت زاهدةً بالدنيا؛ ونفوسهم مزكَّاة، وفي المقابل فقد أخذوا بكلِّ أسباب القوّة والتخطيط لتحقيق النصر.

وأراد عمر رضي الله عنه أن يرسِّخ لديهم حقارة الدنيا وزوالها، فألبس ثياب كسرى الفاخرة النفيسة لخشبة ونصبها أمامه؛ ليُري الناس ما في هذه الزينة من العَجَب، وأنّ عاقبة الملوك والأكاسرة وثرائهم إلى فناء، فلا تتعلَّق قلوبهم بشيءٍ من الدنيا [انظر: البداية والنهاية: (7/ 78)].

 لذا لا غرو أن نجد ابن خلدون يصف الصحابة والسلف بأنّهم صوفيّة، مع أنّ مصطلح التصوُّف جاء متأخِّراً، فقال: (في علم التصوُّف: هذا العلم من العلوم الشّرعيّة الحادثة في الملّة، وأصله أنّ طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمَّة وكبارها من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم طريقة الحقِّ والهداية، وأصلها العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدّنيا وزينتها، والزّهد فيما يُقبل عليه الجمهور من لذّةٍ ومالٍ وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عامّاً في الصّحابة والسّلف) [تاريخ ابن خلدون- المقدّمة: (1/ 611)].

فالانقطاع إلى الله والزهد موضعه القلب، ولا يتنافى مع العمل والكسب وتحقيق الانتصارات وطلب العلوم بأنواعها البتَّة، ومن ثمَّ فإنَّ حضارتنا بُنِيت على التزكية والتصوُّف الذي تكتمل فيه عناصر الدين الموصلة إلى مقام الإحسان.

مساهمة علماء التزكية والتصوّف في العلوم الكونيّة في الحضارة الإسلاميّة:

إنّ كثيراً من العلماء الذين ساهموا في علوم الحضارة الإسلاميّة كانوا من أهل التزكية والتصوّف، منهم: 

– الإمام تاج الدين التبريزي:

إمام التصوُّف في عصره، فقد تحدَّث عن العلوم التي درسها، فقال: (سمعت من جامع الأصول على القطب الشيرازي… وأخذت النحو والفقه عن الركن الحديثي، وعلم البيان عن النظام الطوسي، والحكمة والمنطق عن السيد برهان الدين عبيد الله… وأخذت أكثر أقسام الرياضيات وإقليدس وأوطاوقس، وبادوسيوس، ومالاناوس، والحساب والهيئة عن فيلسوف الوقت كمال الدين حسن الشيرازي الأصبهاني، والوجيه في الفقه عن شيخ الزمان تاج الدين حمزة الأردبيلي، وعلم الحساب والجبر والمساحة والفرائض عن الصلاح موسى، وشرح السنة والمصابيح عن فخر الدين جار الله الجندراني، وألبسني خرقة التصوُّف ولقَّنني الذكر تاج الدين الملقَّب بالشيخ الزاهد عن شمس الدين التبريزي) [الوافي بالوفيات (21/ 144)].

فقد درس الإمام التبريزي العلوم الشرعيّة والكونيّة بأنواعها، وأغنى المكتبة الإسلاميّة بكتب الحساب والجبر وغيرها من العلوم، وهو من أهل التصوُّف وعلماء الشريعة.

– العالِم جابر بن حيّان:

مؤسِّس علم الكيمياء، الذي ساهم في بناء الحضارة في المشرق والمغرب، فقد كان من أهل التصوُّف، قال فيه القفطي: (جابر بن حيَّان الصوفيُّ الكوفيّ، كان متقدّماً فِي العلوم الطبيعية، بارعاً منها فِي صناعة الكيمياء، وله فيها تآليف كثيرة ومصنَّفاتٌ مشهورة، وكان مع هذا مُشرفاً على كثيرٍ من علوم الفلسفة ومتقلّداً للعلم المعروف بعلم الباطن، وهو مذهب المتصوّفين من أهل الإسلام، كالحارث بن أسد المحاسبي، وسهل بن عبد الله التستري ونظرائهم) [أخبار العلماء بأخيار الحكماء (ص: 124)].

وذكر ابن المشّاط الأندلسيّ أنَّه رأى لجابر بن حيان بمدينة مصر تآليف فِي عمل الإصطرلاب تتضمَّن ألف مسألة، ووصفه بأنَّه: (لا نظير له)  [المصدر السابق].

وقال ماكس مايرهوف: (يمكن إرجاع تطوُّر الكيمياء في أوروبّا إلى جابر بن حيّان بصورةٍ مباشرة، وأكبر دليلٍ على ذلك أنّ كثيراً من المصطلحات التي ابتكرها ما زالت مستعملةً في مختلف اللغات الأوروبّيّة).

 وقد تُرجمت كتب ابن حيّان وبقيت هي المرجع الأوَّل مدى ألف عام، وكانت مؤلّفاته موضع اهتمامِ ودراسةِ مشاهير علماء الغرب، مثل (كوب هولميارد)، (سارتون)، وغيرهم.

– ابن طفيل الأندلسي:

فيلسوفٌ وعالمٌ موسوعيٌّ، فقيهٌ وطبيبٌ ورجل دولة، ومن أشهر المفكّرين العرب الذين خلّفوا آثاراً خالدةً في الفلسفة والفلك والرياضيات والطبّ، وكان من وزراء دولة الموحّدين في وقت عظمتهم، وكان الطبيب الخاصّ للسلطان أبي يعقوب يوسف القيسي أمير الموحِّدين، وكان عالماً محقّقاً، شغوفاً بالحكمة المشرقية، متصوّفاً، طبيباً ماهراً في أصول العلاج، وفقيهاً بارع الإعراب، وكاتباً بليغاً، ناظماً ناثراً، مشاركاً في فنونٍ عدَّة. [انظر: دولة الإسلام في الأندلس (4/ 719)].

ولم تخلُ كتابته عن لمسةٍ صوفيّة، فقد قال في أسطورة حيّ بن يقظان: (…ثمَّ انتقل من العلوم الطبيعية إلى الفلسفة وعلوم الدين؛ وأثبت لنفسه وجود خالقٍ قادرٍ على كلِّ شيء؛ ثمَّ عاش معيشة الزهّاد… وأصبح (حيّ) بعد أن بلغ التاسعة والأربعين من العمر متأهّباً لتعليم غيره من الناس، وكان من حسن الحظ أنّ متصوّفاً يُدعى (أسال) استطاع في سعيه إلى الوحدة أن يُلقي بنفسه على الجزيرة، فالتقى بحيّ… وأقرّ لحيّ بما في عقائد الناس الدينية في الأرض التي جاء منها من غلظة وخشونة، وأظهر له أسَفَه على أنّ الناس لم يصلوا إلى قليل من الأخلاق الطيّبة إلّا بما وعدوا به من نعيم الجنة، وما أنذروا به من عقاب النار) [قصة الحضارة: (13/ 369)].

فقد جعل بين شخصيّة (حيّ بن يقظان) و(أسال) اللذَين يمثّلان كمال الإيمان انسجاماً في معاني التصوُّف وتزكية النفوس، وانتقد المجتمع الذي ابتعد عن ذلك واتّسم بالغلظة والخشونة وغياب مكارم الأخلاق. 

– أبو الفضل عليّ بن الحسين الهمذاني:

الفلكيّ، الحافظ، الرحّال، البارع في الحساب والفلك وغيرها من العلوم، كان صوفيّاً سالكاً طريق أهل التزكية. [انظر: طبقات الحفاظ للسيوطي (ص: 430)]

وغيرهم كثير.

رحمته في الجهاد

دور أهل التزكية والتصوّف في تخليص البلاد من شرّ الغزو المغولي، ودعوتهم إلى الإسلام:

برزت سمة الرقيّ الفكري والحوار الحضاري لدى أهل التزكية والسلوك في الدور التاريخي الذي قاموا به من دعوة المغول إلى الإسلام، عندما كانوا يعيثون فساداً، وحيثما توسَّعوا توسَّعت معهم دائرة القتل والدمار، فكانوا كابوساً ثقيلاً يجثم على صدور الناس، وذِكرُهم يبعث الفزع والهلع في القلوب.

أمّا علماء التصوّف فقد اتّخذوا سبيلاً آخر في التعامل معهم، فقد كان الشيخ نجم الدين كبرى من أكابر أئمّة أهل التصوّف في عصره، واستمرّ في إرسال تلامذته إلى الأمصار للدعوة إلى الله، وكان من أبرز تلامذته الإمام الباخرزي، وقد أرسله إلى بخارى، وعندما وصلها المغول أرسل الشيخ الباخرزي أحد دعاته إلى (بركة خان) ابن عمِّ هولاكو، أحد القادة الذين جاؤوا للقتل والإبادة، فعرض عليه الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، فأعجب بركة خان بالفكر والروح الذي يتّسم به أهل التصوّف والتزكية، فأسلم، ثمّ أسلمت زوجته وقبيلته، ووقف مع المسلمين ضدّ ابن عمّه هولاكو، ثمّ رجع (بركة خان) إلى دار ملكه (القبيلة الذهبيّة) يدعوهم إلى الإسلام، ويعظّم شعائره، ويبرّ علماءه.

 وأمر (بركة) جنده الذين كانوا في جيوش ابن عمه (هولاكو) أن يخذلوه ويرجعوا، فإن لم يستطيعوا فليتوجَّهوا تلقاء الشام ومصر ليعينوا الملك الظاهر بيبرس على هولاكو، وبذلك انقسم جيش المغول ووقف أتباع (بركة خان) في صفّ المسلمين ممّا أضعف (هولاكو) ومن بقي معه، وكان ذلك سبباً في انتصار المسلمين وهزيمة المغول واندحارهم، فكان دعاة التصوّف أعظم سببٍ من أسباب النصر من خلال تأثيرهم الإيمانيّ ودعوتهم الصادقة التي اخترقت صفوف المغول، وحوّلت العدوّ صديقاً مناصراً مؤازراً، حتى قالوا: كان إسلام (بركة خان) من بركات الشيخ نجم الدين كبرى رحمه الله.

دور علماء التزكية في إصلاح المجتمع، وإنشاء جيلٍ يستعيد قوّته وهيبته ويحقّق النصر:

عندما كانت الحملات الصليبيّة تستهدف بلاد الأقصى وغيرها من بلاد المسلمين، وكانت الخلافة الإسلاميّة في حالةٍ من التشتّت والوهن، والتيَّارات الفكريّة المنحرفة تجرف العقول، والصراعات المذهبيّة تجافي بين القلوب، والفساد السياسي والاقتصادي مستشرياً آنذاك، انبرى علماء التزكية والتصوّف لإصلاح المجتمع، وتخليصه من هذه الحالة التي يعاني منها، وكان أبرز من حمل على كاهله هذه المهمّة الثقيلة أعظم إمامين من أئمّة التزكية: الإمام أبو حامد الغزالي، ثمّ من بعده الإمام عبد القادر الجيلاني .    

أمّا الإمام الغزالي: فقد قام بتشخيص أمراض المجتمع ووهنه، وعمل على إنشاء جيلٍ جديدٍ من العلماء المربّين والربانيين، ووضع منهاجاً جديداً للتربية والتزكية والتعليم، وتصدّى للتيارات المنحرفة والمبتدعة من فلسفاتٍ وإلحاد، وعمل على إصلاح المجتمع وتعليمه وتربيته وتزكيته، ونظر إلى الجهاد نظرةً بعيدةً شاملة، فجعل له ثلاثة مظاهر:

الجهاد التربوي التزكوي، والجهاد التنظيمي، والجهاد العسكري.

أمّا الجهاد التربوي التزكوي: فهو أن يبدأ الإنسان بتزكية نفسه وإصلاحها قبل إصلاح الآخرين.

وأمّا الجهاد التنظيمي: فهو معالجة الخلل الذي وقع فيه المجتمع، من تشتّت وفساد، وظلم وبِدَع وفلسفات إلحاديّة ونحو ذلك، فقام بالإصلاح العامّ وتوحيد الصفّ والكلمة.

ثم بعد أن يتهيّأ المجتمع وتتوحّد الكلمة يأتي دور الجهاد العسكري.

إنّ هذه الخطّة الإصلاحيّة التي ابتدأها الغزالي آتت ثمارها، وتتابعت حلقاتها، حتّى انتهت بتهيئة جيلٍ يدحر الغزاة والصليبيّين، واسترجاع الأرض والمقدّسات.

وأمّا الإمام عبد القادر الكيلاني: فقد اعتمد على التعليم المنظَّم والتربية الروحية، وأسّس المدارس القائمة على العلم والتزكية.

 وكانت في ذلك الوقت رديفاً لهاتين المدرستين الكبيرتين عددٌ من مدارس التزكية، كمدرسة أتباع الإمام الجنيد البغدادي، والمدرسة العدويّة والمدرسة السهرورديّة، ومدرسة الشيخ رسلان الجعبري، ومدرسة الشيخ عقيل المنبجي، والمدرسة الرفاعيّة ونحوها.

ومن خلال هذه الجهود الإصلاحيّة والعلميّة والتربويّة والتزكويّة تمّ علاج الأمراض التي كانت مستشريةً في العقول والقلوب، والفساد الذي أوهن البلاد، فأصلحوا المجتمع، ووحّدوا الكلمة، وبنوا جيلاً قويّاً من القادة والعلماء والأبطال، وكان التلميذ النجيب للشيخ عبد القادر الكيلاني: القائد صلاح الدين الأيوبي، رمزاً لصلاح الحال الذي ساد آنذاك، وكان جيشه قد تلقّى العلم والتزكية عن كبار أهل التصوّف، فدحروا الصليبيّين، واسترجعوا المسجد الأقصى، وأعادوا للمسلمين هيبتهم وقوّتهم. [انظر كتاب: هكذا ظهر جيل صلاح الدين: (101) حتى (239)]

دور أهل التزكية والتصوّف في حركات التحرّر ومواجهة الاحتلال الأوروبّي:

لم يتوان أهل التزكية والتصوّف عن رعاية القضايا الكبرى للأمّة، بل كانوا هم الطليعة في تحمّل المسؤوليّة، فأكثر الثورات التي قامت، والجيوش التي قاومت الاحتلال الأوروبّي كانت متمثّلةً بأصحاب التصوُّف والتزكية، ولا مطمع لنا بإحصائهم لكثرتهم، ولكن سنذكر طرفاً من رؤوس أصحاب الثورات الشهيرة في البلاد العربيّة:

ففي مصر:

كان للبكريّين دورٌ بارزٌ في مقاومة الاحتلال، وعلى رأسهم الشيخ علي البكري نقيب الأشراف في مصر وشيخ مشايخ الطرق الصوفيّة، الذي جمع العلوم الشرعيّة والكونيّة العصرية، وكانت تُعقَد في بيته أخطر الاجتماعات الدينيّة والسياسيّة، وبثّ روح الوطنيّة لمواجهة الاحتلال بأنواعه.

وكذلك القائد أحمد عرابي صاحب الثورة الذي طبقَّت شهرته العالم الإسلامي، وتواصل مع حركات التحرر في البلاد العربيّة، وتعاطفت معه الشعوب، وكان جنده يقضون الليل بتلاوة القرآن وحلقات الذكر.

وكان في القيادة العليا لثورة عرابي الشيخ حسن العدوي، والشيخ محمّد علّيش، والشيخ محمد القاياني، وهم من كبار أهل التصوّف.

وفي الجزائر:

الأمير عبد القادر الجزائري، الذي قاد جيشاً منظّماً بمباركة شيوخ الطرق الصوفيّة، وقد ناف عدده على خمسة عشر ألف مقاتل، وأجبر الفرنسيين على الانسحاب من غربي الجزائر، لكنّ الوحشية الفرنسيّة اتّبعت سياسة الأرض المحروقة فقتلوا الرجال والنساء والصبيان، ممَّا اضطر الأمير للانسحاب حقناً للدماء، لكنّ جذوة الجهاد والمقاومة لم تنطفىء حتَّى قرّت أعين الجزائريّين بجلاء الاحتلال الفرنسي.

وفي السودان:

محمد المهدي شيخ الطريقة السمّانيّة، وقد ضمّ عشرات الألوف من التلامذة المخلصين إلى ثورته في مقاومة الاحتلال البريطاني.

وفي ليبيا:

كانت الطريقة السنوسيّة وشيخها عمر المختار الذين أبلوا بلاء حسناً، وقاوموا الاحتلال الإيطالي وكبّدوه خسائر فادحة.  

وفي المغرب:

ثورة الشيخ محمد عبد الكريم الخطابي، الذي وقف في وجه الاحتلال الفرنسي، وصنع المعجزات في مقاومتهم.

وفي الشام:

كانت إدارة الثورة ضدّ الفرنسيّين بيد محدّث الديار الشاميّة الشيخ بدر الدين الحسني، وتلميذه الشيخ علي الدقر صاحب المشرب الجنيدي، والشيخ محمّد الهاشمي، والشيخ محمد بن يلّس، وغيرهم من شيوخ الطريقة الشاذليّة، والعلماء الذين حولهم، الذين جمعوا بين العلم والعمل والتزكية، وجلّ الجيوش المقاتلة تنتمي إلى هذه المدارس.

ومن ثمّ نجد أنّ دور علماء التزكية والتّصوّف كان بارزاً في مفاصل الحياة العلميّة والدعويّة والفكريّة والإصلاحيّة والعسكريّة، وكان لهم أثرٌ كبيرٌ في صناعة الحضارة الإسلاميّة، والقضاء على الفساد، وتحقيق النصر والعزّة للأمّة.

الديانة الإبراهيمية

غلاف الديانة الإبراهيمية
الديانة الإبراهيمية

الديانة الإبراهيمية

Loading

الديانة الإبراهيمية

إنّ من أهمِّ أهداف القوى الغربيّة؛ الهيمنة الفكريّة والسيطرة على الأديان والمقدّسات، لا سيّما الإسلام، وقد أسَّسوا في سبيل ذلك مراكز، وعقدوا المؤتمرات، وألّفوا الكتب، وألقوا المحاضرات، واتبعوا في ذلك أسلوبين متغايرين يؤدّيان إلى نتيجة واحدة.

الأسلوب الأوّل: الطعن في القرآن الكريم والسنّة النبويّة وشخصيّة سيِّدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم وانتقاد الأحكام الشرعيّة، وانتقاص الأئمّة والعلماء، كلّ ذلك في سبيل تقويض الثوابت والأصول.

 الأسلوب الثاني: إطلاق الشعارات البرّاقة، والتلاعب بالمصطلحات، لتبديد ملامح الإسلام، وإفراغ القرآن الكريم من مضمونه بتزوير تفسيره ومعانيه باسم القراءة المعاصرة، والاستدراج بالخطوات للوصول إلى الهدف المنشود، كما هو معهود من أساليب الماسونيّة.

ومن خلال ذلك يحاولون صياغة الإسلام ضمن رؤى وضعيّة، فوظّفوا شخصيّات تقوم بهذه الأدوار، ليُنتجوا إسلاماً بصورة معدّلة مبدّلة.

وضمن هذا السياق، وتحت مسمّى التعايش والتآلف ووحدة الأديان أسَّسوا (الديانة الإبراهيميّة) بدعوى أنّ اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام كلّها تابعة لإبراهيم عليه السلام، وعلى أصحاب هذه الديانات أن يتّحدوا ويجتمعوا، ولا يتفرّقوا ولا يتنافروا.

إنّها كلماتٌ برّاقة، يُظهِرون من خلالها التقارب البريء بين أصحاب الديانات السماويّة؛ لكنّها تخفي أهدافاً وغايات سياسيّة وفكريّة هدّامة.

وفي الحقيقة إنّ مشروع الديانة الإبراهيميّة أو المسار الإبراهيمي ليس وليد الساعة، وليس فكرةً عابرةً رغبوا في تنفيذها، وإنَّما هو مشروعٌ سياسيٌّ مدروسٌ يسعى إلى توسيع الهيمنة الصهيونيّة في المنطقة، وقد بدأ منذ عام 1993م -كما نوّه أستاذ العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة عصام عبد الشافي- بعد توقيع اتّفاقيّة أوسلو، حيث أخذ رئيس الكيان الصهيوني الأسبق شمعون بيريز يتحدّث عن (الشرق الأوسط الجديد) للسيطرة الفعليّة على المنطقة.

وثمّة مجموعة من الدراسات والأوراق والتقارير الرسميّة صدرت في جامعة (هارفارد) عام 2013م سُمّيت (مسار إبراهيم) ووثيقةٌ رسميّةٌ صدرت عن جامعة فلوريدا الأمريكيّة عام 2015م تتحدّث عن (الاتّحاد الفيدرالي الإبراهيمي) [ينظر صحيفة BBC 10 تشرين الثاني 2021م].

وقد اتّخذت الدول المتبنّية لهذا المشروع حادثة توقيع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيّب مع البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكيّة وثيقة الأخوّة الإنسانيّة من أجل السلام العالمي والعيش المشترك في فبراير عام 2019م  رمزاً للديانة الإبراهيميّة، وما ذاك إلّا خداعٌ وتدليسٌ واتّهامٌ مبطّن لحقيقة الإسلام، وكأنّه لا يقبل الآخرين إلَّا بتبديد معالمه وتهجينه ومزجه بالديانات الأخرى، وفي الحقيقة فإنّ الإسلام مبنيٌّ على السلام والتعايش والتآلف، منذ أن عاهد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  اليهود في المدينة المنورة وضَمِن لهم حقوقهم كاملةً؛ ونصَّ على العيش المشترك بينه وبينهم، لكنّ خيانتهم ونقضهم للعهود والمواثيق حالا دون الاستمرار بهذه المعاهدة. 

رحمته في الجهاد

وقد نصّ القرآن الكريم على حسن التعامل مع غير المسلمين، قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[الممتحنة: 8]، وشدّد النبيّ صلى الله عليه وسلم  النكير على من يتعرَّض لأهل الكتاب، ونصَّب نفسه خصماً له فقال: «ألا مَن ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة» [أبو داود].

وتوعّد من يقتل معاهَداً بنار جهنّم فقال: «ألا ومن قتل معاهداً له ذمَّة الله وذمَّة رسوله، حرّم الله عليه ريح الجنة، وإنّ ريحها ليوجد من سبعين عاماً» [الأموال لابن زنجويه].

فالإسلام دين الإنسانيّة، وهو الذي احتضن الديانات وضمن الحقوق لجميع الطوائف والملل، ولا يحتاج إلى دعواتٍ مشبوهةٍ ليتعايش مع الآخرين.

على أنّ حقيقة البيت الإبراهيمي ليست كما يدّعون بأنّها دعوة إلى الألفة والتعايش، بل هي دعوة إلى مصادرة الحرّيّة الدينيّة من المسلمين، قال شيخ الأزهر د. أحمد الطيب: (إنّ فكرة الديانة الإبراهيميّة تصادر حرّيّة الاعتقاد، وحرّيّة الإيمان والاختيار).

وقد أعلن الأزهر تبرّؤه من أيّ دعوةٍ تسعى إلى دمج الديانات السماوية الثلاث (الديانة الإبراهيمية) مؤكّداً أنَّ إعلان رفضه لا يتعارض مع التعاون في المشتركات بين الأديان، لتقديم العون والمساعدة للناس وتخفيف آلامهم وأحزانهم.

وأصدرت الأمانة العامّة لمجمّع البحوث الإسلاميّة في الأزهر الشريف بياناً رسميّاً في استنكار مشروع الديانة الإبراهيميّة ورفضه، وبيان خطره الديني والسياسي [ينظر: صحيفة المصري اليوم الإلكترونيّة: 23/2/2023م].

ولم يقتصر استنكار الديانة الإبراهيميّة على علماء المسلمين فحسب، بل أنكرها رجال الكنيسة أيضاً، ومن بينهم الراهب القمص (بنيامي) فقد قال: (إنّ الديانة الإبراهيميّة دعوةٌ مُسَيّسةٌ تحت مظهرٍ مخادعٍ واستغلال للدين) [BBC 10 تشرين الثاني- 2021م].

كما استنكر رجل الأعمال علاء مبارك المهتم بالشؤون السياسيّة والدينيّة مشروع الديانة الإبراهيمي، ووصفه بأنّه فكرة ماسونيّة تدعو إلى هدم الإسلام، فقال: (فكرة الديانة الإبراهيميّة الجديدة ليست مصطلحاً إسلاميّاً، ولا متداوَلاً في مصادرنا ولا في تراث أئمّتنا، وليس لها أصلٌ في الشرع، فضلاً عن مضمونها المناقض لنصوص الشريعة الإسلاميّة ومقاصدها، والذي تعلّمناه هو مصطلح دين الإسلام الذي هو دين إبراهيم وجميع الأنبياء، فما الهدف من هذه الفكرة… هي فكرة ماسونيّة، فلسفيّة النزعة، سياسيّة النشأة، تستهدف الإسلام والمسلمين) [صحيفة cnn العربية- 23 مارس 2023م].

والخلاصة: فإنّ الدعوة إلى الديانة الإبراهيميّة لونٌ من ألوان الحرب الفكريّة وخطط السياسة الماسونيّة، تهدف إلى تقويض الدين الإسلامي وهيمنة الدول المعادية على المنطقة.  

التعايش منهج حياة

غلاف التعايش منهج حياة
التعايش منهج حياة

التعايش منهج حياة
بقلم: أ.محمد زريع

Loading

التعايش منهج حياة

يسري النهرُ الجاري النقي عذباً في وديان الأرض ويسقي زرعها، فتراهُ يرويها عن اليمين تارةً وعن الشمال تارةً أخرى… والماءُ واحد، والنَّاسُ على أطرافِه ينهَلُون منه عَذْبَ الماء، كلٌّ يأخذ بِقَدرِ حاجَتِه… والماءُ واحد.

على مثلِ هذه الصورة كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم هو النبع الصافي وذروة الصفاء، يضع العلمَ بين يدَي الصحابة ومَن بعدَهم، وكان العلم يجري بالناس كما يجري النهر…

فينهَلُ هذا من جانبٍ والآخر من الضفة الأُخرى، كلاهما ينهل والعِلمُ واحد، ولكن ما يختلف هو طريقة النَّهل…

وهكذا غرف الأئمَّة الأربعة رضوان الله عليهم من كلام المولى سبحانه وتعالى (القرآن الكريم)، وحكمة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم (الحديث النبوي)، حتَّى وضعوا قواعدَ تشريعيةً في الفقه وأصوله…

هم لم يضعوا شرعاً جديداً مختلفاً، لكنَّ كلّاً منهم فهم فهماً جديداً فوضع قاعدةً قد تختلف في فروعها عن قاعدةٍ وضعها الآخر…

الأئمَّة الأربعة –مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وابن حنبل– كلُّهم متَّفقون على مرجعية الأحكام، فكيف يكون ذلك وبينهم نسبٌ في العلم!

فأبو حنيفة عاصرَ مالك، وشهد له مالك بالخيرية، والشافعي أخذ العلمَ عن مالك وعن تلميذ أبي حنيفة محمَّد بن الحسن الشيباني، وأحمد بن حنبل أخذ العلم عن الشافعي ولازمَه…

رحمته في الجهاد

وقد كمَّلَ علمُ بعضهم بعضاً، فاشتغل الإمام مالك بالحديث، واشتغل الإمام أبو حنيفة بعلم الفقه، والإمام الشافعي في الأدب والأصول، والإمام أحمد في الحديث ودراسته.

اتَّسم ذلك العصر  بالتعايش وروح الحوار بين العلماء. صحيحٌ أنَّ الأئمَّة اختلفوا في بعض الفروع، لكن لم نجد بينهم  خِلافاً، بل كان اختلافاً بأرقى معاني التفاهم والتعايش.

وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رحمه اللهسُئل مالك بن أنس: هل رأيت أبا حنيفة وناظرته؟ فقال: “نعم، رأيت رجلا لو نظر إلى هذه السارية وهي من حجارةٍ فقال إنَّها من ذهب لقام بحجَّته [سير أعلام النبلاء].

ومن ذلك حفظ الودَّ والفضل بينهم، ومن ذلك ما رُوي عن الإمام أحمد بن حنبل قوله: “ما أحدٌ أمسكَ في يده محبرةً وقلماً إلَّا وللشَّافعي في عنقه مِنَّة” [سير أعلام النبلاء].

ويُروى عن الإمام الشافعيّ أنَّه كان يزور قبر الإمام أبي حنيفة ويصلِّي ركعتين ويسأل الله الفتوح في العلم، وممَّا روي عنه قوله: “الناسُ في الفقه عِيالٌ على أبي حنيفة” [منازل الأئمة الأربعة].

نعم… لا نُنْكر أنَّ الزمان مرَّ على عصورٍ سادَ فيها التعصُّب بين بعض الطلاب انتصاراً لمذهبهم، لكنَّ هذا الزمن ليس دليلاً على أنَّ المذاهب تؤدِّي إلى التعصُّب، إنَّما هي مرحلةٌ من مراحل التاريخ حصل فيها ذلك خطأً وقوَّمَ العلماء ذلك.

فعصر الأئمَّة الأربعة كان من العصور التي يفخر المسلمون بها وبعلمائها، وبتلك النهضة العلمية التي كان أساسها التعايش الحقيقي، حيث كانوا قدوةً في الحياة، وقدوةً في العلم.  

بقلم: أ.محمد زريع

العناد

غلاف تصميم مقالة العناد
تصميم مقالة العناد

العناد

Loading

العناد

قالت الأم الحنون: ولدي حبيبي ارتدي سترةً كي تقيك من برد الشتاء.

فأجاب الشاب المعتدُّ بنفسه وهو في ريعان شبابه: أمي لست بحاجة لذلك، لقد أصبحت قادراً على فعل ما ينبغي فعله!

لقد عانى هذا الشاب عند عودته من نوبة بردٍ شديدة، لأنَّه عاند أمَّه ولم يصغ جيداً للكلام الذي ينبغي أن يفهمه ليعود على نفسه بالمصلحة والخير… لقد أغلق باب الحوار وسدَّ باب الخير بسبب عناده.

قال الأستاذ المعلِّم والمربِّي لطالبٍ من طلَّابه: لقد أكثرت الشغب والكلام وتضييع الوقت داخل الحصَّة الدرسية، وهذا سيؤثِّر على دراستك وسيتراجع مستواك العلمي في المستقبل.

أجاب الطالب بقلبه وقد كاد يجيب بلسانه: إنني سعيدٌ بأن أضحك طيلة الحصَّة وأجذب أنظار الطلاب نحوي، إنني بطل الصف ومحبوب الجميع، وسأستدرك دراستي في البيت أو في آخر العام!

جاء الامتحان وندم هذا الطالب أشدَّ الندم فالمسألة التي جاءت كرَّر شرحها المعلم في الصف أكثر من مرَّةٍ، ولكنه كان مشغولاً بإضحاك الطلاب ولم ينتبه إلى الحل فرسب… لقد أغلق باب الحوار، وسدَّ باب الخير بسبب عناده.

قال الأب القدوة لولده: هيا إلى الصلاة يا قرَّة العين، ففيها النشاط والطاعة ورضا الله عزَّ وجلَّ.

لكنَّ الولد المدلَّل المغترَّ بنفسه لم يأبه لنداء والده، بل قال في قرارة نفسه: ما زلت شاباً والوقت وقتي والمقاطع التي أشاهدها على الجوال ممتعةٌ ولا يمكن تفويتها.

لقد صار في سنِّ الزواج، ولكنَّ الأسرة التي تقدَّم لخطبة فتاتهم رفضته لأنَّه لا يصلِّي، لقد ندم وعاهد نفسه على الالتزام بصلاته، وعلم أنَّ عناده كان سبباً في إغلاق باب الحوار، وسدٌّ لباب الخير.

قال الطبيب له: إن أصررت على تناول السكّر بكميَّاتٍ كبيرةٍ فسيؤثِّر ذلك على صحَّتك وتصاب بأمراضٍ كثيرة.

إنَّه رجلٌ يحبُّ السكَّر ولا يأبه لكلام الطبيب، وليكن ما يكون ما دام يشعر بلذَّة السكَّر وحلاوته.

لقد أخبره الطبيب المعالج بأنَّ قدمه المجروحة لم تعد قادرةً على الشفاء، وسيضَّطر لبترها حتَّى لا يتفشَّى المرض في كامل الجسم، لقد ندم أشدَّ الندم وبكى طويلاً لأنَّه أغلق باب الحوار وسدَّ باب الخير بعناده.

إنَّ ما ذكر آنفاً وغيره من الأمثلة الكثيرة هو نفسه ما يحصل للإنسان عندما يغلق باب الحوار مع الحقّ ولا يقبل هداية الله عزَّ وجلَّ فيسدُّ أبواب الخير الكثيرة، ويصل به عناده إلى عقوبة الله عزَّ وجلَّ وحرمانه من سعادة الدِّين في حياته الدنيا وفي آخرته أيضاً.

لقد حصل هذا مع اليهود في تعاملهم مع الأنبياء أوَّلاً، ومع سيِّدنا محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ثانياً. 

رحمته في الجهاد

عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: ((انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَأَنَا مَعَهُ حَتَّى دَخَلْنَا كَنِيسَةَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، يَوْمَ عِيدٍ لَهُمْ، فَكَرِهُوا دُخُولَنَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

«يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ أَرُونِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا يَشْهَدُونَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يُحْبِطِ اللَّهُ عَنْ كُلِّ يَهُودِيٍّ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ الْغَضَبَ، الَّذِي غَضِبَ عَلَيْهِ».

قَالَ: فَأَسْكَتُوا مَا أَجَابَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ ثَلَّثَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَقَالَ:

«أَبَيْتُمْ، فَوَ اللَّهِ إِنِّي لَأَنَا الْحَاشِرُ، وَأَنَا الْعَاقِبُ، وَأَنَا النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى، آمَنْتُمْ أَوْ كَذَّبْتُمْ».

ثُمَّ انْصَرَفَ وَأَنَا مَعَهُ حَتَّى إِذَا كِدْنَا أَنْ نَخْرُجَ نَادَى رَجُلٌ مِنْ خَلْفِنَا: كَمَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: فَأَقْبَلَ.

فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: أَيَّ رَجُلٍ تَعْلَمُونَي فِيكُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ؟

قَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ فِينَا رَجُلٌ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنْكَ، وَلَا أَفْقَهُ مِنْكَ، وَلَا مِنْ أَبِيكَ قَبْلَكَ، وَلَا مِنْ جَدِّكَ قَبْلَ أَبِيكَ.

قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ لَهُ بِاللَّهِ أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، الَّذِي تَجِدُونَهُ فِي التَّوْرَاةِ، قَالُوا: كَذَبْتَ، ثُمَّ رَدُّوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ، وَقَالُوا فِيهِ شَرًّا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَبْتُمْ لَنْ يُقْبَلَ قَوْلُكُمْ، أَمَّا آنِفًا فَتُثْنُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا أَثْنَيْتُمْ، وَلَمَّا آمَنَ أَكْذَبْتُمُوهُ، وَقُلْتُمْ فِيهِ مَا قُلْتُمْ، فَلَنْ يُقْبَلَ قَوْلُكُمْ».

قَالَ: فَخَرَجْنَا وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[الأحقاف: 10]                                                        [أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم/23984/]

ولقد سار على هذا النهج من العناد كفَّار قريش فكان لهم مثل ما كان لسابقيهم من المعاندين:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: (سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَأَنْ يُنَحِّيَ الْجِبَالَ عَنْهُمْ، فَيَزْرَعُوا، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَسْتَأْنِيَ بِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ نُؤْتِيَهُمُ الَّذِي سَأَلُوا، فَإِنْ كَفَرُوا أُهْلِكُوا كَمَا أَهْلَكْتُ مَنْ قَبْلَهُمْ، قَالَ: “لَا، بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ” فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ[الإسراء: 59].                                    [أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم/2333 /]

والمعنى: (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) أي: لما أرسلنا الآيات وكذَّبوا بها أهلكناهم، ولو أرسلناها إلى هؤلاء، لكذَّبوا بها، واستحقُّوا الإهلاك وعذاب الاستئصال، وقد كنّا حكمنا بإمهالهم لإتمام نشر دعوة محمَّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.                       [التفسير المنير: د. وهبة الزحيلي (15/ 104)].

أخيراً: قالوا في تعريف العناد: هو الاعوجاج والخلاف، وقيل: المبالغة في الإعراض ومخالفة الحق. [التوقيف على مهمات التعاريف (ص: 248)].

وقالوا أيضاً: العناد: ردُّ الْحق مَعَ الْعلم بِأَنَّهُ حقّ. [جامع العلوم في اصطلاحات الفنون (2/271)].

والحمد لله ربِّ العالمين

#مركز حوار | Facebook           #الحوار           #مركز_حوار             #ساحةٌ_تجمعنا               #منصَّة_حوار

#العناد

تعايش النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين

غلاف تعايش النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين
تعايش النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين

تعايش النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين

Loading

تعايش النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين

عندما تكون رسالة الإسلام رسالةً عالميةً فلا بدَّ أنَّ القواعد التي بنيت عليها ذات معالم واضحةٍ في الدعوة والتبليغ، ولها منهجٌ راقٍ يتبعه جميع الدَّعاة إليها، يتَّسم بالسماحة والرحمة والرأفة وحسن المعاملة حتَّى مع غير المسلمين.

 رسالةٌ تنطلق من دعوةٍ إلى خير كلِّ الناس بغضِّ النظر عن أيَّة اعتباراتٍ أخرى، لتؤكِّد أنَّ النَّبيَّ الكريم هو الرحمة المهداة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء107].

قاعدةٌ أساسيَّةٌ للدَّعوة إلى الإسلام، وهي أنَّها لا تكون إلَّا بالوسائل الصحيحة التي جمعها قوله تبارك وتعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[سورة النحل125].

ومن أهمِّ قواعدها، وليست آخرها: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص56].

وضع الله سبحانه وضع لنبيه صلَّى الله عليه وسلَّم منهجاً دعوياً ينطلق فيه من الحكمة التي أوحاها الله إليه في كتابه الكريم إلى الأسلوب الحسن بالنصح الهيِّن الليِّن دون إغلاظٍ ولا تنفير، عبر الترغيب في الخيرات والتنفير من الشرور والمنكرات، وإن وصلت إلى جدالهم فجادلهم يا أيُّها النبي بأحسن طرق المجادلة؛ بالحكمة والهدوء والموعظة الطيِّبة متمثِّلاً الرفق واللين.

 تنحصر مهمَّة الأنبياء والرسل بالتبليغ، أمَّا الهداية فعلى الله وحده، وهو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله، ولقد خاطب الله تعالى نبيَّه بأوضح الصور وأكثرها إيصالاً لمعاني اللين في التعامل والتعايش، مذكِّراً بـ ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ[159آل عمران].

يؤكِّد الله تعالى للنَّبي أنَّه برحمته لأصحابه وبمن حوله واحتماله لأذى من آذاه، وعفوه عن ذي الجرم بما أجرم، وغضُّه الطرف عن أخطاء الكثيرين، وغيرها من الأمور التي كانت سجيَّةً وطباعاً في أصحابها، ليكون له كمال الصفات من الخلُق الكريم، فأخبره بأنَّك يا محمَّد لو جفوت وأغلظت عليهم لتركوك، ولم يتَّبعك منهم الكثير، ولكن برحمة الله لنت لهم.

يدرك الصادق الأمين تلك القواعد القرآنية فيحوِّلها إلى منهجٍ عمليٍّ في حياته وتعاملاته مع كلِّ من حوله من المسلمين وغيرهم من أهل الذمَّة الذين يُخالفون المسلمين في المعتقد، فيبني علاقاته مع المسلمين وغيرهم على البرِّ والإحسان وحسن المعاشرة، ويدعو بأخلاقه وتعاملاته العملية قبل أقواله إلى بناء علاقةٍ أساسها التعايش السليم، وتجنٌّب منطق العداء، يستقي كلَّ ذلك من الرؤية الواضحة في القرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[سورة الممتحنة 8].

كلُّ ذلك وأكثر، ومثاله ما دعا إليه النَّبيُّ من احترام الميت منهم قبل الحيّ، فعن عبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْف، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالقَادِسِيَّةِ، فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ، فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّة، فَقَالاَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا.؟  [صحيح مسلم رقم 961].

كانت نظرة النَّبيِّ لكافرهم نظرة شفقةٍ ورحمةٍ، يتعايش معهم، ويتفاعل معهم بعيداً عن اختلاف الديانة والعقيدة، فقد كان يأخذ طعاماً من يهوديٍّ، ويرهن درعه عنده، وفي المقابل يبرم معهم المعاهدات، ولم يُجبِر أيَّ أحدٍ منهم على الدخول في الإسلام، رغم أنّه كان خائفاً على مصيرهم.

وعنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ!! فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: ” الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّار…[أخرجه البخاري في صحيحه]

تميَّزت الدَّعوة النبوية في المعاملة بالتي هي أحسن، تاركاً لهم الحُرّية الكاملة في اختيار الدين والعقيدة؛ فلا إكراه فيه، قال الله تعالى: ﴿فَمَن شاءَ فَليُؤمِن وَمَن شاءَ فَليَكفُر[الكهف29].

و يخطئ من يفهم أنَّ علاقة المسلمين بغيرهم مبنيَّةٌ على العنف والشدَّة، ونرى اليوم فهماً مغلوطاً وصوراً وأشكالاً سيئةً عن مسلمين يبيحون لأنفسهم القتل والتعنيف والقسوة مع كلِّ من يخالفنا في العقيدة، بل ويرون وجوب التنكيل بهم وقتلهم إن لم يؤمنوا، وفي هذا مخالفةٌ صريحةٌ للهَدي النَّبويِّ في معاملة غير المسلمين. 

رحمته في الجهاد

كيف لا والنَّبيُّ الأكرم يضع القواعد في التعامل مع غير المسلمين حتَّى في أرض المعركة ليُعلنها صراحةً: أن لا شيء عبثيٌّ في الإسلام، ولا بدَّ للمسلم أن ينضبط بالمعاملة الحسنة مع غير المسلمين في كلِّ الحالات والساحات حتَّى وإن كان في ساحة القتال معهم. وقد نهى عن قتل الضعفاء أو الذين لم يشاركوا في القتال من الكافرين؛ كالرهبان والنساء والشيوخ والأطفال، أو الذين أُجبروا على القتال، كالفلاحين والعاملين، ومن ذلك ما ورد عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا بعث أميراً على جيشٍ أوصاه في خاصَّة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً، وقال: “اغزوا بسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً.[الطبراني]، وفي روايةٍ أخرى: “لا تقتلوا وليداً، فهذا عهدُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وسنَّته فيكم“.

السماحة هديُه ومنهجُه، ويظهر ذلك الهدي النبوي جليَّاً واضحاً فيما كتبه إلى ملوكهم وزعمائهم؛ حيث تضمَّنت هذه الكتب دعوتهم إلى الإسلام بألطف أسلوبٍ وأبلغ عبارة، وكانت دعوة الكافر بالرفق واللين من أعظم القربات إلى الله؛ وقد شدَّد النَّبيُّ على أصحابه بأن يحفظوا حقَّ الْمُعاهَد، وهو مَن ارتبط مع المسلمين بمعاهدة، فقال : “مَن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا[رواه البخاري].

كيف لا وقد دعا إلى حسن جوار الكفَّار وعدم التعرُّض لأذيَّتهم، وسطَّر بسلوكيَّاته قبل أقواله أعظم الأمثلة في التسامح والعفو عند المقدرة، وليس أدلُّ على ذلك من قصَّة ثقيف، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشدَّ من يوم أحد؟ فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلَّا وأنا بقرن الثعالب _ميقات أهل نجد_ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، ولقد أرسل إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال وسلَّم عليَّ، ثمَّ قال: يا محمَّد، إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملَك الجبال، وقد بعثني ربُّك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟ إن شئتَ أن أُطبق عليهم الأخشبين “الجبلين”، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً[صحيح البخاري].

لقدْ أُوذِيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وابتُلِيَ في سَبيلِ هذا الدِّينِ أشَدَّ البَلاءِ؛ فقدْ رُمِيَ بالحِجارةِ، وأُدْمِيَ كَعْبُه، وشُجَّ رأسُه، ومع ذلك صَبَر وأشفَقَ على من فَعَلوا ذلك وعفَا عنهم؛ فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كما قال اللهُ تعالَى عنه: رحمةٌ مهداة، والرحمة لا ينبغي لها الانتقام ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء107].

ولقد عقد صلَّى الله عليه وسلَّم وثيقة تنظِّم العلاقة بين المسلمين وغيرهم عندما قدم إلى المدينة ليقيم فيها دولة العدالة دولة الإسلام فنظَّم صلَّى الله عليه وسلَّم الوثيقة بين أهل المدينة على أربعة محاور:

1- التعايش السلمي بين الجميع، وتوفير الأمن للجميع قال: “أنَّه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلَّا من ظلم وأثم، وأنَّ الله جارٌ لمن برَّ واتَّقى”، وقال: ”وأنَّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم”.

2- المحافظة على الحرية الدينية للجميع قال: “وأنَّ لليهود دينُهم وللمسلمين دينُهم”.

3- إعطاء الفرصة للجميع في المشاركة الاجتماعية والسياسية والعسكرية بصورةٍ عادلة.

4- إقرار مبدأ المسؤولية الفردية، وقد جاء فيها: “إنَّه لا يكسب كاسبٌ إلَّا على نفسه، وأنَّ الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرِّه. وأنَّه لا يأثم امرؤٌ بحليفه، وأنَّ النصر للمظلوم”.

وإن استعرضنا السيرة العطرة بكلِّ مواقفها وتفاصيلها وتعاملاته صلَّى الله عليه وسلَّم مع المشركين وغير المسلمين فلن تجد أبلغ من صورة رحمته بأعدائه فيما حدث يوم فتح مكَّة.

أعوامٌ وسنواتٌ عجاف يُثخن فيها المشركون بالمؤمنين، فيذيقونهم شتَّى أنواع العذاب ليخرج بعدها المسلمون من بلدهم مقهورين، ويعودوا في يوم الفتح الأكبر بتمكينٍ من الله تعالى وهم قادرون على الانتقام دون أن يلومهم في انتقامهم أيُّ أحد، ولكنَّ سماحة الرسول الكريم تصل إلى أرقى درجاتها، فيقول لهم، وهو القادر عليهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء“، وأعلنها صريحةً واضحة: “اليوم يوم المرحمة“.

ذلك هو منهج الإسلام الصحيح، وما سواه ليس من منهج النَّبيِّ الكريم، فسلوكيَّاته صلَّى الله عليه وسلَّم هي الضابطة لنا ولما يجب أن ننتهجه في التعامل مع المسلمين وغير المسلمين.

صلَّى الله عليك، يا رحمةً مهداةً للعالمين كافَّةً، وللبشرية جمعاء.

زياد الوتار

بقلم: أ. محمد زياد الوتار

حصِّن نفسك من الفقاعات الإعلاميَّة

غلاف حصن نفسك من الفقاعات الإعلامية
حصن نفسك من الفقاعات الإعلامية

حصِّن نفسك من الفقاعات الإعلاميَّة

Loading

حصِّن نفسك من الفقاعات الإعلاميَّة

إذا أردت أن يلمع نجمك فحدِّثنا بالغريب من الكلام، وقدِّم أفكارك بقالبٍ “حضاريٍّ”، وبطريقة النقاش العلميّ، والعقليّ، والفلسفيّ، فمن أهمِّ ما يجذب شبابنا اليوم الحديثُ عن المعرفة بطريقةٍ معاصرة، فالجيل الجديد متعطِّشٌ، ظمأن، يتطلَّع إلى كلِّ غريبٍ، وهذا مُنزلَقٌ خطيرٌ للغاية، فالشباب مع الأسف يستخدمون التقنيّة الحديثة باعتبارها مصادر موثوقةً للعلم، كالكتب الإلكترونية، والإنترنت، بما فيه من مقالاتٍ منتشرةٍ على مواقع أنشئت لربَّما بغرض الترويج لأفكارٍ فاتنةٍ لكنَّها مضلِّلة. “فيديوهات” أُنتجت باحترافيَّة، “سيناريوهات” تلخِّص الكثير من عمليات البحث والتمحيص، يجد فيها الباحث خلاصة الخلاصة عمَّا يبحث عنه. ولكن، هل يصحُّ وهل يصلح أن تؤخذ علوم الشريعة والدِّين عن أيٍّ كان؟ هل تصلح هذه المصادر أن تكون المرجع الأوَّل والأخير؟ وما مدى موثوقية كلِّ ما يقال على شبكة الإنترنت؟

بعض الأشخاص استغلُّوا تلك الطريقة التي يعتمدها شباب القرن الواحد والعشرين في التعلُّم عبر إنتاج الفقعاعات الإعلاميَّة التي برعوا فيها باستخدام علم المنطق وعلم الكلام، فزيَّنوا أقوالهم بعباراتٍ توهم بالمصداقية والموثوقية. مقاطعهم ومقالاتهم تحمل في طيَّاتها كلَّ جديدٍ وغريب. أفكارٌ ترابطت فيما بينها بطريقةٍ عجيبة، ترتبط بنصوص القرآن الكريم، والحديث الشريف، وتحريف الكلم عن مواضعه.

وآخرون قرَّروا تقديم التجديد للناس في دينهم عبر تصميم دينٍ يتلاءم مع الألفية الجديدة، إسلامٌ أطلقوا عليه اسم “الإسلام الكيوت” فهو مظهرٌ دينيٌّ يتلاءم مع متطلَّبات الواقع الجديد، يرضى عنه العلمانيون وأدعياء الإنسانية والنسوية.

أشخاصٌ قد تسمع عنهم من محيطك، يحدِّثونك عنهم منبهرين بهم وبأسلوبهم وباستحضارهم للشواهد وتوظيفها بطريقةٍ جديدةٍ لم تسمع عنها من قبل، فتظنُّ للوهلة الأولى من حديثهم أنَّهم علماء استثنائيون مبدعون ومفكِّرون عظماء.

قد تتساءل في نفسك: أين  العلماء الحقيقيون من هذا الكلام؟

لِمَ لم يسبق لغيرهم تفسير تلك الآيات بهذا التفسير أو ربطها بالعلوم الجديدة. غريبٌ أمر هؤلاء “المفكِّرين الجدد)، هل يعقل أنَّ أحداً لم يفطن لما فطنوا له! لربَّما فتح الله عليهم بما لم يفتح به على الأوَّلين.

 

فضولٌ يدفعك إلى البحث أكثر… فهلَّا محَّصت بعد أن زال البريق الخدّاع؟

قد تتساءل في نفسك فيدفعك فضولك وحُبُّك للاستكشاف إلى متابعتهم أكثر لشدَّة بريق أقوالهم الخادعة، تتشوَّق لتستمع إلى حديثهم المتجدِّد الذي لم تألفه نفسك سابقاً، فالإنسان بطبعه يميل إلى كلِّ غريب، ولأكون أكثر تحديداً فأنا أتحدَّث بصراحةٍ عن أسماء معروفةٍ لربَّما صادفت أحدهم على “يوتيوب” وأنت تقلِّب بين صفحاته، وأراني أضعُهم جميعاً في سلَّةٍ واحدةٍ رغم أنَّ لكلٍّ منهم طريقته في الترويج لنفسه ولفكره العجيب.

فكلٌّ منهم حادَ عن طريق الحقِّ وجادَّة الصواب فابتدع واخترع بدعوى التجديد والفهم العميق لمعاني النصوص. وسأستعرض في هذا المقال بعضاً من تلك الأفكار محذِّراً شبابنا منها، مؤكِّداً أنَّك إن لم تحصِّن نفسك فستتجرَّع حتماً السمَّ مع العسل؛ إن أخذتك الغفلة فسلَّمت عقلك لهم؛ ولم تبحث عن مصادر تلك الأفكار وتَوافُقها مع منهج الشريعة السليم، فهو كلامٌ جديدٌ بمجمله، جميلٌ معسولٌ يقدَّم في قالبٍ مُبهرٍ خلَّاق، حفَّه الشيطان من كلِّ جانبٍ ليُجمِّله ويلمِّعه فيتلاءم مع تطلُّعات المسلمين “الكيوت”، يُرضي الثقافة والميل العام اللَّذَين يروَّج لهما ليل نهار عبر القنوات الفضائية؛ من نشر أفكارٍ أصبحنا نتبنَّاها دون وعيٍ منَّا وقد خالفنا بها الإسلام في تشريعاته.

خلطة الفيزياء مع الفلك والهندسة بطابعٍ دينيٍّ مُعاصر

نبدأ مع أحدهم، وهو مهندسٌ معماريٌّ انطلق إلى العالم عبر نشر مقاطع يربط فيها بين بعض آيات القرآن والعلوم الفيزيائية أو الكونية، ثمَّ يتطوَّر الأمر معه لاحقاً بعد أن لاقى رواجاً ليتحدَّث في الغيبيات، وبأمورٍ لا يعلمها إلَّا الله عزَّ وجلَّ فينتقل إلى العبث بأمورٍ فقهيَّةٍ وعقديَّة، ويتمادى إلى أن يطعن في الإمام البخاريّ ويستهزئ به، فصار يُنكر بعضاً من الأحاديث الصحيحة بحجَّة معارضتها لعقله وفهمه.

كلُّ ذلك عبثاً بأحاديث النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتحريفاً لكلام الله تعالى، والمتابع الفقيه الحاذق العالم يدرك بأنَّه يخلط بين الآيات والأحاديث النبوية تارةً، ويأتي بفرضيَّاتٍ في علوم الفلك والفيزياء يخترعها هو من بنات أفكاره تارةً أخرى، ثمَّ يُثبتها ويلصقها بالقرآن الكريم عبر تحريف آياته ومعانيه بِلَيِّ أعناق النصوص، وتأويل معانيها بكلامٍ مخترعٍ لم يتكلَّم به أحدٌ من أهل العلم والتفسير والفقه من قبل.

كيف يمكن لامرئٍ أن ينال شهادة الدكتوراه ولم يتخطَّ مرحلة الماجستير بعد!

يسطع نجمه فتكثر ضلالاته أكثر فأكثر. ومن تحريفاته التي ادَّعاها: أمورٌ تلزم معرفتها كلَّ مسلمٍ، فيُنكرها هو جاحداً، كإنكار عذاب القبر فهو في نظره خرافة، وإنكار وجود يأجوج ومأجوج، وادّعاؤه أنّ دخول الجنَّة لا يحتاج مجهوداً. وقوله بأنَّ آية: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوْتِكُنَّ﴾[الأحزاب33]، خاصَّةٌ بنساء النَّبيّ، ناهيك عن التزوير والتكذيب للصَّحابة الكرام رضي الله عنهم، وادِّعاؤه بأنَّ الأمَّة ليس فيها فقيهٌ منذ 1400 عام.

وضلالاتٌ أخرى أعجبُ كخلطه بين أيَّام الله وأيَّام الدُّنيا، وادّعاؤه معرفة مكان الجنّة والنار، وقوله بأنّ نهر الكوثر ليس نهراً، وقوله بأنَّ الصلاة الوسطى ليست صلاةً، وإنكاره لحكم تعدُّد الزوجات، وأفكارٌ أخرى وأخرى لا تنتهي؛ كدعوى معرفة اسم الله الأعظم، وهكذا كلَّما خمد نجمه خرج بضلالةٍ جديدةٍ تجعله حديث الناس لعهدٍ جديدٍ عبر “تريند” وسُمٍّ يخترعه لربَّما يوافق حدثاً جديداً، أو يبتكر هو تلك الفكرة بعد أن تختمر في ذهنه، فيقتنع بها في نفسه، فتصبح جاهزةً ليُطلقها بصورة “فايروس” جديد في فضاء الإنترنت، فيتلقَّفها عامَّة الناس ممَّن يعتمدون على الشابكة في استقاء معلوماتهم وشرائعهم.

نظريَّة التطوُّر تتوافق مع فكره الذي يريد نشره… فقصَّة خلق آدم في القرآن عنده قصَّةٌ من حكايات ألف ليلةٍ وليلة.

أمَّا الفيلسوف المجدِّد فستتقف أمامه مذهولاً من قُدرته على استحضار الشواهد وتوظيفها كما يحلو له وقد أوتي من البيان سحراً بكلماته التي ملأت الأجواء ثقةً، فيأتيك بفصاحةٍ تحرِّك قلبك فتشعر بأنَّ أفكاره تخترقك بالكلية، فحلاوة الكلام تسحر المستمع وتأخذ بلبِّه، فصاحبنا أوتي لساناً لافظاً وقلباً حافظاً، وهذه الصفات مهَّدت له الطريق إلى الشعبية والجماهيرية، ولأنَّ كثرة الكلام ينسي بعضه بعضاً ترى بعض الأفكار التي يقدِّمها ويشير إليها يناقضها في مقطعٍ آخر ناسياً أنَّه هُو من أقرَّ ضدَّها، لأنَّ أغلب نتاجه خُطَبٌ ومحاضراتٌ تحتاج إلى استذكارٍ وصياغةٍ آنيةٍ للفكرة، فيكثر فيها اللغط. وما يوثِّق ذلك إلَّا تتبُّع تلك الروابط المنشورة لنجد فيها تناقض أفكاره في المقاطع نفسها، فكفى بنفسك عليك شهيداً.

كيف يقبل عقلٌ لمسلمٍ صحيح العقيدة أن يقدح بصحَّة أحاديث الإمام البخاريّ الذي نهج نهجاً لا تستطيع مؤسَّساتٌ في عصرنا الحالي أن تقوم بما قام به، فضلاً عن القدح والذمِّ للسيِّدة عائشة أمِّ المؤمنين وغيرها من الصحابة، علاوةً على إنكار حادثة الإسراء والمعراج بناءً على النظرية النسبية، وذلك يصل بك إن سلَّمت له عقلك إلى أن تنكر الوحي ضمنيَّاً بناءً على تلك النظرية.

 أفكارٌ مسمومةٌ تخرجك من الدِّين بالتدريج لتوصلك إلى الإلحاد وأنت لا تدري. ما الذي حدث لعقيدتك وإيمانك المحصَّن؟ كيف اخترقت تلك الحصون؟

فمِن جدليَّة نظريَّة التطوُّر التي خاض فيها المذكور ضارباً بحقيقة خلق الله تعالى لبني أدم عرض الحائط. مؤكِّداً في خطبٍ عديدةٍ أنَّ انتقاء الجنس البشري يتمُّ بطريقةٍ غبيةٍ، ذات نتائج ذكية. ونعوذ بالله ممَّا ذكره وحرَّفه في حقِّ الذات الإلهية. ففي إحدى أفكاره التي يتحدَّث فيها عن خلق الله تعالى إذ يسمّيه التطوير لا التطوُّر، وساق فيه الشاهد تلو الآخر بطريقةٍ عجيبةٍ غريبةٍ عبر تدليس الشواهد وتحريفها عن مقصوداتها، وهو النهج الذي اتَّبعه على مدى سنواتٍ أسَّس فيها قاعدةً جماهيريَّةً اعتمدت على عامَّة الناس ممَّن ينبهرون بزخرف القول غروراً.

تجديدٌ دينيٌّ أم تطويعٌ للأهواء بما يلائم أغراضاً سياسيةً وفكريَّة.

يقول آخر بأنَّ النصَّ القرآني نورٌ يهدي لا قيد يأسر، نستنير به ولا نتحنَّط فيه، ومن حقِّنا أن نوقف العمل بنصوصٍ قرآنيّة ونبويّة إذا كانت ظروف العصر تختلف. “داعيةٌ”، “فقيهٌ”، “المجدِّد المؤسِّس لإحدى المراكز الإسلامية“، يحمل لواء “التجديد الديني” بمفهومٍ أنكره عامَّة أهل العلم، تجديدٌ يحمل عناوين برَّاقة كالنَّبيّ الديمقراطي! المرأة بين الشريعة والحياة! وإسلامٌ بلا عنف! ومن العبث في المصطلحات الشرعية إلى العبث في الفتوى إلى العبث بالمسلّمات الشرعية وصولاً إلى العبث في الأصول.

أفكارٌ يدسٌّ بها سمومه عبر مشروعه المثير للجدل، والذي لاقى قبولاً كبيراً لدى التيَّارات العلمانية الحديثة من المفكِّرين العرب، داعماً مشروعه بمشاريع أخرى تحت مسمَّى: “تعزيز خطاب التنوير الإسلامي“، فتاوى عصرية تخرج بشكلٍ متجدِّدٍ وبمسمّياتٍ حديثةٍ تنطلق مع كلِّ مناسبةٍ بتفصيلاتٍ وتغييراتٍ طفيفةٍ في المسميات بما يروِّج لروحٍ متجدِّدةٍ وعصرية.

إنَّ وصف المسلمين بالشهداء ووصف غيرهم بالقتلى هو اتِّجاه منحرفٌ يمهِّد للتطرُّف والإرهاب“، فالكلٌّ في اعتقاد المشار إليه شهداء لا فرق بين جينات المسلمين وجينات غيرهم من الأمم حسب وصفه. وكأنَّ مسألة الشهادة ترتبط بالجينات لا بالنيّة والاعتقاد!”.

 

تجديدٌ في الدِّين بتطوير نصوص القرآن، والتأكيد بنفي الحصانة عن السلف الصالح 

في فصلٍ آخر يضرب المشار إليه بحديث النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((خيرُ القرونِ قرْني, ثمَّ الَّذين يلونَهم, ثمَّ الَّذين يلونَهم …)) [ابن رجب جامع  العلوم والحكم |2/ 477]، عرض الحائط ليؤكِّد على ضرورة وضع دراساتٍ نقديَّةٍ للسَّلف الصالح على اعتبار أنَّهم غير مقدَّسين، وفيهم الصالحون والطالحون، وكلُّ محاولةٍ لوصفهم بالكمال المطلق هي إهانةٌ لهم وتشويهٌ للتاريخ والعقل، فكيف يمكن أن يتمَّ ذلك الخلط وبهذه الطريقة، خلط عامَّة الناس بتلك الصفوة التي أنارت للمسلمين طريق الرشاد. وإن هي إلَّا مغالطةٌ فكريةٌ تنطلي على عامَّة المسلمين.

فضلاً عن تجديده في النصوص القرآنية، فالقرآن بالنسبة إليه نصٌّ أدبيٌّ وتربويٌّ، ولذلك فهو حمّال أوجه ويحتمل تأويلاتٍ كثيرةً، وهو ليس كتاباً حقوقياً أو قانونيّاً صارماً بحيث يكون له تأويلٌ واحد، وفيه آياتٌ محكماتٌ هنَّ أمُّ الكتاب، وفيه آياتٌ متشابهاتٌ لا يعلم تأويلها إلَّا الله، وهو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلَّا خساراً.

ويشدِّد بأنَّ الإسلام دينٌ يتَّسع للجميع، وعلينا أن نتوقَّف عن الأوهام الانفعالية التي تجعلنا نقيِّم أنفسنا قضاةً لا هداة، ونحكم على الناس بالإسلام والكفر لمجرَّد اختيارهم مذهباً من المذاهب، وأنَّ علينا أن نتحوَّل من عبادة النصّ إلى الاستنارة به… وتحريفاتٌ، وتغييراتٌ، وضلالاتٌ، وطامَّاتٌ لا تتسع هذه السطور لذكرها، ويمكن للباحث عن الحقيقة أن يراها جليَّةً واضحةً عبر الاطِّلاع على فكره وما كتبه الكثيرون من الأئمَّة والعلماء الأكارم عنه وعن أفكاره المسمومة.

هؤلاء إن عرفتموهم دون أن نذكر أسماءهم فيعني أنَّكم تعرَّضتم لمقاطعهم ولأفكارهم يوماً ما، أو لأمثالهم ممَّن ينهجون نهجهم. ويخرج علينا آخرون في زمانٍ يعجُّ بالمحن والفتن يتبنَّون التجديد والتطوير للإسلام بتطويعه لروح العصر، الأمر الذي يخالف حتماً التجديد الحقَّ المقصود من الشارع الحكيم بتجديد معالم الدين وشرائعه وسننه، وكأنَّ في الدِّين نقصٌ، ويحتاج إلى إتمام، وأنَّ أحكامه لا تلائم كلَّ زمانٍ ومكان، ولكنَّ الله قيَّض لهذه الأمَّة رجالاً حملوا على عاتقهم مهمَّة تبيان الحقِّ من الباطل، فأشاروا إلى أباطيل هؤلاء محذِّرين إخوانهم ممَّن يبحثون عن الحقّ أن يقعوا فريسةً سهلةً في شِراكهم. فأفكارهم ما هي إلَّا كخيوط العنكبوت واهنة ضعيفة لا يقع فيها إلَّا كلُّ ضعيفٍ هزيل، وكلَّما أضاء المكان بنور الفكر الإسلامي السليم اختفت تلك الخيوط الواهنة وتلاشت. 

#مركز حوار | Facebook           #الحوار           #مركز_حوار             #ساحةٌ_تجمعنا             

#منصَّة_حوار                            #حصِّن_نفسك_من_الفقاعات_الإعلاميَّة

الهاوية وحبل النجاة

غلاف الهاوية وحبل النجاة
الهاوية وحبل النجاة

الهاوية وحبل النجاة

Loading

الهاوية وحبل النجاة

بعد ما يقارب حوالي أربعين ألف عامٍ على ظهور الإنسان على سطح هذا الكوكب، وبعد ادِّعائه الوصول إلى قمَّة الحضارة وقد وطئت قدماه سطح القمر، طغى هذا الإنسان وتطاول حتَّى ظنَّ أنَّه يصل إلى خالقه، وراح يقرِّر ما له، ويستحلُّ ما ترغِّبه به نفسه، وخرج من حدود بشريَّته ليصير بعد عبادته لشهوانيَّته وحشاً تستغيث من رعوناته وانفلاته كلُّ وحوش الأرض.

إنَّ إنكار الإنسان وجود خالقٍ لهو أكبر جريمةٍ يرتكبها في حقِّ نفسه أوَّلاً. إنَّه حين يظنُّ أنَّه يحرِّر نفسه من العبودية للإله الواحد الخالق، فإنَّه بغباءٍ منقطع النظير يجعل نفسه بالضرورة عبداً لألف إلهٍ سواه، فهو عبدٌ للمال لا ينفكُّ عن قيده، وعبدٌ للشهوات الكثيرة لا يخرج من أسرها، عبدٌ لمن يمنع عنه ذلك كلَّه أو يظنُّ أنَّه يهبه له من البشر. إنَّه حين يذلُّ نفسه لتلك الشهوات، أكثر تعاسةً وكآبةً، ولو ذلَّ لخالقه العظيم القادر لكفاه كلَّ هذا.

إنَّ الأفئدة لما فرغت من الإيمان بالله واليوم الآخر، امتلأت إيماناً بأمورٍ أخرى اختلقتها اختلاقاً[الشيخ محمد الغزالي/عن كتابه: الإسلام المفترى عليه].

ما من إنسانٍ يستطيع أن يكون غير مؤمن، فقد رُكِّب الإنسان من الناحية النفسية بحيث يصبح مضطرَّاً إلى الإيمان بالله أو بغيره، ومتى مات الإيمان الإيجابيُّ فإنَّ الإيمان السلبيَّ يحلُّ محلَّه[هاري آرسون].

فالناس بلا دين أمواتٌ في أجسادٍ فانيةٍ لا يُحييها إلَّا نور الإيمان بالله مالك الملك، فالإيمان هو الولادة الحقيقيَّة للعقل والنفس والفكر وحتَّى للجسد، إنَّه يُشرق فيها لتكتسي حلَّة الروح المتَّصلة بخالقها، ومتى ما اتَّصل الإنسان بالله اتَّصل بكمال العدل، والنور، والجمال، والجلال، والحكمة، و… كلِّ الكمالات المطلقة.

إنَّ من شأن الإيمان بالله والتسليم له أن يُنقذ الإنسان من ظروف الحياة المأساوية التي تعانيها البشرية اليوم ولا تجد لها حلَّاً، إنَّه حبل النجاة الوحيد الذي يبحث عنه الشباب المعاصر، بعيداً عن الانتحار، أو المخدِّرات التي تقدَّم له، سواءً التي يتجرَّعون سمومها فعلياً هرباً من حاضرٍ مُرٍّ، أو تلك المتمثِّلة في أنواع الشهوات المنفلتة من كلِّ زمامٍ والمتاحة لهم حيثما طلبوا، ظانِّين فيها راحتهم، وسكينة بالهم. 

والبشريَّة في قرنها الواحد والعشرين تصرخ بلا صوتٍ حين ترزح تحت وطأة المادِّية القاتلة، وقد خنقت ما فيها من روح، وإنَّها تنشد الخلاص والراحة وتبحث عن سراب سعادتها هنا وهناك، ونسيت العودة إلى معينها الأوَّل.

إنَّها في أمسِّ الحاجة إلى العودة إلى خالقها الإله الواحد الأحد القادر، إلهٌ تخشاه جميع المخلوقات وتهابه، فيكفُّ الظالم عن ظلمه لإيمانه بالعقوبة الموعودة، ويكفُّ القويُّ عن استعمال بطشه في استغلال خيرات الشعوب وقهرها واحتلالها لأنَّ سلطانه لا يصل إلى سلطان مولاه وخالقه.

إنَّ العودة إلى الله تعالى ستكفُّ أصحاب الشهوة عن إطلاق العنان لشهواتهم الطاغية، التي تقاتل لتفوز في كلِّ مرَّةٍ بنوعٍ جديدٍ من اللذَّة، ولكن سرعان ما يذوي شعورهم بها، فتتطلَّب نفوسهم بشراهةٍ لذّةً أخرى ولو من غير الطريق الطبيعيّ لها.

فعجباً لإنسان اليوم، يعاني الدَّاء ويُكابده، مع أنَّ دواءه بين يديه معروفٌ موصوف، ولكنَّه رغم ذلك يُكابر.

يقول صلَّى الله عليه وسلَّم عن ربِّه عزَّ وجلَّ في حديثٍ قُدسيّ: ((إنِّي والإنس والجنُّ في نبأٍ عظيم، أخلقُ ويُعبدُ غيري، أرزق ويُشكر سِوايَ، خيري إلى العباد نازل وشرُّهم إليَّ صاعد، أتحبَّب إليهم بِنِعَمي وأنا الغنيُّ عنهم، ويتبغَّضون إليَّ بالمعاصي وهم أفقر شيءٍ إليّ، من أقبل عليَّ منهم تلقَّيته من بعيد، ومن أعرض عنِّي منهم ناديته من قريب، أهل ذكري أهل مودَّتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أُقنِّطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهِّرهم من الذنوب والمعايب، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة بمثلها وأعفو، وأنا أرأف بعبدي من الأمّ بولدها)) [رواه البيهقي]. 

نقد العلموية

غلاف نقد العلموية
نقد العلموية

نقد العلموية

Loading

نقد العملوية

يظنّ الذين تبنّوا العلمويّة أو الفلسفة الوضعيّة التجريبيّة أنّهم وقعوا على الحقيقة المطلقة، ووصلوا إلى نهاية العلم وغايته، وأنّ كلّ منهجٍ يخالف منهجهم باطلٌ قطعاً، وخاصّةً ما يتعلّق بالميتافيزيقيا واللاهوت، فكلُّ ذلك يعدّونه خرافاتٍ وأوهاماً؛ لأنّها لا تخضع للبحث التجريبيّ، وأنّ القول بالإلحاد وإنكار الإله هو المنهج العلميّ السليم.

وقد شطّ أصحاب هذه النظرة القاصرة وتناقضوا مع أنفسهم ومع المناهج العلميّة، ووقعوا في مغالطاتٍ وأخطاء، أهمّها:

1- توهّموا أنّ الدِّين يُناقض العلم:

وُلِدت أطروحة الوضعيّة التجريبيّة في أفياء الصراع الكنسيّ العلميّ، وكانت هذه النظريّة ردّة فعلٍ من رجال العلم الكوني عندما وقف في وجوههم رجال الدِّين في أوروبّا آنذاك وحرّموا عليهم البحث العلميّ، وفرضوا عليهم الأفكار اللاهوتيّة، ومنعوهم من العلوم الكونيّة، وكان تصرّفهم بناءً على رأيٍ خاطئٍ منهم، وليس هذا رأي الدِّين الذي ارتضاه الله لعباده وأنزله على أنبيائه، فظنّ أصحاب العلم التجريبي أنّ الدِّين يناقض العلم مطلقاً، وقالوا بإنكار الدِّين لأنّه يؤدّي إلى الجهل والتخلّف، ويعيق البحث العلمي، ويفرض على الناس الإيمان بغيبيّاتٍ لا يمكن التحقّق من صدقها، ويؤمن بالخرافة، وعمّموا ذلك على جميع الأديان بما في ذلك الإسلام، ووقعوا في الخطأ المنطقيّ وهو (التعميم).

 وفي الحقيقة، إنّ تصوّرهم فاسدٌ مغلوط، والأمر على عكس ما يظنّون تماماً، فالدِّين الإسلاميّ هو الذي حارب الجهل وحثّ على العلم، فحرّم الشعوذة والكهانة والاعتقادات الفاسدة التي تشلّ العقول، ونهى عن الخرافات والتقليد الأعمى، وأمر بالعلم، وحثّ على التفكّر والتدبّر والتعقّل والنظر، وكانت أوّل كلمةٍ أُنزلت في القرآن الكريم (اقرأ) ممَّا جعل المسلمين يدرسون علوم الحضارات السابقة وفلسفاتها، فأسّسوا المناهج العلميّة المختلفة، وأنشؤوا وطوّروا أهمّ مصادر العلوم، كالكيمياء، والجبر، والتفاضل والتكامل، والجراحة، والبصريّات، وعلم الصحّة، وعلم الاجتماع، وغيرها كثير، وقد اعترف علماء الغرب بأنّ قصب السبق والتطوير لهذه العلوم يعود إلى المسلمين.

قال ماكس مايرهوف: “يمكن إرجاع تطوُّر الكيمياء في أوروبّا إلى جابر بن حيّان بصورةٍ مباشرة، وأكبر دليلٍ على ذلك أنّ كثيراً من المصطلحات التي ابتكرها ما زالت مستعملةً في مختلف اللغات الأوروبّيّة”.

 وقد تُرجمت كتب ابن حيّان وبقيت المرجع الأوَّل على مدى ألف عام، وكانت مؤلّفاته موضع اهتمام ودراسة مشاهير علماء الغرب، مثل (كوب هولميارد)، (سارتون) وغيرهم). [انظر: موسوعة المعرفة على الشبكة الإلكترونيّة، صحيفة الخليج 28ديسمبر 2012هـ]

أمّا الرياضيّات: فممّن أبدع فيها العالم العربي أبو بكر بن الحسن الكرخي: فقدّم أهمّ وأكمل نظريةٍ في الجبر، وبقيت نظريّاته تُدَرَّس حتّى القرن التاسع عشر الميلادي. قال أ. هور إيفز في كتابه (تاريخ الرياضيات): “إنّ الكرخي يعدّ من بين العلماء الرياضيين المبتكرين من نظريات جبريّةٍ جديدةٍ تدلّ على عمقٍ وأصالةٍ في التفكير“. [العلوم البحتة في الحضارة الإسلامية، د. علي عبد الله الدفّاع (210)].

وكذلك (الخوارزميّ): فقد أبدع في علم الجبر، وابتكر الخوارزميّات التي قامت على أساسها اليوم التكنولوجية الرقميّة، قال الأستاذ جورج سارتون: “وإذا أخذنا جميع المجالات بعين الاعتبار، فإنّ الخوارزمي أحد أعظم الرياضيّين في كلّ العصور[العلوم البحتة: (149)].

 وفي عصر الازدهار العلميّ والمعرفيّ للمسلمين كانت أوروبّا ترقد في ظلمات الجهل والتخلّف والخرافات، فانتشلها علم العرب والمسلمين من جهلها وتخلّفها، حتَّى وصلت أوروبا وأمريكا اليوم إلى ما وصلت إليه.

فقد كان الفضل للعلماء المسلمين في تخريج الأساتذة الأُوَل في جامعة (أوكسفورد) الذين درسوا مباشرةً على أيدي العلماء المسلمين في الأندلس، ثمّ بنى الغرب علومه وتقنيّاته وإنتاجه المعرفيّ على جهودهم. [يُنظر: موقع نبراس تحت عنوان (المسلمون هم واضعو أسس العلم التجريبي الحديث)].

 ومن المعلوم أنّ التقدّم العلميّ والحضاريّ تراكميّ، وأنّ اللَبِنات الأولى والأساسيّة في تاريخ الحضارة القائمة اليوم هي من إبداع المسلمين، ثمَّ تطوّرت المعارف وتسلسلت بفضلهم، قال مسيو ليبري: “لو لم يظهر المسلمون على مسرح التاريخ لتأخّرت نهضة أوروبا الحديثة عدَّة قرون“. [ينظر: الحضارة الإسلامية، عبد السلام كمال: (62)].

وإنّ المنهج الذي يتبجّح به العلمويّة وأصحاب الوضعية التجريبيّة ويتّخذونه وسيلةً لإنكار الميتافيزيقيا واللاهوت إنَّما هو من إبداع المسلمين، فهم الذين وضعوا أسس المنهج التجريبيّ والعلم الحديث.

قال هينولد: “إنّ ما قام على التجربة والترصّد هو أرفع درجةٍ في العلوم، وإنّ المسلمين ارتقوا في علومهم إلى هذه الدرجة التي كان يجهلها القدماء… وكانوا أوَّل من أدرك أهمّية المنهاج في العالم، وظلّوا عاملين به وحدهم زمناً طويلاً“. [الحضارة الإسلامية ثقافة وفن وعمران، عبد السلام كمال: (61)].

وقال (بريفولت) في كتابه (صناعة الإنسانية): “ليس (لفرانسيس بيكون) ولا لسميّه من قبله -يقصد (روجر بيكون)- أن يدّعيا اكتشاف المنهج التجريبيّ، إذ إنّ كلّ ما قدّماه في ذلك إنّما هو العلم المسروق من العرب، فقد استطاع علماء المسلمين بجهودهم أمثال ثابت بن قرّة، والحسن بن الهيثم، وابن سينا، وجابر بن حيّان الربط بين العلم والتجريب، والاهتداء إلى المنهج العلميّ التجريبيّ، ومن ثمّ إرساء قواعد العلوم الطبيعيّة، وذلك قبل أن يفطن إليها الأوروبيّون بمئات السنين“. [ من كتاب: دراسات في المنطق ومناهج البحث (ص:6)].

مع (أنّ روجر بيكون) حتّى لو ادّعى الأسبقيّة كذباً، فقد درس اللغة العربيّة والعلم العربي في مدرسة (أكسفورد) على يد تلامذة العلماء المسلمين في إسبانيا، فالفضل في منهجيّته العلميّة تعود إلى المسلمين الذين درّسوا أساتذته، واستمدّ معارفه منهم.

 ولم نجد تناقضاً بين العلم والدِّين في تلك النهضة والحضارة الإسلاميّة كما يدّعي العلمويّة، بل كان الدِّين هو الذي يدعو إلى العلم والإبداع ويشجِّع عليهما.

 

2- حصروا مناهج البحث للعلوم المختلفة بمنهجٍ واحدٍ وهو المنهج التجريبي:

يظنّ متبنّو العلمويّة أنّ العلم التجريبيّ قادرٌ على الإحاطة بكلّ الحقائق الكونيّة، وأنّ البشر ليسوا بحاجةٍ إلى مصدرٍ آخر للمعرفة أو الأنظمة مع وجود هذا المنهج؛ لأنَّه أغناهم عن جميع المصادر الفلسفيّة والدينيّة وغيرها، وحاولوا إخضاع كلّ الظواهر الإنسانيّة للمنهج العلميّ التجريبيّ، وقالوا بأنّه لا بدَّ لها أن تعود إلى سببٍ طبيعيٍّ يكشفه العلم.

وقد حصروا بذلك جميع المعارف والعلوم بمنهجيّةٍ واحدة، ونظروا إلى الظواهر الكونية والعلميّة نظرةً ضيّقةً قاصرة، ولم يفرّقوا بين الطبيعة الصمّاء والإنسان الذي يتميّز بالإدراك والتفكير والمشاعر والأحاسيس، قال (دركايم): “ينبغي التعامل مع الظواهر الاجتماعيّة كما لو كانت أشياء“. [محدوديّة العلم بو عزّة منتدى التوحيد]، فقاموا (بتشييء) الإنسان وعاملوه معاملة الجماد، ووقعوا في أخطاء منهجيّة جسيمة.

وقد انتقد نظرتَهم القاصرة العالمُ الفيزيائي (إروين شرودنجر) الذي نال جائزة نوبل في الفيزياء، فقال: “الصورة التي يقدّمها العلم الطبيعي-أي العلمويّة- عن الواقع من حولي صورةٌ ناقصةٌ جدّاً… لا يتكلّم ببنت شفةٍ عن الأحمر والأزرق، والمرّ والحلو، والألم واللّذة، إنّه لا يعرف شيئاً عن الجميل والقبيح، الحسن والسيّء، الله والخلود، يتظاهر العلم أحياناً بأنّه يجيب عن أسئلةٍ في هذه المجالات، ولكن غالباً ما تكون إجاباته سخيفةً للغاية، إلى درجة أنَّنا لا نميل إلى أخذها على محمل الجدّ“. [وهم الشيطان: الإلحاد ومزاعمه العلمية ديفيد بيرلسنكي، هامش (ص:22)].

وقال أ. عبد الإله بلقزيز: “والحقّ إنّ فشوّ الروح الوضعانيّة في النظر إلى الظواهر الاجتماعيّة والإنسانيّة بمقدار ما أهدر الحدود بين الظواهر الصمّاء (الطبيعة) والظواهر المقترنة بفعل الإرادة الإنسانيّة، قاد إلى الإخفاق في إخضاع المجتمع والإنسان للدَّرس العلميّ المطابق… لقد كان تغييب عوامل الإرادة والوعي والخيال والإيمان من الدّرس الاجتماعيّ الوضعيّ، والإخضاع القسريّ للظواهر الإنسانيّة للمناهج الفيزيائيّة وبالاً على علوم المجتمع والإنسان“. [صحيفة سكاي نيوز عربيّة، بقلم أ. عبد الإله بلقزيز- 30 ديسمبر 2020م].   

فلكلِّ علمٍ مجاله ومصادره وأدواته، وإنّ طبيعة العلوم تختلف من حيث المنهج وطريقة البحث والاستدلال، فالعلوم الإنسانيّة كعلم الاجتماع والموارد البشرية والتاريخ والاقتصاد والسياسة والعلوم والآداب والفنون المختلفة لها مناهجها وطرقها البحثيّة والإبداعيّة.

وكذلك العلوم التجريديّة كالمنطق والرياضيّات والهندسة لها طرقها وقوانينها أيضاً.

وإنّ حصر العلوم كلّها بمنهجيّةٍ واحدةٍ يؤدّي حتماً إلى خلل ٍكبيرٍ في النظر والاستدلال، يقول الفيلسوف التحليلي (ألفين بلانتنغا): “إنّ معادلة جميع المعارف بالعلوم الطبيعيّة هي معادلةٌ في موضعٍ غير مترابطٍ منطقيّاً؛ لأنّ العلم نفسه لا يستطيع أن يقدّم لنا أيّ سبب للاعتقاد بأنّ هذا العلم صحيح“. [New Atlantis -2012 مقال بعنوان: حماقة العولمة بقلم أ. أوستن هيونز_ ترجمة ليان الفارس]. 

3- الربط غير المنطقيّ بين الإلحاد وتبنّي المنهج التجريبي:

وقع أصحاب النظرية الوضعيّة التجريبيّة أو العلمويّة في مغالطاتٍ منطقيّةٍ وأخطاء علميّة عندما أنكروا ما وراء المحسوس ونفَوا وجود خالقٍ للكون إنكاراً جازماً، وقد وصف الله تعالى أمثال هؤلاء الذين تكون غاية علمهم ما يتعلّق بالموجودات والمدركات الحسيّة بقوله: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ[النجم: 29]، فلا يتجاوز علمهم حدود ما يدركونه بحواسّهم القاصرة في الحياة المادّيّة، وإنّ نظرتهم تتنافى مع الحقيقة، فمن المسلّمات العلميّة والمنطقيّة أنّ (عدم الوجدان لا يقتضي عدم الوجود) فلا يصحُّ عقلاً الجزم بإنكار ما لا ندركه، فكيف إذا كانت هناك أدلّةٌ عقليّةٌ جازمةٌ تدلّ على وجوده؟ وقد خالفوا هذه القاعدة وجزموا بإنكار وجود الإله، دون أساسٍ علميٍّ.

ثمّ إنّهم وقعوا في مطبٍّ آخر، وهو خروجهم عن القاعدة المنطقيّة المسلّمة (قانون السببيّة)، فما من مُسَبَّب إلّا له سبب، ولا بدّ لهذا الكون من خالقٍ أبدعه، ومن المستحيل أن ينشأ شيءٌ من العدم.

وعند هذه النقطة أخذوا يتهرّبون بالسفسطة، ويفصّلون شروطاً للمسبّب مع السبب على مقاس رأيهم، فيدورون ضمن قوقعتهم، ويضيّقون ساحة تفكيرهم، ويحصرونها بالمدركات الحسيّة، فقالوا: يشترط للمسبِّب أن يُدرَك عند تأثيره على المُسَبَّب، والخالق الذي تدْعون إليه هو ضمن فكر اللاهوت الذي لا يُدرك، فيستحيل وجوده.

وهم بذلك يكابرون ويتمسَّكون بنظريّة (ديفيد هيوم) التي لا يخفى بطلانها وفسادها، فينكرون مبدأ السببيّة من أصله، ويدّعون أنّ الأسباب مجرّد اقترانٍ عاديٍّ وليس مبدأً عقليّاً، فحوّلوا السببيّة من مبدأٍ عقليٍّ إلى إدراكٍ حسّيّ،

ووقعوا في التناقضات المنطقيّة، ومن المعلوم أنّ (العقل: غريزةٌ فطريةٌ خلقها الله في الإنسان، تنطوي على مبادئ ضرورية الصدق أعظمها مبدأ عدم التناقض، ومبدأ السببية). [مجلة البيان (221/ 2) مبحث: الوحي الإلهي، العقل الوضعي لعبد الله بن نافع الدعجاني]، وهم خالفوا هذين المبدأين.

قال بو عزّة: “والموقف الإلحاديّ الذي تنطّعت لإعلانه الفلسفة الوضعيّة لو درسناه بتجرّدٍ ومن داخل معايير النزعة العلمويّة ذاتها، سنلاحظ أنّه موقفٌ غير علميّ؛ لأنّه يبتّ في شأنٍ ليس له عنه أيّ معلومة، فالقول بالموقف الإلحاديّ قولٌ غير علميّ، بل يجاوز إمكانات العلم ويتخطّى حدوده، فليس في إمكان العلم ونظرته المحدودة أن ينفي في شأن ما يجاوز نطاق مقاييسه في الملاحظة“. [مقال بعنوان: محدوديّة العلم- منتدى التوحيد].

فإن قالوا: إنَّ الإمام أبا حامد الغزاليّ جعل الأسباب عاديّةً وليست عقليّة، واعتبر العلاقة بين المُسبِّب والمسبَّب اقترانيّة وليست عقليّة، وهو بذلك يتّفق مع (ديفيد هيوم).

   فالجواب: لا مقارنة بين نظريّة (ديفيد هيوم) ونظرة الإمام الغزاليّ إلى الأسباب، فإنّ (هيوم) ينكر مبدأ السببيّة من أصله، ويجيز وقوع الأشياء دون أسباب، وهذا محال.

 أمّا الغزاليّ فلا ينكر مبدأ السببيّة، نعم هو يقول: العلاقة بين الأسباب ومسبَّباتها عاديّة وليست عقليّة، ولكنّه يحتّم أن يكون هناك مسبّبٌ حقيقيٌّ للأسباب، وهو الله تعالى، فينسب المسبَّبات إلى الله خالق الأسباب كلّها، وهذا هو عين الصواب.  

لذا نجد بعض الملحدين اضطروا إلى الاعتراف بوجود قوّةٍ منظّمةٍ للكون وإن لم يعلنوا إيمانهم، فقد سئل كبير الملحدين الفيزيائي (ستيفن هوكينغ) إن كان يؤمن بوجود إله، فأجاب “بأنّه يؤمن بوجود الإله، لكنّ هذه القوّة الإلهيّة أسّست قوانين الطبيعة والفيزياء، وبعد ذلك لم يتدخّل للتحكّم في العالم“. [كتاب: هناك إله: كيف غيّر أشرس ملاحدة العالم أفكاره- مركز براهين: (ص: 25)].

وكذلك (لابلاس) المعروف بالإلحاد، فقد شرح دليل الحركة الكونية وبيّن أنّها أقوى ثغرةٍ في جسم الإلحاد، وقال: (أمَّا القدرة الفاطرة-أي الخالقة- التي عيّنت جسامة الأجرام الموجودة في المجموعة الشمسية وكثافتها، وثبّتت أقطار مداراتها، ونظّمت حركاتها بقوانين بسيطة، ولكنَّها حكيمة، وعيّنت مدّة دوران السيارات حول الشمس، والتوابع حول السيارات بأدقّ حساب، بحيث إنَّ النظام المستمرّ إلى ما شاء الله لا يعروه خلل… هذا النظام المستند إلى حسابٍ يقصر عقل البشر عن إدراكه، والذي يضمن استمرار واستقرار المجموعة إزاء ما لا يعدّ ولا يحصى من المخاطر المحتملة، لا يمكن أن يحمل على المصادفة إلَّا باحتمالٍ واحدٍ من أربعة تريوليونات، وما أدراك ما أربعة تريوليونات؟

إنَّه عددٌ من كلمتين، ولكن لا يمكن أن يحصيه المحصي إلَّا إذا لبث خمسين ألف عامٍ يعدُّ الأرقام ليلاً ونهاراً، على أن يعدَّ في كلِّ دقيقةٍ (150) عدداً). [صراع مع الملاحدة حتى العظم (ص: 132)].

 أي إنّ الملحد بمكابرته يبني اعتقاده وتصديقه على احتمال وقوع واحدٍ من أربعة تريليونات، ويكذّب الأدلة والبراهين العقليّة والعلميّة الساطعة.

وأمَّا من يسمّى بـ(حارس مرمى الإلحاد) الفيلسوف البريطاني (أنتوني فلو) فإّنه بعد أن قضى حياته في الدفاع عن الإلحاد ونصرته، وألّفَ زهاء ثلاثين كتاباً في الأدلّة والفلسفات الإلحاديّة، لم يستطع أن يدوم على مكابرته ومناقضاته المنطقيّة، فأعلن إسلامه وألّف كتاباً باسم (هناك إله)، وقال: “يستحيل ألّا يكون لهذا الكون ربٌّ حكيمٌ قديرٌ يدبّر أمره“.  [ينظر: كتاب: (هناك إله) كيف غيّر أشهر ملحد رأيه- مركز براهين: (ص:173)، صحيفة المصري اليوم، مقال بعنوان: هناك إله: كيف أدرك الملحد الأكبر أنتوني فلو وجود الله، بقلم مختار محمود- الثلاثاء 25/ 5/2021م].

على أنّه لا تناقض بين الإيمان بالله والبحث العلمي، ولا تلازم بين الإلحاد والعلم إلّا في وهم الملحدين، بل الأمر على العكس من ذلك، فالمنهج العلميّ السليم يدعو إلى الإيمان، وإنَّما وقع التناقض عند العلمويّة بسبب فساد منهجهم الضيّق، ومخالفتهم لطرائق البحث المختلفة فيما يتعلّق مع كلِّ علم، وجمودهم على المنهج التجريبي، فشذّوا عن الطرق العلميّة المتّبعة في العلوم الإنسانيّة والدينيّة والأخلاقيّة ونحو ذلك، فكان الإلحاد مظهراً لفساد مسلكهم.

4- التهوين من أهمّيّة الأسئلة المتعلّقة ببدء الخلق والحياة وما بعد الموت:

إنّ الأسئلة المتعلّقة بخالق الكون وبداية الخلق، والحياة، والمصير فيما بعد الموت ليست ترفاً فكريّاً، بل حاجةً فطريّةً مُلِحّةً، يبحث عن إجابتها كلُّ عاقل، ولا يمكن تجاهلها، وإنّ كَبْتَها يؤثّر سلباً على النفس، فيؤدّي إلى اضطراباتٍ نفسيّة، وقد تتأزّم إلى عُقَدٍ مما يدفع إلى الانتحار، لذا نجد أنَّ أكثر من يتعرّض للأمراض النفسيّة هم الملحدون، وأنّ نسبة الانتحار لديهم أكبر نسبةٍ على الإطلاق، وفي المقابل فإنّ أقلّ نسبةٍ للأمراض النفسيّة والانتحار هي عند المسلمين، وقد تصل إلى صفر. [صوت العراق، مقال بعنوان: دراسة بحثيّة لنسبة الانتحار مقارنة بالأديان].

فالإيمان بوجود إلهٍ خالقٍ للكون أمرٌ فطريٌّ مركوز في جميع البشر بلا استثناء، بغضِّ النظر عن كون المعبود حقّاً أو لا، وقد أكّدت ذلك الآثار التاريخيّة منذ القِدَم، قال المؤرخ اليوناني بلوتارك: “من الممكن أن نجد مدناً بلا أسوار ولا ملوك ولا ثروة ولا آداب ولا مسارح، ولكن لم يُرَ قطّ مدينة بلا معبدٍ أو لا يمارس أهلها عبادة“. [صحيفة الخليج الإلكترونية، ملحق الصائم، مقال تحت عنوان: الدين حاجة فطرية- 8 سبتمبر/ 2008م].

 ومع هذا فقد خالف العلموية الفطرة، وأخذوا يتهرّبون من الإجابة عن الأسئلة المتعلّقة بخالق الكون ونشأة الحياة، ويهوّنون من قيمتها، ويحقّرون من يسألها، ويصفونه بأنّه سطحيٌّ بدائيّ التفكير، ويحاولون تفسير كلّ شيء فيزيائيّاً وكيميائيّاً لأنّ منهجهم ضيّقٌ لا يستوعب الإجابة عن مثل هذه الأسئلة التي تُبدي عوار منطقهم المادّي الإلحاديّ وفساده، لذا يبذلون كلّ جهدهم لتحويل الإنسان من روحٍ وحياةٍ إلى آلةٍ ومادّة.

قال الفيلسوف الطيب بو عزّة: “ليس صحيحاً أنّ تجاهل أسئلة البدء والماهيّة المتعلّقة بالوجود الفيزيائي نتاج زهدٍ عن التفكير فيها، بل إنّ السبب هو العجز عن الإجابة، بسبب طبيعة أدوات الإدراك الاستقرائيّة التي يتوسّلها العلم… وبمراجعة صيرورة تطوّر علم الأحياء في تاريخ الثقافة الأوروبّيّة سنلاحظ أنّه ابتداء من عصر الحداثة سيتمّ العلم على اختزال ظاهرة الحياة في جملةٍ من العلاقات الآليّة“. [صحيفة التجديد الإلكترونيّة، مقال للطيّب بو عزّة بعنوان: (الحياة بين العلم والدين) بتاريخ 26/2/ 2008م].  

ومن ثمّ نجد العلمويّة ضخّموا المنهج التجريبي وتوهّموا بأنّه قادرٌ على إدراك جميع المعارف والحقائق والعلوم، ومنحوه من الثقة فوق إمكانيّاته، ففشلوا وتخبّطوا وشذّوا، وخالفوا الفطرة والمنطق والعقل والبحث العلمي المُتَّبَع في العلوم الأخرى عندما اقتصروا عليه.

مفاهيم متغيرة والثابت واحد

غلاف مفاهيم متغيرة والثابت واحد
مفاهيم متغيرة والثابت واحد

مفاهيم متغيرة والثابت واحد

Loading

مفاهيم ومتغيرة والثابتواحد

إنَّها الشريعة التي اختصَّها الله تعالى بأن تكون صالحةً لكلِّ الأزمنة والأمكنة، شريعةٌ كان قرآنها دستوراً لا تنقضي عجائبه، جعل فيه سبحانه أحسن القصص في البلاغ للرَّسالة والذكر الحكيم، أنزل فيه المحكم والمتشابه ليكون آيةً في إعجازه إلى يوم يبعثون، دستوراً للحياة ومنهجاً للنجاة.

الرسالة الخاتمة (رسالة الإسلام) التي اختارها الله للبشر من فوق سبع سماواتٍ كمنهجٍ للحياة تضبط علاقة الناس بربِّهم وعلاقتهم ببعضهم البعض. نهج متكاملٌ يبدأ بالقرآن ولا ينتهي بالسُّنَّة، مع اعتبارهما أساس هذا الدِّين، ليأتي الصحابة والتابعون ومن بعدهم الأئمَّة والفقهاء والعلماء الذين تمكَّنوا من علوم الشريعة وأصولها ليستنبطوا منها القواعد الكلِّية التي ترتبط بحياة الإنسان ومعاملاته فتنتج عنها أحكامٌ تُصلح وتضبط حياة المسلمين في أحكامهم ومعاملاتهم فيتكوَّن لدينا ما نسمِّيه بـ (الفقه الإسلامي).

لم يختر الله سبحانه وتعالى الإسلام شريعةً خاصَّةً بشعبٍ أو قوم، إنَّما جعله دين العالمية: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا[سبأ-28].
وليكون هذا الدِّين خالداً فلا بدَّ أن تكون تشريعاته وأحكامه مناسبةً لكلِّ زمانٍ ومكان، ومن خصائصه أن يكون مرناً في محتواه يتلاءم مع متغيِّرات الزمان، ثابتاً في أصوله كالشجرة تضرب الأرض بجذورها، مورقةٌ في أغصانها، تغيّر أوراقها على مدار الفصول لتبقى عبقةً نضرة: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُها في السَّمَاءِ[إبراهيم-24].

وبذلك جمعت الشريعة الإسلامية الغرَّاء في داخلها بين الثبات والتغيّر،  وهذه الخاصية واحدةٌ من مظاهر الإعجاز التشريعيّ التي لا يمكن أن تتوافر إلَّا للشريعة الإسلامية الخاتمة، لأنَّها ربَّانيةٌ، مُوحى بها من عند الله الذي خلق الخلق وهو بأزمانهم وأحكامها حكيمٌ خبير، مُحيطٌ عليمٌ بفطرتنا وطبائعنا وأزماننا وما يناسبها.

فالقرآن والسُّنَّة أصولٌ للشريعة، والفقه ما هو إلَّا استنباطٌ للأحكام التي يحتاجها كلُّ مسلمٍ في حياته، وقد يختلف الفقهاء في الأحكام التي تفهم من نصوص الأصلين، ولا يمكن لمؤمنٍ يريد أن يعيش حياته كما اختارها له ربُّه بأن يفصل الشريعة عن الفقه، فأصوله تحتاج إلى خبراء عالمين عارفين يستنبطون أحكامه من أدلَّته الشرعية، فمنها ما هو قطعيٌّ ومنها ما هو ظنِّيٌّ، تجد فيه الكلِّيات والجزئيات، أركانه ثابتةٌ راسخةٌ لا خلاف فيها، والتي تمثل مجموعةً من الأحكام القطعية، وهي مدار بقيَّة الأحكام، وما يجري من اجتهاداتٍ فرعية لا بدَّ من أن تكون ضمن تلك الأطر للأصول الكلية.

ما هو  الثابت إذن؟

الثابت في اللغة: اسم فاعلٍ من ثبت الشيء ثباتاً وثبوتاً فهو ثابتٌ وثبيت، وثبت، والثبات فيه معنى الديمومة والاستمرار والملازمة والبقاء.
فالثابت في الإسلام هو مجموعة الأسس والحقائق التي لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، كأصول العقيدة وأركان الإيمان الستَّة، وأركان الإسلام الخمسة، وما يتعلق بالله سبحانه من توحيده وإثبات أسمائه وصفاته وأفعاله، وإفراده بالألوهية والرُّبوبية والعبادة، وأصول العبادات والمعاملات ومكارم الأخلاق، وإنَّ الإسلام هو وحده الدِّين المقبول عند الله سبحانه، قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ[آل عمران-19]، وغيرها من أصول الإسلام التي يصعب حصرها، والتي منها وجوب الالتزام بأحكام الله تعالى وتشريعاته، وعدم جواز إقرار أيِّ تشريعٍ يخالف تشريعه سبحانه، فأركان الدِّين من عقيدةٍ وقيّمٍ ومقاصد ثابتةٍ لا تتغيَّر، أمَّا الجانب المرن في الدِّين إنَّما كان في الشقِّ التشريعيِّ المعاملاتي، ويظهر ذلك جلياً في العديد من آيات القرآن الكريم .

الثابت اصطلاحاً :

يُقصد به التشريعات التي لا تتبدّل مع تغيُّر الزمن والتي تتَّصف بالاستقرار والديمومة المطلقة، فالثابتُ هو مقصد الدِّين والغاية التي من أجلها أرسل الله الرسل في كلِّ زمانٍ ومكانٍ كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتابَ والميزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيْدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ[الحديد-25]، فإقامة العدل وتحقيق العدالة بين الناس مقصدٌ ثابتٌ وهدفٌ وغايةٌ جاء الرسل لتحقيقها على أرض الواقع في كلِّ حين، وهي تحتاج إلى وسائل للوصول إليها، والمقصود بذلك إرسال الرسل بشريعةٍ سماوية، فالهدف هو مقصد الدِّين الثابت، والوسائل وهي الشريعة وهي متغيِّرة بتغيُّر الزمان والمكان.

 وقد أطلق الفقهاء اسم الإجماع على الثابت، ومثاله وجوب الصلاة والزكاة والحجِّ وصيام رمضان وليس شهراً آخر، وأنَّ الوضوء شرطٌ للصَّلاة ويأتي قبلها (وليس بعدها) وأنَّ البيع حلالٌ، والزواج حلالٌ، ووجود أحكامٍ للطَّلاق والقصاص والحدود وحرمة السرقة والزنا والرِّبا والقتل والعدوان والميتة، وهي الأحكام التي وصلت إلينا بدليلٍ قطعيٍّ لا يقبل التغيير والتبديل، فهي عناصر ثابتةٌ في الشرع لورودها في الصحيح القطعيّ، أمَّا المتغيِّر من الأحكام فهي التي وردت إلينا بدليلٍ ظنِّيٍ واختلف فيها الفقهاء، وهي ليست من الثوابت في الشريعة وإنَّما من الأحكام المتغيرِّة التي تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان واختلاف فتاوى الفقهاء.

رحمته في الجهاد

ما المقصود بالمتغيّر؟

المتغيِّر هي التشريعات التي تتبدّل مع تغيُّر الزمان، فقد تصلح لزمنٍ دون غيره فذلك لا يعطيها سمة الاستمرارية والديمومة، وهناك من يرى أنَّ الثابت هي مقاصد الشريعة أي الضروريات الخمس: الحياة (النفس)، العقل (العلم) الدِّين (المعيار الثابت) والعرض (الكرامة الفردية والجماعية) والمال (الثروة الوطنية)، والمتغيِّرات هي الحاجيات والتحسينات طبقاً لظروف كلِّ عصر  .

لقد أقرَّ الإسلام مجموعةً من القواعد الفقهية الكبرى التي تحقِّق الخير للنَّاس فتحصل مصالحهم، وتنظِّم حياتهم، وتسعى إلى تعطيل المفاسد وتقليلها، ومنها: قاعدة (الأمور بمقاصدها) و (لا ضرر ولا ضرار) و(الضرورات تبيح المحظورات)، فتلك القواعد تبقى ثابتةً لأنَّها مبنيةٌ على استقراء أحكامٍ فقهيَّةٍ كثيرةٍ حتَّى وصلت إلينا، وتبقى الأحكام الشرعية مرتبطةً بالمصادر الأصلية للتشريع الإسلاميّ المتَّفق عليها والمحصورة بالقرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الصحيحة، وقد راعت الشريعة الضرورات والحاجات والأعذار التي تنزل بالناس، فشرَّعت لها أحكاماً استثنائيةً تناسبها وفقاً لاتجاهها العام في التيسير على الخلق.

ويؤكِّد ابن القيِّم هذا التقسيم في كتابه: “إغاثة اللهفان“؛ حيث يقول: “الأحكام نوعان: نوعٌ لا يتغيَّر عن حالةٍ واحدةٍ هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمَّة؛ كوجوب الواجبات، وتحريم المحرَّمات، والحدود المقدَّرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرَّق إليه تغييرٌ ولا اجتهادٌ يخالف ما وُضع عليه، والنوع الثاني: ما يتغيَّر بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالًا؛ كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإنَّ الشارع يُنوِّع فيها بحسب المصلحة“، ثمَّ يقول ابن القيِّم رحمه الله في بيان أنَّ هذه المعاني قد تخفى على كثيرٍ من الناس: “وهذا بابٌ واسعٌ اشتبه فيه على كثيرٍ من الناس الأحكام الثابتة اللازمة التي لا تتغيَّر بالتعزيرات التابعة للمصالح وجوداً وعدماًإغاثة اللهفان، (1/ 570 – 574).

فالمتغيِّرات في الشريعة الإسلامية: تتمثَّل بالأحكام الفقهية الفرعية المستمدَّة من نصوصٍ ظنِّية الدِّلالة يمكن الاجتهاد فيها، أو هي تلك النصوص التي تستمدُّ من نصوصٍ معلَّلةٍ بعللٍ خاصَّةٍ، والتي تتغيَّر بتغيُّر الزمان أو المكان، أو الأحكام المبنية على قواعد العرف، والتي تتغيَّر بتغيّره، والأمور التي تندرج تحت الكماليات والتحسينات أيضاً، وهي تختلف باختلاف الزمان والمكان.

ويمكن للناظر في الفقه أن يلحظ أنَّ الفقه القديم ركَّز على أن تكون الأولوية للعبادات لا على المعاملات، وفي الفقه الجديد يركِّز الفقهاء على المعاملات لا على العبادات، فالعبادات قد استقرَّت أمَّا المعاملات فهي بحاجةٍ إلى فقهٍ جديدٍ متجدِّدٍ في ظلِّ المستجدَّات المعاصرة، وهو ما يسمِّيه فقهاء العصر الحديث “فقه الزمان” وهذا يؤكِّد الفكر الإسلاميَّ الذي يتحرَّك فيه الفقهاء في الوقت الراهن درساً واجتهاداً واستنباطاً لأحكامٍ درجت حديثاً، كالمعاملات التي كثرت بين الناس وبين الدول وتشعَّبت في مجالاتٍ عديدةٍ متنوِّعةٍ، كالبنوك الإسلاميَّة والتعاملات النقديَّة، وغيرها مما استجدَّ في زماننا ولم تكن على عهد من كان قبلنا.

فالتجديد في الفكر الديني إنَّما هو مشروعٌ يركِّز على فهمنا الدينيّ وقراءتنا له، وليس على الدِّين نفسه، فالدِّين فوق أن يتجدَّد، وتجديد الدِّين خطأٌ منهجيٌّ، فالدِّين كاملٌ مطلقٌ يحتوي الحوادث المتجدِّدة على الدوام لأنَّه جاء من عند الله سبحانه وتعالى الذي يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، ويعلم ما يصلح للإنسان في كلِّ زمانٍ ومكان.

والتجديد في تعاملات الناس وفهم النصوص أمرٌ شرعه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأقرَّه في الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه عن أبي هريرة عن رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم:: “إنَّ الله يبعث لهذه الأمَّة على رأس كلِّ مئة سنةٍ من يجدّد لها دينها)). وفي رواية: ((من يُقيم أمر دينها“، والمراد بتجديد الفكر الديني: إحياء معالمه العلمية والعملية التي أبانتها نصوص الكتاب والسُّنَّة .

إنَّ مسألة الثابت والمتغِّير ليست مسألةً جديدةً فقد شغل هذا الأمر الفقهاء الأوائل، وحاولوا أن يلتمسوا الحلول والإجابات للمسائل الجديدة التي طرأت بتغيُّر الزمان، وابتكروا لذلك أدلَّةً جديدةً تصلح لكلِّ زمانٍ كالقياس والاجتهاد والمصالح المرسلة، والسبب فيها يرجع إلى أنَّ النصَّ الدينيَّ والتشريعات الإسلامية محدودةٌ متناهيةٌ، ومشاكل الواقع ومستجدَّاته متجدِّدةٌ باستمرارٍ وغير متناهية.

وإنَّ كثيراً من الأحكام تختلف باختلاف الزمان؛ لتغيُّر عُرْفِ أهله، أو لحدوث ضرورةٍ أو فسادٍ في أهل الزمان؛ بحيث لو بقيَ الحكم على ما كان عليه أوَّلًا للزِم منه المشقَّة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد، فالتطبيق العمليُّ قد تتولَّد منه مشاكلُ تتطلَّب حلولًا في ظلِّ الشريعة، وهذه الحلول تقتضي الخروج عن الدائرة النظرية إلى ما هو أوسع وأرحب منها، طبقاً لروح الشريعة وقواعدها الكلية.

 وإنَّ من رحمة الله بخلقه أن جعل دينه يسيراً في أحكامه ليتواءم مع كلِّ زمانٍ ومكانٍ، ويظهر ذلك فيما أكَّده النَّبيُّ في أكثر من موضع، فعَنْ أَبِىهُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَالَ:

إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ [رواه البخاري (39) ومسلم (2816)]. 

زياد الوتار

بقلم: أ. محمد زياد الوتار

الثابت والمتغير في الدين

غلاف الثابت والمتغير في الدين الإسلامي
الثابت والمتغير في الدين الإسلامي 2

الثابت والمتغير في الدين

Loading

الثابت والمتغير في الدين الإسلامي

قال أحد الشباب: لا أستطيع أن ألتزم بالدِّين؛ لأنَّ الإسلام يقيّد عملي وإبداعي واختياراتي، ويمنعني من ممارسة الحياة التي أرغب فيها.

وقال آخر: كدْتُ أن أترك الإسلام، لولا أنّ محمّد شحرور عرض الدِّين بصورةٍ سهلةٍ جميلةٍ تتَّفق مع رغباتي، فتبعت أفكاره.

 تصوّران مغلوطان عن الثوابت والمتغيّرات في الإسلام:

فمن ظنّ أنّ الالتزام بالدِّين وممارسة الحياة لا يجتمعان؛ لأنّ أحكام الدِّين ثابتة، وأنّ الإسلام يقيّد حركته، ويلزِم الناس بطريقةٍ واحدةٍ في السلوك والعلم والعمل والتصرّفات والمَلْبَس والعادات، فهو واهم، ولم يدرك حقيقة الشريعة التي وصفها العلماء بقولهم: (فإنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلُّها، ومصالح كلُّها، وحكمةٌ كلُّها؛ فكلّ مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة) [إعلام الموقعين عن رب العالمين: (3/11)].

فالإسلام جاء لمصالح العباد وتحقيق سعادتهم في الدنيا والآخرة، ومن ثمّ فساحة المتغيّرات في الدِّين كبيرةٌ واسعة؛ لأنّ المصالح الدنيوية متغيّرةٌ ومتجدّدة، وكلّ ما يصلح المعاش من المعاملات، والعادات، والمكاسب، والعمل، والسلوك، والاختيارات الخاصَّة، وتدابير الحياة، فإنّ الشريعة وسّعته وأباحته، ولم تُلزِم فيه بطريقةٍ معيّنة، إلاّ أنَّها وضعت لها شروطاً عامّةً كلّيّةً مرنة، ولم تفصّل فيها الأحكام حتَّى لا تقيّد تصرّفات الناس. قال الطاهر بن عاشور: (وأقول: قد تتبّعت تفريع الشريعة زمن الرسول ، فوجدت معظمه في أحكام العبادات… بخلاف أبواب المعاملات… فأمّا المعاملات فبحاجةٍ إلى اختلاف تفاريعها باختلاف الأحوال والعصور… ولذلك نجد أحكام المعاملات في القرآن مسوقةً غالباً بصفةٍ كلّية) [مقاصد الشريعة: (ص:389)].

ومن ثمّ فساحة المباح واسعةٌ، بل هي الأصل في كلّ ما يعود إلى الإنسان بالفوائد الدنيوية المعتبرة، حتّى قرّر الأصوليّون قاعدة: (الأصل في المنافع الإباحة) فقد خوّلت الشريعة الناس أن يتصرّفوا بما ينفعهم في حياتهم وعاداتهم ومعيشتهم مطلقاً، ولا يشترط لهذه الأعمال أن يَرِد فيها دليل، وإنّما يكفي عدم ورود ما يعارض أحكام الشرع فيها، قال الدكتور محمَّد الريسوني: (التكاليف العادية – تكاليف العادات والمعاملات – يكفي لصحّتها، ألّا يكون القصد فيها مناقضاً لقصد الشارع، ولا يشترط فيها ظهور الموافقة) [نظرية المقاصد عند الشاطبي : ( 322 )].

لذا عندما فتح المسلمون بلاد المغرب كان لباس المغاربة يختلف عن لباس المشارقة، ولم يعتادوا تغطية رؤوسهم بالعمائم، فترك المسلمون لهم اختيارهم في أزيائهم وعاداتهم، ولم يلزموهم بتغطية رؤوسهم، مع أنّ تغطية الرأس أمرٌ مؤكَّد، وكشفه من خوارم المروءة عند المشرقيّين، ولكنّ العلماء استثنوا أهل المغرب من هذا الحكم؛ لأنّ الشريعة راعت العادات ولم تغيّر ما أَلِفَه الناس، قال الإمام الشاطبي في كلامه عن الأحكام المتبدّلة في الشريعة: (والمتبدّلة منها: ما يكون متبدّلاً في العادة من حسنٍ إلى قُبح، وبالعكس، مثل كشف الرأس، فإنَّه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيحٌ في البلاد المشرقيّة، وغير قبيحٍ في البلاد المغربيّة، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحاً في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح) [الموافقات (2/ 489)].

وعلى هذا فقِس، فما كان سائغاً من اللباس والأفعال والعادات والترفيه والإبداع، فلا تقف الشريعة في طريقه أبداً.

وإنّ الالتزام بالدِّين وإقامة شعائره من صلاةٍ وصيامٍ وغيرهما، والأخذ بمكارم الأخلاق، لا تتعارض مع اختيارات الانسان الدراسيّة، والعلميّة، والإبداعيّة، وممارسة الرياضة، والاستجمام، والتنزّه، والمرح، ممَّا لا تشوبه مخالفاتٌ شرعيّة.

فإن قال قائل: لماذا يمنع علماء الدِّين بعض التسريحات والألبسة والموضات؟

فالجواب: الدين لا يحجر على أحدٍ تصرّفاته، فلكلّ إنسانٍ أن يلبس ما يشاء، ويسرّح شعره كيف شاء.

بيد أنّ الأصل في اللباس الستر الذي تدعو إليه الفطرة، والقصد من تسريح الشعر الجمال والتأنّق الذي يسعى إليه كلّ إنسان، ولكن إذا تغيّرت هذه الوظيفة عند بعضهم في اللباس وقصّ الشعر، فتحوّل اللباس إلى أزياء تظهر العورات، أو تقليداً لجماعات غربيّةٍ شاذّة، وصار تسريح الشعر اتّباعاً أعمى مستورداً من دول أوروبية، يحمل رمزيّةً سيّئةً لدى مُصَدِّريه، فالشريعة تمنع هذا السلوك من اللباس وتسريح الشعر وتقوّمه؛ للحفاظ على كرامة المسلم ومروءته؛ لأنّ المسلم ذو عزّةٍ وكرامة، وهذه الأمور تحطّ من المقام الذي يليق به، فكشف العورات يرفضها كلّ إنسانٍ سليم الفطرة، واتّباع الجماعات الغربيّة الشاذَّة واللاأخلاقيّة في لباسهم وسلوكهم وتسريح شعرهم نزولٌ عن المستوى اللائق بالإنسان السويّ.

أمّا لو ابتكر حلّاقٌ تسريحةً دون أن تكون لها رمزيّةٌ سلبيّة، أو أبدع مصمّم أزياء ثياباً لمجرَّد الجمال والأناقة، فلا خلاف في جوازه.

فالشريعة لا تعارض الإبداع والأناقة والجمال البتّة، وإنّ النبيّ  عندما حذّر أصحابه من الكبر وقال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرَّةٍ من كبْر»، قال رجلٌ: إنَّ الرجل يحبُّ أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، قال : «إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال، الكبر بطر الحقّ، وغمط الناس» [مسلم]، فلم يقصد النّبيّ من ذمّ الكبر جمال الثياب أبداً، بل استحسنه فقال: ((إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال))، كما حثَّ على الاعتناء بالشعر، فقال : ((من كان له شعرٌ فليكرمه)) [أبو داود].

فإنّ الإسلام لا يعارض التأنّق والذوق الرفيع، بل جعل له اعتباراً ضمن مرتبة التحسينات، وإنّما منع من التقليد الأعمى، والانبهار بمظاهر الفساد لدى الغرب، والانسلاخ عن الهويّة.

 وإذا عدنا إلى الشابّ الثاني الذي كاد أن يترك الإسلام، ثمّ اتّبع أفكار شحرور:

 فنهمس في أذنه بمحبّة ونقول له: ليس الدين بالأهواء، ولا منظومةً من الآراء الشاذّة التي تتجاوز الثوابت، بل يجب الانقياد لأوامره، لا أن نغيّر أحكامه ونجعلها تابعةً لهوانا.

فثمّة ثوابت وأصولٌ وخطوطٌ حُمُر لا يسوّغ تجاوزها، ولا بدّ من مراعاتها؛ لأنّ الدين يشتمل على أحكامٍ ومقاصد، فلا بدّ من تحقيقها للفوز بسعادة الدنيا والآخرة.

فالثوابت تتمثّل بالتمسّك بالأصول: كالأخذ بالقرآن الكريم والسنّة النبويّة، وعدم الخروج عن إجماع المسلمين، وألَّا يُحدَث  في الدِّين ما ليس منه.

 والحفاظ على العقائد التي تشمل أركان الإيمان بتمامها وشروطها، وتعظيم شعائر الإسلام، والتصديق بكلّ ما جاء به رسول الله ﷺ من ربّه.

وكذلك العبادات: وتشتمل على الأوامر والنواهي:

فالأوامر منها شعائريّة: كالصلاة والصيام والزكاة والحجّ، ومنها تعامليّة: كالصدق والأمانة والعدل وبرّ الوالدين، وصلة الأرحام ونحو ذلك.

 والنواهي: كتحريم السرقة والزنا والربا وشرب الخمر والمخدّرات، وكشف العورات وغيرها من المحرّمات.

فالثوابت لا تتغيّر ولا تتبدّل، وثبوتها لا يعيق حركة الحياة، ولا يجلب مشقَّةً أبداً، بل يضبط الاعتقاد والسلوك، ويفتح آفاق الفكر والإبداع لدى المسلم، وهناك الآلاف من المبدعين الملتزمين بدينهم في عصرنا ولم يجدوا تعارضاً بين الدين والحياة، نذكر خمسةً منهم:

البروفسور الليبيّ محمد القماطي: صاحب أكثر من (200) براءة اختراع في البصريّات، ورئيس جمعيّة التراث الإسلامي، وإمام مسجد في بريطانيا.

البروفسور الباكستانيّ الداعية حسين عبد الستَّار: مختصٌّ في علم الأمراض في جامعة شيكاغو، ويعمل في الدعوة إلى الله ونشر الإسلام.

البروفسور الجزائريّ يوسف كمال تومي: حافظٌ لكتاب الله، ولديه أكثر من (50) اختراعاً في صنع الروبوتات، ومحاضرٌ في المساجد.

البروفسور الجزائريّ محمَّد لاشمي: رئيس أعرق جامعةٍ كنديّة (رايرسن)، وله أكثر من (200) ورقة علميّة، داعيةٌ، ومساهمٌ في بناء المساجد في كندا.

– الطبيب المصريّ عبد الكريم الحسن: درس في جامعة الأزهر، اختارته مجلّة (باثولوجي) ضمن قائمة أفضل (100) رائد علميّ باثولوجيّ في العالم عام 2019م.

وغيرهم كثير، والقائمة لا تكاد تنتهي.

فالملتزم بدينه يزداد تركيزه، ويتّسع وعيه واستيعابه، ويبدع في مجاله، بخلاف من يريد الانفلات من الدين، فإنّ تفكيره يكون مشتّتاً، ونفسَه مضطربة.     

فالثوابت تضبط الحياة وتحيط الدّين بالصيانة والحماية، وتكفل السعادة الدنيويّة والأخرويّة للمسلم.