الحرية بين الإسلام والعلمانية
الحرية بين الإسلام والعلمانية
باتت كلمة (الحرية) اليوم من أبرز الألفاظ المتداولة بعد تحرُّر سوريّة من سطوة الطغاة، فبين من أعطى الحرية مكانتها الحقيقية وجعلها عاملاً لسموِّ الإنسان وبناء المجتمعات، وبين من جعل من الحرية باباً للظلم والتعدِّي على حقوق الآخرين؛ صار المصطلح عنواناً لإشكالية تتطوَّر مع الأيام بين تيّارٍ يرى الحرية إزالةً لقيودٍ منعت الناس من العدل والرُّقي والسّير بركب الحضارة، وتيَّارٍ يريد أن يجعل من الحرية ميداناً يفعل فيه الإنسان ما شاء.
لذلك كان لا بدَّ من البحث عن الحقيقة بين الفريقين.
ما هي الحريةّ؟ وما ضوابطها؟
يُعرِّف الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانت Immanuel Kant” الحرية أنَّها القدرة الحرَّة على الاختيار، والتي لا تحكمها أو تؤثِّر عليها أيُّ مؤثِّراتٍ خارجية.
ويرى “جون لوك John Locke” أنّ البشر يملكون الحرية المطلقة في فعل ما يشاؤون في الوقت الذي يريدونه، وبالطريقة التي تناسبهم ويختارونها.
بينما ربط سقراط “Socrates” بين الحرية والفضيلة، واعتبر ممارسة الإنسان للفضائل دليلاً على حرِّيَّته، في حين أنَّ اتجاهه للرذائل دليلٌ على فقدانه الحرية، وأنَّه بات عبداً لهذه الأفعال المشينة.([1])
يتبيّن لنا من التعاريف السابقة أنَّ هناك خلافاً في تعريف المصطلح، فبينما يرى (جون لوك) أنَّ البشر يملكون الحرية المطلقة في فعل ما يشاؤون, يعتبر (سقراط) أنَّ الحرية ليست مطلقة.
والحقيقة أنَّ الحرية المطلقة بالشكل الذي يريده (لوك) تواجه مشكلةً جوهريّةً في أنَّها لا تفرض أيَّ التزامٍ على الإنسان. فلو أنَّ كلَّ إنسانٍ في عمله تخلَّى عن التزاماته التي يفرضها عليه العمل، لفشل في تحقيق أيِّ شيءٍ، ولتبدَّد العمل وانهار. ولو أنَّ كلَّ إنسانٍ تخلَّى عن واجباته تجاه الآخرين بدعوى الحرية، لتحوَّلت المجتمعات إلى غاباتٍ يأكل القوي فيها الضعيف. فإذا أراد القاتل أن يقتل من هو أضعف منه
فمن يملك منعه في ظلِّ إرادة إطلاق رغبات البشر المكبوتة وتحقيق الحرية المطلقة للجميع؟ فلدى القاتل رغبةٌ مكبوتةٌ في قتل الآخرين، فكيف يُجيب من يبغي الحرية المطلقة إذا سُئل عن مصادرة حريّة القاتل ومنعِه من تنفيذ ما يريد؟
غالباً ما تكون الإجابة على هذا السؤال بأنَّ الحرية لا تعني التعدِّي، وأنَّه لا بدَّ من قانونٍ يحفظ حقوق الأفراد، فحريّة الفرد تنتهي عندما تبدأ حريّة الآخرين. وعندها يكون مذهب الحريّة المطلقة قد سقط في عرف جميع العقلاء، وتبيّن أنَّ على الإنسان أن يختار بين قانون الغاب وبين التشريعات الإنسانية التي تضع حدود الأفراد، وتحفظ حقوق كلِّ إنسانٍ بما يضمن عدم التعدِّي على حقوق الآخرين.
ماذا يريد العلمانيون؟
تقوم العلمانية على مبدأ فصل المؤسسات الحكومية عن الدين، ويدافع العلمانيون عن هذا المبدأ لاعتقادهم أنَّ الدين لا علاقة له بالمؤسسات المدنية، كما أنَّه يقيّد حرية الأفراد، وأنَّ الحريّة تتنافى مع حاكمية الدين على الناس.
وإذا سئل العلمانيون عن الحرية المطلقة التي تتيح للإنسان أن يتصرّف وفقاً لقانون الغاب لأجابوا بأنَّ الدولة العلمانية هي دولة قانون يحتكم الجميع فيها إلى مؤسَّساتٍ قضائيةٍ تحفظ حقوق الأفراد والمجتمعات، لكن دون تمييزٍ على أساسٍ دينيٍ أو عرقي.
والحقيقة أنَّ الجانب المشترك مع العلمانية كبيرٌ جدَّاً، فالإسلام لا يُريد ظلم الناس على أساس دينهم، والقضاء بين الناس وفقاً للإسلام يكون على أساس مساواتهم أمام القانون.
فلم يكن القاضي شُريح ينتظر مدحاً من أحدٍ عندما حَكَم لصالح اليهوديّ لعدم استيفاء الأدلة من قبل خصمه في المحكمة علي بن أبي طالب –رضي الله عنه– الذي كان خليفةً في ذلك الوقت، ورفض شهادة ابنه الحسن رضي الله عنه لأنَّ شهادة الولد لأبيه لا تقبل.
لذلك ليست عند المسلمين مشكلةٌ في كثيرٍ مما يدعو إليه العلمانيون، لكنَّ الخلاف يكمن في نظرة العلمانيين للحرية التي يرون أنَّ الدين يقيّدها، فهم مقتنعون بضرورة احتكام الناس للقانون الذي يقيّد حريّة بعض الأفراد منعاً من ظلم الآخرين، لكنّهم لا يرضون بالقانون الذي يعتقد المسلمون أنَّه من مصدرٍ إلهيٍّ يحفظ حقوق جميع الناس، وذلك لاعتقادهم أنَّ هناك مساحاتٍ من الحريّة يجب أن تُحفظ في حين يراها الإسلام تعدّياً يجب منعه، وهنا يكمن الخلاف، لكنَّ أصل الفكرة مشتركٌ بين الفريقين.
تشمل هذه المساحات كلَّ ما حرَّمه الإسلام وتراه الدساتير الوضعيّة مباحاً مثل: الدعارة المقننة، والقمار، والزواج المدني، والإجهاض، والعلاقات خارج إطار الزواج وغيرها. وتكمن المشكلة في أنَّ هؤلاء الناس يريدون استنساخ التجارب الغربيّة بكلِّ ما فيها من إيجابياتٍ وسلبيّات دون النظر في عواقب ذلك، ودون البحث فيما وصلت إليه المجتمعات الغربية من كوارث جرَّاء بُعدها عن الوحي الإلهي.
فكلُّ هذه العناوين التي يريد العلمانيون تقنينها تحمل ظلماً لصنفٍ من أصناف الناس، وقد عاشت ويلاتها الشعوب الغربية بعيداً عن مجهر البحث العلماني. فكيف تشرِّع قانوناً يظلم المرأة ويجعلها سلعةً تُباع وتشترى؟ أو قانوناً يُبيح قتل إنسانٍ بدعوى أنَّه لم يخرج من بطن أُمِّه؟ أو قانوناً يحرم المرأة من حقِّها في حفظ نَسَب ولدها ومسؤولية والده تجاهه؟ أو قانوناً يشرِّع لغير المسلم أن يتزوَّج امرأةً لا يعترف بدينها فلا تستطيع معه ممارسة حقِّها في حفظ شعائر دينها وعقيدتها؟ أو قانوناً يُبيح للناس أكل أموال بعضهم بناءً على الحظِّ والصدفة.
هذه القوانين ومثيلاتها هي أساس الخلاف بين العلمانيين وبين من يرى في الشريعة الإلهية حفظاً لحقوق الناس ولو على حساب هامشٍ من الحريات ينشده العلمانيون، ويراه غيرهم ظلماً لأصنافٍ من البشر.
وفي سبيل دفع ذلك الظلم وتحرير الناس من التعدي عليهم، وضع الإسلام عنواناً لتحرير المظلومين جاعلاً منه فريضةً من فرائض الدِّين.
فريضة تحرير الناس في الإسلام
إنَّ من أقدس الواجبات التي فرضها الإسلام على أتباعه السعيُ لتحرير البشر من ظلام الجاهلين وتسلُّط الجبَّارين. فبعدما بيَّنا أنَّه لا بدَّ من وضع تشريعاتٍ تحفظ حقوق كلِّ إنسان، وأنَّ الحريّة التي تُعلي من شأن البشر هي التي تحفظ حقوق كلِّ فردٍ بما يحقِّق بناء مجتمعاتٍ إنسانيةٍ فاضلة، لا بدَّ من تبيان أنَّ الشريعة الإسلامية فرضت على أتباعها تحرير إخوانهم في الإنسانية من الظلم والعدوان.
وقد نصَّ القرآن الكريم على هذه الحقيقة، وجعل الجهاد في سبيل تحرير الناس واجباً شرعيّاً حثَّ أتباعه عليه، وحذَّر من التخاذل عنه.
قال تعالى: { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا } [سُورَةُ النِّسَاءِ:٧٥]
وفي سبيل هذه الغاية المقدَّسة انطلقت بعثات الفتح لمشارق الأرض ومغاربها تحرِّر البلاد من تسلُّط الطغاة وحكم الظالمين.
ويشهد على هذه الحقيقة الموقف الذي وقفه قائدٌ من قادة جيوش الفتح ربعيّ بن عامر رضي الله عنه إذ أوفده سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى -رستم- قائد جيش الفرس، ليسأله الأخير: (ما الذي جاء بكم؟) فيجيبه ربعي بكلماته المحفورة في معلَّقات التاريخ:
(إنَّ الله ابعتثنا لِنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جَورِ الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدُّنيا إلى سَعة الدُّنيا والآخرة).
بهذه الرسالة السامية انطلق الصَّحابة الكرام رضي الله عنهم ومَن بعدهم مِن المسلمين لتحرير الناس من عبوديَّتين متلازمتين، عبودية الظالمين الجبابرة، وعبودية الدساتير الجائرة، فما كان الناس ليُظلموا إلَّا لاحتكامهم لقوانين قاصرة، ولبعدهم عن نور الوحي الإلهي الذي يحفظ حقَّ الإنسان ويحرِّره من أنانيَّته ووحشيَّته وظلمه لنفسه وللآخرين.
خاتمة
بعد الاستعراض السابق، نجد أنَّ مفهوم الحريّة يجب أن يُضبط عند جميع العقلاء، فلا حريّة مطلقة إلَّا في الغابة. وإنَّ تفلُّتَ الإنسان من معايير الالتزام الأخلاقي والسلوكي يؤدي حتماً إلى ظلم أخيه الإنسان، ولا يُرفع هذا الظلم إلَّا بفرض سيطرة القانون الذي يحمي حقوق الجميع بتقييد مساحات حرية كلِّ فرد. وفي سبيل ذلك شرَّع الإسلام جهاد الطَّلب لتحرير البشر من رقِّ الجبابرة وظلم الدساتير الوضعية، ولن تحفظ هذه الدساتير حقَّ جميع الناس إلَّا إذا كانت مستقاةً من وحي الخالق الذي يعلم أين يجب أن يتحرَّك الإنسان، وأين يجب أن يقف، وذلك خيرٌ من تجربة القوانين وتعديلها لمئات السنوات حتى يصل البشر إلى قناعة أنَّه ما من قانونٍ وضعيٍّ يُخالف حكماً إلهياً إلّا ويحمل في طياته ظُلماً لأحد البشر. وذلك خيرٌ – كذلك– من إعادة تجربة شعوبٍ نجحت في العمران المادي، وفشلت في العمران الأخلاقي والمجتمعي، وغرقت في مستنقع العدميّة، ولن ترى النور مجدَّداً إلَّا باتِّباعها تشريع الوحي الإلهي.
[1] تم اقتباس التعاريف من موقع علم الفلسفة https://alfalsafah.com/