الحرية بين الإسلام والعلمانية

الحرية بين الإسلام والعلمانية

الحرية بين الإسلام والعلمانية

باتت كلمة (الحرية) اليوم من أبرز الألفاظ المتداولة بعد تحرُّر سوريّة من سطوة الطغاة، فبين من أعطى الحرية مكانتها الحقيقية وجعلها عاملاً لسموِّ الإنسان وبناء المجتمعات، وبين من جعل من الحرية باباً للظلم والتعدِّي على حقوق الآخرين؛ صار المصطلح عنواناً لإشكالية تتطوَّر مع الأيام بين تيّارٍ يرى الحرية إزالةً لقيودٍ منعت الناس من العدل والرُّقي والسّير بركب الحضارة، وتيَّارٍ يريد أن يجعل من الحرية ميداناً يفعل فيه الإنسان ما شاء.

لذلك كان لا بدَّ من البحث عن الحقيقة بين الفريقين.

ما هي الحريةّ؟ وما ضوابطها؟

يُعرِّف الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانت Immanuel Kant” الحرية أنَّها القدرة الحرَّة على الاختيار، والتي لا تحكمها أو تؤثِّر عليها أيُّ مؤثِّراتٍ خارجية.

ويرى “جون لوك John Locke” أنّ البشر يملكون الحرية المطلقة في فعل ما يشاؤون في الوقت الذي يريدونه، وبالطريقة التي تناسبهم ويختارونها.

بينما ربط سقراط “Socrates” بين الحرية والفضيلة، واعتبر ممارسة الإنسان للفضائل دليلاً على حرِّيَّته، في حين أنَّ اتجاهه للرذائل دليلٌ على فقدانه الحرية، وأنَّه بات عبداً لهذه الأفعال المشينة.([1])

يتبيّن لنا من التعاريف السابقة أنَّ هناك خلافاً في تعريف المصطلح، فبينما يرى (جون لوك) أنَّ البشر يملكون الحرية المطلقة في فعل ما يشاؤون, يعتبر (سقراط) أنَّ الحرية ليست مطلقة.

والحقيقة أنَّ الحرية المطلقة بالشكل الذي يريده (لوك) تواجه مشكلةً جوهريّةً في أنَّها لا تفرض أيَّ التزامٍ على الإنسان. فلو أنَّ كلَّ إنسانٍ في عمله تخلَّى عن التزاماته التي يفرضها عليه العمل، لفشل في تحقيق أيِّ شيءٍ، ولتبدَّد العمل وانهار. ولو أنَّ كلَّ إنسانٍ تخلَّى عن واجباته تجاه الآخرين بدعوى الحرية، لتحوَّلت المجتمعات إلى غاباتٍ يأكل القوي فيها الضعيف. فإذا أراد القاتل أن يقتل من هو أضعف منه 

فمن يملك منعه في ظلِّ إرادة إطلاق رغبات البشر المكبوتة وتحقيق الحرية المطلقة للجميع؟ فلدى القاتل رغبةٌ مكبوتةٌ في قتل الآخرين، فكيف يُجيب من يبغي الحرية المطلقة إذا سُئل عن مصادرة حريّة القاتل ومنعِه من تنفيذ ما يريد؟

غالباً ما تكون الإجابة على هذا السؤال بأنَّ الحرية لا تعني التعدِّي، وأنَّه لا بدَّ من قانونٍ يحفظ حقوق الأفراد، فحريّة الفرد تنتهي عندما تبدأ حريّة الآخرين. وعندها يكون مذهب الحريّة المطلقة قد سقط في عرف جميع العقلاء، وتبيّن أنَّ على الإنسان أن يختار بين قانون الغاب وبين التشريعات الإنسانية التي تضع حدود الأفراد، وتحفظ حقوق كلِّ إنسانٍ بما يضمن عدم التعدِّي على حقوق الآخرين. 

ماذا يريد العلمانيون؟

تقوم العلمانية على مبدأ فصل المؤسسات الحكومية عن الدين، ويدافع العلمانيون عن هذا المبدأ لاعتقادهم أنَّ الدين لا علاقة له بالمؤسسات المدنية، كما أنَّه يقيّد حرية الأفراد، وأنَّ الحريّة تتنافى مع حاكمية الدين على الناس.

وإذا سئل العلمانيون عن الحرية المطلقة التي تتيح للإنسان أن يتصرّف وفقاً لقانون الغاب لأجابوا بأنَّ الدولة العلمانية هي دولة قانون يحتكم الجميع فيها إلى مؤسَّساتٍ قضائيةٍ تحفظ حقوق الأفراد والمجتمعات، لكن دون تمييزٍ على أساسٍ دينيٍ أو عرقي.

والحقيقة أنَّ الجانب المشترك مع العلمانية كبيرٌ جدَّاً، فالإسلام لا يُريد ظلم الناس على أساس دينهم، والقضاء بين الناس وفقاً للإسلام يكون على أساس مساواتهم أمام القانون.

فلم يكن القاضي شُريح ينتظر مدحاً من أحدٍ عندما حَكَم لصالح اليهوديّ لعدم استيفاء الأدلة من قبل خصمه في المحكمة علي بن أبي طالب –رضي الله عنه– الذي كان خليفةً في ذلك الوقت، ورفض شهادة ابنه الحسن رضي الله عنه لأنَّ  شهادة الولد لأبيه لا تقبل.

لذلك ليست عند المسلمين مشكلةٌ في كثيرٍ مما يدعو إليه العلمانيون، لكنَّ الخلاف يكمن في نظرة العلمانيين للحرية التي يرون أنَّ الدين يقيّدها، فهم مقتنعون بضرورة احتكام الناس للقانون الذي يقيّد حريّة بعض الأفراد منعاً من ظلم الآخرين، لكنّهم لا يرضون بالقانون الذي يعتقد المسلمون أنَّه من مصدرٍ إلهيٍّ يحفظ حقوق جميع الناس، وذلك لاعتقادهم أنَّ هناك مساحاتٍ من الحريّة يجب أن تُحفظ في حين يراها الإسلام تعدّياً يجب منعه، وهنا يكمن الخلاف، لكنَّ أصل الفكرة مشتركٌ بين الفريقين.  

تشمل هذه المساحات كلَّ ما حرَّمه الإسلام وتراه الدساتير الوضعيّة مباحاً مثل: الدعارة المقننة، والقمار، والزواج المدني، والإجهاض، والعلاقات خارج إطار الزواج وغيرها. وتكمن المشكلة في أنَّ هؤلاء الناس يريدون استنساخ التجارب الغربيّة بكلِّ ما فيها من إيجابياتٍ وسلبيّات دون النظر في عواقب ذلك، ودون البحث فيما وصلت إليه المجتمعات الغربية من كوارث جرَّاء بُعدها عن الوحي الإلهي.

فكلُّ هذه العناوين التي يريد العلمانيون تقنينها تحمل ظلماً لصنفٍ من أصناف الناس، وقد عاشت ويلاتها الشعوب الغربية بعيداً عن مجهر البحث العلماني. فكيف تشرِّع قانوناً يظلم المرأة ويجعلها سلعةً تُباع وتشترى؟ أو قانوناً يُبيح قتل إنسانٍ بدعوى أنَّه لم يخرج من بطن أُمِّه؟ أو قانوناً يحرم المرأة من حقِّها في حفظ نَسَب ولدها ومسؤولية والده تجاهه؟ أو قانوناً يشرِّع لغير المسلم أن يتزوَّج امرأةً لا يعترف بدينها فلا تستطيع معه ممارسة حقِّها في حفظ شعائر دينها وعقيدتها؟ أو قانوناً يُبيح للناس أكل أموال بعضهم بناءً على الحظِّ والصدفة.

هذه القوانين ومثيلاتها هي أساس الخلاف بين العلمانيين وبين من يرى في الشريعة الإلهية حفظاً لحقوق الناس ولو على حساب هامشٍ من الحريات ينشده العلمانيون، ويراه غيرهم ظلماً لأصنافٍ من البشر.

وفي سبيل دفع ذلك الظلم وتحرير الناس من التعدي عليهم، وضع الإسلام عنواناً لتحرير المظلومين جاعلاً منه فريضةً من فرائض الدِّين. 

فريضة تحرير الناس في الإسلام

إنَّ من أقدس الواجبات التي فرضها الإسلام على أتباعه السعيُ لتحرير البشر من ظلام الجاهلين وتسلُّط الجبَّارين. فبعدما بيَّنا أنَّه لا بدَّ من وضع تشريعاتٍ تحفظ حقوق كلِّ إنسان، وأنَّ الحريّة التي تُعلي من شأن البشر هي التي تحفظ حقوق كلِّ فردٍ بما يحقِّق بناء مجتمعاتٍ إنسانيةٍ فاضلة، لا بدَّ من تبيان أنَّ الشريعة الإسلامية فرضت على أتباعها تحرير إخوانهم في الإنسانية من الظلم والعدوان.

وقد نصَّ القرآن الكريم على هذه الحقيقة، وجعل الجهاد في سبيل تحرير الناس واجباً شرعيّاً حثَّ أتباعه عليه، وحذَّر من التخاذل عنه.

قال تعالى: { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا } [سُورَةُ النِّسَاءِ:٧٥]

وفي سبيل هذه الغاية المقدَّسة انطلقت بعثات الفتح لمشارق الأرض ومغاربها تحرِّر البلاد من تسلُّط الطغاة وحكم الظالمين.

ويشهد على هذه الحقيقة الموقف الذي وقفه قائدٌ من قادة جيوش الفتح ربعيّ بن عامر رضي الله عنه إذ أوفده سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى -رستم- قائد جيش الفرس، ليسأله الأخير: (ما الذي جاء بكم؟) فيجيبه ربعي بكلماته المحفورة في معلَّقات التاريخ:

(إنَّ الله ابعتثنا لِنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جَورِ الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدُّنيا إلى سَعة الدُّنيا والآخرة).  

بهذه الرسالة السامية انطلق الصَّحابة الكرام رضي الله عنهم ومَن بعدهم مِن المسلمين لتحرير الناس من عبوديَّتين متلازمتين، عبودية الظالمين الجبابرة، وعبودية الدساتير الجائرة، فما كان الناس ليُظلموا إلَّا لاحتكامهم لقوانين قاصرة، ولبعدهم عن نور الوحي الإلهي الذي يحفظ حقَّ الإنسان ويحرِّره من أنانيَّته ووحشيَّته وظلمه لنفسه وللآخرين.

خاتمة

بعد الاستعراض السابق، نجد أنَّ مفهوم الحريّة يجب أن يُضبط عند جميع العقلاء، فلا حريّة مطلقة إلَّا في الغابة. وإنَّ تفلُّتَ الإنسان من معايير الالتزام الأخلاقي والسلوكي يؤدي حتماً إلى ظلم أخيه الإنسان، ولا يُرفع هذا الظلم إلَّا بفرض سيطرة القانون الذي يحمي حقوق الجميع بتقييد مساحات حرية كلِّ فرد. وفي سبيل ذلك شرَّع الإسلام جهاد الطَّلب لتحرير البشر من رقِّ الجبابرة وظلم الدساتير الوضعية، ولن تحفظ هذه الدساتير حقَّ جميع الناس إلَّا إذا كانت مستقاةً من وحي الخالق الذي يعلم أين يجب أن يتحرَّك الإنسان، وأين يجب أن يقف، وذلك خيرٌ من تجربة القوانين وتعديلها لمئات السنوات حتى يصل البشر إلى قناعة أنَّه ما من قانونٍ وضعيٍّ يُخالف حكماً إلهياً إلّا ويحمل في طياته ظُلماً لأحد البشر. وذلك خيرٌ – كذلك– من إعادة تجربة شعوبٍ نجحت في العمران المادي، وفشلت في العمران الأخلاقي والمجتمعي، وغرقت في مستنقع العدميّة، ولن ترى النور مجدَّداً إلَّا باتِّباعها تشريع الوحي الإلهي. 

 

[1] تم اقتباس التعاريف من موقع علم الفلسفة https://alfalsafah.com/ 

الحوار في ظل العيش المشترك

الحوار في ظل العيش المشترك

الحوار في ظل العيش المشترك

بعدما تقرّر أنَّ اختلاف الطوائف والأديان لا يمنع من العيش المشترك، وضمان الحقوق، وإقامة العدل، وحسن الجوار، وبناء العلاقات على المودّة بين أبناء المجتمع، كما قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]

 ننتقل إلى مرحلة الحوار بين أبناء البلد عند اختلاف الآراء والأفكار والمذاهب والأديان، حسب ما يُمليه الدِّين والعقل والأخلاق، وبما يحقِّق المصلحة العليا، ويعزِّز التلاحم بين أبناء الشعب، ويجعلُهم صفّاً واحداً.

فإنَّ أهمَّ ما يُسهم في إنجاح الحوار هو سعة الأفق، ومرونة الفكر، والتخلّي عن العصبيّات لصالح الهدف الأسمى، وفهم مقاصد الدِّين، ومعرفة سُلَّم الأولويَّات، فالأصول والثوابت لا مساومة فيها، وأمّا غيرها فلا بدَّ من التنازل من كلا الطرفين عمَّا يُمكن التنازل عنه من الشكليَّات وما يَقبل الخلاف، لتصغير الهوّة، والتقارب بين الأطراف، بترك أضعف المصلحتين لتحقيق أعظمهما، كما فعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، حين رفض المشركون أن يكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم) فأجابهم وكتب: (باسمك اللهمّ)، ورفضوا عبارة: (محمَّد رسول الله) فأمر عليّاً أن يمحوَها ويكتب: (محمَّد بن عبد الله) وذلك للوصول إلى نقطة اتّفاقٍ بينه وبين المشركين.

فإذا تحقّق ذلك، كان الحوار بنَّاءً ولو لم يتَّفق الأطراف في الأفكار. 

ومما ينبغي معالجته ما يصدر من تصرّفاتٍ فرديَّةٍ بطريقةٍ ارتجاليَّةٍ غير مدروسة في القدح بدين الأكثريّة أو منهجهم أو مشربهم أو توجُّهاتهم أو مقدَّساتهم أو رموزهم، أو إلزام الجميع برأيٍ واحدٍ بإنشاء نزاعاتٍ في مسائل وقع فيها الخلاف منذ عهد السلف الصالح، وهي ضمن دائرة السعة التي قرّرها أهل العلم، أو هي أمورٌ فرعيَّةٌ وجانبيَّة لا تأثير لها على الدِّين أصلاً، ممّا يؤجّج نار الخلاف والشقاق ويعيق حركة الحوار البنَّاء.

وكلَّما اقتربنا من فهم القرآن الكريم وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصول العلماء والأئمَّة الكبار تترسَّخ صورة الحوار السامي؛ لأنَّ الإسلام مظلَّةٌ كبرى تضمَّ مختلف الأفكار والأديان والآراء، فالإقصاء والإلزام بالرأي والاستهجان والتسخيف لا مكان له في الشريعة أصلاً، بل العلاقات في الإسلام قائمةٌ على الاحترام المُتَبادَل بين الجميع…

  ولنا في القرآن الكريم مَثَلٌ أعلى في آداب الحوار، فإذا تتبَّعنا المنهج القرآني نجده يأمر بالحكمة والأدب في ذلك، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] فقد جعل القرآن طريق الحوار مبنيّاً على الحكمة، تلك الصفة التي تجمع كلَّ المحاسن المتعلّقة بالأقوال والأفعال، ثمَّ أكَّد على وصف العمليّة الحواريّة بالحسنى مرَّتين، فوصف الموعظة بأنَّها حَسَنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، بصيغة أفعل التفضيل للمبالغة في اتّباع الأسلوب الحَسَن.

فإن قال قائل: ما السرّ في ذكر الموعظة بوصف الحُسن فحسب، وأمّا المجادلة فجاء الحُسن فيها مؤكَّداً بأكثر من صيغة؟ 

حيث جاء وصف الحُسن في المجادلة بصيغة التفضيل، قال تعالى (وجادلهم بالتي هي أحسن) إضافةً إلى صياغتها في جملة وليس وصفاً مفرداً، فقال: (هي أحسن) ومعلومٌ أنّ المعنى إذا كان مصاغاً في جملة يكون أبلغ من المفرد.

فالجواب:

إنّ الموعظة تكون من طرفٍ واحد، فيكفي أن توصَفَ بالحُسن.

وأمّا المجادَلة فتقع بين طرفين، والحال فيها يقتضي التأكيد على وصف الحُسن؛ لأنَّ الجدال أو الحوار غالباً ما تقع فيه إساءةٌ أو تجاوزٌ من الطرف الآخر، فأكّد القرآن الكريم على المسلم أن يدفع الإساءة بالتي هي أحسن لامتصاصها وإماتتها، حفاظاً على الألفة؛ حتى لا يتحوَّل الحوار الفكري إلى عِداءٍ ونزاع؛ لذا قال تعالى في سياق الدعوة إلى الله المبنيّة على الحوار: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 33، 34] فعندما يدفع بالتي هي أحسن يتحوَّل المُحاوِر من مُعارِضٍ ومخالِفٍ إلى (وليّ حميم) أي مُوالٍ وصديقٍ مقرَّب، وهذا يضمن دوام الألفة في المجتمع.

إنَّ ساحة الحوار في الإسلام مفتوحة، فيطرح كلُّ طرفٍ أفكاره وآراءه، وينبغي للطرف المقابل أن يقبلها بموضوعيّة، ويعرضها على الأدلّة، ويتناول جزئيّاتها بالدراسة والنقاش، دون أحكامٍ مسبقة بأنّه على الصواب المطلق وقرينه على الخطأ القطعيّ، وقد ذكر القرآن هذا المبدأ بقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] فلم يقل نحن على الهدى وأنتم على الضلال، بل قال {وإنّا أو إيّاكم} أي أحد الفريقين منّا على الهدى، والآخر على الضلال، ويتبيّن ذلك بعد عرض الأفكار على ميزان العلم والمنطق والدليل.  

  بل تجاوز القرآن هذه المرحلة إلى ما أبعد منها عند إصرار الطرف الثاني على التعنُّت، ووصْفِ المسلمين بالإجرام، فقال: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25] أي إذا رفضتم فكرنا ووصمتمونا بالإجرام، فإنّ إجرامنا عائدٌ إلينا وخطؤنا لا يضرّكم، ومع هذا لم يصف الطرف الثاني بأنّهم مجرمون أو مخطؤون، بل قال: {ولا نُسأَل عمَّا تعملون} أي لا نُحاسَب على ما تفعلونه وتعتقدونه.

إنّه سموُّ الخطاب الذي يأمر به القرآن؛ كيلا يتحوّل الحوار الفكريُّ إلى خصومةٍ ونزاع، وبهذا يقرّر مبدأ: إذا وصل الحوار إلى طريقٍ مسدود، وتوقَّفت القدرة على الإقناع ننتقل إلى دائرة التعايش، ولا ينبغي للخلاف الفكري أن يؤدّي إلى خصومة واختلاف.

وإذا نظرنا في منهج العلماء المصلحين نجدهم سلكوا هذا السبيل، ولنسلِّط الضوء على ثلاث شخصيَّات من كبار العلماء والمفكّرين والمصلحين:

الأوّل: شيخ العلماء، العارف بالله محمّد بن مصطفى بن عليوة:
فقد كان من أعظم أئمّة القرن الماضي، وتربّى على يديه كبار العلماء، وكان أثره الدعويّ والإصلاحيّ بالغاً، فقد سلك منهج الحوار البنّاء، وكان يكتب في الصحف مقالات تجمع ولا تفرّق، وأسَّس جريدة (لسان الدين) و(البلاغ) الجزائريّة، وكان له حضورٌ في النوادي الثقافيّة، والمجامع التي تساهم بوحدة الصفّ، ودعا إلى حوار الأديان، ونبذ الخلافات المذهبيَّة، وتعميق فكرة التسامح والتواصل، ونشر السلام والمحبّة بين الناس.   

ثانياً: المصلح الشيخ طاهر الجزائري:
فقد جعل من أسلوب الحوار طريقاً للتبادل الفكري والثقافي، ونشر الألفة بين جميع الأطراف، وكان يتواصل مع المسيحيين والمستشرقين، ويتناقشون الأفكار بطريقة بنّاءة، وكانت تجمع بينهم علاقات طيّبة.

ثالثاً: الشيخ عبد الله العليمي الغزّي الدمشقي:
فقد كانت له حواراتٌ فكريَّةٌ مع المبشِّرين والقساوسة، ودوَّنها في كتاب أسماه: (سلاسل المناظرة الإسلامية النصرانية بين شيخٍ وقس) وقام ابنه بطباعتها، وكتب عليها: (ومن أهداف إصدار الكتاب تقريب الشُقَّة بين الأديان السماوية ليسود السلام) [الحوار الإسلامي المسيحي للدكتور بسام عجك: (ص 218)]

وبهذا نجد أنّ الإسلام يدعو إلى حُسن الحوار، وعرض الأفكار بطريقة المحبّة في ظلّ التعايش السلمي، ولا ينبغي أن يؤدّي الخلاف الفكري إلى نزاعٍ وخصومات.   

  

كيف نفهم القضاء والقدر

كيف نفهم القضاء والقدر

كيف نفهم القضاء والقدر

﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [سورة الحديد: 22-23]

آيتان كريمتان يبين لنا فيهما ربُّنا سبحانه وتعالى قضيةً من أكثر القضايا جدلاً في العقيدة الإسلامية؛ قضية القضاء والقدر.

وقد تحدَّث المسلمون قديماً بهذه القضية، وما زالوا يناقشون فيها إلى يومنا هذا، وذهب بعض الناس إلى اعتقاد الجبريّة المطلقة، فقالوا: إنَّ الإنسان مسيّر لا يختار شيئاً البتة، ونحى بعضهم نحو إنكار القدر بالكلية، وقالوا: إنَّ الأمر محض عمل الإنسان، ولا علاقة لله به.

وبين هذا وذاك يجب على المسلم أن يعرف معنى القضاء والقدر ومكانته في العقيدة الإسلامية، والاعتقاد الموافق لما أنزل الله ولما علّمَنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

ما هو القضاء والقدر؟ وما مكانته في العقيدة الإسلامية؟

القدَر: هو تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق به علمه، واقتضته حكمته، والقضاء: هو حكم الله تعالى بوقوع تلك الأشياء على نحو ما سبق في علمه الأزلي، فهو سبحانه العالمُ بكلِّ ما سيجري في الكون، وعلمه شاملٌ لكلِّ صغيرةٍ وكبيرة، وكلُّ ما يجري هو بمقتضى مشيئته وحكمته.

وتعرف مكانة الإيمان بالقضاء والقدر في العقيدة الإسلامية من خلال الاطلاع على الشواهد الكثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة:

مثل قوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا[سورة الأحزاب:38]

وقوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر[سورة القمر:49]

وقوله: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا[الفرقان:2]

ولقول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث الشريف: (لا يؤمن عبدٌ حتَّى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتَّى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه) [الترمذي:2144]

 وهو أحد أركان الإيمان الستَّة كما أخبر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عندما سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.) [صحيح مسلم: الحديث8]

وتضافرت الآيات والأحاديث على بيان القضاء والقدر وأهمية الإيمان به، وأهل الإيمان في التعامل معه على أنواع:

من هم الجبريّة والقدريّة؟

الجبريّة: هم الذين يعتقدون أنَّ الله أجبر العباد على أفعالهم وعلى الإيمان أو الكفر، ويقولون: إنَّ العبد مسيَّر، لا خيار له أبدًا؛ فهو كالريشة في مهَبِّ الريح.

القدريّة: هم الذين ينفون قدر الله تعالى، ويقولون: إنَّ الله تعالى لم يخلق أفعال العباد، بل العبد يخلق فِعل نفسه، ويقولون: إنَّ الله تعالى لا يعلم الشيء إلَّا بعد وقوعه.

يظنُّ بعض الناس أنَّ الإنسان إمَّا أن يكون (جبريّاً) أي يعتقد بأنَّ الإنسان مسيّر ولا خيار له، أو يكون (قدريّاً) أي يقول: إنَّ الله لا يخلق شيئاً من أفعال العباد.

وقد ظهر هذان الاعتقادان المخالفان للعقيدة منذ القرون الأولى للإسلام، وذلك بسبب ضعف فهم الناس لمسألة القدر، واجتزائهم للأدلَّة الشرعية، وتبنِّي بعض الآيات أو الأحاديث دون غيرها، وإعراضهم عن تعلُّم الإسلام على أيدي العلماء الربَّانييّن.

ما هو الاعتقاد الصحيح بين هذا وذاك؟

إنَّه الاعتقاد الصحيح الذي نقله لنا الربَّانيون عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذين يعلِّمون القرآن بقلوبٍ مؤمنةٍ وعقولٍ نيّرة، فيتدبَّرون جميع الآيات دون اجتزاء أو تشويه، وبذلك نعلم أنَّ الله سبحانه هو المتصرِّف وحده في الكون؛ وأنَّ الإنسان حرٌّ مختارٌ بقلبه، ومحاسبٌ على هذا الاختيار:

يقول سبحانه وتعالى:

﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ[سورة الكهف:29]

ويقول عن الإنسان:

﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا[سورة الإنسان:3]

وفي الوقت نفسه يبيِّن لنا سبحانه أنَّه متصرِّفٌ في الكون، ولا يجري أمرٌ إلَّا بإذنه سبحانه ويفعل ما يشاء:

﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:166]

﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ[سورة النساء:90] 

والجمع بين هذين الأمرين تكمن فيه حقيقة الاعتقاد بالقضاء والقدر، وهو أنَّ الله يحاسب الإنسان على نيّته وإرادته للخير أو الشر أو ما يسمّى بـ (كسب القلب) فهذا محلّه القلب، ومنه اختيار الإنسان وعليه يحاسب. أمَّا أن يقع هذا الأمر أو لا يقع فهذا مرهونٌ بإرادة الله.

 ومن هذا نفهم أنَّ الله إذا أراد ابتلاء المؤمنين أذِن لأهل الشرور أن تظهر شرورهم كي يبتلي عباده بهم، ويعاقب بهم من شاء من خلقه، لكنّ الله يحاسب أهل الشرور على فعلهم لأنَّهم (اختاروا) ذلك الفعل ووقع منهم، لا لأنَّ الله قدَّر وقوع تلك المصيبة على المؤمن. وعليه فليس لمن يفعل الشرور أن يحتجَّ بالقدر على الله سبحانه، لأنَّ الله يحاسبه على ما كسب بقلبه وعلى إرادته للشر.

مثل حديث النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

(إنَّما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رزقه الله مالاً وعلماً، فهو يتَّقي في ماله ربه، ويصل به رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأحسن المنازل عند الله، وعبدٌ رزقه الله علماً، ولم يرزقه مالاً، فهو يقول: لو أنَّ لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، وهما في الأجر سواءٌ، وعبدٌ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، فهو لا يتَّقي في ماله ربَّه، ولا يصل به رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأسوأِ المنازل عند الله، وعبدٌ لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أنَّ لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، وهما في الوزر سواءٌ) [أخرجه أحمد والترمذي]

وقد أورد الإمام القرطبي رحمه الله هذا الحديث في سياق تفسيره لقصة أصحاب الجنَّة في سورة القلم، فقال في تفسير قوله تعالى: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ﴾:

في هذه الآية دليلٌ على أنَّ العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنَّهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم. ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿ومَنْ يُرِد فِيْهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيْمٍ﴾. وفي الصحيح عن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: إذا التقى المسلمان بسيفيهما…” الحديث. 

موقف المؤمنين من الابتلاءات المتتالية التي تحلُّ بالأمَّة، وعلاقته بالفهم الصحيح للقضاء والقدر:

يزداد بين الفينة والأخرى سؤال الناس عن الحكمة من الابتلاءات، وعن قدر الله الذي قدّره على الأمَّة الإسلامية، حيث يرى جميع الناس ما يجري من ابتلاءٍ لأهل غزَّة ولبنان وغيرهم من المستضعفين ولسان حالهم يقول: لماذا يأذن الله للصهاينة بأن يفعلوا ما يحلو لهم؟ هل الله راضٍ عن فعلهم؟ وإن كان لا يرضى؛ لماذا لا يعاقبهم أو يخسف بهم الأرض؟ أم إنَّ الله لا علاقة له بما يجري على الأرض، وإنَّ الأمر منعزلٌ عن الإرادة الإلهية على مذهب القدريّة؟

وإذا أردنا إسقاط هذه الوقائع على ما تمَّ تأصيله من اعتقادٍ سليم، فعلى المؤمن أن يوقن أنَّه ما من أمر يجري في هذا الكون إلَّا بأمر الله سبحانه ومشيئته، ومن يعتقد غير ذلك فقد كفر بالقدر، وفي الوقت نفسه على المؤمن أن يوقن أنَّ هؤلاء الصهاينة المجرمين محاسبون على أفعالهم لإرادتهم الشرَّ الذي حدث، ولرضاهم بأن يفعلوا ما شاؤوا بالشعوب المستضعفة، بل إنَّ الله يؤاخذهم على إرادتهم التي تفوق قدراتهم، فهم لو استطاعوا لأفنوا البشرية كلَّها إلَّا قلَّةً قليلةً تخدمهم، وهذا هدفهم وهذا ما يسعون إليه؛ فهم مؤاخذون على جريمتهم هذه التي بيّتوها في قلوبهم وإن لم يأذن الله أن يقع ما يخططون له من جرائم على الأرض.

أمَّا ما وقع ويقع من ابتلاءاتٍ وآلامٍ وقتلٍ واعتداءٍ على الأبرياء، فإنَّه قد جرى بإذن الله الذي شاء أن يوقع جزءاً من نية هؤلاء المجرمين على الأرض، تمييزاً للأمَّة وتمحيصاً للصادقين من الكاذبين، وتبييناً للمنافقين الذين اتخذوا من المجرمين أولياء وحلفاء من دون المؤمنين المستضعفين.

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [سورة محمد:31]

﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [سورة البقرة:214]  

﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [سورة التوبة:16]

﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[سورة العنكبوت:2 – 3]

خلاصة

نعم، إنَّ كلَّ ما يجري من أفعالٍ في الكون لا يكون إلَّا بإذن الله ومشيئته وتقديره، ولكن ليس للإنسان أن يحتجَّ عن سوء أفعاله بالقدر، ويبررها بذلك؛ لأنَّ الإنسان حرٌّ بقلبه ينوي ما يشاء ويعزم ما يشاء، لكنَّ الله غالبٌ على أمره، ولا يجري في ملكوته إلَّا ما شاء.

وأقدار الله تمتحن إيمان المؤمنين، وصدق الصادقين، وتحضّ على بذل أقصى الجهد، والعمل للوصول إلى الثمرة المطلوبة.

كانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، ذَاتَ يَومٍ جَالِسًا وفي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ به، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقالَ: ما مِنكُم مِن نَفْسٍ إلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ قالوا: يا رَسُولَ اللهِ، فَلِمَ نَعْمَلُ؟ أَفلا نَتَّكِلُ؟ قالَ: لَا، اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له. [صحيح مسلم:2647] 

خماسية لمضاعفة تأثير حديثك

خماسية لمضاعفة تأثير حديثك

خماسية لمضاعفة تأثير حديثك

ليس المهمُّ ما تقوله، ولكن  المهم هو كيف تشعر به. فإذا كنت تؤمن بما تقوله، فستلمس القلوب” هكذا عبَّر “مارتن لوثر كينغ” وهو الخطيب المشهور؛ مؤكداً أنَّ الحديث المؤثِّر هو أقوى الوسائل لنقل الأفكار والقيم، خاصَّةً إذا كان يعتمد على الصدق والوضوح.

إذا قمت بالبحث عبر الإنترنت حول نصائح لتجعل حديثك مهمَّاً ومؤثِّراً فبالطبع ستجد آلاف النصائح والأفكار، ولكن دعني ألخِّصها لك بخمس نصائح أساسيةً استخلصتها من تجارب عملية، ومن أقوال المشاهير في هذا المجال المعتبر.

تخيَّر مصدر الكلام

ينبع الكلام من مصدرين رئيسيين هما (العقل والقلب) فإن كان حديثُّك موجَّهاً إلى أصحاب العقول النيِّرة من العلماء والمتخصِّصين فأنصحك بأن تبدع في صياغة كلماتٍ تُظهر فيها براعتك وفصاحتك، وتُبرز فيها حجم خبرتك لتقنع المستمعين فيبهَرون بمدى احترافيتك، وبكلِّ تأكيدٍ لن ينفع هذا الأسلوب مع العامَّة، والكلام إن خرج من قلبك فسيكون له وقعٌ مختلفٌ، وما يبدأ من القلب فسيُصبُّ في القلوب حتماً.
اجعل المعاني تنساب بصدقٍ من عقلك إلى قلبك لتَخرج محمَّلةً بالحكمة الصادقة فتشعرهم بإخلاصك ورغبتك في نفعهم، وكلَّما كان كلامُك مليئاً بالحقائق التي عايشتها وارتبطَت بك كان وقعه أقوى.

أوضِح وبسِّط

خاطبوا الناس على قدر عقولهم[رواه البيهقي]. وصيةٌ نبويةٌ يجب ألَّا تنساها، فتوضيح المفاهيم والمصطلحات، وتفسيرها يسهِّل على المستمعين فهم أفكارك، تلك المعاني المعقَّدة والكلمات الجزلة لها مكانها في كتب الأقدمين، ولكنَّها لم تعد تصلح اليوم لخطاب الجميع، مع أنَّنا نرى فيها جمال اللغة، وبديع ما يُصاغ من معانٍ، وتبقى الكتب التخصُّصية هي المكان الأفضل لذلك، فلا تتكلَّف في حديثك، وابذل قصارى جهدك في مساعدة الناس على فهم رسالتك.

إثراء الكلام بجميل القصص

(لقد كان في قَصصهم عبرة) كلُّنا _بلا استثناء_ يهوى القصص، وإنَّ أكثر السور القرآنية حفظاً تلك التي تحمل في طيَّاتها أجمل القصص، تلعب القصص دوراً عظيماً في جعل الحديث أكثر جذباً وتشويقاً وإقناعاً، والقرآن مليءٌ بالقصص التي استخدمت للعبرة والتأثير، كقصَّة سيِّدنا موسى عليه السلام وفرعون، وقصَّة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وقصَّة يوسف عليه السلام، وأصحاب الكهف، وفيها الكثير من العبر، ولذلك ابحث عن الشواهد القصصية التي تدعم حديثك ووظِّفها لإثراء كلماتك وحديثك. 

يُلهِم المستمعين… اجعل حديثَك ملهماً

كان الرسول صلَّى الله عليه وسلم يستخدم الحجج العقلية والمنطقية في دعوته، وفي مفترق الطرق ألهمه الله تعالى معاني ملهمة ستبقى تتردَّد على الأسماع فتبهر وتلهم كلَّ من سمعها. أذكر على سبيل المثال حوارَه مع عمِّه أبي طالب عندما عرض عليه أن يترك هذا الدين، وكان ردُّه الخالد: “والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، ما تركت هذا الأمر حتَّى يُظهره الله أو أهلك دونه[رواه الطبراني]. كانت كلماته تتردَّد في ثباتٍ لتخبر كلَّ من سمعها أنَّه  صاحب الحجَّة القوية والثقة المطلقة بما هو عليه من الإيمان .

راقب ردود الفعل

لا يكفي لتكون صاحب أثرٍ في الكلام أن تتحرَّك بطريقةٍ قويةٍ، وتستخدم لغة الجسد فهو أمر من المسلمات، لغة جسد المحاور هي العمود الفقري للحديث المؤثِّر، ولكن عظام ذلك العمود تكتمل  فقط برصد لغة المستمعين، وتحفيزهم للمشاركة في الحديث لتفهم توجُّههم، فتُكيِّف حديثك بناءً عليه. وقد كان صلَّى الله عليه وسلَّم يُشرك الصحابة في الحديث، ويطرح عليهم الأسئلة ليُثير انتباههم. فكان يسألُهم: “أتدرون من المفلس ……“، “أيُّ العمل أحبُّ إلى الله”  فما كان منه ذلك عليه أفضل الصلاة والتسليم إلَّا ليشركهم في التفكير، ويجعل الحديث تفاعلياً وتبادلياً. فإشراك المستمعين في الحديث يعزِّز من تأثيره، ويجعل الرسالة أكثر وضوحاً وتقبُّلاً.

ختاماً: احرص على التأثير

لكي يكون حديثك مؤثِّراً، يجب أن يجمع بين الصدق، والوضوح، واستخدام القصص والحجج، مع التواضع.

قم بصياغة حديثك بطريقةٍ قابلة للتذكُّر كما جعلتها لك في هذا المقال بخمس فهذا يحقِّق لك التأثير المطلوب، ويجعل المستمعين يتفاعلون معك بشكلٍ إيجابي، والله الموفِّق. 

2 تأويل النصِّ الديني في الفكر الحداثي

التأويل في الفكر الحداثي
التأويل في الفكر الحداثي

تأويل النص الديني في الفكر الحداثي 2

تأويل النص الديني في الفكر الحداثي 2

استخدم الحداثيّون عدداً من المناهج في قراءة النصِّ الديني من خلال إسقاط نظرتهم الفلسفيّة التي يعمّمونها على جميع مناحي الحياة، بما في ذلك قراءة النصوص الأدبيّة والدينيّة، وقد نشأت هذه المناهج في القرون المتأخّرة، وتلتقي جميعها عند إفراغ النصوص من معانيها المقصودة، وقطع الصلة بين اللفظ والمعنى، وإليك أهمّها: 

1- المنهج الألسني السيميائي:

أي الرمزي، وهو الغوص في عمق النصِّ والانغلاق فيه، واستخراج الدلالات الرمزيّة، وربط النصِّ بخلجات القارئ ونفسيَّته، بعيداً عن دلالات المعاني، وإلغاء كلِّ السياقات والملابسات المتّصلة بفضائه الخارجي، مع إنكار الغيبيّات والميتافيزيقيّة، ومن ثمَّ يُنكر هذا المنهج الإيمان بالغيب والآخرة، ويؤوّل ذلك كلَّه ويعدّ كلَّ ما ورد من الغيبيات رمزاً لا حقيقة.

 وبقدر ما يتمنّع اللفظ ويستعصي على المعنى، يكبر حجم التأويل ويزداد كثافةً وتماسكاً، ويؤدِّي إلى انزلاقاتٍ دلاليّةٍ لا حصر لها ولا عدّ.

 ويمتدُّ طموح الدرس السيميائي بوصفه علماً يقارب الأنساق الهلامية في نظر أصحابه إلى تخليص حقول المعرفة الإنسانية من القيود الميتافيزيقية -أي من خرافات الإيمان بالغيب حسب زعمهم- التي تكبّلها، وتعوق أبحاثها من الوصول إلى نتائج تجعل منها علوماً ذات سلطان، ولها مكانتها المرموقة في وسط المعرفة الإنسانية المعاصرة، وتمكّنها من القراءة العلمية الدقيقة لكثيرٍ من الإشكاليات المطروحة، والظواهر الإنسانية التي لم تعد في إطار التأمُّل العابر، والتفسير الأفقي الساذج. [يُنظر سعيد بنكراد، السيميائيات .. مفاهيمها .. تطبيقاتها، لسعيد بنكراد: (ص 35)].

2-  المنهج التاريخي أو التاريخانيّة:
  • تأسَّست هذه القراءة في القرن التاسع عشر، وتعني تفسير ما يحدث في التاريخ وفقاً للظروف التاريخيّة لا من خارجها، وينتج من ذلك:
  •  أنّ الأشياء لا يُمكن أن تفهَم إلَّا ضمن سياقها التاريخي.
  •  ليس هناك قيمٌ أبديّةٌ وثابتة، وإنّما هناك أفكارٌ نسبيّةٌ ترتبط بالسياق الاجتماعي والتاريخي.
  •  معايير الرشد والعقلانيّة ليست ثابتةً بل متغيّرةً عبر الزمان وحسب الظروف التاريخيّة.
  •  تتغيّر دلالات النصِّ تغيّراً جذريّاً في كلِّ زمانٍ حسب ثقافته ورؤاه.
  •  استبعاد أيِّ أثرٍ للإرادة الإلهيّة في الفعل التاريخي الذي هو من صنع الإنسان، وهو يخضع لقوانين داخليّة ضمن بيئته.

ويترتّب على ذلك:

أنّ القرآن الكريم منتجٌ بشريٌّ لا قداسة له، وأنّ أحكامه وتشريعاته كانت استجابةً لظروفٍ معيَّنة، ومع تغيّر الظروف والبيئة لم تعد تشريعاته صالحةً لهذا الزمن.

ومن أبرز من أسقط التأويل التاريخي على القرآن الكريم: نصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون، وعبد الله العروي، وهشام جعيط.

3- المنهج الجدلي أو الديالكتيكي:

وهو مكمِّلٌ للمنهج التاريخي، فكلاهما يجعلان من الإنسان المتصرّفَ المطلق في صنع الأحداث، ضمن قوانين العلم والمادّة، مع إنكار وجود خالقٍ يدبِّر الكون، يقول ستالين: ” إنَّ المادية الديالكتيكية، والمادية التاريخية تظهران كعِلمٍ واحدٍ، وكفلسفةٍ متكاملة، فلا المادية التاريخية معقولة بدون المادية الديالكتيكية، ولا المادية الديالكتيكية ممكنة بدون المادية التاريخية). [المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، (ص: 129) من الترجمة العربية (منشورات دار دمشق)]

ويقول جودت سعيد عن أصحاب المنهج الماركسي: (لمحوا قدرة الإنسان على صنع التاريخ، والقيام بعمليّة التاريخ) [كتاب: ” اقرأ وربك الأكرم “، ص 219].

فإنّ هذا المنهج ينظر إلى الأشياء والمعاني، وإلى المجتمع الإنساني، وإلى الطبيعة في ترابطها ببعضها، وما يقوم بينها من علاقةٍ متبادَلة، وتأثير كلِّ منهما على الآخر، وما ينتج عن ذلك من تغيُّرٍ كما ينظر إليها عند ولادتها ونموّها وانحطاطها.

 هذه النظرة المادّيّة تتعارض مع الغيبيبّات (الميتافيزيقيا)؛ لأنَّ المؤثِّرات في الكون حسب رؤيتهم هي الموجودات والمحسوسات، وكلُّ شيءٍ يؤثّر في الآخر من خلال الفعل وردّة الفعل، ولا علاقة لتدخّل إلهٍ غيبيٍّ ميتافيزيقي في حركة الكون.

 يرى “الماركسيون الديالكتيك” صراع الأضداد والمتناقضات في الوجود قانوناً أزليّاً للوجود المادّي المتطوّر تطوراً ذاتيّاً، وفكرة وجود ربٍّ خالقٍ هي من اختراع الفكر الإنساني. [ينظر: ضد دوهرنج، إنكلز: (ص:392)، التحريف المعاصر في الدين د. عبد الرحمن حبنكة: (58)].

ومن أبرز من اتّبع هذا المنهج: محمّد شحرور، إلّا أنّه أخفى الجانب الإلحادي، وألبس نصوص القرآن الكريم ثوب الماركسيّة، وقد عدَّ الفلسفة الماركسيّة من كبرى الحقائق التي يجب التسليم بها والإيمان بمقرّراتها.    

4- المنهج الهيرمينوطيقي:

ويسمى المنهج التأويلي، وهو منهج تفسير النصوص الدينيّة في أوروبّا في القرن التاسع عشر، حيث عظم سلطان المذهب العقلي في الفلسفة، والتقى مع أكثر التيارات الفلسفيّة واللغويّة الأخرى، على أنّ الكتاب المقدّس يجب أن يخضع إلى إعادة القراءة والتفسير، وأنّه لا بدَّ من عقلنة المقولات الإنجيليّة وتخليصها من أسطوريّتها لتلائم ثقافة العصر من خلال آليّاتٍ تأويليّة، حيث يتجاوز فهم النصّ رصد العلاقات اللغويّة، وإعادة تركيب العمليّة الإبداعيّة التي دارت في خلد واضع النصّ، ولمّا كان الكثير مما هو غير واعٍ في خلد المؤلِّف يصبح واعياً في خلد المفسّر، فيجعله ذلك قادراً على فهم النصّ أفضل من كاتبه. [ينظر: فهم الفهم، مدخل إلى الهرمينوطيقيا، نظريّة التأويل من إفلاطون إلى غادامر، د: عادل مصطفى: (ص: 70)، مفاتيح تفسير نصوص الوحي، د. محمد الخيمي: (ص:160)]

5- المنهج اللغوي البنيوي والتفكيكي:

ويسمّى المنهج التفكيكي الحفري الفوكوي، (نسبة إلى ميشيل فوكو) الذي صاغ نظريةً جديدةً في اللغة وأصلها وتراكيبها ووظيفتها، من خلال مصدره الخاصّ لإظهار كنه الحقيقة الإنسانية وهو «الجنون» معلناً أنَّ المجنون يمكن أن يؤدِّي دور النَّبيِّ عند المؤمنين بالأديان!

  إنّ هذا المنهج يبدأ بإلغاء الآخرين، وإقصاء جميع المنهجيات والتصوُّرات التي تُخالف القارئ التفكيكي، ثمّ الانقضاض على النصّ وانتقاده حسب تصوّره، فيضرب معاني النصوص ودلالاتها، ويُخضعها للنموذج الغربي في التفكير، ويفرض رأيه عليها، ويُظهر قطيعةً جذريةً مع الدراسات الإسلامية التقليدية التي تؤمن بالنصِّ وتستجيب له.

وبسبب هذه الثقافة التفكيكية استشكل الفكر الغربي الحديث والمعاصر علاقةَ العقل الإنساني بالدِّين الإلهي؛ لأنّه مبنيٌّ على العلمويّة وإنكار الميتافيزيقيا، ووصل بذلك إلى وصف تلك العلاقة بالتنافر والتضادّ، بل والتناقض، وانقسم في ذلك إلى اتجاهين:

الاتجاه الأول: اتِّجاه متطرِّف غالٍ، يهدف إلى القضاء على الدِّين ومصدره جملةً وتفصيلاً، مع تأليهه للعقل الإنساني، ويمثّل هذا الاتجاهَ لفيفٌ من مشاهير الفلاسفة الغربيين باختلاف اتجاهاتهم، ومن أبرزهم:

  •  (دولباخ) : وهو فيلسوفٌ مادّيٌّ من القرن الثامن عشر، فقد رفض كلَّ الأدلَّة على وجود الله، بناءً على أن الطبيعة هي الكون كلُّه، وأنكر الإلهَ، حتَّى إنّه (كان يتباهى بأنّه العدوّ الشخصي للإله). [مدخل إلى الميتافيزيقيا، عزمي إسلام: (ص: 113)].
  •  (نيتشة): وقد قرّر أنَّ: (الإنسان في لحظةٍ تعسةٍ من حياته اخترع –وحاشى لله- خرافةً أسماها (الله) وأعلن في كتابه: (هكذا تكلَّم زرادشت) موتَ الإله، فقال: (جميع الآلهة قد ماتت، أو أنَّ الله قد مات). 

الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه التوفيقي الذي اعترف بطرفَيْ المشكلة التي استشكلها، أي النصوص الدينيّة التي تقرّر وجود إلهٍ، مع عدم إمكانيّة وجوده عقلاً -حسب زعمهم- فأقصى الطرف الثاني وهو الدِّين من ميدان المعرفة البشرية، وربطه بالوجدان القلبي المجرد من معنى العقل والتعقُّل، ومن أبرزهم:

  •   (باسكال): فقد كان يرى أنَّ الإيمان الدِّيني لا يخضع للعقل، بل يتعلّق بالوجدان القلبي؛ فقال: (إنَّ القلب هو الذي يستشعر الله لا العقل، هذا هو الإيمان، الله محسوسٌ للقلب لا للعقل). [مدخل جديد إلى الفلسفة لعبد الرحمن بدوي: (ص:214)].
  •  (إيمانويل كانت): فقد قرّر في فلسفته النقدية عجز العقل عن إثبات الميتافيزيقيا، وأعظم تلك الغيبيات في نظره مسألة «وجود الله» و«حرية الإرادة» و«خلود النفس» لكنّه كان يؤكّد وجود ذلك عن طريق الأخلاق أي: الوجدان الداخلي، أو كما يسميه «العقل العملي».
  •  (جورج سنتيانا) : الذي يقول عن الإيمان الدِّيني إنَّه (غلطةٌ جميلةٌ أكثر ملاءمة لنوازع النفس، ومن الحياة نفسها) [قصة الفلسفة الحديثة، أحمد أمين، وزكي نجيب محمود: (1/402)]، فقد كان يميل إلى الدِّين شعورياً، لكن يكفر به عقلياً.

وقد بلور هذا الاتجاه الموقف العامّ للفكر الغربي المعاصر من الدِّين والوحي، فقد أصبح مفهوم الدِّين عند الغربيين كمفهوم الأدب والفن القائم على معايير ذاتية، ترفض إقامة البراهين العقلية على صِدْقها. 

يقول حسن جابر في مقالةٍ له بعنوان: “تصوُّرٌ منهجيٌّ لفهم القرآن الكريم”: (لكنَّ الثابت في علاقة النصِّ الديني، بالنصِّ البشري، أنَّه يمكن لكليهما أن يخضعا لمنهجٍ واحد، هو منهج التأويل القائم على تفكيك المعنى، وفتح مداياتٍ واسعة أمام إمكان المعنى… وأنَّه ثمَّة علاقة بين القارئ والنص، لا يستطيع أحدٌ إنكارها، حيث الإقرار بأنَّه لا وجود للمعنى إلَّا في الوعي البشري، الذي هو نسيج من الأهواء والتقاليد والانفعالات، والمؤثرات واللون الثقافي والحضاري، ويستوي في ذلك قارئ النص الديني والنص البشري، فكلاهما يحضران في عملية تناسل المعاني).

ومن أعظم ما تفضي إليه هذه القراءة والفلسفة زعزعة الثوابت، ونقض الإيمان بالغيبيّات، يقول المفكّر اللبناني المهتم بالفلسفة التفكيكيّة علي حرب: (إنَّ المنحى الحفري التفكيكي شكَّل أهمَّ حدثٍ فكريٍّ في النصف الثاني من القرن العشرين عند من يرى ويسمع، أو يقرأ ويفهم؛ به تزعزعت ثوابت فكريةٌ راسخة، وتداعت قلاعٌ ما ورائيةٌ حصينة). [الممنوع والممتنع: (ص24)] أي: كان من أهمِّ إنجازات المنهج التفكيكي نبذ الدين القائم على الإيمان بالغيب، وترسيخ الإلحاد.

6- المنهج المقاصدي أو المصلحي:

وهو تأويل النصّ حسب الواقع والمصلحة، والخروج عن المعنى الحرفي لدلالات ألفاظ الكتاب والسنّة.

ولا علاقة لهذا المنهج بمقاصد الشريعة المنضبطة التي جاء بها الإمام الشاطبي، لكنّ الحداثيّين تكلّفوا في تحميل الشاطبي كلاماً لم يقله ولم تحتمله عبارته، ولم يخطر له ببال.

فقد فسروا المصلحة الشرعيّة بالمعنى البراغماتي الغربي، وهذا معنىً يناقض مقاصد الشريعة بالأصل، ومع هذا قال جمال باروت: (وكأنّ الشاطبي يقترب من المفهوم البروستانتي -ولا سيّما في صيغة الكالفينيّة- للعمل كعبادة، والذي حدّد من خلاله ماكس فيبر في كتابه الشهير “الأخلاق البروتستانتيّة والروح الرأسماليّة” حصّة البروتستانتيّة في تكوين الرأسماليّة، وتبنّي مشروعها العقلاني، والعملي والترشيدي على أساس أخلاقٍ طهريّة أو نسكيّة… لا يختلف هذا المفهوم في حدِّ ذاته كثيراً عن المفهوم الإسلامي للعمل… يفسّر هذا المفهوم الإسلامي للعمل أو الكسب التقاء الشاطبي ولوثر في نقطةٍ أساسيّةٍ، العمل عبادة، والمصلحة تكليف) [الاجتهاد النص، الواقع، المصلحة: (ص:114)].

تعلّق بعض المفكّرين المعاصرين بالطريقة المقاصديّة للنصوص التي لا تستند إلى أصلٍ علميٍّ منهجيّ، في إبطال معاني نصوص الشريعة ومناقضتها، ومحاكاة مناهج التأويل الأخرى.

على أنَّ علم مقاصد الشريعة أجلُّ من تلك الرؤية المشوّهة؛ فإنَّ أهمَّ ما جاءت به هذه المقاصد هي الحفاظ على الثوابت، وفهم نصوص الكتاب والسُّنَّة ضمن المنهجيّة التي قرّرها علماء أصول الفقه، وإظهار محاسن الشريعة، وإيجاد الحلول لمشكلات العصر. 

والخلاصة: إنّ جميع القراءات المعاصرة والتأويلات الحداثيّة تسعى لإفراغ النصوص الدينيّة من معانيها ومقاصدها، وتأويلها حسب رؤى بعض الفلاسفة والمفكرين الغرب، على اختلاف مناهجهم وفلسفاتهم، وهذا في الحقيقة ليس قراءةً وتجديداً في الدين، بل إبطالٌ له وطمسٌ لمعالمه.

وقد سلك المفكِّرون الغربيون هذه المناهج لقراءة النصوص الدينيّة؛ بسبب التأثّر السلبي بالدين الكنسي الذي أقام أصوله على الخصومة بين الدين والعقل، فضاقوا به ذرعاً، ورأوا تلك التعاليم تعارض العلم والمنطق، فقاموا بفكّ الارتباط بين الوحي والعقل، وبناءً على هذه النظرة قاموا بتأويل النصوص الدينيّة.

أمّا الدعوة إلى قراءة نصوص الكتاب والسنّة والعلوم الإسلاميّة على منهج الحداثيّين فإنّها تعكس مدى غياب حقيقة الإسلام وتشويه صورته في تصوّرهم، ووصفه بصفاتٍ لا تمتُّ إليه بصلة، فإنّ النصوص الإسلاميّة تختلف اختلافاً جذريّاً عن النصوص الدينيّة في أوروبّا، فالإسلام جاء بفكرٍ عميقٍ منضبطٍ، وتشريعٍ متكاملٍ، يضمن مصالح الدنيا والآخرة، وفي ظلِّ تعاليمه نشأت حضارةٌ دامت قروناً عديدة، وبرز آلاف العلماء في شتَّى العلوم الكونيّة فضلاً عن علماء الدين والمفكّرين ذوي المنهجيّة العلميّة الراسخة، ولا تزال تعاليم الإسلام اليوم تستقطب كبار العلماء والمفكّرين والعباقرة من شتّى بقاع العالم.

فمن يبحث عن الحقيقة التي تتسق مع الفكر والمنطق، فليتعمّق في دراسة الإسلام بصفائه دراسةً أصوليّةً ومقاصدية، وسيرى فيه المنهج المتكامل الذي يحلُّ جميع المشاكل، ولا يحتاج أن يسلك سبيل الأوروبيّين في تأويل كتبهم المقدَّسة. 

1 تأويل النصِّ الديني في الفكر الحداثي

التأويل في الفكر الحداثي
التأويل في الفكر الحداثي

تأويل النص الديني في الفكر الحداثي 1

تأويل النص الديني في الفكر الحداثي 1

أصبحت الأرض في ظلّ وسائل التواصل قريةً صغيرةً، تنتقل فيها الأفكار الغربيّة, والتيّارات المختلفة, والفلسفات, والآداب, والفنون إلى العالم بأسره، وتمتزج مع بعضها. وممّا انتشر في العقود الأخيرة: “الحداثة” و “ما بعد الحداثة”، تلك الفكرة التي تبنّاها الغرب في القرون الماضية، وأصبحت نمط حياتهم في شتَّى ميادين الحياة، كالأدب والفلسفة والفنون والسلوك، وقراءة النصوص، ونحوها. ولنقف بدايةً عند مصطلحات هذا المقال.

 أوّلاً- الحداثة:

 عُرِّفَت الحداثة بتعاريف عديدة، ولم تختلف تلك التعريفات في التعابير فحسب، بل كان بينها اختلاف حقيقيّ في المفهوم، فمنها ما يدخل في غيره، ومنها ما يُباينه في المعنى.

منهم من قال: الحداثة هي النهوض بأسباب العقل والتقدّم والتحرّر.

ومنهم من قال: الحداثة هي ممارسة السيادات الثلاث عن طريق العلم والتقنية، السيادة على الطبيعة، والسيادة على المجتمع، والسيادة على الذات.

ومنهم من قال: الحداثة: قطع الصلة بالتراث، أو طلب الجديد.

ومنهم من قال: محو القدسيّة من العالَم، أو العقلنة.

ومنهم من قال: الحداثة قطع الصلة بالدِّين.

وأمام هذا التعدّد والتردّد في تعاريف الحداثة انتقد الفيلسوف الألماني (يورغن هابرماس) الحداثة، وقال: (الحداثة مشروعٌ غير مكتمل) [ينظر: روح الحداثة، المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية لطه عبد الرحمن: (ص:23)].

إلا أنَّ الحداثيّين متفقون على محو القداسة، وقطع الصِّلة بالدِّين، وتضخيم دور الإنسان، ليكون مسيطراً بواسطة العلم التجريبي على الطبيعة والمجتمع، وعدم الإيمان بما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا).

ثانياً- ما بعد الحداثة:

تجاوز الغرب مرحلة “الحداثة” إلى “ما بعد الحداثة“، ولا بدّ من التعريج عند مصطلح “ما بعد الحداثة”، والمقارنة بينه وبين “الحداثة”.

فإنّ مرحلة “ما بعد الحداثة” تختلف عن مرحلة “الحداثة” كلّيّاً، فبعدما كان الإنسان في مرحلة “الحداثة” مسيطراً على الطبيعة، تحوّل فيما بعد الحداثة إلى كائنٍ زمانيٍّ ومكانيٍّ خاضعٍ لحتميّات الطبيعة، فهي تفعل به ولا يفعل بها، ولا سلطة له عليها، كالحيوان الأعجم، ولا يأبه لشيءٍ إلَّا لإشباع غرائزه، واتّباع أهوائه، وكلُّ شيءٍ لديه متاح، فإنّ هذه المرحلة هي التمرّدٌ على الثوابت، والضياع الأخلاقيِّ والنفسيِّ، والعزلة، والتحرّر المفتوح بما في ذلك الشذوذ، والجندر، والتحوّل.

أمّا من حيث قراءة النصوص والمعاني:  ففي “ما بعد الحداثة” تنقطع الصلة بين الألفاظ ومعانيها، فلا علاقة للدال على المدلول، وإنّ معاني النصّ متعدّدة بعدد القرّاء، وكلٌّ يفهم النصّ على مراده دون ضوابط، كما قال عالم اللغة السويسري (فرديناند دي سوسير-1913) واضع أسس علم اللغة البنيوي: إنّ علاقة الدالّ بالمدلول لا تستند إلى أيّ صفاتٍ موضوعيّةٍ كامنةٍ في الدَّالّ، ومن ثمَّ فالعلاقة ليست ضروريّةً أو جوهريّةً أو ثابتة، فهي علاقةٌ اعتباطيّةٌ أو عشوائيّة.  

ومن ثمّ كما عند (دريدا) فإنّ “ما بعد الحداثة” ليست معاديةً للمنظومات الدينيّة التي تُحافظ على معاني النصوص فحسب، بل هي معاديةٌ للمنظومات الإنسانيّة والإلحاديّة أيضاً، كون “ما بعد الحداثة” لا تؤمن بأيّ ثابت.

لذا تتَّسم “ما بعد الحداثة” بالتغيّر والسيولة والفوضويّة المطلقة، فهي استراتيجيّةٌ دون غاية، وتفكيرٌ دون هدف.

الفرق بين “الحداثة” و”ما بعد الحداثة”:

تعدُّ “الحداثة” مرحلة علاقة العقل بالواقع، والعقلانيّة (مرحلة الثبات والصلابة)، ويكون الإنسان هو الإله أو بديلاً عنه، ولا قداسة إلَّا للعلم التجريبي، ولا حاجة للإله.

أمّا “ما بعد الحداثة”: فهي مرحلة السيولة والتغيّر، وعدم العقلانية، والفوضى الفكرية والسلوكيّة والعلميّة، واعتبار العلاقات بين الأسباب ومسبِّباتها وهميّة، وفكّ العلاقة بين الدالّ والمدلول في اللغات، وعدم الاهتمام إلّا بالغرائز والأهواء.

أمّا الوجه المشترك بينهما:

فكلاهما يشتركان في معاداة التراث، ونفي القداسة، والتحرّر من قيود العادات والأديان، والتلاعب في تأويل النصوص الدينيّة.

 إلّا أنّ الحداثيّيّن يقرؤون النصَّ الديني قراءةً أدبيّةً، بناءً على فلسفةٍ معيّنةٍ في تحريف دلالاته الأصليّة، ويبحثون عن رابط بين الدالّ والمدلول ولو كان وهميّاً.

 أمّا دعاة “ما بعد الحداثة” وأنصارها فهم أكثر فوضى وعشوائيّة في ذلك، فلا يرون علاقةً أصلاً بين الدالّ والمدلول، واللفظ والمعنى، ولا يأبهون لوجود تراثٍ أو نصٍّ دينيٍّ أو أدبيّ أصلاً.

ثالثاً- التأويل:

التأويل عند علماء اللغة: هو صرف اللفظ عن ظاهره الحقيقيّ إلى المجازي، أو تعيين أحد معاني اللفظ المشترك، لقرينة ترجّح ذلك المعنى.

أمّا ترجيح المعنى المجازي على الحقيقي: فإذا قلنا (زيد بحر) أدرك السامع أنّ كلمة (بحر) ليست على حقيقتها، بل المقصود بها سعة العلم، أو الكرم، فالتأويل يقع على كلمة (بحر) فتُصرَف عن ظاهرها بما يناسب السياق.

أمّا تعيين أحد معاني اللفظ المشترك: ففي قولنا: (هذه عينٌ صافية) نحمل كلمة (عين) على عين الماء، مع أنّ كلمة (عين) من المشترك، فتحتمل العين الباصرة، وتحتمل عين الشمس، وتحتمل معنى الجاسوس، وتحتمل معنى عين الماء، ، وتحتمل معنى الذهب، وتحتمل معنى الذات المبهمة.

لكنّ الذي رشّح معنى (عين الماء) صفة الصفاء التي كانت قرينةً في ترجيح أحد تلك المعاني على غيرها.

وهناك ضوابط للتأويل في الشريعة، فالأصل في الألفاظ أن تُحمَل على حقيقتها، ولا يُصار إلى المجاز إلّا إذا تعذّرت الحقيقة؛ للحفاظ على مراد واضع النصّ.

فالنصُّ الديني في الإسلام يقوم مقام النصِّ القانوني عند علماء القانون، لا بدَّ من الحفاظ على معناه الدقيق، ولا يصحّ تأويله وإخراجه عن ظاهره دون مسوّغ؛ لأنّ تأويل الخطاب التكليفي في النصِّ الديني بالخروج عن الضوابط التي وضعها علماء الأصول يكون إلغاءً له، وتغييراً للأحكام الثابتة التي جاء بها الإسلام، وهذا مناقضةٌ للشريعة.  

التأويل والتفكيك عند الحداثيّين:

استخدم الحداثيون في قراءة النصوص الدينيّة والأدبيّة منهج التفكيك ومنهج التأويل.

أمّا منهج التفكيك فهو الانقضاض على النصّ وإلغاؤه إلغاءً كلّيّاً، وفرض رؤية القارئ عليه، فيُسقِط عليه مفاهيمه وأفكاره، ويخضعه لنموذج التفكير الغربي، ويكون للنصِّ عددٌ لا نهائيٌّ من التأويلات، دون الاستناد إلى أيِّ طريقةٍ أدبيّةٍ أو منهجيّة. [ينظر: السيرورة السيميائيّة ومشروع الدلالات المفتوحة د. سعاد بن سنوسي: (ص:222)].

أمّا التأويل: فهو حالةٌ خاصَّةٌ من حالات تفسير النصِّ وفهمه؛ حيث يقطع القارئ النصَّ عن زمنه ومؤثّراته وسياقه، ويجعله أسيراً لذهنيّة القارئ والمتلقّي ليفهمه وفق معاييره الخاصّة في زمن القراءة، ويُسقطه على فلسفةٍ من الفلسفات التي يتبنّاها، وينفي وجود معنى أصليّ مقصود له، وسيأتي تفصيل مناهج التأويل في المقال القادم إن شاء الله.

ينطلق الحداثيّون في تأويل النصِّ الديني من خلال الآتي:

1- نفي القداسة؛ لأنّهم ينطلقون من إنكار سلطان الدِّين والأعراف.

2- النظر في  النصِّ الديني على أنّه نصٌّ أدبيّ: فلا فرق عندهم بين القرآن الكريم وقصائد شكسبير.

3-  تاريخيّة النصِّ الدِّيني: فإنّ النصوص الدِّينيّة كُتِبت في فترةٍ تاريخيّةٍ معيّنة، وتتغيّر دلالاتها ومعانيها تغيّراً جذريّاً حسب ما يصلح له النصُّ في كلِّ زمان، ومن ثمَّ فإنَّ معاني الكتاب والسنّة اليوم ليست هي المعاني التي كانت في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

ويحلّلون النصوص ويؤوّلونها من مفهوم (موت المؤلّف) أي يتناولون النصِّ الديني والأدبي بالتأويل والنقد، بعيداً عن تأثير مؤلّفه وما يقصده من كلامه، ويستبعدون جميع المؤثِّرات المتعلَّقة بالمؤلِّف وبالنصّ، كالغرض من إيراده، والبيئة والثقافة، ونحو ذلك، والاقتصار على تحليل العلاقات الداخلية بين البُنى النصّية، وكأنَّ المؤلِّف قد مات ولا علاقة له بما كُتِب. 

القراءة الحداثية ومناهجها في التعامل مع نصوص الوحي

الفكر الحداثي ونصوص الوحي
الفكر الحداثي ونصوص الوحي

القراءة الحداثية ومناهجها في التعامل مع نصوص الوحي

القراءة الحداثية ومناهجها في التعامل مع نصوص الوحي

انتشرت على الساحة الفكرية في العقود الأخيرة دعوى القراءة المعاصرة لنصوص الوحي (القرآن الكريم والسنة النبوية)، وهذه الدعوى في حقيقتها تشكِّل تجلّياً من تجلّيات الحداثة في الغرب، حيث استمدَّت مناهجها وجلَّ أفكارها من مفكِّري الغرب من فلاسفةٍ ومستشرقين، فكثيرٌ ممَّا يدور اليوم في الساحة الفكرية من قضايا سبق وأن طرحته القراءة الغربية لنصوص الوحي، وإنَّ المتتبِّع للدراسات الاستشراقية يدرك هذه الحقيقة.

تحاول هذه القراءة تأسيس فهمٍ جديدٍ للقرآن الكريم والسُّنَّة النبوية، وذلك بإحداث قطيعةٍ معرفيةٍ ومنهجيةٍ مع أصول التفسير وطرقه وقواعده، ومع علوم القرآن ومصطلح الحديث وقواعده، محاولةً إخضاع كلِّ ذلك لمناهج مستجدَّةٍ بعيدةٍ كلَّ البعد عن الثوابت، ومنها الآتي:

أولاً: التاريخية:

وهي طريقةٌ في التفكير تضفي النسبية الزمنية على الحقيقة، وتربطها بتاريخها وزمنها، رافضةً أن تكون للحقائق أيَّةُ عمومية أو ديمومة أو إطلاق، معمِّمةً هذا الحكم على كلِّ ألوان الحقائق بما فيها الدينية، فالتاريخ هو من يحدِّد الحقيقة، والمعرفة الحقيقية هي التي تخضع للظروف التاريخية.

وهذا بالضرورة يعني القول بتاريخية النص القرآني، وأنَّه خاصٌّ بحقبةٍ زمنيةٍ معيَّنةٍ وبيئةٍ اجتماعيةٍ خاصَّةٍ، فهو خطابٌ متعلِّقٌ بتلك المرحلة وغير ملزم لما بعدها؛ لأنَّ مفاهيم الألفاظ تتغيَّر بتغيُّر الظروف، وبالتالي لابدَّ من إخضاعها لهذا الواقع المتغيِّر حتَّى تتناسب مع متطلَّباته، وهذا التصوُّر نتج عنه اعتبار القرآن الكريم منتجاً ثقافياً إنسانياً يعبِّر عن لغة الإنسان وثقافته، لأنَّ الواقع والثقافة واللغة هي التي أنتجته، أي أنَّ النصَّ تابعٌ للواقع ومنبثقٌ عنه، وبالتالي فهو نصٌّ تاريخيٌّ كسائر النصوص البشرية التي تخضع في شكلها للواقع وتتغيَّر بتغيُّره.

ثانياً: التأويل أو الهيرمينوطيقا:

ويراد به في هذا المقام التأويل الذاتي غير الخاضع لأيِّ ضوابط أو قواعد، ولقد قامت هذه النظرة التأويلية على عدَّة أسس وُظِّفت لقراءة النصوص الدينية والأدبية، ومن أهمِّها:

  • تعدد القراءات المحتملة للنص، فلا وجود لقراءةٍ صحيحة للنصّ؛ لأنَّها قراءة قائمة على الشك من أجل الوصول إلى الحقيقة.
  • القول بموت المؤلف بحيث ينقضي دوره بكتابة النصّ، وتأتي مهمَّة القارئ في استنباط المعاني دون حاجةٍ للرجوع إلى المؤلف ومراده من وراء نصِّه.
  • إلغاء مقصدية النص، وهي نتيجةٌ حتميَّةٌ لموت المؤلِّف فوجوده يعني وجود المقصد، وموته هو إلغاء لهذا المقصد، وهذا سيفضي بالضرورة إلى انفتاح النصِّ أمام لا نهائية الدلالة.
  • التناص: يتألَّف النصُّ من مجموعة كتاباتٍ متعدِّدة الثقافات، فهو شبكةٌ من النصوص المتداخلة، فالمؤلِّف يتأثَّر في كتابته لنصه بنصوصٍ أخرى نشأت في بيئته، وحين يقرأ القارئ يستحضر نصوصاً أخرى تختلف عن بيئة المؤلف.

الفراغ: والمقصود به الكشف عن المعنى الذي لا تبوح به السطور، فهو ليس معنىً ظاهراً للنص؛ بل يستنبطه القارئ. 

وبناءً عليه فإنَّ التأويل الحداثي ينبني على التعدُّد، ويفترض الاتساع في اللفظ، وعلى فيض المعنى، لذلك من غير الممكن أن يكون التأويل نهائياً، فالنص لا يتوقَّف من كونه محلاً لتوليد المعاني واستنباط الدلالات، ولا يمكن لأحدٍ أن يقف على حقيقته، وبالتالي لا يمكن معرفة مراد النص ودلالته؛ لأنَّ المقصد هو ما يريده القارئ لا النصّ، فيصبح بذلك نصَّاً مفتوحاً لا يمكن الإلمام بحقيقته، لتعدُّد تفسيراته، ولا نهائية معانيه.

ثالثاً: الأنسنة:

تقوم الأنسنة على مبدأ الذاتية أو المركزية، أي أنَّ الإنسان هو مركز الأشياء ومحورها، وقد أخذت دوراً أساسياً في القراءة الحداثية للقرآن الكريم، وذلك بإخضاع النصّ لذاتية القارئ، فالحقيقة هي ما يريده القارئ لا النص، إذ لا وجود لمعرفةٍ مطلقةٍ أو متعالية، وبالتالي تقوم الأنسنة على تبرؤ الإنسان من أيِّ مرجعيةٍ مقدَّسة، فتجعل من الإنسان المرجع والمنتج للحقيقة.

 وهذا الموقف في حقيقته يقوم على الانتقال في الخطاب من المراد الإلهي من النص إلى المرادات الإنسانية.

لقد وقع رواد الفكر الحداثي في خللٍ منهجي بخروجهم عن الموضوعية عندما قاموا بمساواة الوحي الإلهي -النصوص القرآنية والحديثية- بالنصوص الأدبية ذلك لأنَّ هذه النصوص لها مناهجها في التفسير والتأويل، فهناك من النصوص ظاهرٌ لا يحتاج إلى تأويل، وهناك نصوص تحتمل عدَّة أوجهٍ من التأويل، وهي موضع اجتهاد في فهم النص وبيانه؛ وذلك يتأتَّى من خلال الأدلَّة التي تترجَّح عند المفسر وفق قواعد وضوابط لا لهوىً متَّبع.

ولعلَّ من أهمِّ التناقضات التي وقع فيها الفكر الحداثيُّ أنَّه بنى مشروعه في قراءته على استحالة استحضار الماضي بقوانينه المعرفية وقواعده المنهجية لقراءة الحاضر بحسب منطق التاريخية، ثمَّ يعود ليقرأ هو الماضي بقوانين وأدوات الحاضر المعرفية، وبناءً على هذه القاعدة لا يمكننا أن نُخضع النصَّ إلى مناهج معاصرة ما دمنا نرفض فهمه وتفسيره وفق القواعد المقررة. [آليات القراءة الحداثية، سجعي مريم].

يتَّضح من خلال ما سبق أنَّ القراءة الحداثية لنصوص القرآن الكريم والسنة جعلت التأويل هو الأصل وعمَّمته على جميع النصوص قطعيَّة الدلالة، وظنيَّة الدلالة، مع العلم أنَّ الأصل هو الأخذ بظواهر النصوص، بحيث لا يُلجأ إلى التأويل إلَّا عند الاستشكال. 

التطرف اللاديني غذاء يتقوى به التطرف الديني

التطرف اللاديني
التطرف اللاديني

التطرف اللاديني غذاء يتقوى به التطرف الديني

التطرف اللاديني غذاء يتقوى به التطرف الديني

يعتمد انتشار أيِّ فكرٍ متطرِّفٍ وازدياده على وجود فكرٍ أو مجموعة أفكارٍ متطرِّفةٍ مُعاكسةٍ له، فظهور التطرُّف الديني يزداد عند وجود تيَّاراتٍ متطرِّفةٍ لا دينية، بحيث يجعل الكثير من أبناء المجتمع المتأثِّرين بردَّة الفعل العاطفية يتبنَّون فكراً دينياً متطرِّفاً كردِّ فعلٍ على التطرُّف اللاديني، فالأفكار المتطرِّفة تفقد أحد أهمِّ أسباب قدرتها على الاستمرار إذا اختفت الأفكار المتطرِّفة المعاكسة لها.

لذلك فمن الضروري لأيِّ فكرٍ متطرِّفٍ دينيٍ وجود فكرٍ لا دينيٍّ متطرِّفٍ يُعطيه الشرعية، والدافع الوجدانيَّ لوجوده، وبهذا تبقى الوسطية عند الجميع هي الضمان لمواجهة الأفكار المتطرِّفة.

 ففي المجتمعات المتنوِّعة فكرياً، يحتاج الوسطيون إلى بعضهم على اختلافاتهم وتنوُّعهم لضمان استقرار المجتمع على المنهج الوسطي، كذلك يحتاج المتطرِّفون على اختلافاتهم وتنوعهم إلى بعضهم لترسيخ فكرة الخوف من الآخر التي يقتات عليها الفكر المتطرِّف لضمان قوَّته وتشريع وجوده.

يبدو هذا جلياً في أغلب المجتمعات التي ظهر فيها التطرُّف الدينيُّ، كالحالة الأفغانية، حيث تحوّلت أفغانستان سابقاً إلى قبلةٍ للتنظيمات الدينية المتطرِّفة، ومن ثمَّ حاضنةٍ لها، وذلك بسبب وجود تطرُّفٍ إلحاديٍّ في مرحلةٍ من مراحلها، مدعومٍ من الفكر الشيوعيّ المتطرّف في نظرته وعدائه للدين، بل إنَّنا نجد هذا جلياً في أغلب الجمهوريات ذات الغالبية المسلمة التي كانت تخضع للهيمنة السوفيتية في مرحلة تطرُّفها، حيث كانت تحارب أيَّ مظهرٍ من مظاهر الدين، وتمنع التعليم الديني، وتغلق المساجد، فكان من نتيجة هذا الأسلوب المتطرِّف في التعامل مع التدين أن أصبح أكثر تعداد الأفراد في التنظيمات المتطرفة التي نشأت فيما بعد قادماً من تلك الجمهوريات.

في دراسةٍ منشورة ([1]) عن أعداد مقاتلي ما يُسمّى التنظيمات المتطرّفة، والذي تنامى خلال فترة ما يُسمّى “الربيع العربي” يظهر أنَّ من الدول العربية الأكثر تصديراً لهؤلاء المقاتلين كانت تونس، وهذا الأمر من شأنه أن يثير الانتباه والتساؤلات، فجمهورية تونس قبل فترة إفرازات الأزمات المتلاحقة كانت تتبع سياسةً متشدِّدةً في التعامل مع الدين، مشابهةً إلى حدٍّ كبيرٍ لسياسة مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، حيث لم تكتفِ بما يُسمّى “تجفيف المنابع” بل تمادت أكثر من ذلك إلى التطاول على الثوابت. ([2])

فوجد الفكر المتطرِّف الفرصة لتقديم نفسه إلى المجتمع بوصفه مدافعاً عن الدين ومنقذاً له، ولم يستطع المجتمع سماع الخطاب الديني الوسطي لعلوِّ صوت التطرُّف أمامه.

ولأنَّ المجتمعات الإسلامية مجتمعاتٌ عاطفيةٌ استطاع الفكر المتطرّف أن يجد لنفسه حاضنةً تدفعها عاطفة الخوف من الإقصاء والإلغاء وذلك عبر المساس بالثوابت والالتجاء نحو التطرّف المعاكس الذي يملك القدرة وطريقة الخطاب التي تلبّي خوفه.

ساهمت إجراءات التطرُّف اللاديني في تراجع  إقبال الناس على المساجد في كثيرٍ من الدول، وبالتالي ازدياد جهلهم بوسطية الدين وسماحته

وفي العراق، ورغم وجود نظامٍ علمانيٍّ يحكم البلاد لعقود إلَّا أنَّنا لم نر تنظيماتٍ متطرِّفة تخرج من أبنائه إلَّا بعد دخول التطرُّف الليبرالي الأمريكي الهمجي إلى العراق واحتلاله، وكذلك فعل التدخُّل الأمريكيُّ المتطرِّف في أفغانستان حيث ساهم في تعزيز وجود التطرُّف فيها وتنميته، فضلاً عن دعمه له.

   إذن يبقى التطرُّف دفيناً في أيِّ مجتمعٍ حتَّى يأتي تطرُّفٌ مُعاكسٌ له فيعطيه أسباب الظهور، وبقدر قوَّة التطرُّف اللاديني وسطوته فإنَّه سينتج تطرُّفاً دينياً أكثر قوَّةً وسطوةً أيضاً.

وأهمُّ سببٍ يعتمد عليه التطرُّف الدينيُّ في تبرير وجوده وتعزيز شرعيته هو مواجهة التطرُّف اللاديني بالاعتماد على استغلال العاطفة الدينية، والخوف من طمس الهوية.

يبقى التطرُّف دفيناً في أيِّ مجتمعٍ حتَّى يأتي تطرُّفٌ معاكسٌ له فيعطيه أسباب الظهور

وقد أثبتت التجارب أنَّ أنجح الوسائل لشلِّ قدرة التنظيمات المتطرِّفة دينياً على الانتشار والجذب يكون في أمرين:

1- منع أيِّ شكلٍ من أشكال التطرُّف اللاديني من الدخول أو التأثير في المجتمع، والحرص على الحفاظ على وسطية الطرح اللاديني في الإعلام، وعدم اجترائه على الثوابت.

2- تعزيز وجود الفكر الوسطي المعتدل المنبثق من الثوابت الدينية لا المصنوع في مراكز الأبحاث، ومؤسسات صناعة الرأي العام، حيث يُعتبر الأقدرَ على ردِّ شبهات التطرف وكسر هيمنة خطابه العاطفي.

 


[1]https://www.europarl.europa.eu/EPRS/EPRS-Briefing-579080-Foreign-fighters-rev-FINAL.pdf

[2]https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?ID=753

الحوار أصل في الشريعة الإسلامية

غلاف الحوار هو الأصل
الحوار هو الأصل

الحوار أصل في الشريعة الإسلامية

الحوار أصل في الشريعة الإسلامية

لما شاء الله تعالى أن يوصل رسالاته إلى البشر عبر الرُّسُل الكرام الذين اصطفاهم، وكرَّمهم، وأوحى إليهم؛ قضى لتلك الرسالات أن تصل بوسائل عديدةٍ أبرزها الحوار: ثمَّ ضبط ذلك بضوابط شتَّى تضمن سلامة الحوار؛ لسلامة وصول الرسالة من بابٍ أولى. فقد حاسب الإسلام أبناءه على ما تنطق به ألسنتهم: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيْبٌ عَتِيْدْ [ق18]. وحثَّهم على حُسن الكلام: ﴿وَقُوْلُوا لِلنَّاسِ حُسْنَاً[البقرة83]، ثمَّ أعلى قيمة الكلمة الحسنة: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِيْنٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم24].

ليس الحوار في الإسلام مجرَّد مُجاملةٍ اجتماعيةٍ، ولا ترفاً فكرياً، أو نافلةً من القول، بل هو أساسٌ راسخٌ في إيصال حقائق الشريعة الإسلامية إلى العقول والقلوب: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيْلِ رّبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالموْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل125]. فقد رسَّخ الإسلام مبادئه الأساسية سواءً في العقيدة والإيمان أو الفقه والأخلاق، أو غيرها من دقائق الدِّين على أساس الحوار، والنقاش، والإقناع بالحجَّة والبرهان؛ استناداً إلى موازين المنطق والعلم، بما لا يُخالف العقل السليم، والفطرة السويَّة الصافية، فيحذِّر الإسلام من اتِّباع أيِّ معتقدٍ إلَّا بناءً على بيِّنةٍ من الدليل العلميِّ المحايد، الصافي عن شوائب الأهواء الشخصية، والرغائب، والعصبيَّات النفسية: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولَاً [الإسراء36]، وكان هذا هو الأساس الذي ينطلق منه الإسلام في حواره مع الناس، ويُطالبهم بعد ذلك أن يتحاكموا بمقتضاه.

منهج الحوار في الإسلام:

تتَّضح ملامح هذا الحوار وأُسسه فيما يعلِّمنا إيَّاه القرآن الكريم، والحديث النَّبويُّ. وأهمُّ هذه الملامح:

أوَّلاً: تحريض العقل وسوقه إلى الحقائق عن طريق الإقناع المنطقيّ، فانظر إلى حوار سيِّدنا إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [اﻷنعام 75 – 79]. 

ثانياً: البيان الواضح، وإزالة الأسباب التي تلبس الحقَّ بالباطل، بعيداً عن الإرغام والإجبار: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ [الغاشية22]، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَّيِّ[البقرة256].

ثالثاً: المنطق الذي لا يخالف البداهة: فإذا ما كانت المحاورة مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة، فلا يرفض الشرع الإسلاميُّ الحوار في أيِّ أمرٍ كان، لكنَّه يضبطه بضوابطه الصحيحة. فالحوار في الإسلام يفسح المجال أمام العقل غير المتعصِّب لهوىً، أو الأسير لنفسٍ أن يصل إلى جوهر الحقيقة بِيُسرٍ وسلاسةٍ، لأنَّه يسوقه بمنطقيةٍ لا تخالف ولو أبسط بدهيَّاته.

وانظر إلى ذلك في الحديث النبويِّ عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: ((إنَّ فتىً شابَّاً أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه! فقال: ((ادنه))، فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال: ((أتحبُّه لأُمِّك؟))، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا النَّاس يحبُّونه لأُمَّهاتهم))، قال: ((أفتحبُّه لابنتك؟))، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا النَّاس يحبُّونه لبناتهم))، قال: ((أفتحبُّه لأختك))، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا النَّاس يحبُّونه لأخواتهم))، قال: ((أفتحبُّه لعمَّتك؟))، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا النَّاس يحبُّونه لعمَّاتهم))، قال: ((أفتحبُّه لخالتك))، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا النَّاس يحبُّونه لخالاتهم))، قال: فوضع يده عليه، وقال: ((اللهمَّ اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فَرْجَه))، فلم يكن بعد -ذلك الفتى- يلتفت إلى شيء. [رواه الإمام أحمد].

فلم يُمْلِ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على الشابِّ الموعظة جامدةً جافَّةً إلَّا أن يجعل الحقَّ يخرج على لسانه هو بعد الإقناع والصبر، وتغزُر أمثلة ذلك في السيرة النبوية والقرآن الكريم.

وبهذا يعلِّم الإسلام أبناءَه أدب الحوار بطريقٍ غير مباشرة، فإذا ما تأدَّبوا بذلك الأدب كان كفيلاً أن يودي بمُحاوِرِهم إلى جادَّة الحقيقة، فالحوار هو السبيل الأمثل والأجدى في عرض الإسلام على من لا يعرفه أصلاً. وهو الأداة الفعَّالة في حلِّ الخلافات الفكرية إذا ما نشأت بين أبنائه، وهو من أفضل الوسائل لكسب العقول والقلوب في زمنٍ حادت فيه البشرية وتاهت عن الطريق إلى الله تعالى خالقها ومولاها.   

الإسلام والتطرف

الاسلام-والتطرف غلاف
الاسلام-والتطرف

الإسلام والتطرف

الإسلام والتطرف

لم يأتِ الإسلام بمثالياتٍ طوباوية لا يمكن لها أن تتحقَّق إلَّا في الخيالات، بل أتى بمنهجٍ قادرٍ على تحقيق التّوازن في الحياة البشرية الواقعيّة، فنجده في معارك الدفاع عن الثوابت والعقائد حاضراً بقوّةٍ تُرهب عدوَّ الله وعدوَّ الإنسانية، ونجدُه في وجدانيات الحبّ والتصوف، وأخلاقيات العفو والصفح حاضراً أيضاً وبنفس القوّة، ونجده في ميادين الفكر والعلم والرؤية المقاصدية الواعية حاضراً بالاندفاع ذاته.

فالإسلام هو ذلك المزيج المتناغم من الجهاد والتّصوّف والحبّ والأخلاق والفكر والعلم، ويبدأ التطرف فيه عندما يختارُ العقل أو القلب لوناً واحداً من هذا المزيج، ويجعلُه اللونَ الغالبَ عليه، فتارةً تجدُ من يجعلُه حاملاً للبندقية لا يضعها، وتارةً تجد من يجعلُه حبيس الروحانيات والوجدانيات منعزلاً عن واقعية الحياة، وتارةً تجدُ من يجعله منظومةً من الثّوابت العقلية والحجج الفكرية الخاليةِ من الواقعية والعاطفة.

إذن فالوسطيُّ هو من أدرك هذا المزيج وأحسنَ إظهاره والتعامل معه بشكلٍ متوازن، والمتطرّف هو من رأى منه وجهاً واحداً وحمل الناس عليه.

لماذا دخل التطرّف إلى الإسلام وهو الدِّين المُنزل من عند الله؟

التطرّف في حقيقته ليس ديناً، وليس شكلاً من أشكال الدِّين، بل هو شكلٌ من أشكال النّفس الإنسانية، فالإنسان المتطرِّف هو الذي يحمل رؤيةً متطرِّفةً للحياة، سواء كان متديِّناً بأيِّ دينٍ من الأديان، أو غير متديّن.

لذلك نجد في حياتنا ملحدينَ متطرفين، ومسيحينَ متطرفين، ويهوداً ومسلمين وهندوساً وبوذيين وسياسيين وعسكريين وعلماء، ومفكرين، وفنانين . . . إلخ

إنَّ أشكال التطرّف تشمل كلَّ نواحي الحياة، لكنَّ عين الإعلام المتطرّف لا ترى إلَّا شكلاً واحداً من أشكال التطرُّف، وتعمل على ترسيخ صورته في خيالات الناس وأذهانهم، فصورةُ الإنسان المتطرّف المصنوعةُ إعلامياً في عقول الناس اليوم هي صورة رجل يلبس لباساً طويلاً، ويُطلق لحيته، عبوس الوجه، مقطّب الحاجبين، لا يتكلّم إلا بالعربيَّة الفصحى، يحبُّ القتل وقطع الرؤوس، ويحتقر النساء، ويقول: الله أكبر، بينما ذلك الأشقر الذي يرتدي ربطة عنق، ويحلق لحيته، ويشرب البيرة، لا يمكن أن يكون متطرِّفاً، حتى لو أنَّه ألقى قنبلتين نوويتين على أطفالٍ ونساءٍ وشيوخٍ وشبابٍ ورجال، ولو دَمّر مدناً عن آخرها، وحتى لو أنَّه قتل أمّةً كاملةً من الهنود الحمر وأخذ أرضهم وخيراتِهم، وحتّى لو أنَّه يشعل الحروب هنا وهناك في العالم ويمدُّها بالصواريخ الذكية، والقنابل المدمّرة، وحتَّى لو كان يقتات على امتصاص اقتصادات القارّة الإفريقية، أو كان يحتكر تكنولوجيا العلاج والدّواء ويبيعها بأغلى الأثمان، أو كان يدير الانقلابات الدموية هنا وهناك تحقيقاً لمصالح الشركات العابرة للقارّات.

فخطر أكبر تنظيمٍ جهاديٍّ متطرّفٍ عرفه التاريخ الحديث وأثره لا يُعادل جزءاً بسيطاً من خطر السلوك الأمريكي الأوروبي الهمجي في السيطرة على موارد الطاقة، وطرق التجارة، وخيرات الشعوب، ورغم ذلك، ونتيجةً للتهجين الإعلامي للعقول، لا يَرى الكثير من أصحاب الوعي المستورد التطرّفَ إلَّا بشكلٍ إسلامي.

ربما يُعتبر الإسلام الدِّين الوحيد في العالم الذي فيه تشريع الجهاد (بالمعنى القتالي)، ألا يدلُّ هذا على أيديولوجيا متطرِّفة؟

يمكننا أن نقول أنَّ الإسلام هو الدّين الوحيد في العالم الذي وضع تشريعاتٍ وقوانين تنظّم الأعمال القتالية، وتضبطها عن الظلم والتعدّي والإيذاء، كتحريم قتل من لا يقاتل، أو قطع الأشجار، أو إيذاء المتعبّدين في معابدهم، أو إيذاء المعابد نفسها، ويحرِّم استعمال القنابل النووية واللاتمييزية في القتل، إلى غير ذلك من التّشريعات والضَّوابط التي تدلُّ على واقعيةٍ تشريعيةٍ وفكريّةٍ تحفظ للناس قوَّتهم في مواجهة أعدائهم، وتضبط هذه المواجهات بحدودٍ ناظمة.

فوجود ضوابط للعمل القتالي يدلُّ على رقيٍّ تشريعيٍّ كانت تغفل عنه القوانين الوضعية، بل إنَّ الإسلام قد جعل الانضباط بالضوابط الإنسانية في الأعمال الحربية والقتالية جزءاً من العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، قبل أن يجعله قانوناً يتجاوزه الأقوياء، ويتجاهله الظالمون.

وهذه الضوابط التي شرّعها الإسلام للأعمال القتالية لم تستطع أن تلتزم بجزءٍ بسيطٍ منها جيوش المتقاتلين العلمانيين في الحربين العالميتين ذاتي أكبر عدد من الضحايا عبر التاريخ الإنساني،  ولو أنَّها التزمت بها لكسبت الإنسانية أرواحاً كثيرةً بريئةً ما كان يجب لها أن تُزهق.

إذا كان التطرّف حالةً من حالات النفس أو العقل الإنساني، فلماذا لا يكون الإسلام علاجاً للتطرّف، بحيث لا يظهر بين المسلمين أناسٌ متطرِّفون؟

الإسلام هو المنهج الربّاني الوحيد القادر على تحقيق حالة التوازن والوسطية للأفراد والمجتمعات والأمم، وهو العلاج الأنسب في مواجهة الأفكار المتطرِّفة، وهذا الادِّعاء لا يعني عدم ظهور متطرِّفين مسلمين، فمخالفة الإنسان لضوابط المنهج، وتجاوزه لحدوده يؤدِّي به إلى الابتعاد عن وسطيَّته، وهذا الأمر ينطبق على جميع ضوابط الشرع الإسلامي وليس على قضية التطرف فقط، ولا يوجد في الإسلام شخصٌ منضبطٌ بضوابطه، وملتزمٌ بحدوده، إلَّا وهو عصيُّ على التطرّف، وخصوصاً في جانب حفظ النفس الإنسانية التي شدّد الإسلام على مكانتها فقال تعالى: ((مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)) [المائدة-32]، والآية في نهايتها توضّح للقارئ أنّ الرُّسل قد جاؤوا بالبيّنات التي من شأنها أن تحمي الناس، لكنَّ كثيراً من الناس، ورغم وضوح هذه البيّنات أسرفوا في الأرض.

ما التطرُّف؟

رغم الدعوات الكثيرة لوضع تعريفٍ محدَّدٍ للإرهاب أو التطرّف إلَّا أنَّ الدول العظمى، والأمم المتَّحدة لم يفلحوا حتى الآن في وضع تعريفٍ واضح له، ذلك أنّ الاعتراف بأيِّ تعريفٍ سيشمل حتماً السلوك المتطرّف للولايات المتحدة الأمريكية، وللدُّول الغربية، وللكيان الإسرائيلي.

إضافةً إلى أنَّ المطلوب إعلامياً من مصطلح التطرُّف هو أن يبقى ملازماً للدِّين الإسلامي، وأن يبقى وسمُ التطرّف صورةً نمطيّةً عن الإسلام في عقول الناس، وأن تُعمَّى العقول عن إدراك مدى تطرّف الأيديولوجيات الليبرالية المعاصرة ووحشيَّتها.