لماذا خلقنا الله-2 -تويتر

ناقشنا في الجزء الأول من المقال تساؤلين فرعيين يغطّيان جزءاً من الإجابة عن سؤال الغاية من الوجود، وهما:

1.  هل الله بحاجة لعبادتنا؟

2. لماذا كلّفنا بالأوامر الشرعية؟

أما هذا الجزء فهو مخصصٌ للإجابة عن التساؤل الثالث الذي طرحناه في بداية المقال، ونرجئ التساؤل الأخير إلى الجزء الأخير بإذن الله تعالى.

فبعد أن بيّنتْ الإجابةُ عن التساؤل الثاني النفعَ المتحقّق للمخلوقات بتنفيذ أوامر الله سبحانه، يتبادر إلى الأذهان تساؤلٌ من نوع آخر، وهو:

إذا كانت الأوامر التشريعية تعود بالنفع على الناس، فما الغرض من العبادات النُسُكية الخالصة؟

يقصد بالعبادات النُّسُكية: تلك العبادات التي تكون العلاقة فيها خالصةً بين العبد وربّه لا دخل للبشر فيها، كالتسبيح والتحميد والركوع والسجود وغيرها من أفعال نُسُكية تربط العبد بربه ربط المنزِّه لخالقه عن كل نقصٍ، المستسلم له استسلاماً خالصاً. 

تنبع الشبهة من تصوّر تعارض الألوهية المطلقة مع أمر الله لعباده بالقيام بهذه الأفعال النُسُكية، إذ يظنُّ السائل أنَّ أمر الله لعباده بالنُّسُك يناقض استغناءه عن خلقه، ويناقض ما لله من صفات جلالٍ وعظمةٍ وكبرياء.

 والحقيقة أنَّ الله غنيٌّ عن خلقه وعباده، لا يأمرهم لنقصٍ ولا يضرُّه إعراضهم عنه (كما وضّحنا ذلك في معرض إجابتنا عن التساؤل الأول)، إنَّما تكمن حقيقة المخلوقات بتسليمهم وخضوعهم لسلطانه، والله إنّما أمرهم بذلك إظهاراً لحقيقتهم، لا لنفعٍ يستجلبه لنفسه ولا لضرٍّ يدفعه. 

نشرح أكثر: إنَّ ارتباط المخلوق بالعبادة هو ارتباطٌ بصفته الملازمة له، ذلك أنَّ العبادة مرتبطةٌ بالحاجة والنقص، والمخلوق في حاجةٍ ونقصٍ دائمين، ولا تكون العبادة الحقُّ إلّا لمن لا تعتريه حاجةٌ ولا نقص بوجهٍ من الوجوه، وهي العبادة لله تعالى؛ وإلا سيبقى المخلوق في بحثٍ عمَّا يسدُّ نقصه ولن يزيده بحثُه إلا عطشاً.

هناك مثال هندسيٌّ شهيرٌ يشرح التناقض العقليَّ وهو أن تطلب رسم مثلث بأربع زوايا، والحقيقة أنَّ هذا الطلب متناقض في ذاته، ذلك أنَّ المثلَّث لا يكون مثلَّثاً إلا إذا كان بثلاث زوايا؛ وكذلك حال المخلوق فإنّه لا يكون مخلوقاً إلا إذا كان ناقصاً مفتقراً بذاته إلى من يوجده، وما العبادات النُّسُكية إلا اعترافٌ بهذا النقص وتوجهٌ إلى من له صفات الجلال والهيبة، فإذا ما ضلَّ الإنسان عن هذه الحقيقة الوجودية أرسل له الله رسالةً تُذكِّره بحقيقة نفسه.

وذلك حال المعلِّم الحكيم الذي يخبر المتعلِّم بجهله المسألة، ثم يوجّهه إلى حلِّها، وذلك أنَّ حقيقة المتعلِّم تكمن في جهله المسألةَ التي يريد تعلُّمها، وإلا لما كان اسمه “متعلِّماً”.

وفي معظم الحالات لا يحتاج الطلاب أن يذكّرهم المعلِّم الحكيم بجهلهم، لأنَّ حضورهم إليه اعترافٌ منهم بجهلهم، ولكنَّه يخبر “المتعالمَ” المتكبِّر المُعرِضَ عن حضور الدرس ويذكِّره بحقيقة جهله، لا لفائدةٍ يرجوها من مدح الطالب وثنائه عليه، وإنما تبييناً لحقيقته عساه يعود عن كبره وغروره، ومع ذلك قد يأبى الطالب الاعتراف بالحقيقة، وهذا لا يضر المعلم الحكيم  بشيءٍ، وسواءٌ اعترف الطالب بجهله أم لم يعترف فإنَّه جاهلٌ شاء أم أبى. 

((إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۙ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ۚ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [سورة غافر : 56].

نعم قد تجد في واقعنا بعضَ المعلِّمين الذين لم تَرقَ نفوسهم إلى صفات المعلِّمين المخلصين، فيتكبّرون بعلمهم على أقرانهم وطلّابهم، وينتهزون كلَّ فرصةٍ ليُظهروا عِلْمَهم ويعيّروا الطُّلاب بجهلهم، وينتشون فرحاً وطرباً لسماع مديح الآخرين لهم، وهؤلاء منبوذون ممن حولهم، يشعرُ من خالطهم بنَقْصِهم وينْفُرُ منهم وإن تبسّط في وجههم اتقاء شرِّهم. ومن هنا برزت الشبهة عند من يستشكل عليه أمر الله لعباده بالثناء عليه والتنزيه له، وذلك لتعارض مفهوم الإله الكامل الذي لا يضرُّه شيءٌ ولا ينفعه شيءٌ مع الصورة المنطبعة في أذهانهم عن بشرٍ يُحبُّون المديح والثناء لنقصٍ يعتري نفوسهم، تماماً كبعض المعلِّمين الذين ضربنا بهم المثال الأخير.

 فقالوا كيف يأمر الله البشر أن يحمدوه ويثنوا عليه؟

 وهل خلقهم من أجل أن يعبدوه ويقدسوه؟ 

هل كان ينقصه سماع مديحٍ من أحد فخلق خلقاً ضعيفاً ليمدحوه؟

وهذا التعارض حقيقيٌّ، فلا يمكن للإله سبحانه أن يتّصف بهذه الصفات الناقصة، التي تكون في حقِّ بعض البشر من الذين لم ترتقِ نفوسهم ولم تسمُ أرواحهم؛ فيطلبون المديح من غيرهم، ويطربون لسماع الثناء عليهم، واعتراف الآخرين بجهلهم أمامهم. وهذا لا يُتصوّر في حقِّ بشرٍ مثلِهم ممَّن كمَّلَهم اللهُ وزكّى نفوسهم، فضلاً عن أن يُتصور شيءٌ منه في حقِّ الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوَّاً كبيراً.

 أما وإنَّ حقيقة الأمر مشابِهةٌ لمثال المعلِّم الحكيم الذي يريد الخير والمنفعة للمتعلِّمين، فلا تناقض بين توجيه العباد إلى معرفة حقيقة نفوسهم الناقصة؛ وبين استغنائه عنهم وعن مديحهم وثنائهم.

فالله عزَّ وجلَّ يرشد العباد إلى ما فيه سُقيا قلوبهم، وطمأنينةُ نفوسهم، فتجد الأولياء والصالحين ممن زكت نفوسهم وارتقت أرواحهم، لا يسعدون إلا بالوقوف بين يدي الله متبتِّلين خاشعين منيبين، راجين من الله أن يُفيض على قلوبهم من أنواره وتجلياته. وخيرُ من نستقي منه هذه المواقف أعبدُ العبَّاد سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم القائل: ((وجُعِلَتْ قرَّةُ عيني في الصلاة)) [رواه أحمد والنسائي من حديث أنس رضي الله عنه].

فيجدر بنا في هذا المقام التوقُّف عند صورةٍ من صور العبودية التي كان عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم  وهو يقفُ بين يدي الله سبحانه متذوقاً لمعاني سلطان الله وعظمته، مُعرباً عن مكنونات نفسه صلّى الله عليه وسلّم  معترفاً بافتقاره وخضوعه لجلال الله

تروي هذه الصورةَ أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، واصفةً حال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في إحدى الليالي إذ تقول:

((كانت ليلةُ نصفٍ من شعبانَ ليلتي فباتَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عندي، فلمَّا كانَ جوفُ اللَّيلِ فقدتُهُ فأخذَني ما يأخذُ النِّساءَ منَ الغيرةِ فتلفَّفتُ بمِرطي … فطلبتُهُ في حُجَرِ نسائِهِ فلم أَجِدْهُ، فانصرفتُ إلى حجرتي فإذا أَنا بِهِ كالثَّوبِ السَّاقطِ على وجهِ الأرضِ ساجدًا وَهوَ يقولُ في سجودِهِ: سجدَ لَكَ سَوادي وجبهَتي، وآمنَ بِكَ فؤادي فَهَذِهِ يدايَ وما حدَّثت بِها على نفسي، يا عظيمُ يرجى لِكُلِّ عظيمٍ، اغفرِ الذَّنبَ العظيمَ، أقولُ كما قالَ داودُ عليهِ السَّلامُ: أعفِّرُ وجهي بالتُّرابِ لسيِّدي وحقَّ لَهُ أن يسجدَ وجهي للَّذي خلقَهُ، وشَقَّ سمعَهُ وبصرَهُ، ثُمَّ رفعَ رأسَهُ فقالَ: اللَّهمَّ ارزُقني قلبًا نقيًّا من الشِّركِ لا كافِرًا ولا شقيًّا، ثُمَّ سجدَ قال: أعوذُ برضاكَ من سخطِكَ وأعوذُ بعفوِكَ من معاقبتِكَ، لا أُحصي ثَناءً عليكَ، أنتَ كما أثنيتَ على نفسِكَ)) [أخرجه مسلم في صحيحه برقم 486 مختصراً، وذكره بطوله ابن الجوزي في العلل المتناهية]

فإذا ما تأمّلنا تلكم الصورة عرفنا نعمة الله علينا بتعريفنا إياه، فالعبادة حاجةٌ أساسيةٌ يشعر بضرورتها الإنسان، قال تعالى: ((أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ))[سورة الرعد : 28]، وكما يقول أحد العارفين: ((الحمدُ لله إذ علّمَنَا الحمدَ)). 

والعجيب أن تستحضر الملائكة المنزَّهة هذه النعمة، فتبادرَ إلى كتابة شيءٍ من هذه الكلمات تحمَد الله بها، فعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه أنّه قال:

((كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي ورَاءَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ، قالَ رَجُلٌ ورَاءَهُ: رَبَّنَا ولَكَ الحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قالَ: مَنِ المُتَكَلِّمُ قالَ: أنَا، قالَ: رَأَيْتُ بضْعَةً وثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أوَّلُ)) [صحيح البخاري 799].

 ويصف د. سامي عامري هذه الحقيقة بقوله:

((فالله سبحانه حقيقٌ بالعبادة قبل الخلق ودون الخلق، لأنَّه أهلٌ لذاته لأن يكون قِبلة العبادة)).

ويقول:

 ((إنَّ المسلم يعبد الله لأنَّه مأمورٌ بذلك من خارجه ومدفوعٌ إلى ذلك من داخله، هو مأمورٌ بذلك بنصوص الشرع، وهو الإلزام الخارجي، كما أنّه ملزمٌ بذلك من داخله إقراراً بكمال الخالق، حيث يستدعي نقصُه الإقرارَ بكمال خالقه، فنحن نعبد الله لأنّه أهلٌ أن يعبد فيطاع ولا يعصى، ويُمجّد ويُسبّح ويُحمد على نعمائه وآلائه، وكيف تغفل النفس عن ذكر حُسنِ أسمائه وصفاته، وخيرُه سبحانه عميمٌ، وعظمته تملأ النفس والكون؟ [د. سامي عامري -لماذا يطلب الله من البشر عبادته-ص 34- 35 بتصرف]

ويصف ابن القيم التعبُّد بأنَّه آخر مراتب الحبِّ، إذ يقال عبّده الحبُّ وتيّمه إذا مَلَكَهُ وذلك لمحبوبه ويقول:

((كمال العبودية تابعٌ لكمال المحبَّة، وكمال المحبَّة تابعٌ لكمال المحبوب في نفسه، والله سبحانه له الكمال المطلق التامُّ من كلُّ وجه، ولا يعتريه توهُّم نقصٍ أصلاً، ومَن هذا شأنه فإنَّ القلوب لا يكون شيءٌ أحبَّ إليها منه ما دامت فطرتها وعقولها سليمةً، وإذا كانت أحبّ الأشياء إليها فلا محالة أنَّ محبَّته توجب عبوديته وطاعته، وتتبّع مرضاته واستفراغ الجهد في التعبّد له والإنابة إليه، وهذا الباعث أكملُ بواعث العبودية وأقواها حتَّى لو فرض تجرُّده عن الأمر والنهي والثواب والعقاب استفرغ الوسع واستخلص القلب للمعبود الحق)) [ابن القيم -مفتاح دار السعادة- بيروت- 2/88].

لذلك نقول إنَّ العبادة حقٌّ لله من جهةِ نقصِ المخلوق وكمالِ الله سبحانه، ولا يُتوهّم أنَّ في طلب العبادة نقصاً أو حاجةً يريد طالبُّها أن يسدَّه، فالله سبحانه غنيٌّ عن خلقه لا يضرُّه كفر الكافرين ولا استهزاء المبطلين.

ومن سمع كلام النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يدرك أنَّ العبادة حقٌّ لا مِراء فيه، ومن ذلك حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه إذ يقول:

((كُنْتُ رِدْفَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ…ثُمَّ قالَ: يا مُعاذُ بنَ جَبَلٍ، قُلتُ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: هلْ تَدْرِي ما حَقُّ اللهِ علَى العِبادِ؟ قالَ: قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: فإنَّ حَقَّ اللهِ علَى العِبادِ أنْ يَعْبُدُوهُ، ولا يُشْرِكُوا به شيئًا)) [البخاري : 7373 -مسلم : 30].

 أمَّا التساؤل الأخير الذي يتوقَّف عنده السائل فهو قوله: 

إذا كانت العبودية الخالصة حقَّاً لله على العباد فلماذا يخلقهم ابتداءً؟

وهذا ما يجيب عنه الجزء الأخير من هذا المقال بإذن الله تعالى.

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *