لماذا خلقنا الله -تويتر

تعتري كثيراً منّا تساؤلاتٌ وجوديَّةٌ تشغل تفكيره وتؤرِّق راحته، وتُحيل معيشته جحيماً لا يطيق العيش فيه، ولربَّما يسكتُها من حينٍ لآخر ثمَّ لا تلبث أن تطرق باب حياته بعنفٍ أشدّ مع أول هزّةٍ نفسيةٍ أو سلوكيةٍ أو إنسانيَّةٍ يتعرَّض لها.

ويعدُّ سؤال: (الغاية من الوجود) أشهر التساؤلات التي شغلت أذهان البشر، وحيَّرت أفئدتهم لقرونٍ طويلة، فتجد بعض السائلين تشغله مسألة خلق الإنسان وأمره بالعبادة؛ فمنهم من يتوهَّم أنَّ الله يُحصِّل من هذه العبادة حاجةً لنفسه، ويظنُّ أنَّ الله خلق الخلق لهواً وعبثاً أو تفاخراً وتبختراً، ومنهم من يعلم أنَّ الله غنيٌّ عن عباده لا تنفعه طاعةٌ، ولا تضرُّه معصيةٌ، ولكنّه يستغرب تكليف المخلوقات بأوامر ونواهٍ، ومنهم من يعترف بالمصلحة المُتحصِّلة من التزام التشريعات الربَّانية، ولكنَّه يستنكر العبادات النسكيَّة الخالصة لله، ومنهم من يسلِّم بحقِّ الله تعالى في التنزيه والتبجيل، ولكنَّه يسأل عن الحكمة من خلق الله تعالى الغنيِّ لمخلوقاتٍ لا تضرُّه ولا تنفعه.

وتيسيراً لدراسة المسألة سنقسم المبحث للإجابة عن أربعة تساؤلاتٍ رئيسية:

  1. هل الله بحاجة لعبادتنا؟
  2. لماذا كلفنا بالأوامر الشرعية؟
  3. ماذا عن العبادات النُسُكية؟
  4. لمَاذا خَلَقَنا الله ابتداءً؟

التساؤل الأول: هل الله بحاجة لعبادتنا؟

((وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)) [آل عمران97]

يبرز الإشكال عند من يعترض على أصل الأوامر الإلهية من نظرته إلى أمر الله نظرةَ مشابهةٍ لأمر المخلوق، فهو يرى أنَّ كلَّ أمرٍ مردُّه حاجةٌ أو نقصٌ يريد الآمر أن يسدَّه، فإذا أمر الله البشرَ أن يعبدوه تبادر إلى ذهن المعترض أنَّ الله في عوزٍ وتنقصه العبادة كي تسدّ عنده حاجةً ما. 

يرى د. سامي عامري [أستاذ العقيدة والفِرَق والأديان، دكتوراه في الأديان المقارنة]: أنَّ مردّ هذه النظرة إلى “أنسنة الإله” أو وصفه بصفات البشر، وطالما أنَّ الإنسان لا يطلب إلا لحاجةً، فكذلك كلُّ فعلٍ يقوم به الإله مردُّه الحاجة أيضاً. [انظر كتاب لماذا يطلب الله من البشر عبادته -مركز تكوين- ص 14 – 15].

لذلك نجد أنَّ الخلل يكمن في تصوُّر الإنسان عن الله، فالله ليس كَمِثله شيءٌ، ولا يُقاس على فعله فعلٌ، فلا يليق أن نقيس أفعال الله على أفعالنا، وإن كانت المخلوقات تتحرَّك وتفعل وتطلب عن حاجةٍ أو نقصٍ، كسباً لخيرٍ أو دفعاً لشرٍّ، فهذا لا يعني أنَّ الخالق يأمر المخلوقات عن حاجةٍ وعِوزٍ، لذلك لا تعارض بين الألوهية وأصل الأمر الإلهي.

والمتأمِّل في آيات القرآن الكريم يجد آياتٍ لا تكاد تحصى، تتحدَّث عن استغناء الله عن العالمين:

((قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)) [سورة النمل :40]

 ((ذَٰلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا ۚ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ۚ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)) [سورة التغابن: 6]

((وَقَالَ مُوسَىٰ إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)) [سورة إبراهيم: 8] 

وفي الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الله تبارك وتعالى:

 ((يَا عِبَادِي! إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْت كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَته، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي! إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ)) [صحيح مسلم: حديث رقم 2577]

فغِنى الله عن العالمين ظاهرٌ وبيّن، يُعرف بداهةً وهو فطرةٌ لكلِّ إنسانٍ، وقد عزَّزت نصوص الكتاب والسُّنَّة الصريحة هذه الحقيقة بشكلٍ واضحٍ لا لبس فيه، وعندها يبرز السؤال الثاني:

التساؤل الثاني: إذا كان الله ليس بحاجةٍ لعبادتنا فلماذا كلَّفنا بالأوامر الشرعية؟

((إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ)) [الإسراء:7]

نعلم جميعاً أنَّه قد يطلب المربي ممن يربِّيه أمراً يرى فيه مصلحةً متحقِّقةً للمطلوب منه، وكذلك الطبيب حين يطلب من مريضه التزام الحمية، وتناول الدواء في وقته المحدَّد؛ فيكون طلب الشَّيء محض فضلٍ من الطالب إذ يريد نفع غيره، أو قد يكون أمره إحقاقاً للحقِّ كحال القاضي، إذ يغرّم أحد المتخاصمين حقَّاً يدفعه لخصمٍ دون أن ينتفع القاضي منه شيئاً.

 

والناظر إلى الأوامر الشرعيَّة، يرى هذه المصلحة متحقِّقة بجلاء؛ فبعدما علمنا أنَّ الله غنيٌّ عن خلقه، وأنَّه يتفضّل عليهم منّاً منه وإحساناً، عرفنا أنَّ تمام هذه النعمة تكون بهدايتهم إلى الطريق المستقيم الذي يحقِّق لهم حياةً مطمئنَّةً طيّبةً:

ومن ذلك قول بعض السلف: (إنَّ الله سبحانه لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عنه بخلاً منه، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عمَّا فيه فسادهم) فهو سبحانه لا يأمر إلا بالحقِّ.

ولهذا الأثر أصلٌ في كتاب الله تعالى، فنجد في العديد من الآيات ما يذكِّرُنا بأنَّ الهداية إنَّما هي لمصلحة المهتدي نفسه –سواءً في الدنيا أو في الآخرة– وأنَّ المُعرِضَ عن هدي الله هو المتضرِّر الأكبر من إعراضه، وأنَّه الخاسر في دنياه وآخرته، قال تعالى: 

((مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)) [سورة فصلت: 46]

 ((قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ)) [سورة الأنعام: 104]

((الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)) [سورة البقرة : 27]

ومن ذلك فإنَّ الفاجر يستريح منه أهل الأرض عند موته، وما ذلك إلا بسبب فساده وإفساده بالإعراض عن هدي الله.

وقد جاء في الحديث أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُرَّ عليه بجِنَازَةٍ، فَقالَ: ((مُسْتَرِيحٌ ومُسْتَرَاحٌ منه. قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما المُسْتَرِيحُ والمُسْتَرَاحُ منه؟ قالَ: العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِن نَصَبِ الدُّنْيَا وأَذَاهَا إلى رَحْمَةِ اللَّهِ، والعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ منه العِبَادُ والبِلَادُ، والشَّجَرُ والدَّوَابُّ.)) [صحيح البخاري: 6512]

وفي ذلك دليلٌ على أنَّ فجر الفاجر إساءةٌ في حقِّ نفسه وحقِّ المخلوقات الأخرى، أمَّا العبد المؤمن فيُقيم بشريعة الله الحقَّ في الأرض، فيعمُّ خيره البلاد والعباد، وتستغفر له المخلوقات جميعها، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم يقول:

 ((فضلُ العالمِ على العابِدِ، كفَضْلِي علَى أدناكم، إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وملائِكتَهُ، و أهلَ السمواتِ والأرضِ، حتى النملةَ في جُحْرِها، وحتى الحوتَ, ليُصَلُّونَ على معلِّمِ الناسِ الخيرَ)) [سنن الترمذي]

فبعد أن عرفنا غِنى الله سبحانه عن مخلوقاته، وعرفنا أنَّ شريعة الله تعالى ما كانت إلّا لإحقاق الحقِّ بين الناس، ربّما يخطر للسائل أن يسأل نفسه عن الحكمة من العبادات النُسُكيّة، وعن الحكمة من خلق الناس ابتداءً، وهذان تساؤلان مهمّان نجيب عنهما في المقالين القادمين بإذن الله تعالى.

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *