تعايش النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين

تعايش النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين

Loading

تعايش النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين

عندما تكون رسالة الإسلام رسالةً عالميةً فلا بدَّ أنَّ القواعد التي بنيت عليها ذات معالم واضحةٍ في الدعوة والتبليغ، ولها منهجٌ راقٍ يتبعه جميع الدَّعاة إليها، يتَّسم بالسماحة والرحمة والرأفة وحسن المعاملة حتَّى مع غير المسلمين.

 رسالةٌ تنطلق من دعوةٍ إلى خير كلِّ الناس بغضِّ النظر عن أيَّة اعتباراتٍ أخرى، لتؤكِّد أنَّ النَّبيَّ الكريم هو الرحمة المهداة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء107].

قاعدةٌ أساسيَّةٌ للدَّعوة إلى الإسلام، وهي أنَّها لا تكون إلَّا بالوسائل الصحيحة التي جمعها قوله تبارك وتعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[سورة النحل125].

ومن أهمِّ قواعدها، وليست آخرها: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص56].

وضع الله سبحانه وضع لنبيه صلَّى الله عليه وسلَّم منهجاً دعوياً ينطلق فيه من الحكمة التي أوحاها الله إليه في كتابه الكريم إلى الأسلوب الحسن بالنصح الهيِّن الليِّن دون إغلاظٍ ولا تنفير، عبر الترغيب في الخيرات والتنفير من الشرور والمنكرات، وإن وصلت إلى جدالهم فجادلهم يا أيُّها النبي بأحسن طرق المجادلة؛ بالحكمة والهدوء والموعظة الطيِّبة متمثِّلاً الرفق واللين.

 تنحصر مهمَّة الأنبياء والرسل بالتبليغ، أمَّا الهداية فعلى الله وحده، وهو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله، ولقد خاطب الله تعالى نبيَّه بأوضح الصور وأكثرها إيصالاً لمعاني اللين في التعامل والتعايش، مذكِّراً بـ ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ[159آل عمران].

يؤكِّد الله تعالى للنَّبي أنَّه برحمته لأصحابه وبمن حوله واحتماله لأذى من آذاه، وعفوه عن ذي الجرم بما أجرم، وغضُّه الطرف عن أخطاء الكثيرين، وغيرها من الأمور التي كانت سجيَّةً وطباعاً في أصحابها، ليكون له كمال الصفات من الخلُق الكريم، فأخبره بأنَّك يا محمَّد لو جفوت وأغلظت عليهم لتركوك، ولم يتَّبعك منهم الكثير، ولكن برحمة الله لنت لهم.

يدرك الصادق الأمين تلك القواعد القرآنية فيحوِّلها إلى منهجٍ عمليٍّ في حياته وتعاملاته مع كلِّ من حوله من المسلمين وغيرهم من أهل الذمَّة الذين يُخالفون المسلمين في المعتقد، فيبني علاقاته مع المسلمين وغيرهم على البرِّ والإحسان وحسن المعاشرة، ويدعو بأخلاقه وتعاملاته العملية قبل أقواله إلى بناء علاقةٍ أساسها التعايش السليم، وتجنٌّب منطق العداء، يستقي كلَّ ذلك من الرؤية الواضحة في القرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[سورة الممتحنة 8].

كلُّ ذلك وأكثر، ومثاله ما دعا إليه النَّبيُّ من احترام الميت منهم قبل الحيّ، فعن عبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْف، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالقَادِسِيَّةِ، فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ، فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّة، فَقَالاَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا.؟  [صحيح مسلم رقم 961].

كانت نظرة النَّبيِّ لكافرهم نظرة شفقةٍ ورحمةٍ، يتعايش معهم، ويتفاعل معهم بعيداً عن اختلاف الديانة والعقيدة، فقد كان يأخذ طعاماً من يهوديٍّ، ويرهن درعه عنده، وفي المقابل يبرم معهم المعاهدات، ولم يُجبِر أيَّ أحدٍ منهم على الدخول في الإسلام، رغم أنّه كان خائفاً على مصيرهم.

وعنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ!! فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: ” الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّار…[أخرجه البخاري في صحيحه]

تميَّزت الدَّعوة النبوية في المعاملة بالتي هي أحسن، تاركاً لهم الحُرّية الكاملة في اختيار الدين والعقيدة؛ فلا إكراه فيه، قال الله تعالى: ﴿فَمَن شاءَ فَليُؤمِن وَمَن شاءَ فَليَكفُر[الكهف29].

و يخطئ من يفهم أنَّ علاقة المسلمين بغيرهم مبنيَّةٌ على العنف والشدَّة، ونرى اليوم فهماً مغلوطاً وصوراً وأشكالاً سيئةً عن مسلمين يبيحون لأنفسهم القتل والتعنيف والقسوة مع كلِّ من يخالفنا في العقيدة، بل ويرون وجوب التنكيل بهم وقتلهم إن لم يؤمنوا، وفي هذا مخالفةٌ صريحةٌ للهَدي النَّبويِّ في معاملة غير المسلمين. 

رحمته في الجهاد

كيف لا والنَّبيُّ الأكرم يضع القواعد في التعامل مع غير المسلمين حتَّى في أرض المعركة ليُعلنها صراحةً: أن لا شيء عبثيٌّ في الإسلام، ولا بدَّ للمسلم أن ينضبط بالمعاملة الحسنة مع غير المسلمين في كلِّ الحالات والساحات حتَّى وإن كان في ساحة القتال معهم. وقد نهى عن قتل الضعفاء أو الذين لم يشاركوا في القتال من الكافرين؛ كالرهبان والنساء والشيوخ والأطفال، أو الذين أُجبروا على القتال، كالفلاحين والعاملين، ومن ذلك ما ورد عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا بعث أميراً على جيشٍ أوصاه في خاصَّة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً، وقال: “اغزوا بسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً.[الطبراني]، وفي روايةٍ أخرى: “لا تقتلوا وليداً، فهذا عهدُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وسنَّته فيكم“.

السماحة هديُه ومنهجُه، ويظهر ذلك الهدي النبوي جليَّاً واضحاً فيما كتبه إلى ملوكهم وزعمائهم؛ حيث تضمَّنت هذه الكتب دعوتهم إلى الإسلام بألطف أسلوبٍ وأبلغ عبارة، وكانت دعوة الكافر بالرفق واللين من أعظم القربات إلى الله؛ وقد شدَّد النَّبيُّ على أصحابه بأن يحفظوا حقَّ الْمُعاهَد، وهو مَن ارتبط مع المسلمين بمعاهدة، فقال : “مَن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا[رواه البخاري].

كيف لا وقد دعا إلى حسن جوار الكفَّار وعدم التعرُّض لأذيَّتهم، وسطَّر بسلوكيَّاته قبل أقواله أعظم الأمثلة في التسامح والعفو عند المقدرة، وليس أدلُّ على ذلك من قصَّة ثقيف، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشدَّ من يوم أحد؟ فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلَّا وأنا بقرن الثعالب _ميقات أهل نجد_ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، ولقد أرسل إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال وسلَّم عليَّ، ثمَّ قال: يا محمَّد، إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملَك الجبال، وقد بعثني ربُّك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟ إن شئتَ أن أُطبق عليهم الأخشبين “الجبلين”، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً[صحيح البخاري].

لقدْ أُوذِيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وابتُلِيَ في سَبيلِ هذا الدِّينِ أشَدَّ البَلاءِ؛ فقدْ رُمِيَ بالحِجارةِ، وأُدْمِيَ كَعْبُه، وشُجَّ رأسُه، ومع ذلك صَبَر وأشفَقَ على من فَعَلوا ذلك وعفَا عنهم؛ فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كما قال اللهُ تعالَى عنه: رحمةٌ مهداة، والرحمة لا ينبغي لها الانتقام ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء107].

ولقد عقد صلَّى الله عليه وسلَّم وثيقة تنظِّم العلاقة بين المسلمين وغيرهم عندما قدم إلى المدينة ليقيم فيها دولة العدالة دولة الإسلام فنظَّم صلَّى الله عليه وسلَّم الوثيقة بين أهل المدينة على أربعة محاور:

1- التعايش السلمي بين الجميع، وتوفير الأمن للجميع قال: “أنَّه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلَّا من ظلم وأثم، وأنَّ الله جارٌ لمن برَّ واتَّقى”، وقال: ”وأنَّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم”.

2- المحافظة على الحرية الدينية للجميع قال: “وأنَّ لليهود دينُهم وللمسلمين دينُهم”.

3- إعطاء الفرصة للجميع في المشاركة الاجتماعية والسياسية والعسكرية بصورةٍ عادلة.

4- إقرار مبدأ المسؤولية الفردية، وقد جاء فيها: “إنَّه لا يكسب كاسبٌ إلَّا على نفسه، وأنَّ الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرِّه. وأنَّه لا يأثم امرؤٌ بحليفه، وأنَّ النصر للمظلوم”.

وإن استعرضنا السيرة العطرة بكلِّ مواقفها وتفاصيلها وتعاملاته صلَّى الله عليه وسلَّم مع المشركين وغير المسلمين فلن تجد أبلغ من صورة رحمته بأعدائه فيما حدث يوم فتح مكَّة.

أعوامٌ وسنواتٌ عجاف يُثخن فيها المشركون بالمؤمنين، فيذيقونهم شتَّى أنواع العذاب ليخرج بعدها المسلمون من بلدهم مقهورين، ويعودوا في يوم الفتح الأكبر بتمكينٍ من الله تعالى وهم قادرون على الانتقام دون أن يلومهم في انتقامهم أيُّ أحد، ولكنَّ سماحة الرسول الكريم تصل إلى أرقى درجاتها، فيقول لهم، وهو القادر عليهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء“، وأعلنها صريحةً واضحة: “اليوم يوم المرحمة“.

ذلك هو منهج الإسلام الصحيح، وما سواه ليس من منهج النَّبيِّ الكريم، فسلوكيَّاته صلَّى الله عليه وسلَّم هي الضابطة لنا ولما يجب أن ننتهجه في التعامل مع المسلمين وغير المسلمين.

صلَّى الله عليك، يا رحمةً مهداةً للعالمين كافَّةً، وللبشرية جمعاء.

زياد الوتار

بقلم: أ. محمد زياد الوتار

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *