الدعوة إلى الأخلاق ونبذ الدين
الدعوة إلى الأخلاق ونبذ الدين
قد تنادي بعض الأصوات بإنشاء الأجيال على الأخلاق، وإبعادهم عن الدين؛ لأنّ الدين بنظرهم ينافي الحياة الراقية، وهو مصدر الهمجيّة، وسبب الفتن، وسفك الدماء.
ينبع هذا الكلام في الحقيقة من الجهل بالدين، فلا يستند إلى شيء من الصدق والموضوعية، وإليك ما يقابل هذا من أقوال أساطين المعرفة والمنهجية العلمية، من الغربيين الذين درسوا الإسلام بعمق:
تقول عميدة الاستشراق أ. د. أنّا ماري شمل: (المرء عدو ما يجهل …الواقع أنّ الجهل يورث الكراهية والبغضاء…ولا يحسبنّ أحد أنّ احتشاد وسائل الإعلام بالمنشورات والمؤلفات والبرامج والندوات كافٍ لجلاء غموض ما نجهل… وقد يؤدي هذا إلى تشويه حضارة ما، أو تقديم صورة مزيفة لها، فتنبعث الحزازات والحساسيات الفكرية الضارية.
ينطبق هذا خاصة على صعيد الأديان، والإسلام مَثَلٌ نمَطيٌّ لتلك التأويلات الظالمة المشوّهة، كما نعهد في لوحات فناني القرن التاسع عشر الغربيين، الذين شغفوا بتصوير المسلمين …برابرة، غير متحضرين، محاربين، شاهري السيوف… وكما نعهد اليوم، إذ تقفز إلى الأذهان عند ذكر كلمة الإسلام صورة فقيه ملتحٍ متزمّت، أو صورة إرهابي وقح منحطّ لا وازع له، والحقّ إنّ تلك اللوحات وهذه الصور اليوم تستندان إلى التأويل الظالم، والشرح الأثيم والذي يستطيع كلُّ من درس الحضارة الإسلامية أو خالط المسلمين أن يصوّبه ويُبيّن خطأه وفساده) [الإسلام كبديل د. مراد هوفمان: (9) مقدمة أ. د. أنّا ماري شمل].
وقال المستشرق ميشون: (وإنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون من المسلمين روح التعامل وفضائل حسن المعاملة، وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند شعوب الأمم، كل ذلك بفضل تعاليم نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ) [هؤلاء المثقفون اختاروا الإسلام: (9)].
وقال المستشرق الإنكليزي إدوار لين: (فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم جاء بالأخلاق، وهي أخلاق عاشت وستظل إلى يوم البعث قائمة، ولن ينال المغرضون الكارهون لنبي الإسلام منه شيئاً، وسيظل الإسلام شامخاً بقرآنه وبالنبي محمد صلى الله عليه وسلم رغم أنف الكارهين ) [هؤلاء المثقفون اختاروا الإسلام: (13)].
وإنّ ما يدّعيه أولئك من أن الإسلام مصدر سفك الدماء والفتن ليس وليد اليوم والليلة، بل هو ادّعاء قديم، منذ عهد الحملات الصليبية، فقد نسب الصليبيون جرائمهم ووحشيّتهم إلى الإسلام وهو منها براء، قال جون وبستر الإنكليزي الذي أسلم: (يظهر أنّ الغرب المسيحي قد تآمر منذ الحروب الصليبية على التزام الصمت تجاه محاسن الإسلام، وحاول تشويه مبادئه بطريقة مُتَعمَّدة كلما تحدّث عنها ) [هؤلاء المثقفون اختاروا الإسلام: (73)].
وهذا الأسلوب في نقل صورة الذات المشوّهة إلى الطرف الآخر واتّهامه بها، يسمّى في علم النفس بـ(الإسقاط) وهو حيلة دفاعية من الحيل النفسية، وعملية هجوم يحمي الفرد بها نفسه بإلصاق عيوبه ونقائصه ورغباته المحرمة أو المستهجنة بالآخرين.
ومن ثمّ فإنّ تلك الدعوة التي تبعد الأخلاق عن الدين تعني باختصار: وجوب التخلّي عن الفضائل والمكارم، والاتّصاف بالنفاق والانغماس في المادّية البعيدة عن الروح والقلب.
فالغرب يتبنّى نظريّة المصلحة (النفعيّة العمليّة) أو البراغماتية في حياته وأخلاقه، ومعيار المصلحة والأخلاق عندهم يكون باعتبار الثمرة الحاضرة، فيجعلون كلّ تصرّفاتهم وسلوكهم وسائل لتحقيق المنفعة الشخصيّة، والأخلاق لديهم متغيّرة ليست ثابتة، تابعة وليست متبوعة، كلّ ذلك حسب ما تقتضيه المصلحة الشخصيّة والأنانيّة. [انظر: قصة الفلسفة من إفلاطون إلى جون ديوي: (623) ول ديورانت ترجمة د. فتح الله محمد المشعشع – دار المعارف – بيروت ط6]
ولا ينبغي أن تخدعنا بعض المظاهر التي نجدها عندهم من انضباط في المواعيد، واحترام النظام، وغير ذلك؛ لأنهم يقومون بهذا السلوك من باب المنفعة والمصلحة الشخصية والمادية والنفاق، وليس من وازع إيماني؛ لذا لا نجد في أخلاق الغرب برّ الوالدين، ولا صلة الرحم، ولا إغاثة الملهوف، ولا الإحسان إلى الفقير والمسكين والضعيف؛ لأن هؤلاء لا يُجنى من الإحسان إليهم مصلحة.
وأمّا الرذيلة فإذا كانت تحت رقابة القانون ومسؤوليته فإنّهم يبتعدون عنها، وإذا لم يكن فيها مساءلة قانونية، فلا مانع لديهم من ارتكاب أعظم الجرائم وأشنع الوحشية.
ففي شهر آذار عام 1993 م كان أحد جنود البعثة الكندية لقوات الأمم المتحدة في الصومال المعنيّة بحفظ السلام قد استدرج شاباً صومالياً إلى المعسكر اسمه: (شيدان مارون) لا يتجاوز السادسة عشر من العمر، وأدخله إلى خيمة خاصة بالتعذيب، وأخذت مجموعته مع قائدهم يتفننون باغتصابه مع تعذيبه وإيذاء جسده، وكان هذا الشاب يصرخ ويستنجد، وصار ينادي كَندا كَندا ليستعطف قلوبهم، ويستثير حبهم لبلادهم وإنسانيتها وإنسانية الأمم المتحدة، ولكن لا حياة لمن تنادي، وبقي تحت قسوة التعذيب والاغتصاب عشر ساعات، حتى قضى نحبه بين أيديهم ووجدوه متناثر الجسد والأعضاء.
وقد صوّروا هذه الجريمة بأنفسهم، واللافت للنظر أن كلّ واحد منهم كان حريصاً على أن يظهر في الفيديو وآلات التصوير التي تلتقط المشاهد بدقة، والتي إذا وصلت إلى القضاء ستدينهم وتثبت جرائمهم.
وقد استطاع أحد الصحفيين الحصول على مجموعة من الصور ونسخ من شرائط الفيديو، وأرسلها إلى الحكومة العسكرية العليا بكندا، وبعد المحاكمة خرج هؤلاء الجنود وقائدهم براءة، بحجة أنهم فعلوا ذلك بحالة غير إرادية؛ لأن ذلك في مفهوم حضارتهم لا يشكل جريمة .
لقد كان جنود البعثة على اطّلاع بأن القانون لا يُعاقبهم على هذه الجريمة، فحرصوا على أن يظهروا في شريط الفيديو، وقاموا بتلك الوحشية ؛ لأن الفقراء والضعفاء وشعوب العالم الثالث لا قيمة لهم، ولا عقوبة على الجرائم التي تُرتَكب في حقهم، وهذه ليست هي الحالة الوحيدة، بل هناك عشرات الحالات كانت على شاكلتها [انظر: الشرائع والأخلاق بين الحضارة والانحطاط: (286)].
وقد أحدثت مصالح الدول الغربية العظمى والسياسية معسكرات للأطفال في ليبيريا، وأنغوليا، ورواندا، والسودان، والصومال، وكمبوديا، وأفغانستان، وغيرها في البلدان المماثلة لها في الفقر وسوء الأوضاع في بقاع العالم لغايتين:
1- بيع الأطفال أرقاء، أو بيع أعضائهم قطعاً بديلة بشرية.
2- تدريب الأطفال على استعمال السلاح والقتل لأغراض سياسية، حيث يخططون لتدمير الشعوب في المستقبل، فينشؤون هؤلاء الأطفال لتنفيذ مهام مختلفة، كإثارة الفتن والاقتتال بين دول وشعوب العالم الضعيف والنامي، وذلك بعد نزع الإنسانية من صدورهم وتعطيل عقولهم، حيث يكافئون من يقوم بقتل مَن يأمرونهم بقتله برفع رتبته، وقد وصل الأمر إلى أن كلّفوا أحد الأطفال بقتل عائلته ففعل، وكافؤوه على ذلك بأن جعلوه قائداً على مجموعته [انظر: الشرائع والأخلاق بين الحضارة والانحطاط: (298)].
وفي ظل الحضارة والتقدم العلمي والتكنولوجي لدى الدول الصناعية الغربية نما العملاق المادّي نموّاً أحدث فراغاً روحياً ونفسياً لدى شعوب هذه الدول، مما أتاح لليهودية إنشاء عصابات المافيا الإجرامية والطوائف الشاذّة المتعددة، وتأسيس معسكرات ومراكز انطلاق لانتشارها وتصديرها للشعوب وإقامة شركات للتجارة بالأطفال والأعضاء البشرية.
وهكذا باتت الدول الكبرى وشعوبها وشعوب العالم كله مرتعاً خصباً لأعمال العنف، والقتل، والتفنن في طرق وأساليب تنفيذها، والانتحار الإفرادي والجماعي، وانتشار الجرائم، حيث تحدث كل 1 ثانية مئة ألف جريمة في العالم .
إنّ هذه الأخلاق التي ينادى بها، ما هي إلا أخلاق المظاهر والنفاق، والمصلحة والمادية، بل الهمجية وشريعة الغاب.
وإذا عدنا إلى الأخلاق التي جاء بها الإسلام، نجدها بلغت شأواً سامقاً، لا يمكن أن يطالها فكر مفكّر، ولا حكمة فيلسوف، ولا إنسانية من ينادي بالإنسانية.
ولنذكر ميّزتين من ميّزات الإسلام في هذا الجانب:
الميزة الأولى: أمَرَ الإسلام بالأخلاق والفضيلة لذات الخير، دون النظر إلى المصلحة الدنيويّة المتوخّاة منها، ودون النظر إلى من يقع عليه الخير، حتّى ولو كان عدوّاً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]
أي لا يحملنّكم بغضكم لقوم على ظلمهم، فيجب أن تقيموا العدل مع الجميع حتّى مع الأعداء والكفار [انظر: تفسير أبي السعود: (3/ 12)] والأحاديث النبويّة، والأمثلة الواقعيّة في تاريخ الإسلام التي تؤكّد هذا أكثر من أن تحصى.
الميزة الثانية: أنّ الأخلاق عند المسلمين تنبع من روح الإيمان، لا من رقابة الرقباء، ولا من عقوبة القانون كما هو عند الغرب، ولعلّ صورةً واحدةً من ملايين الصور المشرقة تستطيع أن تعبّر عن هذا المعنى في حياة سلفنا الصالح، فقد كان ابن عمر رضي الله مسافراً، وفي وقت الهاجرة نزل في البادية ليأخذ قسطاً من الراحة، ووضع الطعام، فرأى مملوكاً يرعى الغنم فدعاه ابن عمر ليأكل معه، فقال الراعي أنا صائم، فقال له تصوم في شدة الحرّ؟ فقال أريد أن أعوّض عن أيامي الخوالي، فأراد ابن عمر أن يختبر إيمان الراعي، فقال له بِعنا شاة نأكلها ونعطيك ثمنها، وتأكل من لحمها عند فطرك، فقال له الراعي: الأغنام ليست لي وإنما هي لمولاي، فقال له ابن عمر قل لمولاك أكلها الذئب، فصرخ الراعي فأين الله فأين الله [انظر هذه القصة في: التبصرة لابن الجوزي: (2/250)، لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي: (323)].
إنها صورةٌ مشرقةٌ عن أثر الإسلام في غرس القيم والأخلاق، ومراقبة الله تعالى، رسمها رجلٌ مملوك يرعى الغنم بين الشعاب، في الصحراء الشاسعة بعيداً عن أعين الناس، لكنَّ قلبه يرى الله تعالى في كل تصرفاته، فأطلقها صرخةً مدويةً ملأت الصحراء فأين الله فأين الله.
قال السياسي الباحث الاجتماعي الألماني محمد أمان هوبوهم: (وهنا يأتي الدور العظيم الذي حققه الإسلام، فهو الدين الوحيد الذي استطاع أن يغرس في نفوس من اتّبعوه الشعور بمراعاة حدود الآداب والأخلاق دونما حاجةٍ إلى سلطان قاهر غير ضمائرهم؛ لأن المسلم يؤمن أنه حيثما كان فهو في دائرة رقابة ربه، وهذا ما يردّه عن ارتكاب المعاصي) [لماذا أسلمنا: (52)].
أنّى للمادية والمصلحية والنفعية من هذه المعاني الراقية السامية، بل إنّ فكرهم لا يمكن أن يتصورها، وإن أخلاقهم وسلوكهم عند غياب الرقيب، أو عدم ملاحقة القانون لا يخرج عما فعله جنود البعثة الكندية من الاعتداء على الشاب الصومالي، وتعذيبه، وقتله، وتبرئة القضاء للمجرمين.
هاتان الميزتان تنطقان بالحقائق وتلخّص الفرق بين الأخلاق في ظل الدين والأخلاق عند غياب الدين.
No comment yet, add your voice below!