رحمته ﷺ بالأطفال

رحمته بالأطفال
رحمته بالأطفال

رحمتُهُ ﷺ بالأطفال

Loading

رحمته في الجهاد

الطفل مشروع الأسرة والمجتمع الناجح، ولن يكون النتاج رجلاً ناجحاً أو امرأةً ناجحةً إلَّا إذا مرَّت طفولته بمراحلها الطبيعية.

ومع تعالي الصيحات التي تنادي بحقوق الأطفال، وضرورة تطبيقها ونشرها في المجتمع، ومع ازدياد المنادين باستخدام أساليب التربية الحديثة، ونبذ طرق التربية القديمة التي لم تحقِّق نتائج مرضيةً، نتساءل: لماذا يزداد العنف ضدَّ الأطفال؟

ولماذا يزداد عدد الأطفال في مراكز الرعاية كلَّ يومٍ بسبب تخلِّي أهلهم عنهم، أو لأنَّهم فاقدو المعيل؟

لماذا تشير تقارير الأمم المتَّحدة إلى وجود العديد من الأطفال الذين يتمُّ استغلالهم سنوياً لأمورٍ غير مشروعةٍ،  مع حرمانهم من التعليم؟ 

أشار تقرير اليونيسكو الصادر حديثاً في الأوَّل من أيلول عام 2022، وأفاد تقرير الأمم المتَّحدة بين عامي 2016، 2020 إلى ارتفاع عدد الأطفال العاملين إلى 160 مليون طفل، وهي أعلى نسبةٍ سُجِّلت عبر التاريخ. وإنَّ أكثر من 240 مليون طفلٍ حول العالم محرومون من حقِّ التعليم.

فهل يُعتبر مفهوم التربية الحديثة، وتطبيق حقوق الطفل نتاجاً للمدنيَّة، ولم يعرفه البشر من قبل؟

أم أنَّ البشرية جرَّبت طريقةً ناجحةً للتَّعامل السَّليم مع الأطفال ليكبروا ويكونوا مُصلحين في مجتمعاتٍ هي اليوم أحوج ما تكون إلى الإصلاح.

الرحمة… هي الكلمة الأجمل عندما نبحث عن طريقةٍ عمليَّةٍ للتَّعامل الصحيح مع البشر جميعاً، ومع الأطفال خاصَّةً…

الرَّحمة التي تجلَّت في أروع صورها في تعامل نبيِّ الرَّحمة مع الأطفال، حيث نجد في السيرة النبوية مواقف عديدةً مع أطفالٍ من مختلف الأعمار والبيئات، ذكوراً وإناثاً…

 ولن نستطيع أن نقول بعد أن نقرأ هذه المواقف إلَّا ما قاله تبارك وتعالى:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107].

يقول أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه: “خرج علينا النَّبيُّ وأُمامة بنت العاص على عاتقه فصلَّى، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها[رواه البخاري]، فهو لا يصبر على بكاء حفيدته، فيحملها حتَّى في  الصلاة، بل إنَّ رحمته كانت تجعله يطيل أو يُقصِّر صلاته بحسب حاجة الأطفال.

يقول عبد الله بن شدَّاد بن الهاد عن أبيه: “خرج علينا رسول الله في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حَسَنًا أو حسينًا، فتقدَّم رسول الله فوضعه ثمَّ كبَّر للصلاة، فصلَّى فسجد بين ظهراني صلاته سجدةً أطالها، قال أبي: (أي شدَّاد بن الهاد) فرفعتُ رأسي، وإذا الصبي على ظهر رسول الله وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلمَّا قضى رسول الله الصَّلاة قال الناس: يا رسول الله إنَّك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدةً أطلتَها حتَّى ظننَّا أنَّه قد حدث أمر، أو أنَّه يوحى إليك، قال: “كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ [رواه النسائي]

فنجد الرحمة سمةً أساسيَّةً في تعامله مع الأطفال بمختلف أعمارهم دون تفريقٍ بين ذكرٍ وأنثى.

بل إنَّه عندما دخل مكَّة فاتحاً استقبله الأطفال، فلم يمنعه الموقف المهيب، ولا الوضع العسكريّ الخطير، أن يتلطَّف معهم، بل ويحملهم… يقول سيِّدنا عبد الله بن عباس: “لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ مَكَّةَ اسْتَقْبَلَتْهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَآخَرَ خَلْفَهُ[رواه البخاري]

ومن استعرض السيرة النبوية العطرة فسيجد فيها قصصاً كثيرةً عن تعامله مع الأطفال، ورحمته بهم، ورفقه بهم.

وأختم بقصَّة رائعةٍ تشعُّ رحمةً ورفقاً:

قصَّة صغيرٍ مات طيره الذي يلعب به، وكأيِّ طفلٍ يتعلَّق بلعبته ويحبُّ من الناس أن يشاركوه مشاعر حزنه لأنَّ الأمر فاجعةٌ كبيرةٌ بالنسبة له، فنجد النَّبيَّ الرَّحيم رئيس الدولة وصاحب الأعباء الكثيرة يجلس بقربه ويواسيه ويداعبه وكأنَّ مشاغل الدنيا انتهت، ولم يبق فيها إلَّا وقتٌ لجبر خاطر هذا الصغير الذي يحتاج كلمة تضمِّد قلبه الحزين. ويروي لنا القصَّة مَن شاهد أحداثها بحوارٍ لطيفٍ جرى بين النَّبيِّ الرَّحيم والطِّفل الصغير:

(عن أنسٍ رضي الله عنه أنَّ ابناً لأمِّ سليم صغيراً، يُقال له أبو عمير، وكان له نُغير (طيرٌ صغيرٌ) وكان رسول الله إذا دخل عليه ضاحَكَه فرآه حزيناً فقال: (ما بال أبي عمير)، قالوا : يا رسول الله مات نُغَيره، قال: فجعل يقول: (يا أبا عمير، ما فعل النُّغير) [مسند الإمام أحمد]

وهنا نتوجَّه بسؤال المحاور المتسائل: هل ترى هذه الرَّحمة بالأطفال التي لم تكن قبل ميثاق حقوق الطفل؟ وهل ترانا لو طبَّقنا هذه الرَّحمة مع أطفالنا هل ستكون تربيتُنا لهم حديثةً أم تقليديَّة؟

هل يخطر ببال من قرأ عن رحمة النَّبيِّ أن يُسيء وهو الرحيم العطوف إلى طفلٍ أو  يتصرَّف بما فيه أذيَّته؟  

رحمته ﷺ مع النساء

رحمته مع النساء
رحمته مع النساء

رحمتُهُ ﷺ مع النّساء

Loading

رحمته في الجهاد

((استَوصوا بالنِّساء خيراً)) [صحيح البخاري]، الوصية الخالدة التي تحمل بين طيَّاتها كلَّ معاني السعادة لكلِّ امرأةٍ في هذا العالم… صدرت تلك الوصية بالخير ممَّن عامل نساءه بكلِّ خيرٍ، سواء كنَّ بناتٍ، أو زوجاتٍ، أو محارم، أو أيّ  امرأةٍ عرفته .

المرأة كائنٌ يميل إلى الرِّقة حتَّى يظنَّ البعض أنَّه يسهل استضعافها، فنجد هذه الوصية تقف بالمرصاد لكلِّ من تسوِّل له نفسه أن يستغلَّ رقَّة المرأة وضعف بنيتها، وهذا ليس نقصاً فيها بل هو من أدوات وظيفتها في هذه الحياة، لذا نجد هذه الوصيَّة تتكرَّر بألفاظٍ متعدِّدةٍ ومواقف كثيرة… والسبب هو رغبته  في تأكيدها وتعميقها في النفوس.

(جاء في كتاب “عالمٌ جديد” لفيدريكو مايور):

  • حوالي 880 مليون أُمِّيّ في العالم هم من النساء.
  • ويوجد بين كلّ ثلاث نساءٍ واحدةٌ لا تعرف القراءة والكتابة.
  • وفي مجال الصحة والغذاء: تموت حوالي 600 ألف امرأةٍ كلَّ عامٍ نتيجة المضاعفات المرتبطة بالحمل والوضع كما جاء في تقرير منظَّمة الصّحّة العالمية في شباط 1997م.
  • وإنَّ  70 %من فقراء العالم هم من النساء.

ووفقا لدراساتٍ أُجريت في تشيلي والمكسيك وكوريا فإنَّ ثلثي النساء على الأقلّ تعرَّضن خلال حياتهنَّ لصورةٍ من صور العنف المنزليّ، وهو السبب الرئيسيّ وراء انتحار النساء) انتهى.

كلُّ هذا يدفعنا إلى تقدير تكرار الوصية بالنساء، ومعرفة أنَّها لم تأت عبثاً من نبيٍّ رحيمٍ بأمَّته.

 ((استوصوا بالنساء خيراً)) [رواه البخاري].

استوصوا بهنَّ خيراً فلا يؤخذ لهنَّ حقٌّ.

استوصوا بهنَّ خيراً فلا يتعرَّضن لإهانةٍ.

استوصوا بهنَّ خيراً في المعاملة بالمعروف.

هنَّ شقائق الرجال، فزيدوا في إكرامهنَّ.

وقد يقول قائل: هذا كلامٌ نظريٌّ كلُّنا نقوله، ولا أحد يستطيع تطبيقه، ولكنَّنا نجد تطبيقه بشكلٍ عمليٍّ في بيوت النَّبيِّ بشهادة نسائه.

فقد كان يُجالسهنَّ، ويُمازحهنَّ، ويستمع إليهنَّ، ويُساعدهنَّ، ويقضي ما يستطيع من حاجاتهنّ، وهو من هو : ((خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) [رواه الترمذي]

لن نستطيع تفصيل جميع المواقف عن رحمته بالنِّساء لكثرتها، وسنكتفي ببعضٍ منها نلمس من خلالها رحمته ولطفه ورقَّته ، ومنها ما رواه البخاريّ عن أنسٍ رضي الله عنه: ((كانت الأمَة من إماء أهل المدينة لَتَأْخُذ بيد رسول الله فتنطلق به حيث شاءت)) [رواه البخاري]، أي كانت الطفلة الصغيرة تريده ليقضي لها أمراً وهو رئيس الدولة وحاكمها وصاحب المشاغل الكثيرة، ولولا علمهنَّ بحسن خلقه ما تجرأن على هذا الفعل.

وأمر بالرِّفق عامَّةً، وبالنِّساء خاصَّةً، فقال : ((ما كان الرِّفق في شيءٍ إلَّا زَانَه، ولا نُزع من شيءٍ إلَّا شانه))، وقال: ((إنَّ الله رفيقٌ يحبُّ الرِّفق، ويعطي على الرِّفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه)) [رواه مسلم]. وعن أنسٍ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ كان في سفر، وكان غلامٌ يَحْدُو بِهِنَّ يُقَالُ لهُ: أنجشة، فقال النَّبيُّ : ((رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ، سَوْقَكَ بِالقوارير(النساء))) [رواه البخاري].

قال قَتادة: “يعني ضَعَفة النِّساء“، وقال النوويّ: “ومعناه: الأمر بالرِّفق بهنّ…

أي: ارفق في سوقك بالقوارير، قال العلماء: سمَّى النساء قوارير، لضعف عزائمهنَّ، تشبيهاً بقارورة الزجاج لضعفها، وإسراع الانكسار إليها ” فياله من تشبيهٍ يملأ قلب كلِّ امرأةٍ بشعور الحبِّ لمن يقدِّر رقَّتها وأنوثتها.

ومن لطفه وحسن عشرته بزوجته أنَّه كان يشرب من موضع شربها، ويُثني عليها، ويُصرِّح بحبِّه لها، ويخرج معها، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كنتُ أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النَّبيّ فيضع فاه على موضع فيّ فيشرب، وأَتَعَرَّق العَرْقِ [أي آخذ بأسناني العظم الذي بقي عليه شيءٌ من اللحم]، وأنا حائض ثم أناوله النَّبيَّ فيضع فاه على موضع فيّ)) [رواه مسلم].

وقال : ((إنَّك لن تنفق نفقةً إلَّا أُجِرت عليها، حتَّى اللقمة ترفعها إلى فِّي امرأتك)) [رواه البخاري].

 ويُثني على عائشة رضي الله عنها فيقول: ((إنَّ فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) [رواه مسلم]، ويقول عن خديجة رضي الله عنها: ((إنِّي رُزِقتُ حُبَّها)) [رواه مسلم]، وكان ((إذا كان بالليل سار مع عائشة رضي الله عنها يتحدَّث معها)). [رواه مسلم].

لقد أرشد النَّبيُّ  أُمَّته إلى ما ينبغي أن تكون عليه حسن العشرة الزوجية بقوله وفعله، والثابت عنه في هذا الباب أحاديث ومواقف كثيرة، قال ابن كثير: “وكان من أخلاق النَّبيِّ  أنَّه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطَّف بهم، ويوسعهم نفقةً، ويضاحك نساءه… إلى أن قال: “وكان يجمع نساءه كلَّ ليلةٍ في بيت التي يبيت عندها فيأكل معهنَّ العَشاء في بعض الأحيان، ثمَّ تنصرف كلُّ واحدةٍ منهنَّ إلى منزلها. وكان إذا صلَّى العِشاء دخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك  .

وقد قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً[الأحزاب:21].

فالرَّحمة منه طبعٌ وسجيَّةٌ، وليست تكلُّفاً ولا تظاهراً.

لذا نجدها تشعّ في كلِّ تصرُّفاته، ومع كلِّ من يحيط به من صديقٍ أو عدو، كبير أو صغير، رجلٍ أو امرأة، قريب أو بعيد…

كيف لا، وهو الرَّحمة المهداة لهذه الأمَّة… فأحرى بنا أن نتعلَّم منه، ونقتدي به حتَّى تنعكس الرَّحمة خيراً على مجتمعاتنا وفرجاً بعد ضيقٍ لأحوالنا…

نسأل الله أن يرحمنا، ويرحم بنا. 

رحمته ﷺ في التشريع

رحمته ﷺ في التشريع
رحمته ﷺ في التشريع

رحمتُهُ ﷺ في التشريع

Loading

رحمته في التشريع

إنّ النَّبيَّ محمَّداً مَظهرٌ من مظاهر رحمة الله تعالى، وقد شملت رحمته  جميع جوانب الحياة، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107]، وقال عن نفسه: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» [مصنف ابن أبي شيبة والدارمي، وفي صحيح مسلم حديث آخر بلفظ: «وإنما بعثت رحمة»].

وسنتناول في هذا المقال جانباً من جوانب رحمته  وهي رحمته في التشريع، ورغبته في التخفيف والتيسير ورفع الحرج عن أمّته.

ولا يمكن أن نستقصي رحمته في مجال التشريع ونحيط بهذا الجانب العظيم، وسنكتفي بإضاءاتٍ ونُبَذٍ في جانب العبادات والأضحية والنذور، وإليك البيان:

1- في الطهارة والصلاة:

أ- كان النَّبيُّ رحيماً بأمَّته يُؤثِر التخفيف والتيسير في الأحكام، ولا يحبُّ إيقاع المشقّة والحرج عليها، حتّى لو كان في المشقّة مزيدٌ من الأجر والثواب، وإذا جاز أن يقع الحكم بين الوجوب والندب فيؤثر الندب، حتَّى لا يُلزم أمَّته بالأشقّ، وكان هذا طبعه (ما خُيِّر رسول الله ﷺ بين أمرين، أحدهما أيسر من الآخر، إلَّا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً).

 ومن هذا التيسير والتخفيف المنبثق من رحمته في التشريعات التي شرعها عن ربّه: عدم إيجاب الوضوء لكلّ صلاة ما لم ينتقض، مع أنّ الوضوء لكلّ صلاة هو الأفضل والأكمل، وعدم إيجاب السواك عند الصلاة، مع شدّة الترغيب فيه، وعدم تأخير صلاة العشاء إلى نصف الليل، مع أنّ التأخير هو الأفضل؛ فلم يشأ أن يوجب ذلك على الأمَّة، بل آثر التخفيف ورفع المشقّة عنها بأن تكون تلك الأفعال مندوبةً لا واجبة، فقال : «لولا أن أشقّ على أُمَّتي لأمرتهم بالوضوء عند كلِّ صلاة، ومع كلِّ وضوء سواك، ولأخّرت العشاء إلى نصف الليل» [أخرجه الشافعي في مسنده، وأحمد، والطيالسي، واللفظ للطيالسي].

ب- الحكم بطهارة سؤر الهرّة:

مع شدّة اهتمام الإسلام بالطهارة والتحرُّز من النجاسات بأنواعها، وكون الطهارة هي الشرط الأول للصلاة، إلّا أنّ الهرّة أمرها مختلف، فنجد النَّبيَّ قد أخرجها عن القاعدة العامة، مع أنَّها تأكل الفئران، ويغلب على فمها النجاسة، ومع ذلك فقد حكم النَّبيُّ  على سؤرها بالطهارة ما لم نتيقن نجاسة فمها، وسبب ذلك أنّ الحكم على أمر الهرة يتنازعه جانبان، جانب التحرّز من النجاسات، وجانب الرحمة بالحيوان.

فإذا رُجّح جانب التحرّز من النجاسة، فسيتجنّبها الناس ويغطّون آنيتهم، والهرة تعيش في البيوت، وربّما احتاجت إلى شرب الماء ولم تجد ما يبلّ كبدها فيصيبها العطش، فعفا النبيّ عن نجاسة سؤرها ما لم تكن مُتيقنة، مراعاةً لجانب الرحمة بالهرّة؛ لأنَّها كثيرة الطواف بالبيوت، وتحتاج إلى الماء والطعام، وليس من أصول الشرع ولا من دَيدنه أن يحرم الحيوانات من طعامها أو شرابها، فحكَم على سؤرها بالطهارة؛ لذا علَّل النَّبيُّ  عدم نجاستها بعلَّة الطواف على البيوت، فقال: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ والطوافات» [الموطأ، أحمد، أبو داود، النسائي، الترمذي].

وإذا عدنا إلى علَّة عدم نجاسة سؤر الهرة -وهي الطواف- كما أومأ إلى ذلك النَّبيُّ  نجد هذه العلَّة غير مناسبة، فلا علاقة بين الطواف وعدم النجاسة؛ لأنَّ النجاسة أمرٌ محسوسٌ والطَّواف حال، والحال لا يعلَّل به، ولم يُعهد من الشرع أن الطواف ينافي النجاسات.

فكان الحكم بطهارة سؤر الهرّة يخالف القياس من باب تغليب قاعدة الرحمة على أصول الأحكام الفقهية.

فالهرَّة من الحيوانات الأليفة التي تعيش في البيوت، فكان على أهل البيت الذي تدخله أن يحسنوا إليها لأنّ النَّبيَّ شبّهها بالسائل والمحتاج، وقد خفَّف النَّبيُّ في حكمها تشجيعاً لإكرامها، وحكم على سؤرها بالطهارة ليطمئنّ أهل البيت الذي تدخله ولا تنفر نفوسهم منها، فكان ذلك من رحمة النَّبيِّ  في التشريع.

قال الخطَّابي في هذا الحديث: (شبَّهها [] بمن يطوف للحاجة والمسألة، يريد أنّ الأجرَ في مواساتها كالأجر في مواساة من يطوف للحاجة ويتعرّض للمسألة) [معالم السنن: (1/41)]. 

 وهذا التخفيف يتناول جانبين: جانب الهرّة لتلاقي العناية والرعاية والطعام والشراب، وجانب المكلّفين ليرفع عنهم الحرج في التعامل معها.

ب- تخفيف النَّبيِّ  صلاة الجماعة حتَّى لا يشقّ على أمَّهات الصبيان:

إنّ النبي  يجد أعظم حالةٍ من السعادة ومنتهى الراحة في صلاته ومناجاته لربّه، والشعور بتلك الحالة الإيمانية من الخشوع؛ لذا قال: «وَجُعِلَت قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» [أحمد والنسائي]، وكان إذا أمر بإقامة الصلاة قال: (يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها) [أبو داود].

فكان يحبّ أن يطيل الصلاة، ويستمرَّ في ذلك العروج الروحيّ مع ربّه؛ لكنّه  إذا سمع طفلاً يبكي قطع تلك الحالة التي يريد أن يطيل فيها، وآثر تخفيف الصلاة شفقةً ورحمةً بأمّ ذلك الصبي، فعن أبي قتادة رضي الله عنه عن النَّبيِّ  قال: «إنِّي لأقوم في الصلاة أريد أن أُطوّل فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوّز في صلاتي كراهية أن أشقَّ على أمِّه» [متفق عليه].

ج- امتناعه عن صلاة قيام الليل جماعةً خشية أن تُفرض على أمّته:

 خرج النَّبيُّ ذات ليلة من جوف الليل، فصلَّى في المسجد، فصلَّى رجالٌ بصلاته، فأصبح الناس، فتحدّثوا أنهم صلّوا خلف النَّبيِّ ، فاجتمع أكثر منهم في اليوم الثاني، وصلُّوا معه، ثم أصبح الناس، يتحدَّثون عن صلاتهم مع النَّبيِّ r، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله ﷺ، فصلّوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة امتلأ المسجد وغصّ بالمصلّين فلم يخرج إليهم  حتَّى صلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، فتشهَّد، ثمَّ قال: «أمَّا بعد، فإنَّه لم يَخْفَ عليَّ مكانكم، لكنِّي خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها» [متفق عليه]، فقد ترك صلاة الليل جماعةً مع أصحابه رحمةً بأمّته  خشية أن يأتيه الوحي ويأمر بوجوب صلاة قيام الليل، فيشقّ ذلك على أمته ويعجزوا عنها.

2- في الزكاة والصدقة:

أ- نهي النَّبيُّ  القائمين على الزكاة أن يأخذوا من الأموال النفيسة المحبّبة لأصحابها:

 فقد أوجب الله الزكاة عبادةً وطُهرةً لعباده ومواساةً للفقراء، ومن طبع الإنسان أنّه يميل إلى النفيس من الأموال سواءً كانت من الحيوانات أو غيرها، ويجد في بذلها حرجاً؛ لذا نهى النَّبيُّ القائمين على الزكاة عن  أن يأخذوا الأموال النفيسة المحبّبة إلى أصحابها، حتى لا يشقّ ذلك عليهم، فكان من وصاياه لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله إلى اليمن: (فأعلمهم أنَّ الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُرَدّ في فقرائهم، فإن أطاعوا لذلك فإيَّاك وكرائمَ أموالهم) [متفق عليه]، والمقصود بكرائم أموالهم: النفيس من الإبل والأنعام وسائر الأموال.

فالواجب الذي قرّره رسول الله  إخراج الزكاة من الوسط لا من النفيس ولا من الخسيس.

وبهذا نجد رحمته في مراعاة حال الناس في تقديم الزكاة.

ب- عدم استرداد الصدقة ممّن قبضها ولم يكن مقصوداً بالعطاء:

وضع يزيد بن الأخنس رضي الله عنه دنانير عند رجلٍ في المسجد ليتصدّق بها على فقير، فأعطى ذلك الرجل هذه الصدقة لِمَعن بن يزيد، وهو لا يعلم أنّه ولده، وكان معن فقيراً، فأخذها معن وجاء بها إلى والده يزيد، وأخبره بأنّ رجلاً في المسجد أعطاه هذه الصدقة، فقال له أبوه (والله ما إيّاك أردت) أي ما أخرجتها لأتصدّق بها عليك، فتحاكما إلى النَّبيِّ فقضى النَّبيُّ لمعن بأن يأخذ الصدقة، وأخبر يزيد بأنّ له الثواب كاملاً بنيّته، حتَّى وإن أخذها ولده، فقال : «لك ما نويتَ يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن» [صحيح البخاري]، فلم يكسر النَّبيّ  بخاطر معنٍ ولم يأخذ الصدقة منه بعد أن قبضها، بل أبقاها في يده.

3- في الصيام:

أ- نهي النَّبيّ  أصحابه عن الوصال في الصيام:

الوصال في الصيام: هو أن يمسك الصائم يومه ولا يفطر ولا يتسحّر حتى اليوم الثاني أو الثالث، وقد كان يفعله النَّبيّ فوَاصَل الصحابة مثله، فنهاهم عن ذلك؛ لما فيه من المشقّة عليهم، ولأنّ النَّبيَّ في تشريع الأحكام ينظر إلى الأمّة بأكملها، ولا يسير بهم على سير أهل الهمّة والعزم، بل يراعي وضع العامّة، ويغلّب جانب التيسير؛ لذا قال لهم : «إيَّاكم والوصال» مرَّتين، قيل: إنَّك تواصل، قال: «إنِّي أبيت يطعمني ربّي ويسقين، فاكلفوا من العمل ما تطيقون» [متفق عليه]

ب- عدم عقوبة النَّبيّ  لمن واقعَ أهله في رمضان وأفسد صومه، بل أعطاه قوتاً له ولأهله:

واقعَ أعرابيٌّ زوجته في شهر رمضان، وعلم قومه بفعلته، فأخبروه -عن جهلٍ منهم- بأنّ النبيّ سيوقع عليه عقوبةً شديدة، فجاء إلى رسول الله خائفاً جزِعاً يضرب نحره وينتف شعره ويقول: هلك الأبعد-كما في رواية الإمام مالك- فهدّأ النَّبيُّ  من روعه، ولم يعنّفه أو يزجره، بل عامله بمنتهى الرحمة والشفقة.

وإليك الحوار الذي وقع بينه وبين النَّبيّ :

جاء رجلٌ إلى النَّبيّ  فقال: هلكتُ يا رسول الله، قال: «وما أهلكك؟»، قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: «هل تجد ما تعتق رقبة؟» قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا، قال: «فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟» قال: لا، قال: ثم جلس، فأُتِي النَّبيُّ  بعَرَق فيه تمر-أي (وعاء)- فقال: «تصدَّق بهذا» قال: على من هو أفقر منَّا؟ فما بين لابتيها أهل بيتٍ أحوج إليه منَّا، فضحك النَّبيُّ  حتى بدت أنيابه، ثمَّ قال: «اذهب فأطعمه أهلك» [متفق عليه].

فقد ذهب الأعرابيُّ إلى النَّبيّ خائفاً من العقوبة مشفقاً بسبب ذنبه وإفطاره بمواقعة أهله في شهر رمضان، وعاد آمناً مسروراً يحمل قوتاً لأهله وعياله، بفضل رحمته .

4- في الحجّ:

أ- رفض النَّبيُّ  أن يجيب السائل حتى لا يجب الحجّ كلَّ عام:

 خطب النَّبيُّ  فقال: «أيُّها الناس، قد فرض الله عليكم الحجَّ، فحُجُّوا»، فقال رجل: أكلَّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكت حتَّى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله ﷺ: «لو قلتُ نعم لوجبت، ولما استطعتم»، ثمَّ قال: «ذروني ما تركتكم، فإنَّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فدعوه» [مسلم].

 فقد كان وجوب الحجِّ كلَّ عامٍ مرهوناً بقوله : (نعم) ولو قالها لوجب الحجُّ كلَّ عامٍ ووقع الناس في حرجٍ ومشقَّة، لذا لم يُجب النَّبيُّ  السائل، ونهى عن الأسئلة رحمةً بالأمَّة كي لا يشدّدوا على أنفسهم فيشدّد الله عليهم.

ب- افعل ولا حرج:

 بيّن النَّبيّ مناسك الحجّ بأفعاله، فجاء بها على الترتيب، وخالف كثيرٌ ممّن حجّ معه الترتيبَ الذي جاء به، فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح، قال: «اذبح ولا حرج»، فجاء آخر، فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: «ارم ولا حرج»، فما سُئل يومئذٍ عن شيءٍ قدّم ولا أخَّر إلَّا قال: «افعل ولا حرج» [متفق عليه]، تخفيفاً ورحمةً بأمّته .

 ج- إذنه  للضعَفة أن يخرجوا من مزدلفة إلى منى بعد منتصف الليل:

الأصل بقاء الحجّاج في مزدلفة، فلا يجاوزونها حتَّى الصباح، وكان بعض الضعفاء والكبار والنساء يشقُّ عليهم أن ينفروا في الزحام، فأذن لهم أن يخرجوا إلى منى بعد منتصف الليل قبل أن يخرج الناس، وممّن أذن لهم: سودة بنت زمعة رضي الله عنها، قالت عائشة رضي الله عنها: (نزلنا المزدلفة فاستأذنت النبيَ ﷺ سودةُ، أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأةً بطيئة، فأذن لها، فدفعت قبل حطمة الناس) [متفق عليه]، وذلك رحمةً بهم وتيسيراً عليهم.

6- في الأضاحي:

بيّن النَّبيُّ في خطبة يوم الأضحى أنّ وقت الأضحية يكون بعد صلاة العيد، ولا يجزئ الذبح قبلها، فقام أبو بردة بن نيار فقال: (يا رسول الله ذبحت أضحيتي قبل أن أخرج إلى الصلاة، فتعجّلت فأكلت وأطعمت أهلي وجيراني، فقال رسول الله ﷺ: «تلك شاة لحم».

 فقال: عندي عناق جذعة، فهل تجزئ عنّي؟ أي سنّها صغير دون سنّ الأضحية المشروعة فجبر النَّبيُّ  بخاطره وقال له: «نعم، ولن تجزئ عن أحدٍ بعدك» أي تصحّ منك هذه العناق أضحيةً بهذا السنّ دون غيرك، وهذا حكمٌ خاصّ بك.

7- في النذور:

بينا النَّبيُّ  يخطب، إذا هو برجلٍ قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظلّ، ولا يتكلم، ويصوم.

فقال النَّبيُّ : «مُره فليتكلَّم وليستظلَّ وليقعد، وليتمَّ صومه» [متفق عليه]، فقد نذر أبو إسرائيل ما فيه مشقَّةٌ عليه، فأمره النَّبيُّ ألّا يلتزم بهذا النذر، ولا يشقّ على نفسه بالوقوف تحت الشمس، وعدم الجلوس، والامتناع عن الكلام، أمّا الصوم فيتمّه لأنّه قربةٌ وطاعة، فالنَّبيُّ  جاء بالرحمة لا بالعقوبة.

وبهذا نجد أنّ النَّبيَّ  كان رحيماً بأمّته في جانب التشريع، ويرغب بالتيسير والتخفيف ورفع الحرج عنها.

رحمتُه ﷺ في الجهاد

رحمته ﷺ في الجهاد
رحمته ﷺ في الجهاد

رحمتُهُ ﷺ في الجهاد

Loading

رحمته في الجهاد

تحدَّثنا في المقال السابق (رحمته ﷺ بالمخالف) عن رحمة النَّبيِّ بالمخالفين في العقيدة، وذكرنا في معرض ذلك نموذجين من نماذج تعامله مع الناس؛ وبيّنا أنَّه لا يُنكر رحمة النَّبيِّ إلَّا جاهلٌ به أو مُعرضٌ عنه.

وسنخصِّص هذا المقال للحديث عن مواقف من سيرته في تعامله مع المحاربين في ساحات الجهاد، بعد تبيين معنى الجهاد في الإسلام، والعلاقة بينه وبين الرحمة.

فلسفة الجهاد في الإسلام:

قد يُتعجَّب من التعارض الظاهريِّ بين شطري عنوان المقال، فكيف لمقالٍ واحدٍ أن يحوي كلمتي (الرَّحمة) و(الجهاد) معاً! أليس الجهاد هو القتال والحرب والسيوف والدماء؟ فكيف لهذا المفهوم أن يتَّسق مع كلمة (الرحمة)؟ ما هذا التناقض!

نعم، قد تتعارض الصورة النمطية الظاهرية للجهاد مع مفهوم الرحمة، وذلك لبعد المفهوم النمطي للجهاد عن المعنى الحقيقيّ المراد من تشريعه، فمن نظر إلى الجهاد على أنَّه قتلٌ وتقتيلٌ وسفكٌ للدِّماء، فلا بدَّ أن يرى التعارض جليّاً بينه وبينه الرحمة، أمَّا من فهم الجهاد من منظوره القرآني ومن خلال سنَّة النَّبيّ ، وتعامل الصحابة الفاتحين، لَعلِم ما في هذا الخُلُق الرفيع من رحمةٍ وتضحيةٍ في سبيل سعادة الآخرين.

يمكن تلخيص مفهوم الجهاد في الإسلام بكلماتٍ موجزةٍ عبّر عنها الصحابيُّ الجليل (ربعيُّ بن عامر) رضي الله عنه أحد قادة الفتح الإسلاميّ للعراق في حديثه مع قائد جيش الفرس (رستم) عندما سأله الأخير عن الذي جاء بهؤلاء الفاتحين من الصحراء القاحلة إلى عقر ديار الفرس؛ ليجيبه (ربعيّ بن عامر) بكلماتٍ جليلةٍ بليغةٍ خلَّدها التاريخ:

(إنَّ الله ابعتثنا لِنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جَورِ الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدُّنيا إلى سَعة الدُّنيا والآخرة).

يتبيَّن لنا من هذه العبارات أنَّ المجاهد الحقيقيَّ إنَّما يضحِّي بنفسه وماله في سبيل أن تصل كلمة الحقّ والعدل والرحمة إلى الآخرين، لا لقرابةٍ بينه وبين من يجاهد من أجله، ولا لمصلحةٍ يرجوها منه، أو دنيا يصيبها معه؛ بل لوجه الله سبحانه الذي أمره بأن يقاتل في سبيل إخراج هؤلاء البشر من الظلمات إلى النور.

انطلق الصّحابة الكرام ومَن بعدهم بهذه الرسالة السامية فاتحين مشارق الأرض ومغاربها، وما كان لهذا الصحابيّ الجليل أن يعي هذا المفهوم إلَّا من خلال ما تعلَّمه من نبيِّه ومن خلال ما قرأه في قرآنه الكريم.

فنجد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا[سورة النساء: 75]

فإنَّ النَّبيّ ما جاهد إلَّا ليمنع الظلم والطغيان، وما أراد من قومٍ جاهدهم إلَّا أن يفوزوا بسعادة الدُّنيا والآخرة، وأن يخرجوا من ظلام الجاهلية إلى نور المعرفة والإيمان. ولذلك نجد في سيرته مواقف تدلُّ على هذه الرحمة في الجهاد، فكان حريصاً على استئصال عداوة المقاتلين بدلاً من استئصال أرواحهم.

((اللهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون))

((اشتدَّ البلاء على رسول الله في غزوة أُحُد حتَّى جرح وجهه الشريف، وكُسِرت رباعيَّته، وهشمت البيضة (الخوذة) على رأسه، وكانت فاطمة رضي الله عنها تغسل الدَّم، حتَّى أخذت قطعةً من حصيرٍ فأحرقته حتَّى صار رماداً، ثمَّ ألزقته بالجرح)) [أخرجه الطبراني في المعجم]

وفي وسط ذلك البلاء كلِّه، يدعو النَّبيُّ لقومه الذين آذوه فيقول: ((اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمونَ)).

إنَّهم لا يعلمون أنَّهم يؤذون أنفسهم، إنَّهم لا يعلمون أنَّهم بعداوتهم للحقِّ يُعادون مصلحتهم، فأنا ما جئت إلَّا لأخلِّصهم من الظلمات التي ملأت قلوبهم؛ اللهمَّ اغفر لهم فإنَّهم لا يعلمون!

موقفه مع سهيل بن عمرو يوم بدر:

ومن اللفتات الجميلة في سيرة النَّبيّ موقفه مع خطيب مكَّة، سهيل بن عمرو، الذي كان يحرِّض النَّاس على النَّبيّ في مكّة.

فبعد غزوة بدر كان سهيل من ضمن الذين أُسروا مع المشركين، وأراد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أن ينتقم منه لشدَّة لسانه في التحريض ضدَّ النَّبيِّ ، فقال له: يا رسول الله، دعني أنزع ثنيّتي سهيل بن عمرو حتَّى لا يقوم عليك خطيباً بعد اليوم، فأجابه النَّبيُّ : ((لَا أُمَثِّلُ بِهِ فَيُمَثِّلُ اللَّهُ بِي، وَإِنْ كُنْتُ نَبِيًّا)) ثم أدنى عمر منه وقال: ((إنَّهُ عَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَاماً لَا تَذُمُّهُ)). [رواه ابن إسحاق وابن هشام في السيرة]

فاستطاع النَّبيُّ أن ينزع العداوة من قلب سهيل بهذا الموقف، وما مرَّت سنواتٌ قليلةٌ حتَّى جاء سهيل يفاوض عن المشركين في صلح الحديبية وقد تهلَّل وجه النَّبيّ برؤيته فقال: ((لقد سَهُلَ لَكُم مِن أَمْرِكُم))، وأسفرت المفاوضات عن الصلح مع مشركي قريش.

وبعد سنواتٍ أخرى وقف سهيل بن عمرو رضي الله عنه موقفاً كان قد بشَّر به النَّبيُّ ، إذ خطب في أهل مكَّة بعد وفاة النَّبيِّ يثبِّتهم على الإسلام، ويذكِّرهم أنَّ الإسلام لم ينته بوفاة النَّبيِّ ، فانقلب الخطيب الذي يحرِّض على عداوة النَّبيِّ بالأمس إلى خطيبٍ يثبِّت الناس على الإسلام بفضل رحمة النَّبيِّ .

((رحمةٌ مهداة)):

بهذه المواقف وغيرها، يتبيّن لكلِّ من درس سيرة النَّبيِّ بإنصاف، مسلماً كان أم غير مسلم؛ أنَّ أبرز صفةٍ من صفات النَّبيِّ كانت صفة الرَّحمة، ولذلك قال الله سبحانه عنه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ[الأنبياء107]، فليس الأمر ادِّعاءً يدَّعيه أتباع نبيٍّ عن نبيّهم، بل هي جملةٌ من المواقف والمشاهد يستطيع كلُّ باحثٍ عن الحقيقة أن يفنّدها ويبحث بها، وأن يتقصَّى أخبارها عسى أن يجد إلى الهداية سبيلاً.

ومن عَسُر ذلك عليه، فليخالط أتباعه الحقيقيين، الذين فهموا الإسلام من منبعه الصافي، ليرى أخلاق نبيِّهم فيهم، وألَّا يُعير انتباهه لشذَّاذ الفكر والتاريخ، يظنُّون أنَّهم يعبِّرون عن منهج رسول الله ﷺ لمجرَّد انتسابٍ لاسمه.

فهل سيبقى بعد ذلك من يشكُّ في أنَّه : رحمةٌ للعالمين؟

رحمتُهُ ﷺ بالمخالف

رحمته ﷺ بالمخالف

رحمتُهُ ﷺ بالمخالف

Loading

 

 

يحتفي المسلمون عامَّةً في مثل هذا الوقت من كلِّ عامٍ بمولد خير البشرية، رسول الله محمَّدٍ ﷺ، الرؤوف بأصحابه، الرحيم بأعدائه، الذي ما خالطه أحدٌ من الخلق إلَّا نال حظَّاً من معين حنانه ووابل محبَّته.

لكنَّ زمن الشُّبُهات بات يعكِّر صفو العاشقين، ويكدِّر على المشتاقين والمتولّهين صفاء هذه الأيام الطيِّبات. فمع تعالي صيحات المنكرين، وكثرة طعون المغيبين؛ يجد المرء نفسه مضطراً إلى إجلاء نور الشمس في وضح النهار، لا من عيبٍ أصاب ضياءها، بل من رمدٍ في بصر الناس، وغشاوةٍ علت بصائرهم وأفئدتهم. فصاروا يسألون عن سناها، متألِّبين محتارين لا يهتدون سبيلاً.

﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُۥ مُنكِرُونَ

في معرض توبيخ الله للمشركين المنكرين لنبوَّة محمَّدٍ ﷺ، ذكر جلَّ جلاله علامةً من علامات النُّبوَّة تسترعي انتباه السامعين، فقال سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُۥ مُنكِرُونَ﴾ [سورة المؤمنون : 69].

وفي الآية السابقة دلالةٌ قويَّةٌ على علاقةٍ بين معرفة النَّبيِّ ﷺ وطرد الشُّبُهات والأقاويل حول شخصه صلَّى الله عليه وسلَّم، فمن الطَّبيعيّ على من لم يخالط إنساناً أن يشكَّ فيه لأوَّل وهلةٍ حتَّى يتبيَّن له صدقه من كذبه. لكنَّ العجيب أن ينكر عظيمَ خُلُقه ﷺ قومٌ عاشوا معه، وشهدوا معه المواقف تلو المواقف، ثم تراهم  ينكسون على رؤوسهم بعد كلِّ ذلك منكرين مستكبرين.

لذلك سنتعرَّف في هذا المقال على شيءٍ من عظيم خُلُق النَّبيِّ ﷺ ورحمته مع من خالفه بالعقيدة، فضلاً عن إخوانه وأصحابه؛ كي تكون تلك المواقف شاهداً لكلِّ من حالت بينه وبين رسول الله ﷺ الحجب، ولم يوفَّق ولم يهتد إلى قراءة شيءٍ من سيرته ليشهد على عظيم رحمته ﷺ.

((زِدْهُ مَكَانَ ما روَّعْتَهُ)) [رواه الطبراني]

تدور أحداث هذه القصَّة مع حَبرٍ من أحبار اليهود، يدعى زيد بن سَعنة إذ قام ببيع النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم تمراً إلى أجلٍ معلوم، فيقول زيد:

((قُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنِي تَمْراً مَعْلُوماً مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ إِلَى أَجْلِ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: «لَا يَا يَهُودِيُّ، وَلَكِنِّي أَبِيعُكَ تَمْراً مَعْلُوماً إِلَى أَجْلِ كَذَا وَكَذَا، وَلَا تُسَمِّي حَائِطَ بَنِي فُلَانٍ» قُلْتُ: بَلَى، فَبَايَعَنِي فَأَعْطَيْتُهُ ثَمَانِينَ مِثْقَالاً مِنْ ذَهَبٍ فِي تَمْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجْلِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ: فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، أَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُ بِمَجَامِعِ قَمِيصِهِ وَرِدَائِهِ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ غَلِيظٍ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا تَقْضِيَنِي يَا مُحَمَّدُ حَقِّي؟ فَوَ اللهِ مَا عَلِمْتُكُمْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَمَطْلٌ، وَلَقَدْ كَانَ لِي بِمُخَالَطَتِكُمْ عَلِمٌ، وَنَظَرْتُ إِلَى عُمَرَ، وَإِذَا عَيْنَاهُ تَدُورَانِ فِي وَجْهِهِ كالْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ، ثُمَّ رَمَانِي بِبَصَرِهِ، فَقَالَ: يَا عَدُوَّ اللهِ أَتَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَسْمَعُ، وَتَصْنَعُ بِهِ مَا أَرَى، فَوَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَوْلَا مَا أُحَاذِرُ فَوْتَهُ لَضَرَبْتُ بِسَيْفِي رَأْسَكَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى عُمَرَ فِي سُكُونٍ وتُؤَدَةٍ، ثُمَّ قَالَ: «يَا عُمَرُ، أَنَا وَهُوَ كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا، أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الْأَدَاءِ، وتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التِّبَاعَةِ، اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ وأَعْطِهِ حَقَّهُ وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ مَكَانَ مَا رَوَّعْتَهُ» قَالَ زَيْدٌ: فَذَهَبَ بِي عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَأَعْطَانِي حَقِّي، وَزَادَنِي عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَزِيدَكَ مَكَانَ مَا رَوَّعْتُكَ، قُلْتُ: وتَعْرِفُنِي يَا عُمَرُ؟ قَالَ: لَا، مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ، قَالَ: الْحَبْرُ، قُلْتُ: الْحَبْرُ، قَالَ: فَمَا دَعَاكَ أَنْ فَعَلْتَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَعَلْتَ وَقُلْتَ لَهُ مَا قُلْتَ؟ قُلْتُ: يَا عُمَرُ، لَمْ تَكُنْ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أَخْبُرْهُمَا مِنْهُ، يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلَا يَزِيدُهُ الْجَهْلُ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْماً، فَقَدْ أُخْبِرْتُهُمَا، فَأُشْهِدُكَ يَا عُمَرُ أَنِّي قَدْ رَضِيتُ بِاللهِ رَبّاً وَبِالْإِسْلَامِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيّاً، وَأُشْهِدُكَ أَنَّ شَطْرَ مَالِي -وَإِنِّي أَكْثَرُهَا مَالاً- صَدَقَةٌ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ)). [رواه الطبراني في قصَّة إسلام زيد بن سعنة]

 العجيب في هذه القصَّة أنَّ النَّبيَّ ﷺ لم يكن يعرف مراد اليهوديّ قبل أن يسلم، ومع ذلك فقد عامله ﷺ بالخُلُق الذي يعامل به جميع الناس، بَرَّهم وفاجرهم، وعامله وفقاً للرَّحمة التي أتت بها الشريعة، إذ أنصفه من سيِّدنا عمر رضي الله عنه؛ فاليهوديُّ معاهدٌ ولا يحقُّ لأحدٍ من المسلمين أن يؤذيه فضلاً عن أن يهدِّده بالقتل، مهما كان سيِّئ الخُلُق، فالحقُّ أحقُّ أن يُتَّبع ولو على الأعداء والمخالفين في الدِّين.

قال سبحانه وتعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعْدِلُواْ ۚ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سورة المائدة: 8] (شنآن: أي بغض)

لذلك نجد أنَّه لا يحقُّ لسيِّدنا عمر رضي الله عنه أن يفعل ما فعله، فكان جزاء فعلته هذه أن يعوِّضه رسول الله ﷺ فوق حقِّه مكان ما روّعه، إضافةً إلى أنَّه ﷺ قد عفا عن الإساءة المادِّية والمعنوية لليهوديّ إذ جذبه من ردائه واتَّهمه بمطل الدَّين؛ فكان من الممكن أن يؤدِّي النَّبيُّ ﷺ حقَّ اليهوديّ في الدَّين، وأن يُسقط حقَّ ترويعه مقابل حقِّ النَّبيِّ ﷺ في إساءة اليهودي له، لكنَّ النَّبيَّ ﷺ عامل اليهوديَّ بالعفو في إساءته له ﷺ، وعامله بالحقِّ والعدل في ترويع عمر رضي الله عنه له، فتأمَّل!

((أحْسِنُوا إسَارَهُ)) [مسلم]

ومن عجيب رحمته ﷺ مع مخالفيه، قصَّة ثمامة بن أثال، سيِّد بني حنيفة، إذ أسره المسلمون وهم يجهلون أنَّهم قد أسروا سيِّد قومه؛ فقدموا به المدينة وربطوه بساريةٍ من سواري المسجد، فلمَّا خرج إليه رسول الله ﷺ قال :”أَتَدْرُونَ مَنْ أَخَذْتُمْ؟ هَذَا ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيّ، أُحْسِنُوا إسَارَهُ” أي: أحسنوا معاملته في الأسر، فلا يعامل سيّد القوم إلَّا كما يليق به.

ورجع رسول الله ﷺ إلى بيته، وأخذ من طعامه ﷺ الذي في بيته إلى ثمامة، وأمر بناقته يشرب من حليبها؛ فبعدما أكل ثمامة من طعام سيِّد الخلق وشرب من حليب ناقته، وشعر بإكرام وفادة النَّبيِّ ﷺ له وكيف استقبله استقبال الملوك، سأله النَّبيُّ ﷺ: «مَاذَا عِنْدَك يا ثمامة؟» فقال: عندي يا محمَّد خير، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُل ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِر، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رسول الله ﷺ حتَّى كان بعد الغد، فقال: «ما عندك يا ثمامة؟» قال: ما قلت لك، إن تُنعِم تُنعِم على شاكر، وإن تقتل تَقْتُل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله ﷺ حتَّى كان من الغد، فقال: «ماذا عندك يا ثمامة؟» فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تُنعم على شاكر، وإن تقتل تَقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تُعط منه ما شئت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَطْلِقُوا ثمامة»، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ، فاغتسل، ثمَّ دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله، يا محمَّد، والله، مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، والله، ما كان مِن دِين أبغَضَ إليَّ مِن دِينَك، فأصبح دينُك أحبَّ الدِّين كُلِّه إليَّ، والله، ما كان من بلدٍ أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدُك أحبَّ البلاد كلِّها إليَّ…)) [أخرجه مسلم في صحيحه مختصراً، وذكر الرواية بطولها ابن هشام في السيرة]

ماذا عن موقفه في ساحات الجهاد؟

هذان نموذجان من نماذج كثيرةٍ عن رحمة النَّبيّ ﷺ مع المخالفين في حال السلم، ويزداد العجب في مواقف أخرى للنَّبيّ ﷺ مع من نابذه العداء أثناء حربه وجهاده في ساحات الجهاد، تبيّن لكلِّ منصفٍ من هو محمَّد بن عبد الله ﷺ نتحدَّث عنها في المقال القادم إن شاء الله، كي لا يبقى لجاهلٍ بالنَّبيّ ﷺ شكٌّ بأنَّه رحمةٌ للعالمين.

الإسلام والاعتراف بهويّة الآخرين (2)

الاسلام والاعتراف بهوية الاخرين
الاسلام والاعتراف بهوية الاخرين

الإسلام والاعتراف بهويّة الآخرين (2)

Loading

أمر الله تعالى أن تكون العلاقة مع المسالمين من غير المسلمين الذين لم يقاتلوا ولم يمكروا بالإسلام   على أساس البر بهم والإحسان والإقساط إليهم

تأصيلاً للمقال السابق فإنّ السلام هو شعار الإسلام، والإصلاح وحفظ النظام في العالم رأس المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية، يقول ابن عاشور: (إنّ المقصد العامّ من التشريع هو حفظ نظام الأمّة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان) [مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور: (194)] ثم قال: (إنّ مقصد الشريعة من التشريع حفظ نظام العالم، وضبط تصرّف الناس فيه، على وجهٍ يعصم من التفاسد والتهالك، وذلك إنّما يكون بتحصيل المصالح واجتناب المفاسد، على حسب ما يتحقّق به معنى المصلحة والمفسدة) [مقاصد ابن عاشور: (230)] ولا يقوم هذا المقصد إلا بالتعايش والاعتراف بالآخرين، ومنحهم حرّيتهم، وتحقيق الأخوّة الإنسانية.

 وما قرّره القرآن الكريم والسنة النبوية، والعلماء المسلمون في كتبهم، والممارسات العمليّة للنبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء حتّى نهاية حكم المسلمين، وشهادة التاريخ، كلها تؤكد على هذا المعنى وقبول الإسلام لهويّة الآخرين والاعتراف بهم والتعايش معهم.

وإليك بعض التطبيقات العمليّة التي تبرهن على الاعتراف بالآخرين والتعايش معهم في الإسلام:

فقد أمر الله تعالى أن تكون العلاقة مع المسالمين من غير المسلمين الذين لم يقاتلوا ولم يمكروا بالإسلام   على أساس البر بهم والإحسان والإقساط إليهم، قال تعالى: (لا يَنهاكُمُ اللهُ عنِ الذينَ لم يُقاتِلوكُم في الدِّينِ ولم يُخرجوكُم مِن دياركُم أن تَبرُّوهُم وتُقسِطوا إليهم إنَّ اللهَ يحبُّ المُقسِطين) [الممتحنة: 8].

وقد شدّدَ النبي صلى الله عليه وسلم الوعيد على من ظلم أو اعتدى على المعاهدين من أهل الكتاب ووكّل نفسه محامياً ومدافعاً عنهم يوم القيامة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة» [أبو داود: (3052)]، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بإصبعه إلى صدره وقال: «ألا ومن قتل معاهدًا له ذِمَّة الله وذِمَّة رسوله، حرّم الله عليه ريح الجنة، وإنَّ ريحها ليوجد من سبعين عاماً» [الأموال لابن زنجويه (621)].

كما يتجلّى معنى التعايش وقبول الآخرين في الممارسات العملية للنبي صلى الله عليه وسلم، فعندما هاجر إلى المدينة اعترف باليهود هناك، وضمن لهم حقوقهم كاملةً، وتعهّد بأن يدافع عنهم، وكتب لهم عهد أمان ووادَعَهم وعاهدهم، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم، ليؤسس مجتمعاً آمناً مطمئنّاً مستقرّاً متعايشاً، يسوده العدل والإنصاف واحترام الحقوق، بعيداً عن الخلاف والشقاق، وممّا جاء في ميثاقه: «وإنّ ذمَّة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإنَّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنّه من تبعنا من يهود فإنّ له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم…» [سيرة ابن هشام: (2/ 106)]

فقد أعطى صلى الله عليه وسلم كلَّ ذي حقٍّ حقّهُ، وعامل اليهود على سبيل المعايشة والأخوّة الإنسانية، وترك لهم دينهم وحياتهم وأموالهم ورغد عيشهم؛ لكنّهم غدروا به بعد ذلك، وتآمروا عليه، وخانوا المسلمين الخيانة العظمى، وأصبحوا مصدر تهديدٍ لهم، فاستحقّوا الجلاء من المدينة جزاءً بما كسبت أيديهم.

وعندما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أصدر عفواً عامّاً، وترك المشركين على ما هم فيه، واعترف بحقوقهم، وعاملهم على أساس المواطنة الكاملة، واتفق معهم اتفاق الندّ للند.  

وكان كثير من أهل مكة لا يزالون على شركهم وكفرهم، فتركهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما هم فيه، يعيشون مع المسلمين آمنين مطمئنّين لا يمسّهم أحدٌ بسوءٍ، وممّن بقي على شركه صفوان بن أميّة.

 وعندما وصلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبار ثقيفٍ وغطفان بأنّها قد تجهّزت لقتال المسلمين، جهّز صلى الله عليه وسلم جيشاً لمقاتلتهم، ولم تكن لديه كفايةٌ من الأسلحة والأدراع، فقيل له: إنّ عند صفوان بن أمية أدراعاً، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: «يا أبا أمية ! أَعِرنا سلاحك نلق فيها عدوَّنا»، فقال صفوان: أغصباً؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، بل عاريةً مضمونةً حتى نؤدّيها إليك»، قال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح، وسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفيه حملها، فحملها صفوان لرسول الله صلى الله عليه وسلم [انظر: السيرة النبوية لابن حبان: (1/346)]

فنجد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تعامل مع صفوان على أساس المواطنة والاعتراف، واستعار منه الأدرع، وحفظها له وضمنها، أي حفظ له أمواله-وهو مشرك– وكانت يد النبي صلى الله عليه وسلم هي العليا، وهو الحاكم، ويستطيع أن يأخذها منه عنوةً، لكنّ الإسلام أجلُّ وأعظمُ من أن يُقصي الآخرين ويسلبهم حقوقهم، فقد اعترف بكلّ إنسانٍ في ظل دولته وأعطاه حقوقه كاملة.

وعندما فتح المسلمون بيت المقدس وقّع  عمر بن الخطاب معهم ومع أهل لدّ معاهدة أمان:

ومما جاء في نصّ المعاهدة:

(بسم اللَّه الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء [أي بيت المقدس] من الأمان:

– أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملَّتها.

– أنه لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم.

– ولا يُكرَهون على دينهم.

– ولا يُضارَّ أحد منهم.

– ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود…

 وشهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشرة) [تاريخ الرسل والملوك للطبري: (3/ 609)]، وبمثلها كان العهد والأمان مع أهل مدينة لدّ.

وإذا نظرنا في قبول الإسلام لهوية الآخرين والاعتراف بهم في صفحات التاريخ نجد أنّ القوط في إسبانيا قبل الفتح الإسلامي كانوا ينتزعون أطفال اليهود وغيرهم من أحضان أمهاتهم عنوةً ليتم تحويل ديانتهم بالقوة قبل استعبادهم فيما بعد، وعندما دخل المسلمون الأندلس نالت الديانات-لا سيما اليهودية- حقوقها القانونية كاملةً، فتمّ الاعتراف بهم، وقاموا بحمايتهم، ولم تكن هناك اختلافات كبيرة بين الأقلية اليهودية أو النصرانيّة والغالبية المسلمة الحاكمة [انظر: قصة الحضارة (14/ 50)].

وأمّا من الناحية الاجتماعيّة والمدنيّة: فقد عامَل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود بالإحسان، وأعطى الجار حقّه، وأوصى به وإن لم يكن مسلماً، وتعامل معهم بالبيع والشراء، حتى إنّ النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونةٌ عند يهوديٍّ بثلاثين صاعاً من شعير [البخاري: (2916)].

وربّى صلى الله عليه وسلم أصحابه على هذه المعاني السامية، فكان لعبد الله بن عمرو جارٌ يهوديٌ، وكان إذا ذبح الشاة، قال: احملوا إلى جارنا منها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» [شعب الإيمان (9115)].

وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم حلّةً من حريرٍ لعمر بن الخطاب، فأهداها عمر لأخٍ له من أهل مكة كان مشركاً [انظر صحيح البخاري: (886) ومواضع أُخَر]

وقدمت قتيلةُ بنت عبد الأسد إلى ابنتها أسماء بنت أبي بكر وهي مشركة، وأحضرت لها هدايا، فلم تستقبلها أسماء حتّى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تصل أمَّها وتقبل هداياها.

فقد تبادل المسلمون مع غيرهم الهدايا التي تدلّ على الألفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وباعوهم واشتروا منهم، ولم يكن ثمّ أيّ تمييز في المعاملة بين المسلمين وغيرهم.

كما نال أهل الكتاب حقّ التوظيف والعمل في الدولة، فقد وظَّف عمر رضي الله عنه عدداً من أهل الكتاب في الديوان، واتّسع نفوذهم، حتّى صار منهم الوزراء، [انظر: نحو فقه جديد للأقلّيّات، عبد الكريم زيدان، هامش: (93)].

وكذلك وظّف معاوية عدداً من أهل الكتاب في مناصب مرموقةٍ، مثل: سرجون كاتباً له، وقد أسلم، وابن إثال وكان طبيبه الخاص، وبقي على نصرانيّته [انظر: تاريخ ابن عساكر: (20/161)].

وكان لأهل الكتاب حضورٌ في المناصب المرموقة في الدولة الأمويّة والعبّاسيّة وغيرها أيضاً، وقد قرّر الفقهاء ذلك، فقال الماوردي في معرض كلامه عن وزارة التنفيذ: (ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة) [الأحكام السلطانية: (58)].

وقال الشيخ مصطفى السيوطي عن أهل الكتاب: (فقد جرت عليهم أحكام أهل الإسلام، وتأبّد عقدهم، فلزمهم ذلك كما يلزم المسلمين) [مطالب أولي النهى: (2/603)] 

ومن الحقوق التي ضمنها الإسلام لغير المسلمين:

 الكفُّ عنهم نفساً، ومالاً، وعرضاً، واختصاصاً، وعمّا معهم، كخمرٍ وخنزير، وعبادةٍ، وطقوس لم يظهروها.

 ويجب على المسلمين ضمان ما يتلفونه عليهم من النفس والمال، وردِّ ما يؤخذ من اختصاصاتهم.

وتجب على المسلمين حمايتهم، والذبّ عنهم، ودفع أهل الحرب عنهم [تحفة المحتاج : (9/ 292)].

وبهذا خاطب أبو يوسف هارونَ الرشيد قائلاً: (وقد ينبغي يا أمير المؤمنين أيّدك الله أن تتقدم في الرفق بأهل ذمّة نبيّك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم، والتفقد لهم؛ حتى لا يُظلَموا ولا يُؤذَوا، ولا يُكَلَّفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ شيءٌ من أموالهم إلا بحق يجب عليهم…وكان فيما تكلم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند وفاته: أوصي الخليفة من بعدي بذمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يُكلَّفوا فوق طاقتهم) [الخراج، لأبي يوسف: (ص: 138)].

ويُعامَل الذمّيون على دينهم في حياتهم وعاداتهم وكسبهم ومصالحهم، ولا يُلزَمون بأحكام المسلمين فيما يختصّون به من أحكام، فيحلّ لهم ما يحرم على المسلمين التعامل به، مثل الخمر أو الخنزير، فإنه يباح في حقّهم الاتجار بها حيث شاؤوا، ولكن ليس لهم أن يجاهروا بتجارتها في أمصار المسلمين؛ لأن المصر الإسلامي إنما يجهر فيه بما لا يأباه شعار الإسلام.

وفي العبادات والاعتقادات أُطلِقت لهم الحرية، ومُنع التعرّض لهم فيما يعبدون وما يعتقدون، فلهم إقامة شعائر دينهم في كنائسهم وبِيَعهم، ولهم في القرى إعادة ما تهدّم من الكنائس والبِيَع، وإنشاء ما يريدون إحداثه منها، ولهم دقّ النواقيس في جوف كنائسهم، ولهم أن يفعلوا كلّ ما لا يثير العداء ولا يعارض شعار الإسلام.

كما ضمن لهم الحرية في الأحوال الشخصية وأحكام الأسرة، وتركهم يمارسون القوانين الخاصة بهم من حيث الزواج والطلاق والميراث ونحو ذلك، وأما دول الغرب اليوم فتلزم رعاياها المسلمين بقوانينها، ولا تسمح لهم بتطبيق الأحكام الإسلامية رسمياً إذا خالفت القانون، وأما المسلمون فقد وضعوا دستوراً خاصاً لرعاياهم من غير المسلمين؛ ليكفلوا لهم حريتهم .  

وفي ظل هذه الأحكام السمحة والعدالة والمساواة عاش غير المسلمين مع المسلمين في أوج قوّتهم في بلاد الإسلام طول السنين لا يشكون ضيماً ولا يُبخسون حقّاً.

 [السياسة الشرعية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية، عبد الوهاب خلاف: (ص: 97)].

الإسلام والاعتراف بهويّة الآخرين (1)

الاسلام والاعتراف بهوية الاخرين
الاسلام والاعتراف بهوية الاخرين

الإسلام والاعتراف بهويّة الآخرين (1)

Loading

قد عاش في ظل دولة المسلمين جميع الأديان والطوائف، كاليهود والنصارى والمجوس والصابئة والإيزيديّة وغيرهم، وكلّهم تمتّعوا بالحرّية والأمن ونالوا حقوقهم كاملة، وإنّ وجودهم على مدى فترة الخلافة الإسلاميّة والاعتراف بهم وبهويّتهم هو من صميم تعاليم الدين الإسلامي.

يُحكى أنّ فتى شرّيراً طرده أبوه من بيته، فعاش بين الأزقّة والطرقات شريداً طريداً، يفترش الأرض ويلتحف السماء، ورآه رجلٌ من أهل الخير والإحسان، فأشفق على حاله، وأخذه إلى بيته، فآواه وأحسن إليه، لكنّ إحسان ذلك الرجل إليه لم يغير من طباع الغدر والخيانة والمكر التي عنده.

وبينما كان الفتى يمشي  في السوق رأى تاجراً غريباً يحمل صرّةً مليئةً بالنقود الذهبية، فطمع بما في يده، وترصّد له حتى حلّ الظلام واختلى به وقتله وأخذ نقوده، وترك الخنجر مضرّجاً بالدم ووضعه تحت وسادة وليّ نعمته الذي آواه، ثمّ أخذ يصيح: أيها الناس، أين النخوة؟! أين المروءة؟! تاجرٌ غريب يُقتَل في هذه البلد بدل أن يلقى منها الضيافة والإكرام؟!

فقال الناس: لا ندري مَن قتله.

  فقال: أنا أعرف القاتل، ودلّهم على الرجل الذي آواه، وأخرج الخنجر من تحت وسادته، و حرضهم على ذلك المحسن، وأمرهم أن يحاسبوه ويقتصّوا منه، ووقف يَعِظ الناس ويأمرهم بالفضائل ومكارم الأخلاق. 

هذه القصة تلخّص حال الغرب-لا سيما من كان من الصهيونية وأتباعها- في تشويه صورة الإسلام، ووصفه بنبذ الأديان والملل، وعدم قبوله للآخرين، في حين كان الفضل للإسلام والمسلمين على اليهود في القرون الوسطى، عندما بطشت بهم أوربّا وأحرقتهم وأجبرتهم على اعتناق الكاثوليكيّة، ولم يجدوا ملجأً ولا مأوى إلا في البلاد الإسلامية، التي آوتهم وحمتهم ورعتهم واعترفت بهم ومنحتهم حقوقهم كاملة، بناء على تعاليم الإسلام السمحة.

 لكنّ  اليهود قابلوا ذلك الإحسان والمعروف لهم، (بنكران الجميل) واتهموا الإسلام والمسلمين بصفاتهم الخبيثة، وقالوا كذباً وزوراً: الإسلام  دينٌ إقصائيّ: لا يعترف بهويّة الآخرين، وتلك الصفة هي من صميم صفات اليهودية الصهيونية. 

 عرضت صحيفة (دايلي ميل) البريطانيّة نتائج إحدى الأبحاث العلمية التي تناولت العلاقات بين  أوروبا واليهود في العصور الوسطى، وخلص الباحث فيها إلى أنّ اليهود نجوا من بطش الأوربّيين بفضل الدول العربية الإسلامية التي فتحت أبوابها لهم وأنقذتهم، وأنقذت الديانة اليهوديّة من الاندثار على يد أوروبّا المتعصّبة المتشدّدة في تلك الفترة، فقد تناولت دراسةٌ أجراها الأستاذ لويحي باسكالي الخبير الاقتصادي بجامعة وارويك في بريطانيا، وجامعة وبومبيو فابرا في برشلونة بإسبانيا، وتضمنت الدراسة عرض خريطة لحركة طرد اليهود من أوربا على مدى خمسة قرون، خلال الفترة بين عام 1100-1600م فقد  طُرِدَ اليهود من كثيرٍ من دول أوربا وخصوصاً إسبانيا، بداية من انتهاء حكم المسلمين عام 1492م، حيث تمّ تخييرهم بين التحوّل إلى الكاثوليكيّة أو الحرق، فكان الهروب هو الخيار المتاح أمام اليهود،  ولجؤوا إلى الدول العربية والإسلامية التي وفّرت لهم الحماية .

وقد تناول موقع (جويش كونيكل) التابع لأحد أهم الصحف اليهودية علاقة المسلمين باليهود عبر التاريخ وأكد البروفيسور (ديفيد واسرشتاين)، المتخصص في الدراسات اليهودية بجامعة فاندربيلت بولاية تينيسى الأمريكية، فضل المسلمين في حماية اليهود وإيوائهم والحفاظ على عقيدتهم في مقال بعنوان : (ماذا قدم المسلمون لليهود؟ )
وكذلك كتب واسرشتاين في مقاله: (وكان الإسلام يحكم تقريباً كلّ اليهود في العالم، وأدى هذا الوضع الجديد إلى تحويل الوجود اليهودي، لقد تغيّرت ثرواتهم، من الناحية القانونية والديموغرافية والاجتماعية والدينية والسياسية والجغرافية والاقتصادية واللغوية والثقافية، جميعاً نحو الأفضل.)
لقد تحسنت أمور اليهود في ظل الدولة الإسلاميّة، فزالت جميع مظاهر التهديد، وأصبح هناك مجال واحد يتسع للجميع، المسلمين والمسيحيين واليهود.

ورصد كاتب الدراسة كيف عاش اليهود في بيئة احتوت قدراً كبيراً من الحرية الاقتصادية والدينية، وكان لهم كذلك قدرٌ من التمثيل الرسمي في المجتمع وأمام السلطة الحاكمة، وأن اليهود عاشوا عصرهم الذهبي الحقيقي في ظل الحكم العربي الإسلامي للأندلس [انظر: صحيفة الأهرام السبت 17 من جمادي الآخرة 1437 هــ 26 مارس 2016 م- العدد (47227)].

هذا الكلام لم يصدره كُتّاب مسلمون، وإنما هو دراسةٌ لبعض الباحثين والكتّاب اليهود المنصفين، وهذه الحقيقة التاريخيّة معروفةٌ ومشهورةٌ لدى الجميع لاشكّ فيها؛ لكنّ الصهاينة وأذنابهم اليوم ينكرون هذا الفضل، ويَصِمون الإسلام بأنّه إقصائي: ينبذ جميع الملل والطوائف، ولا يعترف بهويّة الآخرين، ولترسيخ هذا المعنى اتخذت السياسة الغربية إجراءات عمليّة، وبذلت من أجله المبالغ الطائلة، فأحدثت جناحين: جناحاً عسكريّاً، وجناحاً إعلاميّاً، أفرغت فيهما صفاتها الحقيقيّة من الحقد والبغض والكراهية والعنصريّة والقتل والبطش والقسوة، وصدّرتهما باسم الإسلام.

أمّا الجناح العسكري: فتصنع منه التطرّف والإرهاب باسم الإسلام، من خلال توجيهه إلى العداء، وزرع  الحقد والكراهية فيه، وتدريبه على القتل والوحشيّة بكلّ صورهما في معسكرات خاصّة.

وأمّا الجناح الإعلامي: فقد جعلته صدى للجناح العسكري، ومهمّته أن يعلن على جميع وسائل التواصل عن الجرائم والإرهاب والقتل الذي يقوم به عناصر الجناح العسكري الذي أعدّه الغرب، ويعلّق ويحلِّل وينسب ذلك كله إلى الإسلام؛ ليترسّخ في الأذهان تشويه صورة الإسلام والمسلمين.

وإنّ الناظر في تعاليم الإسلام الداعية إلى السلام، وفي مخططات وتصرّفات الصهيونية العالمية، لَيدرك بأنّ هذا التطرّف والإرهاب يعبّر عن حقيقة الصهيونيّة وقد خرج من رحمها.

 فأحكام القرآن الكريم، وتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة وشهادة التاريخ والواقع، كلها على خلاف ذلك، وإنّ الدلائل على سماحة الإسلام واعترافه بهويّة الآخرين، كثيرةٌ لا تكاد تنحصر، فقد عاش في ظل دولة المسلمين جميع الأديان والطوائف، كاليهود والنصارى والمجوس والصابئة والإيزيديّة وغيرهم، وكلّهم تمتّعوا بالحرّية والأمن ونالوا حقوقهم كاملة، وإنّ وجودهم على مدى فترة الخلافة الإسلاميّة والاعتراف بهم وبهويّتهم هو من صميم تعاليم الدين الإسلامي.

وسنذكر بعض الشواهد والأدلة على ما ذكرناه في المقال التالي إن شاء الله.

دين الفقر

دين الفقر
دين الفقر

دين الفقر

Loading

الزُّهد الحقيقيَّ هو الثَّقة بالله, وأن تكون بما عند الله أوثق ممَّا في يدك

لقد زهّد القرآن الكريم بالدَّنيا, وبيّن النَّبيُّ في أحاديث عديدةٍ خشيته على المسلمين من الانشغال بها، ونتيجةً لهذا اعتقد بعض المسلمينَ –خطأً– أنَّ الإسلام رغّب بالانعزال عن الدُّنيا، وأمر بتركها، وأنَّ حياة الفقر خيرٌ من حياة الغنى، لذلك اعتقد غير المسلمين أنَّ الإسلام لا يصلح للحياة.

لكنَّنا نبيِّن في هذا المقال خطأَ هذه النَّظرة, والفهم لآيات الزُّهد، الذي جعل بعضَهم ينظر إلى الإسلام نظرةً سلبيّةً، ويعتقد أنّه لا يصلح للحياة؛ لأنّه يدعو إلى الفقر والزُّهد وترك الدُّنيا، مع أنَّ الحياة في تطوّرٍ مستمرّ.

 وقد استدلوا على هذه النَّظرة الخاطئة بالآتي:

أوَّلاً- إنّ الإسلام يدعو إلى الزُّهد، كما جاء في كثيرٍ من الآيات والأحاديث، والزُّهد هو العزوف عن الدُّنيا، ويتناقض مع العمل والإبداع والإنتاج الذي تدور به عجلة الحياة.

ثانياً- إنّ الإسلام يدعو إلى الفقر؛ والدَّليل هو أنّ كتب الحديث النبوي أفردت باباً أسمته (فضل الفقر)، ومن هذه الكتب: صحيح البخاري، وسنن الترمذي، وسنن ابن ماجه وغيرها، وإنّ الحياة قائمةٌ على القوَّة الاقتصادية.

والجواب على ذلك:

أولاً: أمّا دعوة الإسلام إلى الزُّهد فنقول: نعم لقد دعا الإسلام إلى الزُّهد، ولكن بالمعنى السَّامي الذي قصده، وليس بالمعنى السَّطحيّ الذي يظنّه كثيرٌ من النَّاس (من المسلمين وغير المسلمين) بأنّه البطالة والابتعاد عن الحياة.

فالزُّهد ليس تركاً للعمل، وليس عُزوفاً عن الدُّنيا، وإنّما هو حالةٌ إيمانيّةٌ تجمع بين اليقين بالله، والرِّضا بقضائه، والتَّواضع، والإخلاص، والقناعة، والعفاف، والكرم، والصبر، وتحرّي الحلال، والابتعاد عن أكل الحرام، فمن اجتمعت لديه هذه المعاني فهو زاهد.

فالزُّهد لا يتناقض مع العمل والإبداع أبداً، بل إنَّ النَّبيّ أمرنا بالعمل فقال: «ما أكل أحدٌ طعاماً قطّ، خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإنَّ نبيَّ الله داود عليه السلام، كان يأكل من عمل يده» [البخاري: (2072)] فقد مدح النَّبيُّ داود عليه السلام بهذه الخصلة، أي إذا كان نبيُّ الله داود يعمل بيده، فأنتم أولى بالعمل والكسب.

كما أمر صلَّى الله عليه وسلَّم بإتقان العمل فقال: «إنَّ الله يحبُّ إذا عملَ أحدُكم عملاً أن يتقنه» [أخرجه الطبراني في الأوسط رقم: (897) البيهقي في شعب الإيمان: (4929) الهيثمي في مجمع الزوائد: (6457)].  

وإذا عدنا إلى تعريف النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم للزُّهد نجده يعرّفه بالحقائق الإيمانية، لا بالمظاهر الشَّكلية، فقد قال: «الزَّهادة في الدُّنيا ليست بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكنّ الزّهادة في الدُّنيا ألّا تكون بما في يديك أوثق ممّا في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أُصِبتَ بها أرغب فيها لو أنّها أُبقِيَت لك» [أخرجه الترمذي: (2340)، ابن ماجه: (4100)، الطبراني في الأوسط: (7954)]. أي أنَّ الزُّهد الحقيقيَّ هو الثَّقة بالله, وأن تكون بما عند الله أوثق ممَّا في يدك، والرِّضا والصَّبر عند المصائب، واحتساب الثَّواب عند الله تعالى.

فالزَّاهد ليس سلبيَّاً مُنعزلاً عن الحياة، وإنَّما هو الذي يقدّم النفع للخلق بكلِّ وسعه، حتَّى لو قَبِل الإمارة والسُّلطة فإنّ ذلك لا يتنافى مع الزُّهد؛ شريطة ألّا يتشوّف إليها حبَّاً للرِّياسة والتَّعالي، وإنَّما ينظر إليها على أنّها تكليفٌ من الله لينفع النَّاس، وأنّه يخدم عباد الله من خلال سلطته لإصلاح معاشهم، وتأمين حاجياتهم، وتحقيق مطالبهم، وإقامة العدل فيهم، فلا يتحيّز لفئةٍ دون فئة، ولا يستغلّ منصبه لمصالحه الشَّخصيّة، ولو تحقّق كلُّ ذي سلطةٍ بالمعنى الحقيقيِّ للزُّهد، لزال الفساد الذي تسعى كلّ الدول إلى محاربته، ولَما وقع كيدٌ ولا مكرٌ ولا صراعاتٌ من أجل السُّلطة، وما تبدّدت الأموال في الأطماع.

وإذا عدنا إلى الإسلام العمليّ نجد أنّ تجّار الصحابة وأغنياءهم كانوا مُبَشَّرين بالجنّة، مثل عثمان بن عفّان، وعبد الرَّحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وقد كانوا أغنياء وزُهّاداً ربّانيّين. وأنّ أفضل الصحابة وأزهدهم هم الذين تولّوا مناصب الخلافة والإمارة، كالخلفاء الرَّاشدين الأربعة، وسلمان الفارسيّ، وسعيد بن عامر الجمحيّ، وأبي موسى الأشعريّ رضي الله عنهم، وغيرهم كثير.

 كما أنَّ أفضل التَّابعين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تولَّى زمام الحكم، وسار على نهج الخلفاء الراشدين، فهؤلاء وأمثالهم أزهد الأمَّة، وأعلمهم بحقائق الدِّين، فقد أنجزوا أعظم الإنجازات، وأقاموا العدل، ونفعوا البشريَّة، وملكوا الدُّنيا لكنَّها لم تملكهم، فلم يتغيّر حال أحدهم عندما انتقل من فردٍ من عامَّة الرَّعيَّة إلى السُّلطة والإمارة. 

قال الملا عليّ القاريّ: (الزُّهد عبارةٌ عن عزوف النَّفس عن الدُّنيا مع القدرة عليها لأجل الآخرة… ولا يُتَصَوَّر الزُّهد ممّن ليس له مالٌ ولا جاهٌ) [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 3247)].

وقد سُئل الإمام أحمد بن حنبل عن الزَّاهد، هل يكون معه مئة دينار؟ فقال: (نعم، على شريطةٍ إذا زادت لم يفرح، وإذا نقصت لم يحزن) [الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح الحنبلي: (2/ 241)].

ثانياً: أمّا قولهم إنّ الإسلام يدعو إلى الفقر من خلال الآيات والأحاديث الواردة في فضله: فهذا فهمٌ مغلوطٌ عن الإسلام، وإنّ إفراد بعض المحدّثين باباً في فضل الفقر، ليس المقصود منه الدَّعوة إلى الفقر، وإنّما المقصود منه (فضل الصَّبر على الفقر لمن ابتُلِي به)؛ لأنّ الفقر يدعو صاحبه إلى التسخّط على الله، ويبعث في الفقير صفات الإجرام، والسرقة، وكسب المال بالطرق المحرّمة؛ ولذا كان النَّبيُّ يتعوّذ كلّ يومٍ من أشياء منها شرُّ الفقر، فيقول: (…وأعوذ بك من شرّ فتنة الفقر) [البخاري: رقم: (6375) مسلم: (589)] فكيف يدعو النَّبيُّ إلى شيءٍ ويتعوّذ منه!

فإنّ قولهم:  فضل الفقر، كقولهم فضل المرض، ولقد حرَّم الإسلام على الإنسان أن يضرّ بنفسه، وأن يتسبّب بإمراضها، ولكنَّه إذا وقع في المرض وصبر فله الأجر والثَّواب، وينال الفضل من الله تعالى، وكما أنَّ المرض ليس مقصوداً للشَّرع, ويحرم على الإنسان أن يُمرض نفسه، فكذلك الفقر ليس مقصوداً في الإسلام، ولا يجوز للمسلمين أن يقصّروا في العمل والكسب، وإنّما المقصود أنّ مَن ابتُلي بالفقر فعليه أن يصبر, ويحافظ على إيمانه ودينه وأخلاقه, ولا يتحوّل إلى مجرم، وهذا قمّة التَّعاليم السَّامية التي جاء بها الإسلام، ولما غابت هذه الأخلاق في بلاد الغرب تحوّل فقراؤهم هناك إلى لصوصٍ ومجرمين يهدّدون أمن البلاد.

وقد جاءت أحاديث كثيرةٌ في فضل الغنى لمن أدّى حقَّ المال، لأنّه يُنفقه في الخير، ويستثمره فيما ينفع النَّاس، فقال : «نِعْمَ المال الصَّالح للرَّجل الصَّالح» [أخرجه أحمد: (17763)، البخاري في الأدب المفرد: (299)، ابن حبان: (3210)]، وقوله : «لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالاً فسلّطه على هلكته في الحق…) [البخاري: (1409)، مسلم: (816)] وقوله لسعد بن أبي وقّاص عندما أراد أن يوصي بماله: «إنّك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكفّفون الناس» [البخاري: (1295)، مسلم: (1628)]، وقوله لأبى لبابة حين قال: يا رسول الله، إنَّ توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله ورسوله: فقال له النَّبيُّ : «أمسك عليك بعض مالك فإنَّه خيرٌ لك» [البخاري: [(2757)، مسلم: (2769)]، ودعا النَّبيُّ  لخادمه أنس بقوله: «اللهمَّ أكثِر ماله، وولده، وبارك له فيما أعطيته» [البخاري: (6334)، مسلم: (268)] فلو كان الإسلام يدعو إلى الفقر لما دعا النَّبيُّ  لمن يحبّه بالغنى.

قال ابن الملقّن: (المختار عندنا: أنَّ الغنيَّ الشَّاكر أفضل من الفقير الصَّابر؛ لأنَّ الغنى هي الحالة التي توفّي عليها الشَّارع، أي النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهي أكمل الحالات.

وقد سئل سيدي أبو عليٍّ الدَّقّاق: أيّهما أفضل الغنى أو الفقر؟ فقال: الغنى؛ لأنَّه وصف الحقّ، والفقر وصف الخلق) [التوضيح لشرح الجامع الصحيح (29/ 467)]

الظلم حتى في ميراثها 2

الظلم حتى في ميراثها
الظلم حتى في ميراثها

الظلم حتى في ميراثها 2

Loading

يصدر هذا السؤال غالباً من المعترضين على أحكام الشريعة الإسلاميَّة، ليقولوا: إنَّ الإسلام قد انتقص من شأن المرأة, ونظر إليها نظرةً دونيَّةً إذ جعل ميراثها نصف ميراث الرجل, ولو أنَّه احترمها حقَّاً لجعلها ترث كالرَّجل تماماً, ولساوى بينهما…

ويمكننا صياغة الاعتراض بشكلٍ مبسَّطٍ كما يلي:
(ينتقص الإسلام المرأة, ويجعلها أقلَّ من الرَّجل بدليل أنَّه يجعلها ترث نصف ما يرثه الرجل)

للإجابة على هذا الاعتراض يمكن تقسيم المبحث إلى أربعة تساؤلاتٍ فرعيَّة:

هل جزَّأ الإسلام نظرته إلى الكرامة الإنسانية على أساس الجنس؟

  1. هل ترث المرأة نصف الرجل حقاً؟
  2. ما هو البديل؟
  3. هل يأتي الفرع قبل الأصل؟

وقد تقدَّمت الإجابة عن التساؤلين الأوَّلَين في الجزء الأول من المقال. (انظر مقال: هل ترث المرأة نصف الرجل– الجزء الأول) وخصص هذا الجزء للإجابة عن التساؤلين الأخيرين: ما هو البديل؟ وهل يأتي الفرع قبل الأصل؟

 

 

النقطة الثالثة: ما هو البديل؟

 

قد يجادل البعض في نظرة الإسلام إلى مفهوم الأدوار الموكَّل بها كلٌّ من الرجل والمرأة، وطبيعة المسؤوليات المترتِّبة على كلٍّ منهما, فيقول: 

 “أنا لا أسلّم بأنَّ على الرجل أن ينفق على المرأة؛ بل على كلٍّ من الرجل والمرأة أن يعملا، فلا تنتظر المرأة مالاً من أحد، بل هي مستقلَّةٌ بذاتها تعمل لنفسها. وبالتالي فإنَّ مفهوم: (الواجبات الماليَّة على الرجل) قد سقط فلا يجب على الرجل أن ينفق على المرأة, ولا أن يرث أكثر منها، فأنا أوافق على جعلها تصرف على نفسها, ولكن اجعلها ترث كالرجل”.

 

وينتقل النقاش في هذه الحالة من ادِّعاء ظلم المرأة والانتقاص منها بسبب الميراث، إلى نقاش طبيعة المسؤوليّات المترتِّبة عليها, وهذا مبحثٌ آخر يمكن الإجابة عنه باختصارٍ بعد فهم الأساس الذي ظهرت منه هذه الإشكاليَّة.

 

نشأت فكرة المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة بعد استفحال النظرة الفردية في الغرب، حيث بات ينظر إلى الفرد من حيث إنتاجه المادي دون اعتبار أيِّ دورٍ للمسؤوليَّات النفسية والعاطفية والاجتماعية الأخرى. وسقطت مفاهيم اجتماعيَّة مثل الأمومة والحضانة؛ وأصبح على المرأة في هذا المجتمع أن تعمل كي تستطيع أن تأكل وتشرب, وإلا فهي لا تستحقُّ العيش، فمن لا يعمل لا يأكل! ومن أراد أن يستهلك من موارد البلاد عليه أن يجتهد حتى يحقَّ له الاستمتاع بها.

 

وتزداد هذه النظرة قسوةً كلَّما ازدادت البلاد في رأسماليتها.

 

 فلا تسمح قوانين العمل للمرأة في الولايات المتحدة الأمريكية بأخذ إجازةٍ مأجورةٍ في فترة الحضانة الأولى (أو ما يعرف بإجازة الأمومة) فهي كالرجل تماماً, لا يحقُّ لها أن تزيد عليه في شيء، وفي بعض الحالات قد تضطر المرأة لأن تعمل أعمالاً شاقَّةً لا تراعي أنوثتها: كالعمل في المناجم أو قيادة الشاحنات والعربات الكبيرة في سبيل تحصيل لقمة عيشها بكرامة.

 

لذلك فإنَّ من يعترض على توزيع المسؤوليات بما يتوافق مع الطبيعة البشرية لكلٍّ من الرجل والمرأة، لا يدرك حجم الضرر الذي تسبَّب به النموذج الغربي الماديُّ المغرق في الأنانية والفردية، حيث لا مراعاة للقضايا الأسريَّة والاجتماعية. ولا يدرك أنَّ الفلسفة الفردية التي قامت عليها هذه المفاهيم لا تصلح لخلق بيئةٍ ملائمةٍ يعيش فيها الإنسان بطمأنينة، وأنَّ البديل المعروض هو بديلٌ مخيفٌ يحوِّل حياة الإنسان من عِشرةٍ بالمعروف إلى نظرةٍ تُقدِّس الفرد بشكلٍ مطلقٍ، حيث يمكن للإنسان أن يحرم أولاده من ماله بعد وفاته وأن يوصي به لغريبٍ أو عابر سبيل، وربَّما أوصى بكامل ثروته لكلبه الوفي أو قطَّته المدلَّلة ليترك ورثته الحقيقيين عالةً على الناس.

أمَّا أحكام الشريعة فهي ثمرةٌ لمنظومة قيمٍ تتوافق مع الفطرة الإنسانية، ترتقي بالفرد من الأنانيَّة والاستئثار إلى التضحية والبذل والعطاء، فيضحِّي كلٌّ من الرَّجل والمرأة في سبيل الأسرة، فينفق الرَّجل ماله في سبيل معيشةٍ كريمةٍ لزوجته وأولاده، وتنفق المرأة جهدها ووقتها في سبيل سكينة وطمأنينة زوجها وأولادها؛ فيعيش الإنسان بمودَّةٍ ورحمةٍ بعيداً عن قسوة الفردية وجحيم الأنانية الغربية.

النقطة الرابعة: هل يأتي الفرع قبل الأصل؟

 

يعرف كلُّ من درس الإسلام أنَّ الأحكام الشرعيَّة قد نزلت في المدينة المنوَّرة، بعد سنواتٍ طويلةٍ من بناء العقيدة والإيمان في نفوس المسلمين.

 

ولمن يريد فطرةً نقيَّةً في قلبه، فليتدبَّر القرآن الكريم وليركِّز على الإشارات التي تزيد يقينه وإيمانه بالله وقرآنه ونبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

وبعد أن يبنى الإيمان يكون تسليم المؤمن بأحكام الله فرعاً بعد أصلٍ، وغصناً يتدلى من شجرة التوحيد التي وصفها الله بأنها:

 

﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ [سورة إبراهيم : 24 – 25]

 

لذلك فإنَّه لا تصلح مناقشة القضايا الفرعيَّة قبل الأصليَّة، وعندها يمكن لكلِّ من استعصت على فهمه حكمةٌ في كتاب الله أو سنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يردَّها إلى أصل إيمانه.

 

لذلك نقول إنَّ تسليمنا لحكم الله, واستسلامنا لتشريعه يأتي فرعاً عن أصل تسليمنا بالقرآن وحياً منزلاً من عند الله تعالى.

 

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ [سورة الأحزاب : 36]

 

﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [سورة النساء : 65]

 

ينبغي التنبُّه إلى أنَّ هذه الآيات لا تعني تحريم سؤال المؤمن عن حكمةٍ خفيت عنه وأرّقت باله، خاصَّةً وأنَّنا في زمنٍ انتشرت فيه الشُّبهات، فصارت باباً من أبواب الشَّكِّ في الإسلام، وحال السَّائل يقول: لا أثق بالإسلام مرَّةً أخرى حتَّى اقتنع، وإنَّ هذه الشُّبهة قد شكَّكت في أصل إيماني بالقرآن فكيف تطلب أن أردَّها إلى إيماني بالقرآن؟

 

وهنا لا بدَّ أن يعثر المتشكِّك على إجابةٍ تشفي قلبه، وإنَّ تمام العقل والمنطق يفرض أن يجيب عن الشُّبهة التي سبَّبت شكَّه في القرآن قبل أن يطالب بالإيمان بما جاء به القرآن.

 

ولكن بعد أن يجاب عن كلِّ الشُّبهات وتستقرَّ العقيدة في النفوس، لا يمكن للمؤمن إلا أن يسلِّم بما جاء به الوحي، ولا يحقُّ له أن يعترض على حكم الله إذ آمن أنَّ القرآن وحيٌ من عند الله! وإن وجد شيئاً خفيت عنه حكمته ردَّ ذلك إلى جهله وعلم الله.

 

وقد ترى من يقول إنَّه يؤمن بالله ربَّاً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً؛ ثمَّ يجادل في حكم الله معتقداً أنَّه لا يصلح لهذا الزمان، مع إيمانه بأنَّ القرآن آخر الكتب السماويَّة المنزلة من عند الله. فهل كان الله جاهلاً بما سيحدث وكان عليه أن ينزِّل كتاباً آخر؟ أم إنَّه كان يعلم ما ستؤول إليه السنوات وأنزل كتاباً لا يصلح؟

 

﴿أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [سورة النور : 50]

 

 ﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [سورة التوبة : 44 – 45]

 

ومثل هؤلاء يخاطبون بمثل الآيات السابقة، وهي آياتٌ مدنيَّةٌ نزلت في المؤمنين, ونلاحظ أنَّها آياتٌ شديدةٌ؛ فهي تعزو المؤمنين إلى إيمانهم، فكيف يعترضون على حكم الله بعد إيمانهم أنَّه من عند الله!

 

أمَّا من كان الإيمان يتردَّد في قلبه فليترك النقاش في الجزئيات -التي لا حصر لها- ولينصرف إلى الكلّيات؛ إلّا إذا وجد شبهةً شكَّكته في أصل الإيمان, فهذا لا بدَّ وأن يجاب على سؤاله قبل أن يطالب بالإيمان.

 

 

وفي الختام..

 

الإنسان هو المخلوق المكرَّم من الله، ولا سبيل لانتقاص كرامته تحت أيِّ ظرفٍ؛ وإنَّ هذه الكرامة واحدةٌ لا تتجزَّأ على أساس الجنس أو اللون. لذلك فإنَّ قسمة الميراث كانت وفقاً لمعيارين موضوعيَّين لا محاباة فيهما لأحدٍ على حساب أحد. وإنَّ البديل الذي يطرحه من يعترض على أحكام الإسلام أوصل المجتمعات غير الإسلامية إلى التفريط في حقوق الأسرة والمجتمع، لذلك فإنَّ من آمن بالإسلام ديناً من عند الله, وبالقرآن كتاباً ووحياً ورسالةً خاتمةً لا يمكن له أن يعترض على شيءٍ من حكم الله. أمَّا من شكَّ في أصل الدين فيُجاب عن شكوكه وشبهاته إلى أن يوقن أنَّ الله الخالق قد شرَّع للإنسان ما فيه سعادته في الدنيا والآخرة.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

المراجع:

 

  • لقد تطرق إلى هذه الحالات بإسهاب كبير الدكتور صلاح الدين سلطان في كتابه “ميراث المرأة وقضية المساواة” من الصفحة 32 إلى الصفحة 41،
  • إتحاف الكرام بمائة وأربعين حالة ترث المرأة فيها أضعاف الرجل في الإسلام – علي محمد شوقي
  • أكذوبة أن ميراث الرجل ضعف ميراث المرأة.. محمد عمارة : فيديو: https://youtu.be/fkd3mcwp4nU
  • هل ظلم الإسلام المرأة في الميراث؟ فيديو: https://youtu.be/NwdWW3VlrUM

 

الظلم حتى في ميراثها 1

الظلم حتى في ميراثها
الظلم حتى في ميراثها

الظلم حتى في ميراثها 1

Loading

يصدر هذا السؤال غالباً من المعترضين على أحكام الشريعة الإسلامية، فيقولون: إنَّ الإسلام انتقص من شأن المرأة, ونظر إليها نظرةً دونيَّةً إذ جعل ميراثها نصف ميراث الرجل, ولو أنَّه احترمها حقَّاً لجعلها ترث كالرجل تماماً ولساوى بينهما… 

ويمكننا صياغة الاعتراض بشكل مبسّطٍ كما يلي:
(ينتقص الإسلام المرأة، ويعتبرها أقلَّ من الرجل بدليل أنَّه يجعلها ترث نصف ما يرثه الرَّجل)
للإجابة على هذا الاعتراض، يمكن تقسيم المبحث إلى أربعة تساؤلاتٍ فرعيَّة: 

  1. هل جزَّأ الإسلام نظرته إلى الكرامة الإنسانية على أساس الجنس؟
  2. هل ترث المرأة نصف الرجل حقَّاً؟
  3. ما هو البديل؟
  4. هل يأتي الفرع قبل الأصل؟

النقطة الأولى: هل جزَّأ الإسلام نظرته إلى الكرامة الإنسانية على أساس الجنس؟
بالنظر إلى مجمل آيات القرآن التي تتحدَّث عن الكرامة الإنسانية نجد أنَّه نظر إلى الإنسان نظرةً لا تفاضلَ فيها بين الذَّكر والأنثى أو الأبيض والأسود, وجعل معيار التفاضل الوحيد التقوى والعمل الصالح.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[سورة الحجرات: 13]
﴿َفاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ
[سورة آل عمران: 195]
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[سورة النحل: 97]
فلو أنَّ القرآن يحابي الذَّكر على حساب الأنثى لفضَّل فرعون على زوجته، ولكنَّ العكس هو الصحيح، فنجد أنَّ الله سبحانه قد ذمَّ فرعون في آياتٍ عديدةٍ لكفره وإعراضه عن الله، أمَّا زوجته فقد جعلها مضرب مَثلٍ للمؤمنين رجالاً ونساءً في صبرها ويقينها وإيمانها. 
﴿َضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
[سورة التحريم: 11]
فالقلب هو القلب سواءً كان في جسد رجلٍ أو في جسد امرأة، ولمّا كان في قلب هاجر عليها السلام يقينٌ صادقٌ بوعد الله، جعل إحياء ذكرى يقينها بالله شعيرةً من شعائر الإسلام، يقلِّد سعيَها المسلمون رجالاً ونساءً.
﴿إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ ۖ
[سورة البقرة: 158]
وبهذا نعرف أنَّ الله لا يفضِّل إنساناً على آخر على أساس الجنس أو اللون؛ بل على أساس إيمانهم وعملهم الصالح.

النقطة الثانية: هل ترث المرأة نصف الرجل حقَّاً؟
لو نظرنا إلى مجمل الأحكام الشرعيَّة في قضية الميراث لوجدنا أنَّه على الرغم من أنَّ المرأة ترث نصف الرجل في حالاتٍ مشهورةٍ, فإنَّ هناك حالاتٍ أخرى ترث فيها المرأة أكثر من الرجل.
ولو أنَّ الإسلام أراد محاباة الرَّجل لجعله يرث أكثر من المرأة في الحالات كلِّها، ولكنَّ وجود حالاتٍ ترث فيها المرأة أكثر من الرجل أو مقداراً مساوياً له، دليلٌ على وجود معيارٍ موضوعيٍّ لا علاقة له بالجنس, يؤخذ بالاعتبار عند النظر إلى الميراث.
ما هو هذا المعيار الموضوعيّ؟ 
عند النظر إلى الميراث من وجهة النظر الإسلاميَّة نجد أنَّ توزيع أنصبة المواريث كانت بناءً على معيارين أساسيين: 
المعيار الأول: درجة القرابة، والمعيار الثاني: الواجبات المالية
ولا ينظر إلى المعيار الثاني -الوجبات المالية- إلا عند استنفاد التراتبيَّة في القربى. 

وبسبب هذه التراتبية نلاحظ العديد من الحالات التي ترث فيها المرأة أكثر من الرجل:

فلو أنَّ امرأةً ماتت, وتركت زوجاً وبنتاً وحيدةً وإخوةً أشقاء؛ فإنَّ البنت الأقرب إلى أمها بحسب المعيار الأول تأخذ نصف التركة, ولا يأخذ أبوها (زوج المتوفاة) إلا الربع, ويبقى الربع الأخير لأخوالها (إخوة المرأة المتوفاة)، وبذلك نجد أنَّ البنت قد ورثت من أمِّها بمقدار ما يرث أبوها وأخوالها مجتمعين.
بل إنَّ هناك حالاتٍ تحجب فيها المرأة الرجال عن الميراث: 

فلو أنَّ رجلاً مات وله بناتٌ وأخواتٌ شقيقاتٌ, وإخوةٌ ذكورٌ غير أشقَّاء؛ لورثت البنات ثلثا التركة, ويبقى الثلث الأخير للشقيقات اللاتي يحجبن إخوانهن الذكور لأَّنهنَّ أقرب منهم في درجة القرابة!
فأين محاباة الرِّجال في تلك الحالات!

وماذا عن الآية الكريمة: ﴿للذكر مثل حظِّ الأنثيين﴾ ]النساء176[؟

 تتحدَّث هذه الآية عن الحالات التي يتساوى فيها الورثة في المعيار الأول,  فبعد تساوي معيار درجة القرابة لا بدَّ من النظر إلى معيارٍ موضوعيٍ آخر ينظر للوارثين على أساس المسؤوليات المترتِّبة عليهم.

 ولو أنَّ شركةً أرادت أن تساوي بين موظَّفيها فأعطت مديرها التنفيذيَّ الراتب نفسه الذي تعطيه للموظَّف العاديِّ بسبب تساوي ساعات الدوام بينهما، لحكمنا على هذه الشركة بالفشل الإداري، والقاعدة القديمة التي عرفها العرب باسم (المغنم بالمغرم) ما زالت تطبَّق في كبرى المؤسَّسات العالميَّة، فعلى المدير واجباتٌ ماليَّةٌ متناسبةٌ مع حجم مسؤوليَّاته، أوجبت له زيادةً في الرَّاتب تعوِّضه عن هذه الواجبات.

 والعجيب أنَّ الإسلام قضى للمرأة المساوية للرجل في درجة القرابة بنصف ما للرَّجل، على الرغم من أنَّها لا تتحمَّل أيَّة أعباء ماليَّة (لا بمقدار نصف أعباء الرجل، ولا أقلَّ من ذلك)، وبهذه الصورة نجد أنَّ المرأة عملياً ترث أكثر من الرجل، إذ تحتفظ بنصيبٍ مساوٍ لنصف نصيب أخيها دون أن تصرف شيئاً منه، أمَّا أخوها فهو مطالبٌ (إن لم يكن لها زوجٌ) أن يُنفق من ماله عليها دون أن يطالبها بشيءٍ مما أخذته، ومع ذلك فإنَّ الإسلام قضى لها بالنصف لأنَّها وارثةٌ تستحقُّ جزءاً من مال صاحب التركة, وإن لم تتحمَّل أيَّة أعباء ماديَّة.

 ومن هنا نجد أنَّ المعيار الثاني نظر إلى الأمر من حيث الواجبات المالية لا من حيث الجنس، فإنّه لا تفاضل على أساس الجنس كما كان واضحاً في الأساس من النقطة الأولى: (الكرامة الإنسانيّة), ومن المعيار الأوَّل: (درجة القرابة), فكيف لعاقلٍ بعد ذلك أن يقول: إنَّ الإسلام يحابي الذَّكر لأجل ذكورته!

وبعد هذا, فجديرٌ أن يُسأل: لماذا يُفرض على الرجل أن يتولَّى الشُّؤون الماديَّة للمرأة؟

أليست المرأة مستقلَّةً بذاتها؟ ولماذا لا ترث كالرَّجل تماماً على أن تعمل مثله دون أن يكون أحدٌ من الرجال مسؤولاً عنها؟ أليس هذا أفضل من أن تبقى أسيرةً للرِّجال -أيَّاً كانت درجة قرابتهم- يتحكَّمون بها؟ أليس هذا البديل أفضل من نظرة الإسلام التي تجعل المرأة محتاجةً إلى من يرعى شؤونها بشكلٍ يفرض وصايةً ذكوريَّةً وسلطةً أبويَّة أو زوجيَّة عليها؟

وعند هذا التساؤل نكون قد وصلنا إلى المحطة الثالثة من مبحثنا، والتي صيغت على شكل سؤال: (ما هو البديل)؟

ويجدها القارئ في الجزء الثاني من المقال. (انظر مقال هل ترث المرأة نصف الرجل – الجزء الثاني)

المراجع:

  • لقد تطرق إلى هذه الحالات بإسهابٍ كبيرٍ الدكتور صلاح الدين سلطان في كتابه “ميراث المرأة وقضية المساواة” من الصفحة 32 إلى الصفحة 41،
  • إتحاف الكرام بمائة وأربعين حالة ترث المرأة فيها أضعاف الرجل في الإسلام – علي محمد شوقي
  • أكذوبة أن ميراث الرجل ضعف ميراث المرأة.. محمد عمارة : فيديو: https://youtu.be/fkd3mcwp4nU
  • هل ظلم الإسلام المرأة في الميراث؟ فيديو: https://youtu.be/NwdWW3VlrUM