الشذوذ الجنسي من الناحية الطبية

غلاف الشذوذ الجنسي من الناحية الطبية
غلاف الشذوذ الجنسي من الناحية الطبية

الشذوذ الجنسي من الناحية الطبية
بقلم: أ. غالية القصار

Loading

رحمته في الجهاد

الشذوذ الجنسي (المثلية الجنسية:  Homosexuality)

الناحية الطبِّية

نظرت المجتمعات الغربية المعاصرة إلى حرية الإنسان نظرةً مختلفةً، ففسحت المجال أمامه لممارسة ما يحلو له دون قيودٍ أو ضوابط، فانساق الإنسان الغربيُّ وراء أهوائه ورعوناته واندفع يلبِّي شهواته خارج حدود التشريعات السماوية التي ما وُجِدت إلَّا لسعادته، فما ناله من وراء ذلك إلَّا الشقاء.

ومع تزايد الجهود التي ترمي إلى نشر الشذوذ الجنسيّ وتطبيعه مع المجتمعات حتَّى أطلقوا عليه:

(المثلية الجنسية Homosexuality) هروباً من مصطلح (الشذوذ الجنسيّ) الذي يعني خروجاً عن التنوع الطبيعيّ، كما يعني في عرف المجتمعات والتشريعات السماويَّة كافَّةً خللاً في المعايير الأخلاقيَّة والدينيَّة واستباحةً للمحرَّمات، بالإضافة إلى سنِّ تشريعاتٍ وقوانين في العديد من دول العالم في أوروبا وأمريكا وغيرها تحمي ذلك الخروج المرفوض عن الفطرة الإنسانية السويَّة، ولذلك كان لزاماً علينا أن نستعرض أبعاد الموضوع وننقل آراء لأطبَّاء وباحثين حول القضية نستبين من خلال ذلك ما عليه حقيقة الأمر.

لمحة تاريخية:

يرى الأطبَّاء النفسيُّون الشذوذ الجنسيَّ (المثلية) مرضاً نفسيَّاً، ونشرت الجمعية الأمريكية للطبِّ النفسيّ (وهي المصدر الرئيسيّ لتشخيص الاضطرابات النَّفسيَّة في أمريكا والعالم) عام 1952م في دليلها للدِّراسات الإحصائية تصنيف المثلية على أنَّها اضطرابٌ وخللٌ نفسيٌ شديدٌ يصنَّف ضمن قسم الانحرافات أو الشذوذ الجنسيّ.1

رفض بعض الناشطين الشواذّ المثليين اعتبار المثليَّة مرضاً، وساهمت ضغوطٌ شديدةٌ مارستها جمعيات المثليين (المدعومة سياسياً) في أمريكا في تشكيل لجنةٍ لمراجعة موقف الدليل. وترى جمعيَّات المثليين ذلك السلوك المنحرف حقَّاً طبيعياً لأصحابه بناءً على ما تقتضيه حريَّة الإنسان التي صانتها الجمعيات الحقوقية العالمية وميثاق حقوق الإنسان في الأمم المتَّحدة، كما اعتبرته ميلاً طبيعيَّاً كأيِّ ميلٍ جنسيٍّ طبيعيٍّ آخر.

فانعقدت لجنةٌ خاليةٌ من أيِّ عالمٍ يعتقد أنَّ المثلية اضطرابٌ نفسيٌّ، وقرَّرت اللجنة بسرعةٍ لم يسبق لها مثيلٌ حذف المثليَّة من الدَّليل التشخيصيَّ وذلك عام 1973م1، ثمَّ أزالت مؤسَّسات الصحَّة النفسية الكبرى حول العالم ذلك التصنيف بمن فيهم منظَّمة الصحَّة العالمية التابعة للأمم المتحدة، ما يعني أنَّ المثلية في نظرهم توجُّهٌ طبيعيٌ لا مشكلة فيه ولا يحتاج علاجاً، وأنَّه لا يسبِّب أيَّ خللٍ في الحكم أو الاستقرار أو الموثوقيَّة أو القدرات الاجتماعية والمهنية. وهكذا يُستخدم الطبُّ النفسيُّ وسيلةً لإلغاء تجريم الشذوذ الجنسيّ واعتباره خروجاً عن الفطرة السويَّة.

وجديرٌ بالذكر أنَّه في عام 2003م أظهر استطلاعٌ دوليٌّ بين الأطبَّاء النفسيين موقفهم من الشُّذوذ الجنسيّ (المثلية) أنَّ الغالبيَّة العظمى منهم تعتبره سلوكاً منحرفاً على الرغم من استبعاده من الدليل الأمريكيّ للصّحّة النّفسية [الجمعية الروسية للأطبَّاء النفسيين الروس]. كما ذكرت لجنة الصّحّة العامّة في أكاديمية نيويورك الطّبية في تقريرها عن (المثلية الجنسية) 1963م ما مضمونه: (الجنسيَّة المثليَّة مرض، والمثليُّ إنسانٌ مضطربٌ وجدانياً).2

كان لحذف الشذوذ الجنسيّ من التشخيصات المرضية أثرٌ سلبيّ، فلم يعد مسموحاً للأطبَّاء النفسيين معالجة هؤلاء بل على العكس صار واجباً على كلِّ طبيبٍ نفسيٍّ يتعرَّض لاستشارة طبِّيَّة حول الموضوع أن يساعد الشاذّ على تقبُّل ذاته والتكيُّف مع حاجاتها، وأصبحت المراجع الطبِّيَّة الغربية شبه خاليةٍ من تقنياتٍ علاجية لهذا الأمر.

هل يولد النَّاس وهم شاذُّون مثليون؟

هل هناك مورِّثاتٌ تسبِّب الشذوذ الجنسيّ؟

هل هناك سلوكٌ توجِّهه المورِّثات، وتتحكَّم به؟

في سعيٍ حثيثٍ لتبرير الشذوذ الجنسيّ، ونشر فكرة كونه تنوُّعاً طبيعياً مقبولاً، ظهرت ادّعاءاتٌ علميةٌ تربط ذلك الشذوذ بالجينات على اعتبار وجود مورِّثةٍ مسؤولةٍ عن ذلك التوجُّه لا يتحكَّم بها الإنسان كلون بشرته وطول جسمه، وذلك بناءً على بحوثٍ قام بها دين هامر 1993م (وهو عالم وراثة أمريكي)، ادَّعى من خلالها أنَّ هناك صلةً محتملةً بين مؤشِّرٍ جينيٍّ محمولٍ على الكروموسوم x والشذوذ الجنسيّ أو أنّه هو المسبِّب الفعليَّ له3، فدُحضت تلك الادِّعاءات عام 2012م من قبل الجمعية الأمريكية لعلم الوراثة البشرية التي أجرت بحوثاً موسَّعةً ولم تجد دليلاً على ما جاء به دين هامر.4 وفي عام 2015م قدَّمت تلك الجمعية دراسةً نُشرت في صحيفة التلغراف توضح أنَّ المثلية قد تكون ناجمةً عن العوامل البيئية بعد الولادة.5

ولقد واجهت الادّعاءات بشأن وجود ذلك الجين إشكاليةً كبيرةً وهي علاقة الجينات بالسلوك وهذا ما لم يستطع العلم الحديث إثباته حتَّى اليوم.

يقدِّم (دوغلاس آبوت) أستاذ الدراسات العائلية في جامعة نبراسكا في أمريكا شرحاً لهذا فيقول: (يعتقد كثيرٌ من الناس أنَّ الجينات تتسبَّب في سلوكٍ نفسيٍّ مركَّب، لكنَّ الأمر ليس كذلك، ففي أغلب الحالات ينتج السلوك من تأثيرٍ جينيٍّ متفاعلٍ مع العوامل البيئية، وحرية الإرادة الإنسانية، وعندما نقرأ: إنَّ الجين x يتسبَّب في السلوك y فإنَّ هذه مبالغةٌ لا يصدِّقها إلَّا البسطاء من الناس). ويوضح: (الجينات لا تتسبَّب مباشرةً في السلوك).6

وعن دراسةٍ حول المثلية الجنسية يذكر عالم الإحصاء الحيوي والأوبئة (لورنس ماير) 2016م، وعالم النفس (بول ماكهوغ): (لا يوجد دليلٌ علميٌّ موثوقٌ بأنَّ الجينات تحدِّد الميل الجنسيّ لدى الفرد، وإنَّ فهم التوجُّه الجنسيِّ على أساس أنَّه أمرٌ فطريٌّ ثابتٌ بيولوجياً عند البشر غير مدعومةٍ بأدلَّةٍ علميَّة).3

ويتحدث الدكتور الشهير: (نيل وايتهيد) وهو عالمٌ في الأحياء والإحصاء في كتابه: (هل الجينات فعلت ذلك؟) عن ذلك فيقول في خلاصة مؤلَّفه بعد دراساتٍ وبحوثٍ معمَّقة في علم الوراثة والجينات7:

1- لا يرى أحدٌ من علماء الجينات أنَّ الجينات تُملي السلوك وخاصَّة الجنسيَّ منه، لأنَّ الجينات تصنع البروتينات ولكنَّها لا تورِّث الميول.

2- لو كانت الميول المثلية أمراً تُمليه الجينات لكان اختفى نسلها من المجتمع خلال بضعة أجيال، ولما ظهرت اليوم.

3- لم يُكتشف أيُّ سلوكٍ بشريٍّ تحدِّده الجينات. ولا يمكن للسُّلوك الجنسيِّ الشاذّ أن يكون مُسبَّباً عن طفرةٍ في المورِّثات من الناحية البيولوجية.

4- يندرج الميل إلى نفس الجنس (المثلية) بصورةٍ أساسيَّةٍ تحت تصنيف (السِّمات النفسيَّة).

أسباب ظهور التوجُّه الجنسيّ الشاذّ (المثلية)

يؤكِّد علم النفس أنَّ عملية التنشئة هي عمليةٌ يكتسب الفرد فيها نمط سلوكه وتوجُّهه وفقاً لما يمرُّ به من خبراتٍ عديدةٍ ناتجةٍ عن احتكاكه المباشر وغير المباشر مع مختلف الأفراد والجماعات في الأسرة والمدرسة أو حتَّى ممَّا يشاهده عبر التلفاز، وفي وسائل التواصل عبر الإنترنت. ولهذه التنشئة الدور الأكبر في تركيب شخصية الإنسان وميوله من الناحية النفسية والاجتماعية.

وهناك دورٌ أساسيٌّ للتنشئة الاجتماعية في ظهور الشذوذ الجنسيّ، ويظهر أنَّ العوامل الأكثر وضوحاً وتأثيراً تتمثَّل فيما تقدِّمه اليوم بعض المؤسَّسات الإعلامية الضخمة المسيطرة، وما تبثُّه من مضمونٍ مشجِّعٍ ومروِّجٍ لذلك، وإذا أغمض المجتمع عينيه عمَّا يُغرس في عقول أبنائه ولم يقم الآباء والمربُّون بواجبهم في التربية الجنسيَّة الصحيحة باعتبارها جزءاً هامَّاً من عملية التربية، بحث الأولاد عن مصادر أخرى لإشباع فضولهم المعرفيّ في هذا الشأن، وربما اتَّجهوا إلى الأفلام والصور الإباحية، وما فيها من سمومٍ تؤدِّي إلى الاضطراب والانحراف الجنسيّ.

وفي هذا السياق، نشرت عالمة الاجتماع (آميباتلر) بحثاً تحدَّثت فيه عن أنَّ كثيراً من العوامل الإعلامية والاجتماعية والسياسية لها دورٌ كبيرٌ في تحديد الميول الجنسية، وأشارت في بحثها إلى تغيُّرٌ واضحٍ نحو الزيادة في نسب المثلية بسبب ما سبق ذكره.     

إنَّ السلوك الجنسيَّ في الأساس هو مفهومٌ ثقافيٌّ يتوقَّف على عوامل ثقافيةٍ واجتماعيةٍ أكثر ممَّا يتوقَّف على عوامل بيولوجية8.

وترجع بعض أسباب الشذوذ الجنسي (المثلية) إلى الانشغال بنمط حياةٍ منحرفٍ، والإدمان على المخدِّرات والمواد الإباحية، أو ربَّما هرباً من صدمةٍ حصلت أثناء فترة الطفولة، كما أنَّ عدداً من المثليين تعرَّضوا لاعتداء جنسيٍّ عندما كانوا يافعين، أو أنّهم يميلون إلى سلوكياتهم الشاذة لملء فراغٍ عاطفيٍّ لم يملأه الأب والأم. ويؤكِّد بعض الباحثين: أنَّ هناك علاقةً سببيَّةً بين المواد الإباحية والتوجُّه الجنسيِّ الشاذ9 .

وترى منظمة (Exodus international: _وهي منظَّمةٌ دينيَّةٌ تعمل على نشر التثقيف الجنسيِّ الصحيح، وتساعد المثليين على التخلُّص من سلوكهم الشاذ_ أنَّ أسباب الشذوذ الجنسيّ تتلخَّص في غياب الأبوين أو أحدهما أو التعرض لاعتداء جنسي، أو قسوة الآباء.9

ختاماً:

بناءً على ما سبق، وبما أنَّ المثليَّة سلوكٌ شاذٌّ لا تسبِّبه تغيُّراتٌ فيزيولوجيَّةٌ جسميَّةٌ حسب الرأي الطِّبِّي، ولا تتحكَّم به عوامل وراثيةٌ، وأنَّه اضطرابٌ نفسيٌّ ناتجٌ عن تأثير العوامل البيئيَّة المحيطة وهذه أشياء قابلةٌ للتَّعديل والمعالجة، فبالإمكان تفادي العوامل المساعدة على ظهور التوجُّهات الشاذّة من خلال زيادة جرعات الوعي الاجتماعيّ والتربويّ، وقبل ذلك زيادة الوعي الدينيّ، فهو صمَّام الأمان في المجتمعات الإنسانية في زمن أضاعت معه البشرية بوصلتها.      

 

المراجع

  1. Drescher, J. (2015). Out of DSM: Depathologizing homosexuality. Behavioral sciences, 5(4), 565-575.‏
  2. السياسات الجنسية والمنطق العلمي_ مجلة التاريخ النفسي رقم5_1992_ د. أوسم وصفي
  3. Mayer, L. S., & McHugh, P. R. (2016). Sexuality and gender: Findings from the biological, psychological, and social sciences. The New Atlantis, 10-143.‏
  4. Harrub, B., Thompson, B., & Miller, D. (2004). ‘This is the Way God Made Me’—A Scientific Examination of Homosexuality and the ‘Gay Gene,’. Reason & Revelation, 24(8), 73-79.‏
  5. Ellis, L., & Ames, M. A. (1987). Neurohormonal functioning and sexual orientation: A theory of homosexuality–heterosexuality. Psychological bulletin, 101(2), 233.‏
  6. https://www.aljazeera.net/midan/intellect/sociology/2017/8/1/
  7. Roughton, R. (2003). The international psychoanalytical association and homosexuality. Journal of Gay & Lesbian Psychotherapy, 7(1-2), 189-196.‏

8.شاهين_ إيمان فوزي سعيد_ الجنسية المثلية لدى الذكور: تناولٌ وجوديٌّ فينومينولوجي_ مجلَّة كلية التربية جامعة عين شمس_رقم 11_ العدد(3)/2005

  1. Jahangir, J. B., & Abdul-Latif, H. (2016). Investigating the Islamic perspective on homosexuality. Journal of homosexuality, 63(7), 925-954.‏

الشذوذ الجنسي من الناحية التاريخية

الشذوذ الجنسي من الناحية التاريخية
الشذوذ الجنسي من الناحية التاريخية

الشذوذ الجنسي من الناحية التاريخية
بقلم: أ. محمد زياد الوتار

Loading

رحمته في الجهاد

70 عاماً كانت كفيلةً بقلب المعايير! هل أصبح الشذوذ الجنسيّ أمراً طبيعياً؟

(سلاحٌ للدَّمار الشامل) هو الوصف الأدقُّ لما يواجه العالم اليوم من السُعار الجنسيّ الذي وصل إليه المجتمع الغربيُّ، والذي يسعى جاهداً لنشره عالمياً وفقاً لأجندته الإعلامية في صورةٍ جديدةٍ رسمها للعلاقات الجنسية. شكلٌ لم يعهده الإنسان سابقاً بعد أن فُتح الباب على مصراعيه في عالمٍ من العلاقات المفتوحة.

علاقاتٌ جنسيَّةٌ بلا حدود، لا تجد فيها أيَّ ممنوعٍ أو محظور، كلُّ شيءٍ مباح، كلُّ شيءٍ مسموح، وأيَّاً كان الأمر الذي تفعله، ومع أيٍّ كان، أيَّاً كان جنسه (كلُّه مباح إن تمَّ بالتراضي بين الأطراف). علاقةٌ لا رادع فيها لأيِّ ممارسةٍ تتمُّ تحت مظلَّة القانون والتراضي بين الطرفين، بل لربَّما قولنا: الأطراف هو وصفٌ الأدقُّ، لأنَّ العلاقة المفتوحة تعدَّت كونها علاقةً جنسيَّةً بين اثنين فقط!

يظهر ذلك بالتزامن مع النزعة الفردية التي طفت مؤخَّراً على السطح، والتي تهدف إلى تأليه الإنسان، وإشباع رغباته وشهواته في المقام الأوَّل. فلا يهمُّ البتَّة إن حكمت نتائجها اليقينية بتشويه القيم والأخلاق والفضيلة، أو دمار الجنس البشريّ عندما يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء. يتمُّ كلُّ ذلك عبر تجنيد آلاف القنوات والآلات الإعلاميَّة من قنواتٍ فضائيَّةٍ، ومواقع عبر شبكة الإنترنت تنشر الفحش والرذيلة على مدار الساعة بأشكالٍ تروِّج للشُّذوذ الجنسيّ والانحطاط الأخلاقيِّ حتَّى في المواد الترفيهية التي تُقدَّم للأطفال، فضلاً عن دمج تلك الأفكار في المناهج التعلميَّة ضمن المواد المدرسية في فصولٍ مبكرةٍ لأطفالٍ لم يُتمُّوا السابعة من العمر.

سُعارٌ فكريٌّ يهدف إلى تكوين ثقافةٍ جنسيَّةٍ منحلَّة ٍمن أيِّ قيدٍ أخلاقيٍّ ينظِّمها في مجتمعٍ يسعى إلى التفلُّت ممَّا يسمَّى “سجن الزواج” ليصبح الجنس وإقامة علاقاتٍ متنوِّعةٍ هو الوسيلة الأساسية للاستمتاع. تلك الحالة من الانفلات الحيوانيّ التي توفِّرها العلاقات الفاسدة محوِّلةً الوسيلة إلى غايةٍ في حدِّ ذاتها، يجري كلُّ ذلك تحت مظلَّة القانون وحمايته لتكون هذه الممارسات متاحةً في أيِّ وقتٍ، متدنِّيةً بالإنسان إلى أسفل مراتب الشذوذ الفكريِّ والأخلاقيِّ.

وبعد، هل سمعت بـ(حركة تحرير المثليين)، أو هل تعرف ما هو مجتمع الميم؟

حركة تحرُّر المثليين: هي حراكٌ اجتماعيٌّ للشواذّ، يسعى لمنح كلِّ  الحقوق المدنيَّة للمثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسيّ ممَّن يطلقون على أنفسهم (مجتمع الميم LGBTQ). وبعد أن كانت المثليّة جريمةً يُعاقب عليها القانون أصبحت أمراً طبيعيَّاً ينظِّمه القانون ويحميه في معظم دول أوروبا بل ويمنح أصحابه الحرية والرعاية.

لربَّما تسأل نفسك الآن: كيف حدث ذلك؟ وكيف يرعى القانون أمراً شائناً كهذا، كان في وقتٍ ما من الزمن خارجاً عن القانون والأعراف والأديان؟

تاريخياً، وبالعودة إلى الوراء، وتحديداً إلى ستينات القرن الماضي، يمكننا أن نقول إنَّ معظم القوانين في أوروبا لم تتقبَّل المثلية الجنسية في بادئ الأمر بل على العكس تماماً كانت تجرِّمها وتعاقب عليها، وذلك عندما كان الدين المسيحيُّ هو الحاكم في أوروبا عموماً، وقد فرضت المسيحية عقوبة الإعدام ضدَّ من تثبت عليه تلك الجريمة، ففي القرن السادس عشر، صنَّف المشرِّعون في بريطانيا السلوك المثليَّ على أنَّه سلوكٌ إجراميٌّ وليس مجرَّد سلوكٍ غير أخلاقيّ.

 

إذن كيف تغيَّرت الحكاية وتبدَّلت المعايير؟

في بريطانيا وتحديداً في ثلاثينات القرن الخامس عشر أصدرت إنجلترا قانون اللواط، ووضعت له عقوبة الإعدام شنقاً، وذلك حتَّى عام 1861م، وبعد عشرين عاماً في حوالي 1885م، أثبت قانون العقوبات الألمانيّ الأخير في الفقرة (175) تجريم العلاقات المثلية بين الذكور مع عقوبة السجن والحرمان التامّ من الحقوق المدنية، واستمرَّ هذا الأمر طيَّ الكتمان والسرية بين أفراد مجتمع الميم حتَّى نهاية القرن التاسع عشر، ولم يُرصد أيُّ حراكٍ اجتماعيٍّ يُدافع عن حقوق الشواذّ أو يعلن عنهم؛ لكن وكما هو الحال دائماً إذا أردت لفكرةٍ ما أن يتمَّ تقبُّلها في المجتمع فعليك أن تمهِّد لها الطريق عبر وسائل الإعلام.

إنَّها الطريقة المثلى التي يمكن أن يروَّج من خلالها للأفكار الجديدة. ولأنَّ الشعراء والمفكِّرين هم أهمُّ أدوات الإعلام في ذلك الوقت فقد أعلن اللورد ألفريد دوغلاسحبَّه لشريكه، وميوله المثليّ الجنسيّ لعشيقه أوسكار وايلد في قصيدته التي كتبها عام 1890 بعنوان: “Two Loves عبر قوله صراحةً في قصيدته “أنا المثلية الجنسية؛ أنا الحبّ الذي لا يجرؤ أحدٌ على التحدُّث باسمه”.

تسميمٌ واضحٌ للمفاهيم، وكسرٌ للصورة النمطية لمفهوم الرجولة والأنوثة عبر أجندةٍ إعلاميَّةٍ ممنهجة، وهي السمة الواضحة التي اتَّبعها الإعلام الأمريكيّ عبر وسائله المختلفة لإقناع الناس بأنَّه لا مانع من أن يكون الرجل مخنَّثاً أو أن تكون المرأة مسترجلة، فترويج الفكرة في قالبٍ ترفيهيٍّ أو دراميٍّ يهدف إلى تمرير فكرة تخنُّث الرجال لدى عموم الناس، وهذا أمرٌ واضحٌ، وليس رسالةً خفيَّةً لا يُدركها أيٌّ كان، بل  لطالما روِّج لذلك عبر المنصَّات الإعلاميَّة بمختلف أشكالها.

فعلى سبيل المثال: صوَّرت الممثِّلة الأمريكية سارة سيلفر مان في إعلانٍ لها هذا الاتجاه عندما مثَّلت إعلاناً على أنَّها طبيبة تجري عملية ولادةٍ لإحدى النساء، وبعد تأكُّدها من صحَّة المولود تتوجَّه إلى الأم لتخبرها بلهجةٍ حزينةٍ عن جنسه، فتقول:

 “أنا آسفة… إنَّه ولد“، ورغم أنَّ الإعلان صُوِّر بطريقةٍ ساخرةٍ وسياقٍ كوميديّ إلَّا أنَّ ما ورائيَّاته كانت واضحةً، وتهدف لزرع فكرةٍ فقط، فكرةٍ نافذةٍ وقادرةٍ على تدمير المجتمع السليم، فهذا الإطار يضع الولد في موضع الاتِّهام منذ نعومة أظفاره، وعليه ألَّا يخضع لقيم الرجولة مطلقاً، وهذا هو التمهيد الحقيقيُّ لتدمير معاني الرجولة، وخلق ميلٍ يُشعر الذكور من الأطفال ممَّن يُتاح لهم مشاهدة هذا الإعلان بأنَّهم منقوصي الهويَّة!

مقدِّماتٌ مهّد لها الإعلام الأمريكيّ عبر زرع فكرةٍ سامَّةٍ ليصادق عليها المجتمع، يرويَها ويتعهَّدها فلاحٌ نشيطٌ يقوم بدوره الواضح وهذا الفلاح هو (البرلمان) الذي استخدم أداته (القانون) في سنِّ التشريعات التي تتيح للشواذِّ ممارسة حرِّيَّاتهم صراحةً وعلناً في المجتمع. وكما هو متوقَّعٌ؛ تبادر وتمتثل الحكومات في أوروبا لدعم أيِّ فكرةٍ تٌدمِّر الأسرة والعلاقات السلميَّة تمهيداً لنشر فوضى الأخلاق، متذرِّعةً بأنَّها بلدان الحريَّات المفتوحة، ففي عام 1897 مُنح المثليّون من الرجال والنساء صوتًا انتخابياً مع تأسيس اللجنة العلمية الإنسانية (Wissenschaftlich-humanitäres Komitee؛ WhK) في برلين في ألمانيا مع حقِّ تقديم التماسٍ للمطالبة بإلغاء الفقرة 175 من قانون العقوبات، والتي كانت تجرِّم المثلية والمثلييين في عهد هتلر.

 كما نشرت اللجنة العلمية آنفة الذكر مؤلَّفاتٍ تروِّج للتَّحرُّر الجنسيّ، ورعت تجمُّعات المثليين، وقامت بحملاتٍ لدعم التغيير القانونيّ في جميع أنحاء ألمانيا، وكذلك في هولندا والنمسا، وبحلول عام 1922 كانت قد طوَّرت حوالي 25 لجنةً محلّية للمثليين.

كان مؤسِّس هذه الجمعية هو ماجنوس هيرشفيلد Magnus Hirschfeld، الذي افتتح في عام 1919 معهد العلوم الجنسية (Institut für Sexualwissenschaft)، والذي تبعته بعد عدَّة عقودٍ مراكز أخرى (مثل معهد كينزي لأبحاث الجنس والجندر والتكاثر في الولايات المتحدة).

ساعدت هذه المراكز برعاية الرابطة العالمية ما أسموه: الإصلاح الجنسيّ، والتي تأسَّست عام 1928 في مؤتمرٍ عُقد في كوبنهاغن. وبذلك  أصبحت السلطات أكثر تسامحاً مع النزوات الليلية للمثليين.

إبَّان الحرب العالمية الثانية، لم يكن النشاط الاجتماعي والسياسي للمثليين مرئيًا بشكلٍ عام، وكثيراً ما تتبَّعتهم الشرطة أينما تجمَّعوا؛ لكنَّ هذا كلَّه تغيَّر بعد الحرب العالمية الثانية؛ فقد جلبت الحرب العديد من الشباب إلى المدن، وسلَّطت الضوء على مجتمع المثليين.

أثار الحضور الاجتماعيّ للمثليين في الولايات المتَّحدة بعض ردود الفعل العكسية، لا سيما من الحكومة والشرطة؛ فغالباً ما فُصل موظَّفوهم من الخدمة المدنية، وحاول الجيش كثيراً تطهير صفوفه من الجنود المثليين، لكن تحت هذه القشرة من الملاحقة القانونية كان هناك حراكٌ سياسيٌّ واجتماعيٌّ أكبر يهدف إلى إلغاء تجريم المثلية الجنسية.

إنَّ تخصيص جمعياتٍ وناشطين وفنَّانين ومشاهير وقوانين تتحدَّث في شأن المثلية أمرٌ يجعل الشذوذ مسألةً اجتماعيةً وقضيةً تتملَّك سلطةً واضحةً عبر الأجندة التي قُدِّمت بها بهذا الشكل الجديد حيث تصبح النقاشات العلميَّة ودراسات الأخلاق والقانون والإنتاج الفنيّ مسألة متخصِّصين؛ بمعنى أنَّه لم يعد مسموحاً أن يترك للعامَّة حقُّ الحكم الأخلاقيّ على تلك الممارسات بوصفها أخلاقيةً أو غير أخلاقية، حتَّى لو كانت في فجاجة المثلية؛ بل صادَر من يسمِّيهم المجتمع الحديث: “المتخصصون” حقَّ الكلام في التصنيف الأخلاقي والعلمي، وبعد أن كانت جرماً في يومٍ من الأيَّام أصبح لا يمكن لك أن تتحدَّث عن هؤلاء بسوءٍ، وخصوصاً بعد أن أعلن عددٌ كبيرٌ من المسؤولين في أوروبا عن ميلهم الجنسيّ المثليّ وشرِّعت القوانين لحمايتهم.

الطامَّة الكبرى، أُشعل فتيلها في منتصف القرن العشرين، عندما بدأت المنظَّمات الداعمة للمثلية في التزايد فتأسَّس مركز Cultuur en Ontspannings (“مركز الثقافة والترفيه”)، أو COC، في عام 1946 في أمستردام.

وفي عام 1950 أسَّس هاري هاي في لوس أنجلوس أوَّل منظَّمةٍ للمثليين الذكور، تحت اسم جمعية ماتاشين إضافةً إلى تأسيس منظَّمة مثليات بيليتس عام 1955 على يد فيليس ليون وديل مارتن في سان فرانسيسكو.

تتسارع الأحداث والتطوُّرات فبعد عامين في بريطانيا حوالي عام 1957 أصدرت لجنةٌ برئاسة السير جون ولفندن تقريراً يوصي بحذف العلاقات الجنسية المثلية بين البالغين المتراضين من جرائم القانون الجنائي، ليُدرس القانون جدِّياً، ويتمَّ تنفيذ توصية البرلمان وتحذف الممارسات المثلية من قانون الجرائم الجنسية.

منذ ذلك الوقت، بدأت حركة حقوق المثليين في كسب العديد من الحريات القانونية، لا سيما في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. ولكنَّ الحدث الأهمَّ والمحدَّد لنشاط المثليين في الولايات المتحدة؛ جاء في الساعات الأولى من صباح يوم 28 يونيو/حزيران 1969، عندما داهمت الشرطة حانة ستونوول Stonewall Inn، وهي حانةٌ خاصَّةٌ بالمثليين في قرية غرينتش في مدينة نيويورك، فكانت النتيجة أن انضمَّ ما يقرب من 400 شخصٍ إلى أعمال شغب استمرَّت 45 دقيقة، ثمَّ تستأنف تلك الأعمال في الليالي التالية.

ويحتفل مجتمع  الميم كلَّ عامٍ بهذه الحادثة في شهر يونيو (الذي يطلقون عليه شهر الفخر)، ليس في المدن الأمريكية فقط، بل في العديد من البلدان الأخرى، وذلك بتنظيم مسيرات الفخر.

فخرٌ بما وصلوا إليه من إعلانٍ لميولهم الشاذّة، ورغباتهم المتدنّية التي دعمها القانون لتصير مقبولةً اجتماعياً، فقد حصل الناشطون المثليون في عام 1980 على دعم الحزب الديمقراطي وذلك عندما أدرج الحزب في برنامجه شرط “عدم التمييز” الذي يتضمَّن المساواة بين الميول الجنسيّة المختلفة. كلُّ هذا الدعم كان يسير جنباً إلى جنبٍ مع حملات ناشطي المثليين الذين يحثُّون الرجال والنساء المثليين على “الخروج من القمقم”.

حيث شجَّعت الجمعيَّات التي تُعنى بشؤون الشواذ مجتمعَ الميم على دخول المعترك السياسي، وذلك ليكون إعلاناً رسمياً من الحكومات أنَّه لن تسلب الحقوق المدنية للمثليين بل على العكس؛ فالقانون يضمن للشواذّ أن يتقلَّدوا أرفع المناصب السياسية.

وفي عام 1977، انتخب الناشط الأمريكي في مجال حقوق المثليين هارفي ميلك، لعضوية مجلس المشرفين Board of Supervisors في سان فرانسيسكو، لكنَّه اغتيل في العام التالي.

وفي عام 1983، أصبح جيري ستودز أوَّل عضوٍ في الكونغرس في الولايات المتَّحدة يُعلن عن مثليَّته الجنسية، كما أصبح تامي بالدوين من ولاية ويسكونسن، أوَّل سياسيٍّ مثليّ الجنس يتمُّ انتخابه في كلٍّ من مجلس النوَّاب الأمريكي (1998) ومجلس الشيوخ الأمريكيّ (2012).

وفي عام 2009، انتخب أنيس باركر عمدةً لمدينة هيوستن -رابع أكبر مدينةٍ في أمريكا- ممَّا يجعلها أكبر مدينةٍ في الولايات المتَّحدة تنتخب سياسياً مثلياً علناً رئيساً للبلدية، ثمَّ أتى إقرار المحكمة العليا في 2015 ليمثِّل حلقةً ضمن سلسلةٍ طويلةٍ من الحراك الاجتماعي والسياسيّ لمجتمع الميم.

و في ألمانيا أصبح زواج المثليين قانونياً في البلاد منذ 1 أكتوبر عام 2017، بعدما صوَّت البوندستاغ (البرلمان الاتحادي) بغالبية أعضائه يوم 30 يونيو عام 2017 على تشريعٍ يكفل للشركاء المثليين كامل حقوق التَّبنِّي أيضاً، وكانت الشراكات المسجَّلة قبل ذلك متاحةً للشركاء المثليين منذ إقرارها عام 2001. ضمِنت هذه الشراكات معظم الحقوق القانونية المتاحة للأزواج المغايرين جنسياً وليس كاملها، وتوقَّف العمل بها بعد دخول قانون زواج المثليين حيِّز التنفيذ، فأصبح تبنِّي الشريك المثليّ لأطفال الشريك الآخر البيولوجيين قانونياً عام 2005، وقد جرى تعديل القانون عام 2013 ليسمح أيضاً بتبنِّي أحد الشريكين للطفل الذي تمَّ تبنِّيه سابقاً من قبل الشريك الآخر.

يبدو أنَّ الانحطاط الفكريَّ الذي نراه في هذا العصر بدأ منذ أعوامٍ طويلةٍ مضت جعلت من تلك البشاعة أمراً مُستساغاً يمكن أن نراه في المجتمعات الغربية بشكلٍ علنيٍّ دون أدنى خجل، بل إنَّه أصبح قانونياً في كثيرٍ من البلدان فضلاً عن تطبيع المثلية بطريقةٍ أو بأخرى لتصبح منظومةً بقوانين تتيح لأولئك أن يمارسوا الرذيلة بأشكالٍ شتَّى دون أيّة مُحاسبةٍ، بل على العكس تماماً يسعى مجتمع الميم أن يضمن حقوقه في مقاضاة كلِّ من يعترض على كون أحد أفراده شاذّاً، فلا عجب من أن يجرَّم في القانون من يتهجَّم على أحد أفراد هذا المجتمع الشاذّ بوصفه بأنَّه شخصٌ مقرفٌ أو مقزِّز في ميوله أو توجُّهاته، فهو في قانونهم شخصٌ محترمٌ لا يجب أن تُجرح مشاعره بنعته بتلك الصفات، ويجب الاقتناع بأنَّه يمتلك الحقوق التي تمتلكها أنت كلَّها.

فهل كانت تلك العقود البسيطة من الزمن كفيلةً في قلب تلك المعايير رأساً على عقب؟
هل سيصبح الأسوياء هم المنبوذين في المستقبل!
لا ندري لعلَّ كلَّ ما نعرفه وما ألفناه سيتبدَّل ويتغيَّر… كلُّ شيءٍ ممكنٌ في هذا العالم المجنون.

زياد الوتار

بقلم: أ. محمد زياد الوتار

رحمته ﷺ بالطبيعة

رحمته بالطبيعة
رحمته بالطبيعة

رحمتُهُ ﷺ بالطبيعة

Loading

رحمته في الجهاد

إنّ بين الرحمة والمحبّة ارتباطاً وثيقاً، فالمحبّة من أخصِّ أنواع الرحمة، وكلَّما ازدادت الرَّحمة في القلب نمت المحبّة فيه، وفاض إرهافاً ورِقّةً، وأحبّ كلّ ما حوله من الطبيعة.

ولا أقصد بذلك ما يعتري الرومانسيين، الذين اتّسموا بالإحساس المرهف، والمشاعر الوجدانيّة العميقة، فعشقوا الطبيعة وبادلوها مشاعرهم، واتّخذوها حبيبتهم.

فإنّ هؤلاء العشّاق عاشوا في حالةٍ من التشاؤم والسوداويّة والكآبة، والانزواء عن الحياة، والابتعاد عن الواقع، ولم ينشأ هذا التعلّق بالطبيعة عن نفسٍ سويّةٍ تتكامل فيها معاني المحبّة والرَّحمة، بل هو مذهبٌ يلجأ إليه من اسودّت الدنيا في وجوههم وأرادوا إفراغ مشاعرهم في الطبيعة التي بين أيديهم.

فالعشق عند هؤلاء ليس بصادق، بل هم أشدّ الناس قسوةً إلّا على محبوبهم؛ وقد هربوا من الواقع بقصد ملء الفراغ الذي شتّت قلوبهم، ولم يجدوا ملجأً لهم إلَّا الطبيعة، فاعتاضوا بها عن البشر، وتجاوز هذا التعلّق حدّه عند بعضهم، حتى أصبح حالةً مَرَضيّةً جليّة، فجعل العلاقة بينه وبين الطبيعة علاقة تزاوجٍ مادّيٍّ كما يتزوّج من المرأة.

 أمّا المقصود من محبّة الطبيعة في هذه المقالة: فهي المحبّة الحقيقيّة الصادقة الممتزجة بالرحمة، النابعة من نفسٍ سويّةٍ، ونظرةٍ إيجابيّةٍ إلى الكون بأسره، وهذا ما كان عليه رسول الله من كمال الرحمة والمحبّة التي استوعبت كلّ ما في الخليقة، حتَّى عمّت البشر والطبيعة والجماد، ولم تكن محبّته  للطبيعة نابعةً عن حالةٍ نفسيّةٍ نافرةٍ من البشر، منزويةٍ في زاويةٍ من مشاعر الكآبة والإحباط كما يفعل الرومانسيون، بل كانت محبّته فيضاً من الرحمة التي جعلها الله تعالى في قلبه، والكمال الذي تفوّق به الأنبياء على سائر البشريّة.

فقد شخّص رسول الله  الطبيعة من حوله، وبادلها المحبّة…

فإنّه حين خرج من مكَّة التفت إليها ومَشاعرُ الحبِّ تلتهب بين جوانحه، فخاطبها بلسان الوداد كما يخاطب حبيباً معتذراً عن فراقه وقال لها: (ما أطيبَكِ من بلد، وأحَبَّك إليَّ، ولولا أنَّ قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيرَك) [الترمذي وابن حبان وغيرهما واللفظ للترمذي].

وأَحبَّ حجارتها وأحبّته، فكان فيها حجرٌ يسلّم على رسول الله  فقال: ((إني لأعرف حجراً بمكّة كان يُسلّم عليّ قبل أن أُبعَث، إنّي لأعرفه الآن)) [مسلم والترمذي].

وأَحبَّ جبل أُحُد، وأخبر بأنّ هذا الجبل أيضاً يحبّه حين نظر إليه فقال: «هذا جبلٌ يُحبّنا ونُحبّه» [متفق عليه].

فكان  يبني علاقته مع ما حوله من الأرض والحجارة والجبال والأشجار والطبيعة على المحبّة، فضلاً عن الإنسان، فقد نال شأواً رفيعاً في الرحمة والرّقة والعطف والمحبّة لم يبلغه أحد.

ولم يكن هذا الأمر من طرفه فحسب، بل بادلته تلك الجمادات التي نراها ساكنةً هذا الشعور، فكانت ذرَّاتها مشحونةً بمحبَّة رسول الله وتحنّ شوقاً إليه، كما يحبّها ، وقد ثبت في الحديث الصحيح بل قال ابن كثير (المتواتر) أنَّ رسول الله لمّا صُنِع له المنبر، وقد كان يوم الجمعة يقف إلى جانب جذعٍ من جذوع المسجد، وكان يضع يده عليه، فلما وُضِع المنبر وجاء النَّبيُّ ليخطب وتجاوز الجذع ومضى نحو المنبر، وكان الجذع متشوّقاً إلى رسول الله متشوِّفاً إلى قربه ومسّه له، ففوجئ بأنَّ النَّبيّ قد جاوزه ولم يعرّج عنده، فلم يطق صبراً، فحنّ الجذع وجعل يئنّ كما يئنّ الصبيُّ الذي يُسَكَّن لما يسمع من الذِّكر والوحي عنده، ولم يَسكُن حتّى وضع رسول الله  يده عليه…

قال جابر رضي الله عنه : (فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار، حتَّى جاء النَّبيُّ  فوضع يده عليها فسكنت) [حديث حنين الجذع أخرجه البخاري في عدّة مواضع عن جابر وابن عمر، وكذلك أخرجه الترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وغيرهم].(والعشار هي النوق الحوامل)

 وكان الحسن البصريُّ رحمه الله إذا حدّث بهذا الحديث بكى ثمَّ قال: (يا عباد الله، الخشبة تحنّ إلى رسول الله  شوقاً إليه لمكانه من الله، فأنتم أحقُّ أن تشتاقوا إلى لقائه) [البداية والنهاية لابن كثير من رواية البغوي: (6/132) وابن حبان (6507)].

وكأنّي ببعض القُرّاء يتعجّب ويلوح بباله ما يقوله المنكرون بأنّ الدّين يصدّق الخرافات، فهل من المعقول، أن يسلّم حجرٌ، ويئنَّ جذع…!

فالجواب:

إنّ الحياة ليست مادّةً فحسب، بل هناك ما بعد المادّة ما لم يتوصّل إليه الإنسان، فالحواس لا تُدرك إلَّا النزر اليسير من الحقائق، أمّا الروح فبها يسمو الإنسان، ويتذوّق الحقائق الإيمانيّة والوجدانيّة التي لا يشعر بها ذوو النظرة المادّيّة السطحيّة.

وإنّنا لم ندرك شعور ما حولنا من الطبيعة لأنّ أجناسها مختلفةٌ عنّا، ولكن بيَّنت الدراسة والتجارب أنّ النبات له شعورٌ، ولا عجب إذن أن يحنّ الجذع ويئنّ. وقد أُجرِيَت دراساتٌ في إيطاليا على النباتات، وتبيّن أنّ النباتات تتأثّر وتحبّ وتكره وتخاف. [انظر يوتيوب قناة العربيّة تحت عنوان: (النباتات تتأثّر بمشاعر الإنسان ..تحبّ وتكره، وأحياناً تنتحر) بتاريخ 20/4/2018 ]

وكذلك أجريت دراسةٌ على الماء -وهو جماد- من عدّة باحثين منهم: العالم الفرنسي (جاك بنفنست) وهو أوّل من أثار هذا الموضوع، وتبعه الفرنسي (جاك كولين) واليابانيّ (ماسارو إيموتو) وغيرهم.

 وتبيّن لهم أنّ الماء يحتفظ بذاكرةٍ تُخزّن المعلومات، وأنّه يتأثّر ويتغيّر تشكيله الهندسيّ مع كلِّ صوتٍ أو ضوء أو تفاعلٍ مغناطيسيٍّ ونحوه، وأيّ تشكيلٍ هندسيٍّ فيه فهو بمثابة خليّةٍ معلوماتيّة، وأنّ أقوى التأثيرات التي تقع على الماء هي المشاعر التي تصدر عن الإنسان سواء كانت إيجابيّة أو سلبيّة، كالحبّ والعطف والحنان، أو البغض والحسد والكراهية ونحو ذلك، [انظر صحيفة الاتحاد، مقال تحت عنوان: (ذاكرة الماء) 14 فبراير 2019م، موقع إسلام أون لاين: مقال تحت عنوان: انتبه من ذاكرة الماء] فالماء يتأثّر بالحبّ وبالبغض.

وقبل هذا كلّه، وسواء أُجرِيَت هذه الدراسات أو لم تُجْرَ، فالمؤمن يصدّق الأحداث التي وردت في السنّة عن رسول الله ، ولا يشكّ أحدٌ من المؤمنين بأنّ الله تعالى الذي خلق كلَّ شيءٍ قادرٌ على أن يُنطِق الحجر والنبات وجميع المخلوقات، وأن تعبّر عن محبّتها، فإذا بلَغَنا إنطاقها بالخبر الصادق فلا يسع المؤمن إلّا أن يصدّق به، لأنّ الإيمان منظومةٌ متكاملة، فالإيمان بالله ورسوله يقتضي التسليم بكلّ ما ورد في القرآن الكريم وصحيح السنّة النبويّة.

 وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك النطق والشعور الذي في الطبيعة، وصرّحت به السنّة النبويّة.

فقال تعالى في نطق تلك الكائنات وتسبيحها: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ[الإسراء: 44]

وقال في ما يتعلّق بمشاعرها: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ[الدخان: 29] أي عندما أُغرِق قوم فرعون لم تحزن عليهم الأكوان.

وقال رسول الله  في هذه الآية: (ما من مؤمنٍ إلا وله بابان، بابٌ يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بَكيَا عليه، فذلك قوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوْا مُنْظَرِيْنَ﴾) [أخرجه الترمذي]

وقال عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه في هذه الآية: (إنّ المؤمن إذا مات بكى عليه مُصَلّاه من الأرض، وبابه الذي يصعد منه عمله) [الزهد لأبي داود (ص: 118)].  

وقال رسول الله  في أحاديث آخر الزمان عن نطق الحجر والشجر: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهوديُّ من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهوديٌّ خلفي، فتعال فاقتله، إلَّا الغرقد، فإنَّه من شجر اليهود) [أخرجه مسلم وغيره].

وكلّما ازداد الإيمان في القلب تذوّق هذه المعاني، وأدرك تلك المشاعر المتبادَلة بين البشر والطبيعة، كونهم جميعاً عباد الله وعلى فطرة التوحيد.

فنجد المحبّين العاشقين يشعرون بأنّ كلّ ذرّةٍ في الكون لها قلبٌ ينبض بالمحبّة؛ لأنّ الأرواح تدرك ما لا تدركه الحواسّ، قال المحبّ العالم عفيف التلمساني يخاطب الذات الإلهيّة:

سَبَيْتَ الورى طُرّاً وأنت مُحَـــجَّبُ     فكيف بمن يهواك لو زالت الحُجُبُ

وأصبحتَ معشوقَ القلوب بأسرِها    ولا ذرّة في الكـــــــون إلّا ولـــــها قلــــــــبُ

فها هو حال المحبّين والعاشقين، فإنّهم يشعرون أنّ كلّ شيءٍ في الكون يشاركهم العشق والوله، وهذا الشعور حقٌّ، ولكن لا يلمسه إلَّا أهل الأذواق الرفيعة.

أمّا المنكرون فيتتبّعون ما يَرِد عن النَّبيِّ بالنَّقد والتكذيب، لعدم وصولهم إلى تلك المعاني العميقة الرقيقة، مع أنّ أقواله وأفعاله  جاءت بعين الكمال، فهو مسدّدٌ بالوحي من عند الله تعالى، لكنّهم لم يدركوا ما جاء به لقصور نظرهم.

 وبالمقابل فإنّهم ينظرون إلى المذاهب المبنيّة على الأساطير، والفلسفات، والأوهام، والخيالات، بعين الاحترام والإكبار، ويسمّونها إبداعاً ورومانسيّة.

والحقيقة فإنّ كمال الرحمة والمحبّة والعطف، والمشاعر الراقية إنّما هي في قلب رسول الله ، الذي يتّسع لمحبّة كلّ شيء، فيعامل كلّ ما حوله معاملة عطف وحنان.

ومن ثمّ نجده يشخّص النّعم التي حوله من طعامٍ وشراب، ويجعل العلاقة بينه وبينها كعلاقة الجيران الذين يجب الإحسان إليهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل عليَّ رسول الله  فرأى في بيتي كسرةً مُلقاة، فمشى إليها فشمّها، ثمَّ أكلها فقال:ا عائشة أحسني جوار نعم الله، فإنّها قلَّما نفرت من أهل بيتٍ فكادت أن ترجع إليهم)) [الطبراني في المعجم الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان].

وإنّ هذه النظرة المليئة بالرحمة والمحبّة إلى الطبيعة تفضي إلى الحفاظ على البيئة؛ لذا نجد رسول الله  كان ينهى عمّا يضرّ بالبيئة من هدرٍ وإسرافٍ وقطعٍ للأشجار ونحو ذلك، ويدعو إلى كلِّ ما يُصلحها من ترشيدٍ وإحياء الأراضي بالزراعة والاستثمار ونحو ذلك.   

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنّ النبيّ  مرّ بسعدٍ وهو يتوضّأ، فقال: (مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟) قال: أفي الوضوء سَرَف؟ قال: (نعم، وإن كنت على نهرٍ جار) [أحمد وابن ماجه].

لذا كان الاقتصاد والحفاظ على النِّعَم سجيّةً فيه دون تكلّف، فعن أنس رضي الله عنه قال: (كان النَّبيُّ  يتوضأ بالمدّ، ويغتسل بالصاع، إلى خمسة أمداد) [متفق عليه].

وللتَّرغيب في الحفاظ على البيئة، وإكثار النباتات والزروع والأشجار فقد منح الأرض لكلّ من يحيي مواتاً فيزرعها أو يغرسها، ويرعاها فقال : ((من أحيا أرضاً ميتةً فهي له)) [البخاري وأبو داود والترمذي] وهذا من أعظم القوانين التي تعتمد عليها بعض الدول في الحفاظ على البيئة، والحثّ على الزراعة، وزيادة الثروة النباتيّة.

فرحمته  بالطبيعة ومحبّته لها تتّسق مع هذه التشريعات التي قرّرها في الحفاظ على البيئة.

وبهذا نجد تلك الرحمة والمحبّة والإحساس المرهف مع الإيجابيّة في السلوك عند رسول الله  وامتزاج ذلك بعظمة التشريع الذي جاء به، والتي تصبّ جميعها في محبّة الطبيعة وتنعكس على البشريّة بالخير والنفع. 

رحمته ﷺ بالأطفال

رحمته بالأطفال
رحمته بالأطفال

رحمتُهُ ﷺ بالأطفال

Loading

رحمته في الجهاد

الطفل مشروع الأسرة والمجتمع الناجح، ولن يكون النتاج رجلاً ناجحاً أو امرأةً ناجحةً إلَّا إذا مرَّت طفولته بمراحلها الطبيعية.

ومع تعالي الصيحات التي تنادي بحقوق الأطفال، وضرورة تطبيقها ونشرها في المجتمع، ومع ازدياد المنادين باستخدام أساليب التربية الحديثة، ونبذ طرق التربية القديمة التي لم تحقِّق نتائج مرضيةً، نتساءل: لماذا يزداد العنف ضدَّ الأطفال؟

ولماذا يزداد عدد الأطفال في مراكز الرعاية كلَّ يومٍ بسبب تخلِّي أهلهم عنهم، أو لأنَّهم فاقدو المعيل؟

لماذا تشير تقارير الأمم المتَّحدة إلى وجود العديد من الأطفال الذين يتمُّ استغلالهم سنوياً لأمورٍ غير مشروعةٍ،  مع حرمانهم من التعليم؟ 

أشار تقرير اليونيسكو الصادر حديثاً في الأوَّل من أيلول عام 2022، وأفاد تقرير الأمم المتَّحدة بين عامي 2016، 2020 إلى ارتفاع عدد الأطفال العاملين إلى 160 مليون طفل، وهي أعلى نسبةٍ سُجِّلت عبر التاريخ. وإنَّ أكثر من 240 مليون طفلٍ حول العالم محرومون من حقِّ التعليم.

فهل يُعتبر مفهوم التربية الحديثة، وتطبيق حقوق الطفل نتاجاً للمدنيَّة، ولم يعرفه البشر من قبل؟

أم أنَّ البشرية جرَّبت طريقةً ناجحةً للتَّعامل السَّليم مع الأطفال ليكبروا ويكونوا مُصلحين في مجتمعاتٍ هي اليوم أحوج ما تكون إلى الإصلاح.

الرحمة… هي الكلمة الأجمل عندما نبحث عن طريقةٍ عمليَّةٍ للتَّعامل الصحيح مع البشر جميعاً، ومع الأطفال خاصَّةً…

الرَّحمة التي تجلَّت في أروع صورها في تعامل نبيِّ الرَّحمة مع الأطفال، حيث نجد في السيرة النبوية مواقف عديدةً مع أطفالٍ من مختلف الأعمار والبيئات، ذكوراً وإناثاً…

 ولن نستطيع أن نقول بعد أن نقرأ هذه المواقف إلَّا ما قاله تبارك وتعالى:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107].

يقول أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه: “خرج علينا النَّبيُّ وأُمامة بنت العاص على عاتقه فصلَّى، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها[رواه البخاري]، فهو لا يصبر على بكاء حفيدته، فيحملها حتَّى في  الصلاة، بل إنَّ رحمته كانت تجعله يطيل أو يُقصِّر صلاته بحسب حاجة الأطفال.

يقول عبد الله بن شدَّاد بن الهاد عن أبيه: “خرج علينا رسول الله في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حَسَنًا أو حسينًا، فتقدَّم رسول الله فوضعه ثمَّ كبَّر للصلاة، فصلَّى فسجد بين ظهراني صلاته سجدةً أطالها، قال أبي: (أي شدَّاد بن الهاد) فرفعتُ رأسي، وإذا الصبي على ظهر رسول الله وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلمَّا قضى رسول الله الصَّلاة قال الناس: يا رسول الله إنَّك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدةً أطلتَها حتَّى ظننَّا أنَّه قد حدث أمر، أو أنَّه يوحى إليك، قال: “كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ [رواه النسائي]

فنجد الرحمة سمةً أساسيَّةً في تعامله مع الأطفال بمختلف أعمارهم دون تفريقٍ بين ذكرٍ وأنثى.

بل إنَّه عندما دخل مكَّة فاتحاً استقبله الأطفال، فلم يمنعه الموقف المهيب، ولا الوضع العسكريّ الخطير، أن يتلطَّف معهم، بل ويحملهم… يقول سيِّدنا عبد الله بن عباس: “لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ مَكَّةَ اسْتَقْبَلَتْهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَآخَرَ خَلْفَهُ[رواه البخاري]

ومن استعرض السيرة النبوية العطرة فسيجد فيها قصصاً كثيرةً عن تعامله مع الأطفال، ورحمته بهم، ورفقه بهم.

وأختم بقصَّة رائعةٍ تشعُّ رحمةً ورفقاً:

قصَّة صغيرٍ مات طيره الذي يلعب به، وكأيِّ طفلٍ يتعلَّق بلعبته ويحبُّ من الناس أن يشاركوه مشاعر حزنه لأنَّ الأمر فاجعةٌ كبيرةٌ بالنسبة له، فنجد النَّبيَّ الرَّحيم رئيس الدولة وصاحب الأعباء الكثيرة يجلس بقربه ويواسيه ويداعبه وكأنَّ مشاغل الدنيا انتهت، ولم يبق فيها إلَّا وقتٌ لجبر خاطر هذا الصغير الذي يحتاج كلمة تضمِّد قلبه الحزين. ويروي لنا القصَّة مَن شاهد أحداثها بحوارٍ لطيفٍ جرى بين النَّبيِّ الرَّحيم والطِّفل الصغير:

(عن أنسٍ رضي الله عنه أنَّ ابناً لأمِّ سليم صغيراً، يُقال له أبو عمير، وكان له نُغير (طيرٌ صغيرٌ) وكان رسول الله إذا دخل عليه ضاحَكَه فرآه حزيناً فقال: (ما بال أبي عمير)، قالوا : يا رسول الله مات نُغَيره، قال: فجعل يقول: (يا أبا عمير، ما فعل النُّغير) [مسند الإمام أحمد]

وهنا نتوجَّه بسؤال المحاور المتسائل: هل ترى هذه الرَّحمة بالأطفال التي لم تكن قبل ميثاق حقوق الطفل؟ وهل ترانا لو طبَّقنا هذه الرَّحمة مع أطفالنا هل ستكون تربيتُنا لهم حديثةً أم تقليديَّة؟

هل يخطر ببال من قرأ عن رحمة النَّبيِّ أن يُسيء وهو الرحيم العطوف إلى طفلٍ أو  يتصرَّف بما فيه أذيَّته؟  

رحمته ﷺ مع النساء

رحمته مع النساء
رحمته مع النساء

رحمتُهُ ﷺ مع النّساء

Loading

رحمته في الجهاد

((استَوصوا بالنِّساء خيراً)) [صحيح البخاري]، الوصية الخالدة التي تحمل بين طيَّاتها كلَّ معاني السعادة لكلِّ امرأةٍ في هذا العالم… صدرت تلك الوصية بالخير ممَّن عامل نساءه بكلِّ خيرٍ، سواء كنَّ بناتٍ، أو زوجاتٍ، أو محارم، أو أيّ  امرأةٍ عرفته .

المرأة كائنٌ يميل إلى الرِّقة حتَّى يظنَّ البعض أنَّه يسهل استضعافها، فنجد هذه الوصية تقف بالمرصاد لكلِّ من تسوِّل له نفسه أن يستغلَّ رقَّة المرأة وضعف بنيتها، وهذا ليس نقصاً فيها بل هو من أدوات وظيفتها في هذه الحياة، لذا نجد هذه الوصيَّة تتكرَّر بألفاظٍ متعدِّدةٍ ومواقف كثيرة… والسبب هو رغبته  في تأكيدها وتعميقها في النفوس.

(جاء في كتاب “عالمٌ جديد” لفيدريكو مايور):

  • حوالي 880 مليون أُمِّيّ في العالم هم من النساء.
  • ويوجد بين كلّ ثلاث نساءٍ واحدةٌ لا تعرف القراءة والكتابة.
  • وفي مجال الصحة والغذاء: تموت حوالي 600 ألف امرأةٍ كلَّ عامٍ نتيجة المضاعفات المرتبطة بالحمل والوضع كما جاء في تقرير منظَّمة الصّحّة العالمية في شباط 1997م.
  • وإنَّ  70 %من فقراء العالم هم من النساء.

ووفقا لدراساتٍ أُجريت في تشيلي والمكسيك وكوريا فإنَّ ثلثي النساء على الأقلّ تعرَّضن خلال حياتهنَّ لصورةٍ من صور العنف المنزليّ، وهو السبب الرئيسيّ وراء انتحار النساء) انتهى.

كلُّ هذا يدفعنا إلى تقدير تكرار الوصية بالنساء، ومعرفة أنَّها لم تأت عبثاً من نبيٍّ رحيمٍ بأمَّته.

 ((استوصوا بالنساء خيراً)) [رواه البخاري].

استوصوا بهنَّ خيراً فلا يؤخذ لهنَّ حقٌّ.

استوصوا بهنَّ خيراً فلا يتعرَّضن لإهانةٍ.

استوصوا بهنَّ خيراً في المعاملة بالمعروف.

هنَّ شقائق الرجال، فزيدوا في إكرامهنَّ.

وقد يقول قائل: هذا كلامٌ نظريٌّ كلُّنا نقوله، ولا أحد يستطيع تطبيقه، ولكنَّنا نجد تطبيقه بشكلٍ عمليٍّ في بيوت النَّبيِّ بشهادة نسائه.

فقد كان يُجالسهنَّ، ويُمازحهنَّ، ويستمع إليهنَّ، ويُساعدهنَّ، ويقضي ما يستطيع من حاجاتهنّ، وهو من هو : ((خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) [رواه الترمذي]

لن نستطيع تفصيل جميع المواقف عن رحمته بالنِّساء لكثرتها، وسنكتفي ببعضٍ منها نلمس من خلالها رحمته ولطفه ورقَّته ، ومنها ما رواه البخاريّ عن أنسٍ رضي الله عنه: ((كانت الأمَة من إماء أهل المدينة لَتَأْخُذ بيد رسول الله فتنطلق به حيث شاءت)) [رواه البخاري]، أي كانت الطفلة الصغيرة تريده ليقضي لها أمراً وهو رئيس الدولة وحاكمها وصاحب المشاغل الكثيرة، ولولا علمهنَّ بحسن خلقه ما تجرأن على هذا الفعل.

وأمر بالرِّفق عامَّةً، وبالنِّساء خاصَّةً، فقال : ((ما كان الرِّفق في شيءٍ إلَّا زَانَه، ولا نُزع من شيءٍ إلَّا شانه))، وقال: ((إنَّ الله رفيقٌ يحبُّ الرِّفق، ويعطي على الرِّفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه)) [رواه مسلم]. وعن أنسٍ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ كان في سفر، وكان غلامٌ يَحْدُو بِهِنَّ يُقَالُ لهُ: أنجشة، فقال النَّبيُّ : ((رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ، سَوْقَكَ بِالقوارير(النساء))) [رواه البخاري].

قال قَتادة: “يعني ضَعَفة النِّساء“، وقال النوويّ: “ومعناه: الأمر بالرِّفق بهنّ…

أي: ارفق في سوقك بالقوارير، قال العلماء: سمَّى النساء قوارير، لضعف عزائمهنَّ، تشبيهاً بقارورة الزجاج لضعفها، وإسراع الانكسار إليها ” فياله من تشبيهٍ يملأ قلب كلِّ امرأةٍ بشعور الحبِّ لمن يقدِّر رقَّتها وأنوثتها.

ومن لطفه وحسن عشرته بزوجته أنَّه كان يشرب من موضع شربها، ويُثني عليها، ويُصرِّح بحبِّه لها، ويخرج معها، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كنتُ أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النَّبيّ فيضع فاه على موضع فيّ فيشرب، وأَتَعَرَّق العَرْقِ [أي آخذ بأسناني العظم الذي بقي عليه شيءٌ من اللحم]، وأنا حائض ثم أناوله النَّبيَّ فيضع فاه على موضع فيّ)) [رواه مسلم].

وقال : ((إنَّك لن تنفق نفقةً إلَّا أُجِرت عليها، حتَّى اللقمة ترفعها إلى فِّي امرأتك)) [رواه البخاري].

 ويُثني على عائشة رضي الله عنها فيقول: ((إنَّ فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) [رواه مسلم]، ويقول عن خديجة رضي الله عنها: ((إنِّي رُزِقتُ حُبَّها)) [رواه مسلم]، وكان ((إذا كان بالليل سار مع عائشة رضي الله عنها يتحدَّث معها)). [رواه مسلم].

لقد أرشد النَّبيُّ  أُمَّته إلى ما ينبغي أن تكون عليه حسن العشرة الزوجية بقوله وفعله، والثابت عنه في هذا الباب أحاديث ومواقف كثيرة، قال ابن كثير: “وكان من أخلاق النَّبيِّ  أنَّه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطَّف بهم، ويوسعهم نفقةً، ويضاحك نساءه… إلى أن قال: “وكان يجمع نساءه كلَّ ليلةٍ في بيت التي يبيت عندها فيأكل معهنَّ العَشاء في بعض الأحيان، ثمَّ تنصرف كلُّ واحدةٍ منهنَّ إلى منزلها. وكان إذا صلَّى العِشاء دخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك  .

وقد قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً[الأحزاب:21].

فالرَّحمة منه طبعٌ وسجيَّةٌ، وليست تكلُّفاً ولا تظاهراً.

لذا نجدها تشعّ في كلِّ تصرُّفاته، ومع كلِّ من يحيط به من صديقٍ أو عدو، كبير أو صغير، رجلٍ أو امرأة، قريب أو بعيد…

كيف لا، وهو الرَّحمة المهداة لهذه الأمَّة… فأحرى بنا أن نتعلَّم منه، ونقتدي به حتَّى تنعكس الرَّحمة خيراً على مجتمعاتنا وفرجاً بعد ضيقٍ لأحوالنا…

نسأل الله أن يرحمنا، ويرحم بنا. 

رحمته ﷺ في التشريع

رحمته ﷺ في التشريع
رحمته ﷺ في التشريع

رحمتُهُ ﷺ في التشريع

Loading

رحمته في التشريع

إنّ النَّبيَّ محمَّداً مَظهرٌ من مظاهر رحمة الله تعالى، وقد شملت رحمته  جميع جوانب الحياة، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107]، وقال عن نفسه: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» [مصنف ابن أبي شيبة والدارمي، وفي صحيح مسلم حديث آخر بلفظ: «وإنما بعثت رحمة»].

وسنتناول في هذا المقال جانباً من جوانب رحمته  وهي رحمته في التشريع، ورغبته في التخفيف والتيسير ورفع الحرج عن أمّته.

ولا يمكن أن نستقصي رحمته في مجال التشريع ونحيط بهذا الجانب العظيم، وسنكتفي بإضاءاتٍ ونُبَذٍ في جانب العبادات والأضحية والنذور، وإليك البيان:

1- في الطهارة والصلاة:

أ- كان النَّبيُّ رحيماً بأمَّته يُؤثِر التخفيف والتيسير في الأحكام، ولا يحبُّ إيقاع المشقّة والحرج عليها، حتّى لو كان في المشقّة مزيدٌ من الأجر والثواب، وإذا جاز أن يقع الحكم بين الوجوب والندب فيؤثر الندب، حتَّى لا يُلزم أمَّته بالأشقّ، وكان هذا طبعه (ما خُيِّر رسول الله ﷺ بين أمرين، أحدهما أيسر من الآخر، إلَّا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً).

 ومن هذا التيسير والتخفيف المنبثق من رحمته في التشريعات التي شرعها عن ربّه: عدم إيجاب الوضوء لكلّ صلاة ما لم ينتقض، مع أنّ الوضوء لكلّ صلاة هو الأفضل والأكمل، وعدم إيجاب السواك عند الصلاة، مع شدّة الترغيب فيه، وعدم تأخير صلاة العشاء إلى نصف الليل، مع أنّ التأخير هو الأفضل؛ فلم يشأ أن يوجب ذلك على الأمَّة، بل آثر التخفيف ورفع المشقّة عنها بأن تكون تلك الأفعال مندوبةً لا واجبة، فقال : «لولا أن أشقّ على أُمَّتي لأمرتهم بالوضوء عند كلِّ صلاة، ومع كلِّ وضوء سواك، ولأخّرت العشاء إلى نصف الليل» [أخرجه الشافعي في مسنده، وأحمد، والطيالسي، واللفظ للطيالسي].

ب- الحكم بطهارة سؤر الهرّة:

مع شدّة اهتمام الإسلام بالطهارة والتحرُّز من النجاسات بأنواعها، وكون الطهارة هي الشرط الأول للصلاة، إلّا أنّ الهرّة أمرها مختلف، فنجد النَّبيَّ قد أخرجها عن القاعدة العامة، مع أنَّها تأكل الفئران، ويغلب على فمها النجاسة، ومع ذلك فقد حكم النَّبيُّ  على سؤرها بالطهارة ما لم نتيقن نجاسة فمها، وسبب ذلك أنّ الحكم على أمر الهرة يتنازعه جانبان، جانب التحرّز من النجاسات، وجانب الرحمة بالحيوان.

فإذا رُجّح جانب التحرّز من النجاسة، فسيتجنّبها الناس ويغطّون آنيتهم، والهرة تعيش في البيوت، وربّما احتاجت إلى شرب الماء ولم تجد ما يبلّ كبدها فيصيبها العطش، فعفا النبيّ عن نجاسة سؤرها ما لم تكن مُتيقنة، مراعاةً لجانب الرحمة بالهرّة؛ لأنَّها كثيرة الطواف بالبيوت، وتحتاج إلى الماء والطعام، وليس من أصول الشرع ولا من دَيدنه أن يحرم الحيوانات من طعامها أو شرابها، فحكَم على سؤرها بالطهارة؛ لذا علَّل النَّبيُّ  عدم نجاستها بعلَّة الطواف على البيوت، فقال: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ والطوافات» [الموطأ، أحمد، أبو داود، النسائي، الترمذي].

وإذا عدنا إلى علَّة عدم نجاسة سؤر الهرة -وهي الطواف- كما أومأ إلى ذلك النَّبيُّ  نجد هذه العلَّة غير مناسبة، فلا علاقة بين الطواف وعدم النجاسة؛ لأنَّ النجاسة أمرٌ محسوسٌ والطَّواف حال، والحال لا يعلَّل به، ولم يُعهد من الشرع أن الطواف ينافي النجاسات.

فكان الحكم بطهارة سؤر الهرّة يخالف القياس من باب تغليب قاعدة الرحمة على أصول الأحكام الفقهية.

فالهرَّة من الحيوانات الأليفة التي تعيش في البيوت، فكان على أهل البيت الذي تدخله أن يحسنوا إليها لأنّ النَّبيَّ شبّهها بالسائل والمحتاج، وقد خفَّف النَّبيُّ في حكمها تشجيعاً لإكرامها، وحكم على سؤرها بالطهارة ليطمئنّ أهل البيت الذي تدخله ولا تنفر نفوسهم منها، فكان ذلك من رحمة النَّبيِّ  في التشريع.

قال الخطَّابي في هذا الحديث: (شبَّهها [] بمن يطوف للحاجة والمسألة، يريد أنّ الأجرَ في مواساتها كالأجر في مواساة من يطوف للحاجة ويتعرّض للمسألة) [معالم السنن: (1/41)]. 

 وهذا التخفيف يتناول جانبين: جانب الهرّة لتلاقي العناية والرعاية والطعام والشراب، وجانب المكلّفين ليرفع عنهم الحرج في التعامل معها.

ب- تخفيف النَّبيِّ  صلاة الجماعة حتَّى لا يشقّ على أمَّهات الصبيان:

إنّ النبي  يجد أعظم حالةٍ من السعادة ومنتهى الراحة في صلاته ومناجاته لربّه، والشعور بتلك الحالة الإيمانية من الخشوع؛ لذا قال: «وَجُعِلَت قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» [أحمد والنسائي]، وكان إذا أمر بإقامة الصلاة قال: (يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها) [أبو داود].

فكان يحبّ أن يطيل الصلاة، ويستمرَّ في ذلك العروج الروحيّ مع ربّه؛ لكنّه  إذا سمع طفلاً يبكي قطع تلك الحالة التي يريد أن يطيل فيها، وآثر تخفيف الصلاة شفقةً ورحمةً بأمّ ذلك الصبي، فعن أبي قتادة رضي الله عنه عن النَّبيِّ  قال: «إنِّي لأقوم في الصلاة أريد أن أُطوّل فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوّز في صلاتي كراهية أن أشقَّ على أمِّه» [متفق عليه].

ج- امتناعه عن صلاة قيام الليل جماعةً خشية أن تُفرض على أمّته:

 خرج النَّبيُّ ذات ليلة من جوف الليل، فصلَّى في المسجد، فصلَّى رجالٌ بصلاته، فأصبح الناس، فتحدّثوا أنهم صلّوا خلف النَّبيِّ ، فاجتمع أكثر منهم في اليوم الثاني، وصلُّوا معه، ثم أصبح الناس، يتحدَّثون عن صلاتهم مع النَّبيِّ r، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله ﷺ، فصلّوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة امتلأ المسجد وغصّ بالمصلّين فلم يخرج إليهم  حتَّى صلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، فتشهَّد، ثمَّ قال: «أمَّا بعد، فإنَّه لم يَخْفَ عليَّ مكانكم، لكنِّي خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها» [متفق عليه]، فقد ترك صلاة الليل جماعةً مع أصحابه رحمةً بأمّته  خشية أن يأتيه الوحي ويأمر بوجوب صلاة قيام الليل، فيشقّ ذلك على أمته ويعجزوا عنها.

2- في الزكاة والصدقة:

أ- نهي النَّبيُّ  القائمين على الزكاة أن يأخذوا من الأموال النفيسة المحبّبة لأصحابها:

 فقد أوجب الله الزكاة عبادةً وطُهرةً لعباده ومواساةً للفقراء، ومن طبع الإنسان أنّه يميل إلى النفيس من الأموال سواءً كانت من الحيوانات أو غيرها، ويجد في بذلها حرجاً؛ لذا نهى النَّبيُّ القائمين على الزكاة عن  أن يأخذوا الأموال النفيسة المحبّبة إلى أصحابها، حتى لا يشقّ ذلك عليهم، فكان من وصاياه لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله إلى اليمن: (فأعلمهم أنَّ الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُرَدّ في فقرائهم، فإن أطاعوا لذلك فإيَّاك وكرائمَ أموالهم) [متفق عليه]، والمقصود بكرائم أموالهم: النفيس من الإبل والأنعام وسائر الأموال.

فالواجب الذي قرّره رسول الله  إخراج الزكاة من الوسط لا من النفيس ولا من الخسيس.

وبهذا نجد رحمته في مراعاة حال الناس في تقديم الزكاة.

ب- عدم استرداد الصدقة ممّن قبضها ولم يكن مقصوداً بالعطاء:

وضع يزيد بن الأخنس رضي الله عنه دنانير عند رجلٍ في المسجد ليتصدّق بها على فقير، فأعطى ذلك الرجل هذه الصدقة لِمَعن بن يزيد، وهو لا يعلم أنّه ولده، وكان معن فقيراً، فأخذها معن وجاء بها إلى والده يزيد، وأخبره بأنّ رجلاً في المسجد أعطاه هذه الصدقة، فقال له أبوه (والله ما إيّاك أردت) أي ما أخرجتها لأتصدّق بها عليك، فتحاكما إلى النَّبيِّ فقضى النَّبيُّ لمعن بأن يأخذ الصدقة، وأخبر يزيد بأنّ له الثواب كاملاً بنيّته، حتَّى وإن أخذها ولده، فقال : «لك ما نويتَ يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن» [صحيح البخاري]، فلم يكسر النَّبيّ  بخاطر معنٍ ولم يأخذ الصدقة منه بعد أن قبضها، بل أبقاها في يده.

3- في الصيام:

أ- نهي النَّبيّ  أصحابه عن الوصال في الصيام:

الوصال في الصيام: هو أن يمسك الصائم يومه ولا يفطر ولا يتسحّر حتى اليوم الثاني أو الثالث، وقد كان يفعله النَّبيّ فوَاصَل الصحابة مثله، فنهاهم عن ذلك؛ لما فيه من المشقّة عليهم، ولأنّ النَّبيَّ في تشريع الأحكام ينظر إلى الأمّة بأكملها، ولا يسير بهم على سير أهل الهمّة والعزم، بل يراعي وضع العامّة، ويغلّب جانب التيسير؛ لذا قال لهم : «إيَّاكم والوصال» مرَّتين، قيل: إنَّك تواصل، قال: «إنِّي أبيت يطعمني ربّي ويسقين، فاكلفوا من العمل ما تطيقون» [متفق عليه]

ب- عدم عقوبة النَّبيّ  لمن واقعَ أهله في رمضان وأفسد صومه، بل أعطاه قوتاً له ولأهله:

واقعَ أعرابيٌّ زوجته في شهر رمضان، وعلم قومه بفعلته، فأخبروه -عن جهلٍ منهم- بأنّ النبيّ سيوقع عليه عقوبةً شديدة، فجاء إلى رسول الله خائفاً جزِعاً يضرب نحره وينتف شعره ويقول: هلك الأبعد-كما في رواية الإمام مالك- فهدّأ النَّبيُّ  من روعه، ولم يعنّفه أو يزجره، بل عامله بمنتهى الرحمة والشفقة.

وإليك الحوار الذي وقع بينه وبين النَّبيّ :

جاء رجلٌ إلى النَّبيّ  فقال: هلكتُ يا رسول الله، قال: «وما أهلكك؟»، قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: «هل تجد ما تعتق رقبة؟» قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا، قال: «فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟» قال: لا، قال: ثم جلس، فأُتِي النَّبيُّ  بعَرَق فيه تمر-أي (وعاء)- فقال: «تصدَّق بهذا» قال: على من هو أفقر منَّا؟ فما بين لابتيها أهل بيتٍ أحوج إليه منَّا، فضحك النَّبيُّ  حتى بدت أنيابه، ثمَّ قال: «اذهب فأطعمه أهلك» [متفق عليه].

فقد ذهب الأعرابيُّ إلى النَّبيّ خائفاً من العقوبة مشفقاً بسبب ذنبه وإفطاره بمواقعة أهله في شهر رمضان، وعاد آمناً مسروراً يحمل قوتاً لأهله وعياله، بفضل رحمته .

4- في الحجّ:

أ- رفض النَّبيُّ  أن يجيب السائل حتى لا يجب الحجّ كلَّ عام:

 خطب النَّبيُّ  فقال: «أيُّها الناس، قد فرض الله عليكم الحجَّ، فحُجُّوا»، فقال رجل: أكلَّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكت حتَّى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله ﷺ: «لو قلتُ نعم لوجبت، ولما استطعتم»، ثمَّ قال: «ذروني ما تركتكم، فإنَّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فدعوه» [مسلم].

 فقد كان وجوب الحجِّ كلَّ عامٍ مرهوناً بقوله : (نعم) ولو قالها لوجب الحجُّ كلَّ عامٍ ووقع الناس في حرجٍ ومشقَّة، لذا لم يُجب النَّبيُّ  السائل، ونهى عن الأسئلة رحمةً بالأمَّة كي لا يشدّدوا على أنفسهم فيشدّد الله عليهم.

ب- افعل ولا حرج:

 بيّن النَّبيّ مناسك الحجّ بأفعاله، فجاء بها على الترتيب، وخالف كثيرٌ ممّن حجّ معه الترتيبَ الذي جاء به، فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح، قال: «اذبح ولا حرج»، فجاء آخر، فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: «ارم ولا حرج»، فما سُئل يومئذٍ عن شيءٍ قدّم ولا أخَّر إلَّا قال: «افعل ولا حرج» [متفق عليه]، تخفيفاً ورحمةً بأمّته .

 ج- إذنه  للضعَفة أن يخرجوا من مزدلفة إلى منى بعد منتصف الليل:

الأصل بقاء الحجّاج في مزدلفة، فلا يجاوزونها حتَّى الصباح، وكان بعض الضعفاء والكبار والنساء يشقُّ عليهم أن ينفروا في الزحام، فأذن لهم أن يخرجوا إلى منى بعد منتصف الليل قبل أن يخرج الناس، وممّن أذن لهم: سودة بنت زمعة رضي الله عنها، قالت عائشة رضي الله عنها: (نزلنا المزدلفة فاستأذنت النبيَ ﷺ سودةُ، أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأةً بطيئة، فأذن لها، فدفعت قبل حطمة الناس) [متفق عليه]، وذلك رحمةً بهم وتيسيراً عليهم.

6- في الأضاحي:

بيّن النَّبيُّ في خطبة يوم الأضحى أنّ وقت الأضحية يكون بعد صلاة العيد، ولا يجزئ الذبح قبلها، فقام أبو بردة بن نيار فقال: (يا رسول الله ذبحت أضحيتي قبل أن أخرج إلى الصلاة، فتعجّلت فأكلت وأطعمت أهلي وجيراني، فقال رسول الله ﷺ: «تلك شاة لحم».

 فقال: عندي عناق جذعة، فهل تجزئ عنّي؟ أي سنّها صغير دون سنّ الأضحية المشروعة فجبر النَّبيُّ  بخاطره وقال له: «نعم، ولن تجزئ عن أحدٍ بعدك» أي تصحّ منك هذه العناق أضحيةً بهذا السنّ دون غيرك، وهذا حكمٌ خاصّ بك.

7- في النذور:

بينا النَّبيُّ  يخطب، إذا هو برجلٍ قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظلّ، ولا يتكلم، ويصوم.

فقال النَّبيُّ : «مُره فليتكلَّم وليستظلَّ وليقعد، وليتمَّ صومه» [متفق عليه]، فقد نذر أبو إسرائيل ما فيه مشقَّةٌ عليه، فأمره النَّبيُّ ألّا يلتزم بهذا النذر، ولا يشقّ على نفسه بالوقوف تحت الشمس، وعدم الجلوس، والامتناع عن الكلام، أمّا الصوم فيتمّه لأنّه قربةٌ وطاعة، فالنَّبيُّ  جاء بالرحمة لا بالعقوبة.

وبهذا نجد أنّ النَّبيَّ  كان رحيماً بأمّته في جانب التشريع، ويرغب بالتيسير والتخفيف ورفع الحرج عنها.

رحمتُه ﷺ في الجهاد

رحمته ﷺ في الجهاد
رحمته ﷺ في الجهاد

رحمتُهُ ﷺ في الجهاد

Loading

رحمته في الجهاد

تحدَّثنا في المقال السابق (رحمته ﷺ بالمخالف) عن رحمة النَّبيِّ بالمخالفين في العقيدة، وذكرنا في معرض ذلك نموذجين من نماذج تعامله مع الناس؛ وبيّنا أنَّه لا يُنكر رحمة النَّبيِّ إلَّا جاهلٌ به أو مُعرضٌ عنه.

وسنخصِّص هذا المقال للحديث عن مواقف من سيرته في تعامله مع المحاربين في ساحات الجهاد، بعد تبيين معنى الجهاد في الإسلام، والعلاقة بينه وبين الرحمة.

فلسفة الجهاد في الإسلام:

قد يُتعجَّب من التعارض الظاهريِّ بين شطري عنوان المقال، فكيف لمقالٍ واحدٍ أن يحوي كلمتي (الرَّحمة) و(الجهاد) معاً! أليس الجهاد هو القتال والحرب والسيوف والدماء؟ فكيف لهذا المفهوم أن يتَّسق مع كلمة (الرحمة)؟ ما هذا التناقض!

نعم، قد تتعارض الصورة النمطية الظاهرية للجهاد مع مفهوم الرحمة، وذلك لبعد المفهوم النمطي للجهاد عن المعنى الحقيقيّ المراد من تشريعه، فمن نظر إلى الجهاد على أنَّه قتلٌ وتقتيلٌ وسفكٌ للدِّماء، فلا بدَّ أن يرى التعارض جليّاً بينه وبينه الرحمة، أمَّا من فهم الجهاد من منظوره القرآني ومن خلال سنَّة النَّبيّ ، وتعامل الصحابة الفاتحين، لَعلِم ما في هذا الخُلُق الرفيع من رحمةٍ وتضحيةٍ في سبيل سعادة الآخرين.

يمكن تلخيص مفهوم الجهاد في الإسلام بكلماتٍ موجزةٍ عبّر عنها الصحابيُّ الجليل (ربعيُّ بن عامر) رضي الله عنه أحد قادة الفتح الإسلاميّ للعراق في حديثه مع قائد جيش الفرس (رستم) عندما سأله الأخير عن الذي جاء بهؤلاء الفاتحين من الصحراء القاحلة إلى عقر ديار الفرس؛ ليجيبه (ربعيّ بن عامر) بكلماتٍ جليلةٍ بليغةٍ خلَّدها التاريخ:

(إنَّ الله ابعتثنا لِنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جَورِ الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدُّنيا إلى سَعة الدُّنيا والآخرة).

يتبيَّن لنا من هذه العبارات أنَّ المجاهد الحقيقيَّ إنَّما يضحِّي بنفسه وماله في سبيل أن تصل كلمة الحقّ والعدل والرحمة إلى الآخرين، لا لقرابةٍ بينه وبين من يجاهد من أجله، ولا لمصلحةٍ يرجوها منه، أو دنيا يصيبها معه؛ بل لوجه الله سبحانه الذي أمره بأن يقاتل في سبيل إخراج هؤلاء البشر من الظلمات إلى النور.

انطلق الصّحابة الكرام ومَن بعدهم بهذه الرسالة السامية فاتحين مشارق الأرض ومغاربها، وما كان لهذا الصحابيّ الجليل أن يعي هذا المفهوم إلَّا من خلال ما تعلَّمه من نبيِّه ومن خلال ما قرأه في قرآنه الكريم.

فنجد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا[سورة النساء: 75]

فإنَّ النَّبيّ ما جاهد إلَّا ليمنع الظلم والطغيان، وما أراد من قومٍ جاهدهم إلَّا أن يفوزوا بسعادة الدُّنيا والآخرة، وأن يخرجوا من ظلام الجاهلية إلى نور المعرفة والإيمان. ولذلك نجد في سيرته مواقف تدلُّ على هذه الرحمة في الجهاد، فكان حريصاً على استئصال عداوة المقاتلين بدلاً من استئصال أرواحهم.

((اللهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون))

((اشتدَّ البلاء على رسول الله في غزوة أُحُد حتَّى جرح وجهه الشريف، وكُسِرت رباعيَّته، وهشمت البيضة (الخوذة) على رأسه، وكانت فاطمة رضي الله عنها تغسل الدَّم، حتَّى أخذت قطعةً من حصيرٍ فأحرقته حتَّى صار رماداً، ثمَّ ألزقته بالجرح)) [أخرجه الطبراني في المعجم]

وفي وسط ذلك البلاء كلِّه، يدعو النَّبيُّ لقومه الذين آذوه فيقول: ((اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمونَ)).

إنَّهم لا يعلمون أنَّهم يؤذون أنفسهم، إنَّهم لا يعلمون أنَّهم بعداوتهم للحقِّ يُعادون مصلحتهم، فأنا ما جئت إلَّا لأخلِّصهم من الظلمات التي ملأت قلوبهم؛ اللهمَّ اغفر لهم فإنَّهم لا يعلمون!

موقفه مع سهيل بن عمرو يوم بدر:

ومن اللفتات الجميلة في سيرة النَّبيّ موقفه مع خطيب مكَّة، سهيل بن عمرو، الذي كان يحرِّض النَّاس على النَّبيّ في مكّة.

فبعد غزوة بدر كان سهيل من ضمن الذين أُسروا مع المشركين، وأراد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أن ينتقم منه لشدَّة لسانه في التحريض ضدَّ النَّبيِّ ، فقال له: يا رسول الله، دعني أنزع ثنيّتي سهيل بن عمرو حتَّى لا يقوم عليك خطيباً بعد اليوم، فأجابه النَّبيُّ : ((لَا أُمَثِّلُ بِهِ فَيُمَثِّلُ اللَّهُ بِي، وَإِنْ كُنْتُ نَبِيًّا)) ثم أدنى عمر منه وقال: ((إنَّهُ عَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَاماً لَا تَذُمُّهُ)). [رواه ابن إسحاق وابن هشام في السيرة]

فاستطاع النَّبيُّ أن ينزع العداوة من قلب سهيل بهذا الموقف، وما مرَّت سنواتٌ قليلةٌ حتَّى جاء سهيل يفاوض عن المشركين في صلح الحديبية وقد تهلَّل وجه النَّبيّ برؤيته فقال: ((لقد سَهُلَ لَكُم مِن أَمْرِكُم))، وأسفرت المفاوضات عن الصلح مع مشركي قريش.

وبعد سنواتٍ أخرى وقف سهيل بن عمرو رضي الله عنه موقفاً كان قد بشَّر به النَّبيُّ ، إذ خطب في أهل مكَّة بعد وفاة النَّبيِّ يثبِّتهم على الإسلام، ويذكِّرهم أنَّ الإسلام لم ينته بوفاة النَّبيِّ ، فانقلب الخطيب الذي يحرِّض على عداوة النَّبيِّ بالأمس إلى خطيبٍ يثبِّت الناس على الإسلام بفضل رحمة النَّبيِّ .

((رحمةٌ مهداة)):

بهذه المواقف وغيرها، يتبيّن لكلِّ من درس سيرة النَّبيِّ بإنصاف، مسلماً كان أم غير مسلم؛ أنَّ أبرز صفةٍ من صفات النَّبيِّ كانت صفة الرَّحمة، ولذلك قال الله سبحانه عنه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ[الأنبياء107]، فليس الأمر ادِّعاءً يدَّعيه أتباع نبيٍّ عن نبيّهم، بل هي جملةٌ من المواقف والمشاهد يستطيع كلُّ باحثٍ عن الحقيقة أن يفنّدها ويبحث بها، وأن يتقصَّى أخبارها عسى أن يجد إلى الهداية سبيلاً.

ومن عَسُر ذلك عليه، فليخالط أتباعه الحقيقيين، الذين فهموا الإسلام من منبعه الصافي، ليرى أخلاق نبيِّهم فيهم، وألَّا يُعير انتباهه لشذَّاذ الفكر والتاريخ، يظنُّون أنَّهم يعبِّرون عن منهج رسول الله ﷺ لمجرَّد انتسابٍ لاسمه.

فهل سيبقى بعد ذلك من يشكُّ في أنَّه : رحمةٌ للعالمين؟

رحمتُهُ ﷺ بالمخالف

رحمته ﷺ بالمخالف

رحمتُهُ ﷺ بالمخالف

Loading

 

 

يحتفي المسلمون عامَّةً في مثل هذا الوقت من كلِّ عامٍ بمولد خير البشرية، رسول الله محمَّدٍ ﷺ، الرؤوف بأصحابه، الرحيم بأعدائه، الذي ما خالطه أحدٌ من الخلق إلَّا نال حظَّاً من معين حنانه ووابل محبَّته.

لكنَّ زمن الشُّبُهات بات يعكِّر صفو العاشقين، ويكدِّر على المشتاقين والمتولّهين صفاء هذه الأيام الطيِّبات. فمع تعالي صيحات المنكرين، وكثرة طعون المغيبين؛ يجد المرء نفسه مضطراً إلى إجلاء نور الشمس في وضح النهار، لا من عيبٍ أصاب ضياءها، بل من رمدٍ في بصر الناس، وغشاوةٍ علت بصائرهم وأفئدتهم. فصاروا يسألون عن سناها، متألِّبين محتارين لا يهتدون سبيلاً.

﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُۥ مُنكِرُونَ

في معرض توبيخ الله للمشركين المنكرين لنبوَّة محمَّدٍ ﷺ، ذكر جلَّ جلاله علامةً من علامات النُّبوَّة تسترعي انتباه السامعين، فقال سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُۥ مُنكِرُونَ﴾ [سورة المؤمنون : 69].

وفي الآية السابقة دلالةٌ قويَّةٌ على علاقةٍ بين معرفة النَّبيِّ ﷺ وطرد الشُّبُهات والأقاويل حول شخصه صلَّى الله عليه وسلَّم، فمن الطَّبيعيّ على من لم يخالط إنساناً أن يشكَّ فيه لأوَّل وهلةٍ حتَّى يتبيَّن له صدقه من كذبه. لكنَّ العجيب أن ينكر عظيمَ خُلُقه ﷺ قومٌ عاشوا معه، وشهدوا معه المواقف تلو المواقف، ثم تراهم  ينكسون على رؤوسهم بعد كلِّ ذلك منكرين مستكبرين.

لذلك سنتعرَّف في هذا المقال على شيءٍ من عظيم خُلُق النَّبيِّ ﷺ ورحمته مع من خالفه بالعقيدة، فضلاً عن إخوانه وأصحابه؛ كي تكون تلك المواقف شاهداً لكلِّ من حالت بينه وبين رسول الله ﷺ الحجب، ولم يوفَّق ولم يهتد إلى قراءة شيءٍ من سيرته ليشهد على عظيم رحمته ﷺ.

((زِدْهُ مَكَانَ ما روَّعْتَهُ)) [رواه الطبراني]

تدور أحداث هذه القصَّة مع حَبرٍ من أحبار اليهود، يدعى زيد بن سَعنة إذ قام ببيع النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم تمراً إلى أجلٍ معلوم، فيقول زيد:

((قُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنِي تَمْراً مَعْلُوماً مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ إِلَى أَجْلِ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: «لَا يَا يَهُودِيُّ، وَلَكِنِّي أَبِيعُكَ تَمْراً مَعْلُوماً إِلَى أَجْلِ كَذَا وَكَذَا، وَلَا تُسَمِّي حَائِطَ بَنِي فُلَانٍ» قُلْتُ: بَلَى، فَبَايَعَنِي فَأَعْطَيْتُهُ ثَمَانِينَ مِثْقَالاً مِنْ ذَهَبٍ فِي تَمْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجْلِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ: فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، أَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُ بِمَجَامِعِ قَمِيصِهِ وَرِدَائِهِ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ غَلِيظٍ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا تَقْضِيَنِي يَا مُحَمَّدُ حَقِّي؟ فَوَ اللهِ مَا عَلِمْتُكُمْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَمَطْلٌ، وَلَقَدْ كَانَ لِي بِمُخَالَطَتِكُمْ عَلِمٌ، وَنَظَرْتُ إِلَى عُمَرَ، وَإِذَا عَيْنَاهُ تَدُورَانِ فِي وَجْهِهِ كالْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ، ثُمَّ رَمَانِي بِبَصَرِهِ، فَقَالَ: يَا عَدُوَّ اللهِ أَتَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَسْمَعُ، وَتَصْنَعُ بِهِ مَا أَرَى، فَوَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَوْلَا مَا أُحَاذِرُ فَوْتَهُ لَضَرَبْتُ بِسَيْفِي رَأْسَكَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى عُمَرَ فِي سُكُونٍ وتُؤَدَةٍ، ثُمَّ قَالَ: «يَا عُمَرُ، أَنَا وَهُوَ كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا، أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الْأَدَاءِ، وتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التِّبَاعَةِ، اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ وأَعْطِهِ حَقَّهُ وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ مَكَانَ مَا رَوَّعْتَهُ» قَالَ زَيْدٌ: فَذَهَبَ بِي عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَأَعْطَانِي حَقِّي، وَزَادَنِي عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَزِيدَكَ مَكَانَ مَا رَوَّعْتُكَ، قُلْتُ: وتَعْرِفُنِي يَا عُمَرُ؟ قَالَ: لَا، مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ، قَالَ: الْحَبْرُ، قُلْتُ: الْحَبْرُ، قَالَ: فَمَا دَعَاكَ أَنْ فَعَلْتَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَعَلْتَ وَقُلْتَ لَهُ مَا قُلْتَ؟ قُلْتُ: يَا عُمَرُ، لَمْ تَكُنْ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أَخْبُرْهُمَا مِنْهُ، يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلَا يَزِيدُهُ الْجَهْلُ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْماً، فَقَدْ أُخْبِرْتُهُمَا، فَأُشْهِدُكَ يَا عُمَرُ أَنِّي قَدْ رَضِيتُ بِاللهِ رَبّاً وَبِالْإِسْلَامِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيّاً، وَأُشْهِدُكَ أَنَّ شَطْرَ مَالِي -وَإِنِّي أَكْثَرُهَا مَالاً- صَدَقَةٌ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ)). [رواه الطبراني في قصَّة إسلام زيد بن سعنة]

 العجيب في هذه القصَّة أنَّ النَّبيَّ ﷺ لم يكن يعرف مراد اليهوديّ قبل أن يسلم، ومع ذلك فقد عامله ﷺ بالخُلُق الذي يعامل به جميع الناس، بَرَّهم وفاجرهم، وعامله وفقاً للرَّحمة التي أتت بها الشريعة، إذ أنصفه من سيِّدنا عمر رضي الله عنه؛ فاليهوديُّ معاهدٌ ولا يحقُّ لأحدٍ من المسلمين أن يؤذيه فضلاً عن أن يهدِّده بالقتل، مهما كان سيِّئ الخُلُق، فالحقُّ أحقُّ أن يُتَّبع ولو على الأعداء والمخالفين في الدِّين.

قال سبحانه وتعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعْدِلُواْ ۚ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سورة المائدة: 8] (شنآن: أي بغض)

لذلك نجد أنَّه لا يحقُّ لسيِّدنا عمر رضي الله عنه أن يفعل ما فعله، فكان جزاء فعلته هذه أن يعوِّضه رسول الله ﷺ فوق حقِّه مكان ما روّعه، إضافةً إلى أنَّه ﷺ قد عفا عن الإساءة المادِّية والمعنوية لليهوديّ إذ جذبه من ردائه واتَّهمه بمطل الدَّين؛ فكان من الممكن أن يؤدِّي النَّبيُّ ﷺ حقَّ اليهوديّ في الدَّين، وأن يُسقط حقَّ ترويعه مقابل حقِّ النَّبيِّ ﷺ في إساءة اليهودي له، لكنَّ النَّبيَّ ﷺ عامل اليهوديَّ بالعفو في إساءته له ﷺ، وعامله بالحقِّ والعدل في ترويع عمر رضي الله عنه له، فتأمَّل!

((أحْسِنُوا إسَارَهُ)) [مسلم]

ومن عجيب رحمته ﷺ مع مخالفيه، قصَّة ثمامة بن أثال، سيِّد بني حنيفة، إذ أسره المسلمون وهم يجهلون أنَّهم قد أسروا سيِّد قومه؛ فقدموا به المدينة وربطوه بساريةٍ من سواري المسجد، فلمَّا خرج إليه رسول الله ﷺ قال :”أَتَدْرُونَ مَنْ أَخَذْتُمْ؟ هَذَا ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيّ، أُحْسِنُوا إسَارَهُ” أي: أحسنوا معاملته في الأسر، فلا يعامل سيّد القوم إلَّا كما يليق به.

ورجع رسول الله ﷺ إلى بيته، وأخذ من طعامه ﷺ الذي في بيته إلى ثمامة، وأمر بناقته يشرب من حليبها؛ فبعدما أكل ثمامة من طعام سيِّد الخلق وشرب من حليب ناقته، وشعر بإكرام وفادة النَّبيِّ ﷺ له وكيف استقبله استقبال الملوك، سأله النَّبيُّ ﷺ: «مَاذَا عِنْدَك يا ثمامة؟» فقال: عندي يا محمَّد خير، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُل ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِر، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رسول الله ﷺ حتَّى كان بعد الغد، فقال: «ما عندك يا ثمامة؟» قال: ما قلت لك، إن تُنعِم تُنعِم على شاكر، وإن تقتل تَقْتُل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله ﷺ حتَّى كان من الغد، فقال: «ماذا عندك يا ثمامة؟» فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تُنعم على شاكر، وإن تقتل تَقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تُعط منه ما شئت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَطْلِقُوا ثمامة»، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ، فاغتسل، ثمَّ دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله، يا محمَّد، والله، مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، والله، ما كان مِن دِين أبغَضَ إليَّ مِن دِينَك، فأصبح دينُك أحبَّ الدِّين كُلِّه إليَّ، والله، ما كان من بلدٍ أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدُك أحبَّ البلاد كلِّها إليَّ…)) [أخرجه مسلم في صحيحه مختصراً، وذكر الرواية بطولها ابن هشام في السيرة]

ماذا عن موقفه في ساحات الجهاد؟

هذان نموذجان من نماذج كثيرةٍ عن رحمة النَّبيّ ﷺ مع المخالفين في حال السلم، ويزداد العجب في مواقف أخرى للنَّبيّ ﷺ مع من نابذه العداء أثناء حربه وجهاده في ساحات الجهاد، تبيّن لكلِّ منصفٍ من هو محمَّد بن عبد الله ﷺ نتحدَّث عنها في المقال القادم إن شاء الله، كي لا يبقى لجاهلٍ بالنَّبيّ ﷺ شكٌّ بأنَّه رحمةٌ للعالمين.

الإسلام والاعتراف بهويّة الآخرين (2)

الاسلام والاعتراف بهوية الاخرين
الاسلام والاعتراف بهوية الاخرين

الإسلام والاعتراف بهويّة الآخرين (2)

Loading

أمر الله تعالى أن تكون العلاقة مع المسالمين من غير المسلمين الذين لم يقاتلوا ولم يمكروا بالإسلام   على أساس البر بهم والإحسان والإقساط إليهم

تأصيلاً للمقال السابق فإنّ السلام هو شعار الإسلام، والإصلاح وحفظ النظام في العالم رأس المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية، يقول ابن عاشور: (إنّ المقصد العامّ من التشريع هو حفظ نظام الأمّة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان) [مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور: (194)] ثم قال: (إنّ مقصد الشريعة من التشريع حفظ نظام العالم، وضبط تصرّف الناس فيه، على وجهٍ يعصم من التفاسد والتهالك، وذلك إنّما يكون بتحصيل المصالح واجتناب المفاسد، على حسب ما يتحقّق به معنى المصلحة والمفسدة) [مقاصد ابن عاشور: (230)] ولا يقوم هذا المقصد إلا بالتعايش والاعتراف بالآخرين، ومنحهم حرّيتهم، وتحقيق الأخوّة الإنسانية.

 وما قرّره القرآن الكريم والسنة النبوية، والعلماء المسلمون في كتبهم، والممارسات العمليّة للنبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء حتّى نهاية حكم المسلمين، وشهادة التاريخ، كلها تؤكد على هذا المعنى وقبول الإسلام لهويّة الآخرين والاعتراف بهم والتعايش معهم.

وإليك بعض التطبيقات العمليّة التي تبرهن على الاعتراف بالآخرين والتعايش معهم في الإسلام:

فقد أمر الله تعالى أن تكون العلاقة مع المسالمين من غير المسلمين الذين لم يقاتلوا ولم يمكروا بالإسلام   على أساس البر بهم والإحسان والإقساط إليهم، قال تعالى: (لا يَنهاكُمُ اللهُ عنِ الذينَ لم يُقاتِلوكُم في الدِّينِ ولم يُخرجوكُم مِن دياركُم أن تَبرُّوهُم وتُقسِطوا إليهم إنَّ اللهَ يحبُّ المُقسِطين) [الممتحنة: 8].

وقد شدّدَ النبي صلى الله عليه وسلم الوعيد على من ظلم أو اعتدى على المعاهدين من أهل الكتاب ووكّل نفسه محامياً ومدافعاً عنهم يوم القيامة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة» [أبو داود: (3052)]، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بإصبعه إلى صدره وقال: «ألا ومن قتل معاهدًا له ذِمَّة الله وذِمَّة رسوله، حرّم الله عليه ريح الجنة، وإنَّ ريحها ليوجد من سبعين عاماً» [الأموال لابن زنجويه (621)].

كما يتجلّى معنى التعايش وقبول الآخرين في الممارسات العملية للنبي صلى الله عليه وسلم، فعندما هاجر إلى المدينة اعترف باليهود هناك، وضمن لهم حقوقهم كاملةً، وتعهّد بأن يدافع عنهم، وكتب لهم عهد أمان ووادَعَهم وعاهدهم، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم، ليؤسس مجتمعاً آمناً مطمئنّاً مستقرّاً متعايشاً، يسوده العدل والإنصاف واحترام الحقوق، بعيداً عن الخلاف والشقاق، وممّا جاء في ميثاقه: «وإنّ ذمَّة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإنَّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنّه من تبعنا من يهود فإنّ له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم…» [سيرة ابن هشام: (2/ 106)]

فقد أعطى صلى الله عليه وسلم كلَّ ذي حقٍّ حقّهُ، وعامل اليهود على سبيل المعايشة والأخوّة الإنسانية، وترك لهم دينهم وحياتهم وأموالهم ورغد عيشهم؛ لكنّهم غدروا به بعد ذلك، وتآمروا عليه، وخانوا المسلمين الخيانة العظمى، وأصبحوا مصدر تهديدٍ لهم، فاستحقّوا الجلاء من المدينة جزاءً بما كسبت أيديهم.

وعندما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أصدر عفواً عامّاً، وترك المشركين على ما هم فيه، واعترف بحقوقهم، وعاملهم على أساس المواطنة الكاملة، واتفق معهم اتفاق الندّ للند.  

وكان كثير من أهل مكة لا يزالون على شركهم وكفرهم، فتركهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما هم فيه، يعيشون مع المسلمين آمنين مطمئنّين لا يمسّهم أحدٌ بسوءٍ، وممّن بقي على شركه صفوان بن أميّة.

 وعندما وصلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبار ثقيفٍ وغطفان بأنّها قد تجهّزت لقتال المسلمين، جهّز صلى الله عليه وسلم جيشاً لمقاتلتهم، ولم تكن لديه كفايةٌ من الأسلحة والأدراع، فقيل له: إنّ عند صفوان بن أمية أدراعاً، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: «يا أبا أمية ! أَعِرنا سلاحك نلق فيها عدوَّنا»، فقال صفوان: أغصباً؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، بل عاريةً مضمونةً حتى نؤدّيها إليك»، قال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح، وسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفيه حملها، فحملها صفوان لرسول الله صلى الله عليه وسلم [انظر: السيرة النبوية لابن حبان: (1/346)]

فنجد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تعامل مع صفوان على أساس المواطنة والاعتراف، واستعار منه الأدرع، وحفظها له وضمنها، أي حفظ له أمواله-وهو مشرك– وكانت يد النبي صلى الله عليه وسلم هي العليا، وهو الحاكم، ويستطيع أن يأخذها منه عنوةً، لكنّ الإسلام أجلُّ وأعظمُ من أن يُقصي الآخرين ويسلبهم حقوقهم، فقد اعترف بكلّ إنسانٍ في ظل دولته وأعطاه حقوقه كاملة.

وعندما فتح المسلمون بيت المقدس وقّع  عمر بن الخطاب معهم ومع أهل لدّ معاهدة أمان:

ومما جاء في نصّ المعاهدة:

(بسم اللَّه الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء [أي بيت المقدس] من الأمان:

– أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملَّتها.

– أنه لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم.

– ولا يُكرَهون على دينهم.

– ولا يُضارَّ أحد منهم.

– ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود…

 وشهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشرة) [تاريخ الرسل والملوك للطبري: (3/ 609)]، وبمثلها كان العهد والأمان مع أهل مدينة لدّ.

وإذا نظرنا في قبول الإسلام لهوية الآخرين والاعتراف بهم في صفحات التاريخ نجد أنّ القوط في إسبانيا قبل الفتح الإسلامي كانوا ينتزعون أطفال اليهود وغيرهم من أحضان أمهاتهم عنوةً ليتم تحويل ديانتهم بالقوة قبل استعبادهم فيما بعد، وعندما دخل المسلمون الأندلس نالت الديانات-لا سيما اليهودية- حقوقها القانونية كاملةً، فتمّ الاعتراف بهم، وقاموا بحمايتهم، ولم تكن هناك اختلافات كبيرة بين الأقلية اليهودية أو النصرانيّة والغالبية المسلمة الحاكمة [انظر: قصة الحضارة (14/ 50)].

وأمّا من الناحية الاجتماعيّة والمدنيّة: فقد عامَل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود بالإحسان، وأعطى الجار حقّه، وأوصى به وإن لم يكن مسلماً، وتعامل معهم بالبيع والشراء، حتى إنّ النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونةٌ عند يهوديٍّ بثلاثين صاعاً من شعير [البخاري: (2916)].

وربّى صلى الله عليه وسلم أصحابه على هذه المعاني السامية، فكان لعبد الله بن عمرو جارٌ يهوديٌ، وكان إذا ذبح الشاة، قال: احملوا إلى جارنا منها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» [شعب الإيمان (9115)].

وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم حلّةً من حريرٍ لعمر بن الخطاب، فأهداها عمر لأخٍ له من أهل مكة كان مشركاً [انظر صحيح البخاري: (886) ومواضع أُخَر]

وقدمت قتيلةُ بنت عبد الأسد إلى ابنتها أسماء بنت أبي بكر وهي مشركة، وأحضرت لها هدايا، فلم تستقبلها أسماء حتّى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تصل أمَّها وتقبل هداياها.

فقد تبادل المسلمون مع غيرهم الهدايا التي تدلّ على الألفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وباعوهم واشتروا منهم، ولم يكن ثمّ أيّ تمييز في المعاملة بين المسلمين وغيرهم.

كما نال أهل الكتاب حقّ التوظيف والعمل في الدولة، فقد وظَّف عمر رضي الله عنه عدداً من أهل الكتاب في الديوان، واتّسع نفوذهم، حتّى صار منهم الوزراء، [انظر: نحو فقه جديد للأقلّيّات، عبد الكريم زيدان، هامش: (93)].

وكذلك وظّف معاوية عدداً من أهل الكتاب في مناصب مرموقةٍ، مثل: سرجون كاتباً له، وقد أسلم، وابن إثال وكان طبيبه الخاص، وبقي على نصرانيّته [انظر: تاريخ ابن عساكر: (20/161)].

وكان لأهل الكتاب حضورٌ في المناصب المرموقة في الدولة الأمويّة والعبّاسيّة وغيرها أيضاً، وقد قرّر الفقهاء ذلك، فقال الماوردي في معرض كلامه عن وزارة التنفيذ: (ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة) [الأحكام السلطانية: (58)].

وقال الشيخ مصطفى السيوطي عن أهل الكتاب: (فقد جرت عليهم أحكام أهل الإسلام، وتأبّد عقدهم، فلزمهم ذلك كما يلزم المسلمين) [مطالب أولي النهى: (2/603)] 

ومن الحقوق التي ضمنها الإسلام لغير المسلمين:

 الكفُّ عنهم نفساً، ومالاً، وعرضاً، واختصاصاً، وعمّا معهم، كخمرٍ وخنزير، وعبادةٍ، وطقوس لم يظهروها.

 ويجب على المسلمين ضمان ما يتلفونه عليهم من النفس والمال، وردِّ ما يؤخذ من اختصاصاتهم.

وتجب على المسلمين حمايتهم، والذبّ عنهم، ودفع أهل الحرب عنهم [تحفة المحتاج : (9/ 292)].

وبهذا خاطب أبو يوسف هارونَ الرشيد قائلاً: (وقد ينبغي يا أمير المؤمنين أيّدك الله أن تتقدم في الرفق بأهل ذمّة نبيّك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم، والتفقد لهم؛ حتى لا يُظلَموا ولا يُؤذَوا، ولا يُكَلَّفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ شيءٌ من أموالهم إلا بحق يجب عليهم…وكان فيما تكلم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند وفاته: أوصي الخليفة من بعدي بذمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يُكلَّفوا فوق طاقتهم) [الخراج، لأبي يوسف: (ص: 138)].

ويُعامَل الذمّيون على دينهم في حياتهم وعاداتهم وكسبهم ومصالحهم، ولا يُلزَمون بأحكام المسلمين فيما يختصّون به من أحكام، فيحلّ لهم ما يحرم على المسلمين التعامل به، مثل الخمر أو الخنزير، فإنه يباح في حقّهم الاتجار بها حيث شاؤوا، ولكن ليس لهم أن يجاهروا بتجارتها في أمصار المسلمين؛ لأن المصر الإسلامي إنما يجهر فيه بما لا يأباه شعار الإسلام.

وفي العبادات والاعتقادات أُطلِقت لهم الحرية، ومُنع التعرّض لهم فيما يعبدون وما يعتقدون، فلهم إقامة شعائر دينهم في كنائسهم وبِيَعهم، ولهم في القرى إعادة ما تهدّم من الكنائس والبِيَع، وإنشاء ما يريدون إحداثه منها، ولهم دقّ النواقيس في جوف كنائسهم، ولهم أن يفعلوا كلّ ما لا يثير العداء ولا يعارض شعار الإسلام.

كما ضمن لهم الحرية في الأحوال الشخصية وأحكام الأسرة، وتركهم يمارسون القوانين الخاصة بهم من حيث الزواج والطلاق والميراث ونحو ذلك، وأما دول الغرب اليوم فتلزم رعاياها المسلمين بقوانينها، ولا تسمح لهم بتطبيق الأحكام الإسلامية رسمياً إذا خالفت القانون، وأما المسلمون فقد وضعوا دستوراً خاصاً لرعاياهم من غير المسلمين؛ ليكفلوا لهم حريتهم .  

وفي ظل هذه الأحكام السمحة والعدالة والمساواة عاش غير المسلمين مع المسلمين في أوج قوّتهم في بلاد الإسلام طول السنين لا يشكون ضيماً ولا يُبخسون حقّاً.

 [السياسة الشرعية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية، عبد الوهاب خلاف: (ص: 97)].

الإسلام والاعتراف بهويّة الآخرين (1)

الاسلام والاعتراف بهوية الاخرين
الاسلام والاعتراف بهوية الاخرين

الإسلام والاعتراف بهويّة الآخرين (1)

Loading

قد عاش في ظل دولة المسلمين جميع الأديان والطوائف، كاليهود والنصارى والمجوس والصابئة والإيزيديّة وغيرهم، وكلّهم تمتّعوا بالحرّية والأمن ونالوا حقوقهم كاملة، وإنّ وجودهم على مدى فترة الخلافة الإسلاميّة والاعتراف بهم وبهويّتهم هو من صميم تعاليم الدين الإسلامي.

يُحكى أنّ فتى شرّيراً طرده أبوه من بيته، فعاش بين الأزقّة والطرقات شريداً طريداً، يفترش الأرض ويلتحف السماء، ورآه رجلٌ من أهل الخير والإحسان، فأشفق على حاله، وأخذه إلى بيته، فآواه وأحسن إليه، لكنّ إحسان ذلك الرجل إليه لم يغير من طباع الغدر والخيانة والمكر التي عنده.

وبينما كان الفتى يمشي  في السوق رأى تاجراً غريباً يحمل صرّةً مليئةً بالنقود الذهبية، فطمع بما في يده، وترصّد له حتى حلّ الظلام واختلى به وقتله وأخذ نقوده، وترك الخنجر مضرّجاً بالدم ووضعه تحت وسادة وليّ نعمته الذي آواه، ثمّ أخذ يصيح: أيها الناس، أين النخوة؟! أين المروءة؟! تاجرٌ غريب يُقتَل في هذه البلد بدل أن يلقى منها الضيافة والإكرام؟!

فقال الناس: لا ندري مَن قتله.

  فقال: أنا أعرف القاتل، ودلّهم على الرجل الذي آواه، وأخرج الخنجر من تحت وسادته، و حرضهم على ذلك المحسن، وأمرهم أن يحاسبوه ويقتصّوا منه، ووقف يَعِظ الناس ويأمرهم بالفضائل ومكارم الأخلاق. 

هذه القصة تلخّص حال الغرب-لا سيما من كان من الصهيونية وأتباعها- في تشويه صورة الإسلام، ووصفه بنبذ الأديان والملل، وعدم قبوله للآخرين، في حين كان الفضل للإسلام والمسلمين على اليهود في القرون الوسطى، عندما بطشت بهم أوربّا وأحرقتهم وأجبرتهم على اعتناق الكاثوليكيّة، ولم يجدوا ملجأً ولا مأوى إلا في البلاد الإسلامية، التي آوتهم وحمتهم ورعتهم واعترفت بهم ومنحتهم حقوقهم كاملة، بناء على تعاليم الإسلام السمحة.

 لكنّ  اليهود قابلوا ذلك الإحسان والمعروف لهم، (بنكران الجميل) واتهموا الإسلام والمسلمين بصفاتهم الخبيثة، وقالوا كذباً وزوراً: الإسلام  دينٌ إقصائيّ: لا يعترف بهويّة الآخرين، وتلك الصفة هي من صميم صفات اليهودية الصهيونية. 

 عرضت صحيفة (دايلي ميل) البريطانيّة نتائج إحدى الأبحاث العلمية التي تناولت العلاقات بين  أوروبا واليهود في العصور الوسطى، وخلص الباحث فيها إلى أنّ اليهود نجوا من بطش الأوربّيين بفضل الدول العربية الإسلامية التي فتحت أبوابها لهم وأنقذتهم، وأنقذت الديانة اليهوديّة من الاندثار على يد أوروبّا المتعصّبة المتشدّدة في تلك الفترة، فقد تناولت دراسةٌ أجراها الأستاذ لويحي باسكالي الخبير الاقتصادي بجامعة وارويك في بريطانيا، وجامعة وبومبيو فابرا في برشلونة بإسبانيا، وتضمنت الدراسة عرض خريطة لحركة طرد اليهود من أوربا على مدى خمسة قرون، خلال الفترة بين عام 1100-1600م فقد  طُرِدَ اليهود من كثيرٍ من دول أوربا وخصوصاً إسبانيا، بداية من انتهاء حكم المسلمين عام 1492م، حيث تمّ تخييرهم بين التحوّل إلى الكاثوليكيّة أو الحرق، فكان الهروب هو الخيار المتاح أمام اليهود،  ولجؤوا إلى الدول العربية والإسلامية التي وفّرت لهم الحماية .

وقد تناول موقع (جويش كونيكل) التابع لأحد أهم الصحف اليهودية علاقة المسلمين باليهود عبر التاريخ وأكد البروفيسور (ديفيد واسرشتاين)، المتخصص في الدراسات اليهودية بجامعة فاندربيلت بولاية تينيسى الأمريكية، فضل المسلمين في حماية اليهود وإيوائهم والحفاظ على عقيدتهم في مقال بعنوان : (ماذا قدم المسلمون لليهود؟ )
وكذلك كتب واسرشتاين في مقاله: (وكان الإسلام يحكم تقريباً كلّ اليهود في العالم، وأدى هذا الوضع الجديد إلى تحويل الوجود اليهودي، لقد تغيّرت ثرواتهم، من الناحية القانونية والديموغرافية والاجتماعية والدينية والسياسية والجغرافية والاقتصادية واللغوية والثقافية، جميعاً نحو الأفضل.)
لقد تحسنت أمور اليهود في ظل الدولة الإسلاميّة، فزالت جميع مظاهر التهديد، وأصبح هناك مجال واحد يتسع للجميع، المسلمين والمسيحيين واليهود.

ورصد كاتب الدراسة كيف عاش اليهود في بيئة احتوت قدراً كبيراً من الحرية الاقتصادية والدينية، وكان لهم كذلك قدرٌ من التمثيل الرسمي في المجتمع وأمام السلطة الحاكمة، وأن اليهود عاشوا عصرهم الذهبي الحقيقي في ظل الحكم العربي الإسلامي للأندلس [انظر: صحيفة الأهرام السبت 17 من جمادي الآخرة 1437 هــ 26 مارس 2016 م- العدد (47227)].

هذا الكلام لم يصدره كُتّاب مسلمون، وإنما هو دراسةٌ لبعض الباحثين والكتّاب اليهود المنصفين، وهذه الحقيقة التاريخيّة معروفةٌ ومشهورةٌ لدى الجميع لاشكّ فيها؛ لكنّ الصهاينة وأذنابهم اليوم ينكرون هذا الفضل، ويَصِمون الإسلام بأنّه إقصائي: ينبذ جميع الملل والطوائف، ولا يعترف بهويّة الآخرين، ولترسيخ هذا المعنى اتخذت السياسة الغربية إجراءات عمليّة، وبذلت من أجله المبالغ الطائلة، فأحدثت جناحين: جناحاً عسكريّاً، وجناحاً إعلاميّاً، أفرغت فيهما صفاتها الحقيقيّة من الحقد والبغض والكراهية والعنصريّة والقتل والبطش والقسوة، وصدّرتهما باسم الإسلام.

أمّا الجناح العسكري: فتصنع منه التطرّف والإرهاب باسم الإسلام، من خلال توجيهه إلى العداء، وزرع  الحقد والكراهية فيه، وتدريبه على القتل والوحشيّة بكلّ صورهما في معسكرات خاصّة.

وأمّا الجناح الإعلامي: فقد جعلته صدى للجناح العسكري، ومهمّته أن يعلن على جميع وسائل التواصل عن الجرائم والإرهاب والقتل الذي يقوم به عناصر الجناح العسكري الذي أعدّه الغرب، ويعلّق ويحلِّل وينسب ذلك كله إلى الإسلام؛ ليترسّخ في الأذهان تشويه صورة الإسلام والمسلمين.

وإنّ الناظر في تعاليم الإسلام الداعية إلى السلام، وفي مخططات وتصرّفات الصهيونية العالمية، لَيدرك بأنّ هذا التطرّف والإرهاب يعبّر عن حقيقة الصهيونيّة وقد خرج من رحمها.

 فأحكام القرآن الكريم، وتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة وشهادة التاريخ والواقع، كلها على خلاف ذلك، وإنّ الدلائل على سماحة الإسلام واعترافه بهويّة الآخرين، كثيرةٌ لا تكاد تنحصر، فقد عاش في ظل دولة المسلمين جميع الأديان والطوائف، كاليهود والنصارى والمجوس والصابئة والإيزيديّة وغيرهم، وكلّهم تمتّعوا بالحرّية والأمن ونالوا حقوقهم كاملة، وإنّ وجودهم على مدى فترة الخلافة الإسلاميّة والاعتراف بهم وبهويّتهم هو من صميم تعاليم الدين الإسلامي.

وسنذكر بعض الشواهد والأدلة على ما ذكرناه في المقال التالي إن شاء الله.