نزل القرآن الكريم مفرَّقاً على النَّبيِّ r خلال ثلاثةٍ وعشرين عاماً، وهذا النزول لم يفاجئ المؤمنين بالتشريع؛ بل تدرَّجت بعض أحكامه مراعاةً لأحوال المكلَّفين
فتميَّزت بتربيتهم, وشرَّعت لهم ما يصلحهم، واهتمَّ العلماء بدراسة الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، ونظراً لأهميَّة هذا العلم توجَّبت معرفته على من أراد الخوض في التفسير أو الفتوى أو القضاء، فقد نُقل عن سيِّدنا عليٍّ رضى الله عنه أنَّه سأل قاضياً فقال: “أتعرف الناسخ من المنسوخ, قال: لا, قال: هلكت وأهلكت” (الإتقان في علوم القرآن/ السيوطي / 3/ 66).
وثمَّة أسئلةٌ تثار في هذا المقام، وتُرى, ما حقيقة النسخ؟ وما طرق معرفته؟ وما الدليل على النسخ؟ وهل ثمَّة شواهد عليه؟ وما الحكمة من وجوده؟ ما مجالاته؟ وما الموقف منه؟ وما عدد الآيات المنسوخة؟ وهل في نَسخِ بعض الآيات القرآنية عزلٌ لها عن الحياة؟
يطلق النسخ في اللغة ويراد به معنيان: المعنى الأول: النقل وهو نقل الشيء, وتحويله من حالةٍ إلى حالةٍ مع بقائه في نفسه، ومنه: (نسختُ الكتابَ) إذا نقلت ما فيه، والمعنى الثاني: الإزالة, وهو بمعنى رفع الشيء, ومنه: نَسَختِ الشمسُ الظِّلَّ, إذا أزالته. (شرح الورقات في أصول الفقه / الجلال المحلي/ ١٥٨)
أمَّا النسخ في الاصطلاح فهو:
“رفع الشارع حكماً منه متقدِّماً بحكمٍ منه متأخرٍ” (علوم القرآن الكريم/ نور الدين محمد عتر/ ١٣١).
فالنسخ في حقيقته: إيقاف الحكم الوارد بنصٍّ سابقٍ ويسمَّى: (منسوخاً)، وإيراد حكمٍ آخر يحلُّ محلَّه للعمل به ويسمَّى (ناسخاً)، ويشمل ذلك نصوصاً من القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية.
وطرق النَّسخ أوَّلها: النقل الصريح عن النَّبيِّ r، والصحابة الكرام.
وثانيها: إجماع الأمَّة على أنَّ النصَّ منسوخٌ.
وثالثها: معرفة المتقدِّم من المتأخِّر عند التعارض بحيث يتعذَّر الجمع بينهما.
وقد استدلَّ العلماء على جواز النسخ بأدلَّةٍ من النقل والعقل، أمَّا الدليل النقليُّ فقوله تعالى: ((ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [البقرة: 106]، وقوله جلَّ جلاله: ((وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ))[النحل: 101]. فالآيات صريحةٌ في إثبات النَّسخ.
وأمَّا الدَّليل العقليُّ على جواز النسخ, فإنَّ العقل لا يمنع جواز النَّسخ؛ بل يقتضيه, وذلك لأنَّ المشرِّع واحدٌ فيشرِّع لعباده ما يحقِّق مصالحهم في الحال والمآل، قال تعالى: ((إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم:4].
ومن شواهد النسخ في القرآن الكريم قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ)) [البقرة: 240]، فالحكم في هذه الآية هو وجوبُ التربّصِ حولاً كاملاً لمن توفي عنها زوجها، وقد نُسِخَ ذلك بقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)) [البقرة: 234]. فالحكم في هذه الآية: وجوب التَّربُّص أربعة أشهرٍ وعشر أيَّامٍ لمن توفي عنها زوجها.
ومن شواهد النَّسخ في السُّنَّة النَّبويَّة قول رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا)) (صحيح مسلم حديث رقم:1977). حيث جاء التصريح في نصِّ الحديث بالحكم الأوَّل وهو النَّهي، وقد نُسِخ بالحكم المتأخِّر بقوله: “فَزُورُوهَا“.
ومن نَسخِ السُّنَّة بالقرآن الكريم: نَسخُ حكم استقبال بيت المقدس الثَّابت بالسُّنَّة الفعليَّة؛ باستقبال الكعبة الثَّابت بقوله تعالى: ((فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) [البقرة: 144].
ومن نَسخِ القرآن الكريم بالسُّنَّة النَّبويَّة قوله تعالى: ((كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)) [البقرة: 180]. حيث نُسِخَ حكمُ الآية بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: “إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ” (سنن ابن ماجه حديث رقم: 2714).
وللحكمة من وجود النسخ في الأحكام الشرعية أوجهٌ وهي:
- مراعاة الشريعة لمصالح الناس، فإذا كانت المصلحة لهم في تبديل حكمٍ بحكم, كان التبديل لمراعاة هذه المصلحة. (إرشاد الفحول/ الشوكاني / 2 /54).
- تطوُّر التشريع بتطوُّر أحوال المكلَّفين، واختبار المكلَّفين في قدراتهم على الامتثال لتعاليم الله.
- رحمة الله بالمكلَّفين بالتخفيف عنهم، والتوسعة عليهم. (الرسالة/ الإمام الشافعي/ 106).
وللنَّسخ مجالاتٌ هي: الأحكام الشرعيَّة العمليَّة في فروع العبادات والمعاملات، أمَّا غير هذه الأحكام من العقائد وأمَّهات الأخلاق ومدلولات الأخبار المحضة فلا نسخ فيها، فالعقائد لأنَّها حقائق صحيحةٌ ثابتةٌ لا تقبل التغيير والتبديل ومن البدهيّ ألَّا يتعلَّق بها نسخ، وأمَّا أمَّهات الأخلاق فلأنَّ مصلحة الناس تكمن في التخلُّق بها. (مناهل العرفان/2/211).
الموقف من النَّسخ:
إنَّ المحقِّقين من العلماء متَّفقون على جواز النسخ ووقوعه، أمَّا المنكرون للنَّسخ فهم قِلَّةٌ، ولكن يُلاحَظ أنَّ المثبتين للنَّسخ قد افترقوا بين مقتصدٍ يعتمد على النقل الصحيح في النَّسخ، ومبالغٍ في اعتبار النسخ, حيثُ اشتبه عليه الأمر فأدخل في النسخ ما ليس منه: كتخصيص العام من النصوص, وتقييد المطلق، واعتبار ما جاء بطلاناً لبعض العادات قبل الإسلام من ضمن الناسخ والمنسوخ، فزاد بسبب ذلك في عدد الآيات المنسوخات من غير موجب.
ويختلف عدد الآيات المنسوخة تبعاً لمسالك العلماء كما ذُكر آنفاً؛ لكنَّ الرَّاجح ما حدَّده الإمام السيوطي بأنَّ عدد الآيات المنسوخة تسع عشرة آيةً. (الإتقان/3/77).
شبهةٌ وردُّها:
قيل: (إنَّ النسخ معناه عزل الآيات المنسوخة عن الحياة، وإحالتها إلى المعاش، وما الاحتفاظ بها في القرآن إلا كالاحتفاظ بجثث الأموات محنّطةً في توابيت, وذلك مقامٌ تَنزّه عنه كلام الله ربِّ العالمين… فليس في القرآن نَسخٌ، وإنَّ كتاب الله الذي في أيدينا لا نسخَ فيه، وإنَّ آياته كلَّها عاملةٌ أبد الدّهر).
وردَّاً على ذلك نقول:
لا يمكن التسليم بدعوى عدم وجود النَّسخ في القرآن للأسباب الآتية:
- إنَّ إنكار النَّسخ دعوى تفتقر إلى دليل, فما الدَّليل على عدم النَّسخ؟
- إنَّ دعوى إنكار النَّسخ تفتقد إلى المرجعيَّة، وإن كان ثمَّة مرجعيةٌ صحيحةٌ, فما هي مرجعيَّة هذه الدَّعوى.
- إنَّ في دعوى إنكار النسخ خرقٌ لما استقرَّ عليه الفكر الإسلاميُّ خلال أربعة عشر قرناً، فلِمَ المجيء بما يخالف ذلك؟
- إنَّ الله تعالى هو المشرِّع لكلا الحكمين ولذلك قال جلَّ جلاله: ((نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها))، ثمَّ عقّب فقال: ((أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).فلِمَ الاعتراض على إرادة الله تعالى؟
- إنَّ قولهم: (النَّسخ معناه عزل الآيات المنسوخة عن الحياة، وإحالتها إلى المعاش) لا يّصِحُّ؛ وذلك لأنَّ وجود هذه الآيات في القرآن الكريم له فائدةٌ أخرى وهي التذكير برحمة الله تعالى بالمكلَّفين والتيسير عليهم، والتعبّد بتلاوة القرآن الكريم, فالقارئ لهذه الآيات مأجورٌ على التلاوة، وقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، أنَّ رسول الله قال: “ مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ “ (سنن الترمذي حديث رقم: ٢٩١٠).
ختاماً: يتَّضح من خلال ما سبق أنَّ دعوى عدم النسخ لا تصحُّ, وذلك لمخالفتها الواقعَ التشريعيَّ للأحكام الثَّابتة بالقرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة.