الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم

الناسخ والمنسوخ
الناسخ والمنسوخ

نزل القرآن الكريم مفرَّقاً على النَّبيِّ r خلال ثلاثةٍ وعشرين عاماً، وهذا النزول لم يفاجئ المؤمنين بالتشريع؛ بل تدرَّجت بعض أحكامه مراعاةً لأحوال المكلَّفين

فتميَّزت بتربيتهم, وشرَّعت لهم ما يصلحهم، واهتمَّ العلماء بدراسة الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، ونظراً لأهميَّة هذا العلم توجَّبت معرفته على من أراد الخوض في التفسير أو الفتوى أو القضاء، فقد نُقل عن سيِّدنا عليٍّ رضى الله عنه أنَّه سأل قاضياً فقال: “أتعرف الناسخ من المنسوخ, قال: لا, قال: هلكت وأهلكت” (الإتقان في علوم القرآن/ السيوطي / 3/ 66).
وثمَّة أسئلةٌ تثار في هذا المقام، وتُرى, ما حقيقة النسخ؟ وما طرق معرفته؟ وما الدليل على النسخ؟ وهل ثمَّة شواهد عليه؟ وما الحكمة من وجوده؟ ما مجالاته؟ وما الموقف منه؟ وما عدد الآيات المنسوخة؟ وهل في نَسخِ بعض الآيات القرآنية عزلٌ لها عن الحياة؟
يطلق النسخ في اللغة ويراد به معنيان: المعنى الأول: النقل وهو نقل الشيء, وتحويله من حالةٍ إلى حالةٍ مع بقائه في نفسه، ومنه: (نسختُ الكتابَ) إذا نقلت ما فيه، والمعنى الثاني: الإزالة, وهو بمعنى رفع الشيء, ومنه: نَسَختِ الشمسُ الظِّلَّ, إذا أزالته. (شرح الورقات في أصول الفقه / الجلال المحلي/ ١٥٨)
أمَّا النسخ في الاصطلاح فهو:
 “رفع الشارع حكماً منه متقدِّماً بحكمٍ منه متأخرٍ(علوم القرآن الكريم/ نور الدين محمد عتر/ ١٣١).
فالنسخ في حقيقته: إيقاف الحكم الوارد بنصٍّ سابقٍ ويسمَّى: (منسوخاً)، وإيراد حكمٍ آخر يحلُّ محلَّه للعمل به ويسمَّى (ناسخاً)، ويشمل ذلك نصوصاً من القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية.

وطرق النَّسخ أوَّلها: النقل الصريح عن النَّبيِّ r، والصحابة الكرام.
وثانيها: إجماع الأمَّة على أنَّ النصَّ منسوخٌ.
وثالثها: معرفة المتقدِّم من المتأخِّر عند التعارض بحيث يتعذَّر الجمع بينهما.

وقد استدلَّ العلماء على جواز النسخ بأدلَّةٍ من النقل والعقل، أمَّا الدليل النقليُّ فقوله تعالى: ((ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [البقرة: 106]، وقوله جلَّ جلاله: ((وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ))[النحل: 101]. فالآيات صريحةٌ في إثبات النَّسخ.
وأمَّا الدَّليل العقليُّ على جواز النسخ, فإنَّ العقل لا يمنع جواز النَّسخ؛ بل يقتضيه, وذلك لأنَّ المشرِّع واحدٌ فيشرِّع لعباده ما يحقِّق مصالحهم في الحال والمآل، قال تعالى: ((إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم:4].
ومن شواهد النسخ في القرآن الكريم قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ)) [البقرة: 240]، فالحكم في هذه الآية هو وجوبُ التربّصِ حولاً كاملاً لمن توفي عنها زوجها، وقد نُسِخَ ذلك بقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)) [البقرة: 234]. فالحكم في هذه الآية: وجوب التَّربُّص أربعة أشهرٍ وعشر أيَّامٍ لمن توفي عنها زوجها.
ومن شواهد النَّسخ في السُّنَّة النَّبويَّة قول رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا)) (صحيح مسلم حديث رقم:1977). حيث جاء التصريح في نصِّ الحديث بالحكم الأوَّل وهو النَّهي، وقد نُسِخ بالحكم المتأخِّر بقوله: “فَزُورُوهَا“.
ومن نَسخِ السُّنَّة بالقرآن الكريم: نَسخُ حكم استقبال بيت المقدس الثَّابت بالسُّنَّة الفعليَّة؛ باستقبال الكعبة الثَّابت بقوله تعالى: ((فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) [البقرة: 144].
ومن نَسخِ القرآن الكريم بالسُّنَّة النَّبويَّة قوله تعالى: ((كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)) [البقرة: 180]. حيث نُسِخَ حكمُ الآية بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: “إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ” (سنن ابن ماجه حديث رقم: 2714).
وللحكمة من وجود النسخ في الأحكام الشرعية أوجهٌ وهي:

  • مراعاة الشريعة لمصالح الناس، فإذا كانت المصلحة لهم في تبديل حكمٍ بحكم, كان التبديل لمراعاة هذه المصلحة. (إرشاد الفحول/ الشوكاني / 2 /54).
  • تطوُّر التشريع بتطوُّر أحوال المكلَّفين، واختبار المكلَّفين في قدراتهم على الامتثال لتعاليم الله.
  • رحمة الله بالمكلَّفين بالتخفيف عنهم، والتوسعة عليهم. (الرسالة/ الإمام الشافعي/ 106).

وللنَّسخ مجالاتٌ هي: الأحكام الشرعيَّة العمليَّة في فروع العبادات والمعاملات، أمَّا غير هذه الأحكام من العقائد وأمَّهات الأخلاق ومدلولات الأخبار المحضة فلا نسخ فيها، فالعقائد لأنَّها حقائق صحيحةٌ ثابتةٌ لا تقبل التغيير والتبديل ومن البدهيّ ألَّا يتعلَّق بها نسخ، وأمَّا أمَّهات الأخلاق فلأنَّ مصلحة الناس تكمن في التخلُّق بها. (مناهل العرفان/2/211).

الموقف من النَّسخ:
إنَّ المحقِّقين من العلماء متَّفقون على جواز النسخ ووقوعه، أمَّا المنكرون للنَّسخ فهم قِلَّةٌ، ولكن يُلاحَظ أنَّ المثبتين للنَّسخ قد افترقوا بين مقتصدٍ يعتمد على النقل الصحيح في النَّسخ، ومبالغٍ في اعتبار النسخ, حيثُ اشتبه عليه الأمر فأدخل في النسخ ما ليس منه: كتخصيص العام من النصوص, وتقييد المطلق، واعتبار ما جاء بطلاناً لبعض العادات قبل الإسلام من ضمن الناسخ والمنسوخ، فزاد بسبب ذلك في عدد الآيات المنسوخات من غير موجب.
ويختلف عدد الآيات المنسوخة تبعاً لمسالك العلماء كما ذُكر آنفاً؛ لكنَّ الرَّاجح ما حدَّده الإمام السيوطي بأنَّ عدد الآيات المنسوخة تسع عشرة آيةً. (الإتقان/3/77).

شبهةٌ وردُّها:
قيل: (إنَّ النسخ معناه عزل الآيات المنسوخة عن الحياة، وإحالتها إلى المعاش، وما الاحتفاظ بها في القرآن إلا كالاحتفاظ بجثث الأموات محنّطةً في توابيت, وذلك مقامٌ تَنزّه عنه كلام الله ربِّ العالمين… فليس في القرآن نَسخٌ، وإنَّ كتاب الله الذي في أيدينا لا نسخَ فيه، وإنَّ آياته كلَّها عاملةٌ أبد الدّهر).
وردَّاً على ذلك نقول:
لا يمكن التسليم بدعوى عدم وجود النَّسخ في القرآن للأسباب الآتية:

  • إنَّ إنكار النَّسخ دعوى تفتقر إلى دليل, فما الدَّليل على عدم النَّسخ؟
  • إنَّ دعوى إنكار النَّسخ تفتقد إلى المرجعيَّة، وإن كان ثمَّة مرجعيةٌ صحيحةٌ, فما هي مرجعيَّة هذه الدَّعوى.
  • إنَّ في دعوى إنكار النسخ خرقٌ لما استقرَّ عليه الفكر الإسلاميُّ خلال أربعة عشر قرناً، فلِمَ المجيء بما يخالف ذلك؟
  • إنَّ الله تعالى هو المشرِّع لكلا الحكمين ولذلك قال جلَّ جلاله: ((نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها))، ثمَّ عقّب فقال: ((أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).فلِمَ الاعتراض على إرادة الله تعالى؟
  • إنَّ قولهم: (النَّسخ معناه عزل الآيات المنسوخة عن الحياة، وإحالتها إلى المعاش) لا يّصِحُّ؛ وذلك لأنَّ وجود هذه الآيات في القرآن الكريم له فائدةٌ أخرى وهي التذكير برحمة الله تعالى بالمكلَّفين والتيسير عليهم، والتعبّد بتلاوة القرآن الكريم, فالقارئ لهذه الآيات مأجورٌ على التلاوة، وقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، أنَّ رسول الله  قال: “ مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ (سنن الترمذي حديث رقم: ٢٩١٠).

ختاماً: يتَّضح من خلال ما سبق أنَّ دعوى عدم النسخ لا تصحُّ, وذلك لمخالفتها الواقعَ التشريعيَّ للأحكام الثَّابتة بالقرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة.

حكم من لم تبلغهم الدعوة

حكم من لم تبلغم الدعوة
حكم من لم تبلغم الدعوة -مستطيل-

 

طفلٌ وُلِدَ ونشأ في كنف والديه “غير المسلمَين”، وعاش عمره في مدينته “غير المسلمة” ومات فيها ولم يسمع بالإسلام، فهل من العدل أن يُدخله الله النَّار؟

ودخول هذا الإنسان ومن على شاكلته إلى النَّار بسبب عدم سماعه عن الإسلام ودخوله فيه, ألا يتعارض مع طبيعة العدل الإلهيِّ، خاصَّةً وأنَّ سُبُل الإيمان لم تتوفَّر لهم مثلما توفَّرت لغيرهم!
إنَّ الادّعاء بأنَّ الذين يولدون في غير ديار الإسلام سيدخلون النار ادِّعاءٌ مُغرِضٌ ومنافٍ للحقيقة، إذ لا وجود له في العقيدة الإسلامية, وليس من تعاليم الإسلام، ولم يقل أحدٌ من علماء المسلمين به، فلا يوجد حكمٌ يقول: إنَّ جميع هؤلاء سيذهبون إلى جهنَّم؛ لكنَّ القاعدة الأصليَّة المقرَّرة تتمثَّل في:
* الذين وصلتهم دعوة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكنَّهم أبَوا وعاندوا هذه الدعوة، فسيكون مصيرهم إلى النار.
*أمَّا من لم تبلغهم الدَّعوة في مجتمعات غير المسلمين -في عصرنا الحاليِّ أو العصور السابقة- فهؤلاء جميعاً حكمهم حكم (أهل الفترة)، وأهل الفترة هم: أهل المدَّة التي تقع بين رسولين.
وأمَّا حكمهم: فهو النَّجاة في يوم القيامة، ومما استدلَّ به العلماء على ذلك قوله تعالى: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِيْنَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُوْلَاً)) [سورة الإسراء: 15]. فأهل الفترة لم تقم عليهم حجَّة الله بالرُّسل، فلا يعذِّبهم، وقال تعالى في أهل النار: ((كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيْهَا فَوْجٌ سَأَلَهُم خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيْرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيْرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ)) [سورة تبارك:8-9].
قال الإمام السيوطي: (لمّا دلّت القواطع على أنَّه لا تعذيب حتَّى تقوم الحُجَّة عَلِمنا أنَّهم –أي أهل الفترة- غير معذَّبين). [الحاوي للفتاوي: 253/2].
وقال بعض العلماء: ويُمتحن في عرصات يوم القيامة من كان من هؤلاء, ويُرسل إليهم هناك رسولٌ، فمن أطاع الرَّسول دخل الجنة، ومن عصاه أدخله النار.
وخلاصة الأمر إذن تكمن في بلوغ الدَّعوة أو عدمه، فالدعوة إذا لم تبلغ رجلاً ما فلا يُكلَّف كما يُكلَّف من بَلَغته, والناس عند تلقِّيهم الدعوة التي تبلغهم أنواع:
– منهم من يتقبَّل وينصر ويؤيّد، فهذا من المسلمين، وإن كان يعيش في بلاد غير المسلمين.
–  ومنهم من يرفض ويجابه الدعوة, وربَّما يموت في سبيل ذلك.
المهم أنَّ قضية مولد الإنسان ونشأته في بيئةٍ معيَّنةٍ، سواءً كانت إسلاميَّةً، أو غير إسلاميةٍ، فإنَّها لا تتدخَّل في تحديد المصير. وبلوغ الدَّعوة مناط أحكام الدنيا وجزاء الآخرة، وليس موطن الإنسان وبيئته.
إنّ من عظيم رحمة الله بعباده أنَّه لا يحاسب أحداً إلا بعد أن يصل إليه أمره وبلاغه عن طريق المرسلين، والآيات القرآنيَّة في هذا المعنى كثيرةٌ، وهي حاكمةٌ بأنَّ الله تبارك وتعالى لا يُدخل أحداً من البشر النار إلا بعد إرسال الرسول إليه، يهديه إلى الحقِّ، ويردعه عن الضَّلال، ويقيم الحُجَّة، ويبلِّغه دعوته. ولا فرق بين زمن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم والأزمنة المتتالية من بعده، فمن لم تبلغه الدَّعوة، ولم يسمع بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فحكمه حكم “أهل الفترة” الذي ذكرناه آنفاً.
هذا هو منهج الإسلام، فلا ظلمَ فيه ولا جَوْر، ولا يُؤاخذ إنسانٌ بجريرة غيره، بل إنَّ جزاء كلِّ إنسانٍ مرهونٌ بعمله، كما قال الله تعالى: ((كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)) [المدثر:38]، وكيف يُعذَّب إنسانٌ بذنبٍ لم يقترفه سوى أنَّ القدر أوجده في بيئةٍ معيَّنةٍ، أو أنه وُلد لأبوين غير مسلمَين!
وهكذا دلَّت النصوص الإسلاميَّة على أنَّ من لم تبلغه دعوة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فليس في حقِّه تكليفٌ، وبالتالي لا يقوم في حقِّه ثوابٌ أو عقابٌ، حتَّى يبلغه ما جاء به الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم.

هـذا هـو مـنـهـج الـرَّحـمـة الـرَّبـانـيـة الـــذي قــال عـنـه الـقـرآن الـكـريـم: ((وَمَــا أَرْسَــلْـنَـاكَ إِلَّا رَحْـمَـةً لِلْـعَـالَمِـيـنَ)) [الأنبياء:107].

 

دعواتٌ تعطيلية… وزعمٌ مكذوب(الجزء الثاني)

دعوات تعطيلية و زعم مكذوب 2 -مربعة-
دعوات تعطيلية و زعم مكذوب 2

ومن المثالب التي أخذوها على القرآن بزعمهم أنَّه يتحدّث عن الغيبيّات والموت، ويأمر بالزهد, ويقلّل من شأن الدنيا، وهذا أيضاً مما يعطّل العقول ولا يواكب التطوُّر الفكريّ!

فالجواب: أيُّهما يصحّ في المنطق والتفكير: إنكار الغيبيات وعدم الإيمان بخالقٍ للكون، أم إثبات واجب الوجود وهو الله تعالى، والإيمان بما يخبر به من الغيبيات؟
إنّ إنكار الغيبيات وعدم الإيمان بخالقٍ للكون، والاقتصار على العالم المحسوس يُفضي إلى تناقضٍ فكريٍّ؛ لأنّه إنكارٌ لمبدأٍ أساسيٍّ من مبادئ التفكير المنطقي، وهو مبدأ السَّببيَّة، فلا بدّ لكلّ موجودٍ من موجِد، ولكلّ مُسَبَّبٍ من مُسبِّب.
وإنَّ وجود المسبَّبات والمخلوقات يحتّم على العقل مسبِّباً وموجداً لها لا محالة.
وعندما أراد المنكرون أن يخرجوا من هذا التناقض المنطقيّ، قالوا: الكون قديمٌ لا بداية له.
ومع عدم منطقية ذلك, نجد العلم أثبت أنّ للكون نشأةً وبدايةً، وأنَّه كان معدوماً ثمّ وُجِد.
وبعد أن ثبت أنّ الكون وُجِد بعد عدم قالوا: وُجِد الكون صدفةً، وآمنوا بالطبيعة. 
ونتج عن تفكيرهم هذا الإيمان بالعشوائيَّة، وإنكار القوة الخبيرة المبدعة، فأنكروا وجود خالقٍ خبيرٍ بديع، وآمنوا بالصدفة وبالطبيعة العمياء، ونسبوا إليها الخلق والقدرة والإبداع وتنظيم الكون، فانتقلوا من تناقضٍ إلى تناقضٍ آخر في نسبة الأشياء إلى غير مسبِّباتها.
ومن ثمّ أرسل الله تعالى الرسل لئلّا يبقى الإنسان متخبطاً في الضلال والحيرة، ، وكان محمَّد خاتم المرسلين، وأنزل إليه القرآن الكريم؛ ليخبر البشرية بأنّ الله (واجب الوجود) هو الذي خلق الأكوان, وهو الذي أنزل الكتاب.
ثمّ جعل القرآن كتاب هدايةٍ وإرشاد، وبيّن للناس نشأتهم، ووظيفتهم في هذه الحياة، ومصيرهم، من خلال الإيمان بالله وما أخبر به من الغيبيات، وما أوجب من العبادات والتزكية والأخلاق، فذكر عالمَ الغيب كالملائكة والبعث والنشور والحساب والجَنَّة والنار، وغير ذلك.
وقد أحكم الله الأدلّة على صدق رسول الله من خلال الظروف التي نشأ فيها, وسيرته وصدقه وأمانته، وبما أنزل في القرآن من خطابٍ يستحيل أن يعلِّمه رجلٌ أميٌّ عاش في بيئةٍ بسيطة.
وبهذا زالت الحيرة لدى المؤمنين، واتّضحت  الحقيقة أمامهم، بأنّ هناك إلهاً واجب الوجود, متَّصفاً بصفات القدرة والكمال, وهو الذي أوجد الكون، واستقام لديهم المنطق والتفكير بإيمانهم بالله تعالى.
وهنا نعيد السؤال لمنكري الغيب, ونقول لهم: ما الدّليل العلميُّ أو المنطقيُّ على إنكار ما وراء الطبيعة، وعدم وجود خالقٍ للكون متّصفٍ بالكمال؟
فلا يمكن أن يستقيم ذلك في المنطق والعلم، وإنّ إنكار واجب الوجود يفضي لا محالة إلى تناقضٍ وتخبّطٍ في التفكير؛ لأنَّه إلغاءٌ لمبدأٍ عقليٍّ ثابتٍ, وهو السَّببيَّة.
فأين حُجّة منكري الغيب الذين يتّهمون القرآن بأنّه يعطّل العقول؟
وما الذي يعطِّل العقول, ويوقع في التخبُّط والتناقض المنطقيّ، هل هو إنكار الغيبيات أم إثباتها؟
أمَّا قولهم بأنّ القرآن يأمر بالزهد, ويقلِّل من شأن الدنيا:
نعم يأمر القرأن بالزُّهد ويقلِّل من شأن الدنيا، لكنّه ليس بتلك النظرة السطحيّة الساذجة: من لبس الرثّ من الثياب وترك العمل، وإنَّ هذا الفهم السقيم مبنيٌّ على جهلٍ مُطبقٍ، ومخالفةٍ للدِّين.
فالزُّهد مقامٌ عظيمٌ من مقامات الإيمان، ولا علاقة له بالأشكال والمظاهر واللباس والمال، بل هو حالٌ مع الله تعالى محلُّه القلب.
يجمع الزهد الفضائل والكمالات من أطرافها، وهو مقامٌ يمزج بين حبِّ الله تعالى واليقين به، والرِّضا بقضائه، والتواضع، وتزكية النفس، والإخلاص، والقناعة، والعفاف، والكرم، والصبر، وإيثار الآخرة الباقية على الدنيا الفانية، وتحرّي الحلال، والابتعاد عن أكل الحرام، فمن اجتمعت لديه هذه المعاني فهو زاهدٌ، وإن كان أغنى الأغنياء، ومن أخطأها فهو بعيدٌ عن حقيقة الزهد، وإن أظهر التقشّف والعزوف عن الدنيا.
قال الملا علي القاري: (الزهد عبارةٌ عن عزوف النفس عن الدنيا مع القدرة عليها لأجل الآخرة، خوفاً من النّار، أو طمعاً في الجنة، أو ترفُّعاً عن الالتفات إلى ما سوى الحقّ، ولا يكون ذلك إلا بشرح الصدر بنور اليقين، ولا يُتَصَوّر الزهد ممن ليس له مال ولا جاه [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 3247)], فلا تظهر حقيقة الزاهد إلا بعد كسب المال أو نيل الجاه، لذا قيل لابن المبارك: يا زاهد، فقال: (الزاهد عمر بن عبد العزيز إذ جاءته الدنيا راغمةً فتركها، وأمّا أنا ففيم زهدت؟[شرح الشفا (1/ 228)]
فلا علاقة للزُّهد بالسلبيّة والانعزال عن الدنيا، والزاهد الحقيقيُّ يقدّم النَّفع للخلق بكلِّ وسعه، حتى ولو أوكلت إليه الإمارة والسلطة، لكنَّه لا يتشوّف إلى المنصب حبَّاً للرياسة وطلباً للشهرة والتعالي، وتحقيقاً لمآربه ورغباته، وإنّما ينظر إليه بأنَّه وظيفةٌ وتكليفٌ من الله لإصلاح معاشهم، وتأمين حاجياتهم، وتحقيق مطالبهم، والرقيّ بحياتهم؛ لذا تولّى أفضل الصحابة أمور المسلمين، فتولّى الخلفاء الرَّاشدون الإمامة العامة للأمّة، وآخرون قاموا على الإمارات والأقاليم، مثل: سلمان الفارسي، وسعيد بن عامر الجمحي، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم وغيرهم كثير.
 كما أنّ أفضل التابعين: عمر بن عبد العزيز رحمه الله تولَّى زمام الحكم وسار على نهج الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم جميعاً، وهؤلاء وأمثالهم أزهد الأمة وأعلمهم بحقائق الدين، فقد أنجزوا أعظم الإنجازات، وأقاموا العدل، ونفعوا البشرية، وملكوا الدنيا لكنّها لم تملكهم، فلم يتغير حال أحدهم عندما انتقل من فردٍ من عامَّة الرعية إلى السلطة والإمارة، وكلّ ذلك بفضل تعاليم القرآن الكريم والسنّة النبوية… 
 إنّ القرآن الكريم في حثّه على الزهد والتقليل من قيمة الدنيا ربّى رجالاً عظاماً، لا يتزحزح أحدهم عن دينه ومبدئه مهما بلغ به الأمر، بل تبدو نفسه وحياته والكون بأسره صغيراً حقيراً أمام الحقّ والمبدأ، فلا يغترّ ولا يضعف أمام المغريات والأهواء، بل يثبت ولا يخالف شرع الله.
 وعندما فوجئ أولئك الصحابة ومن كان على شاكلتهم في معركة القادسية بالجواهر النفيسة والتحف والبهرج الذي لم يخطر ببال أحدهم من قبل، لم يأبهوا به ولم يدخل أفئدتهم الهلع والاستعظام، وإنما استهانوا بكلِّ ذلك، بل كان في أعينهم كأنَّه حجارةٌ؛ لأنّ الإسلام بصّرهم بمعرفة كلِّ شيء على حقيقته، فمهما بلغت هذه التحف والزخارف والمجوهرات من النفاسة والغلاء، فإنَّها من الدنيا التي لا تعدل شيئاً أمام نعيم الآخرة، ولو لم يكن الزهد من تعاليم القرآن لاختلسوا تلك المجوهرات، وتنافسوا على الدنيا، ودبّ الفساد بينهم، وتنازعوا ثمّ هلكوا، ولم يحقّقوا نصراً ولا فتحاً.
إنّ المقصود من الزهد والتقليل من قيمة الدنيا تزكية النفوس والأخلاق، ليبقى المؤمن متوازناً، فلا يستغلّ الدنيا لمصالحه ومآربه والإضرار بالمجتمع، ولا يتحوّل إلى وحشٍ ضارٍ إذا ملك القوة؛ لذا جعل القرآن تزكية النفوس في المقام الأول قبل العلم، قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ))[الجمعة: 2] .

قال البقاعي: (والحكمة التي هي العلم بما لأجله وجب الحُكم من مَشروطِهِ التعليم بالتزكية… فما يعلِّمهم الحكمة إلا بعد التزكية، فمن تزكّى فهو من أهلها ومن لم يتزكَّ فليس من أهلها [نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: (19/481)].

لأنّ المجتمعات إذا تحلّت بالأخلاق والتزكية وسخاوة النفس، وسُخِّر لها الكون، فستبذله في نفع البشرية وإسعادها، أما إذا كانت ثقافتها مبنيّةً على أسس (البراغماتية) والمنفعة الشخصية والنَّهم والأنانية والجشع فلا بدّ أن ينشأ من ذلك سباق بين الحضارات؛ فيسعى كلُّ فريقٍ إلى الاستبداد بها، ثم يتحوّل هذا السباق إلى صراعٍ، ثمَّ إلى حروب، وحينئذٍ يُستَخدم العلم والقوة في صناعة الأسلحة الفتَّاكة وتدمير البشرية، والمبيدات الإنسانية بدلاً من تسخير الكون لسعادة الإنسان، فتتحوّل المعارف والعلوم إلى داءٍ ووباءٍ، ويصبح مَن يمسك بزمام العلم والتكنولوجيا وحشاً ضارياً، وتتحوّل البشرية إلى أهدافٍ للفتك والقتل، وهذا ما نشهده اليوم من دعاة الحضارة والتقدّم.

قال الأستاذ مروان عادل في جريدة (المصريون): (في نظري أنّ الحضارة الغربية هي حضارة النفاق، ولو كنت مختاراً لها اسما لما وجدت خيراً من (حضارة النفاق), هل سمعت في التاريخ عن دولةٍ تقصف قرى دولةٍ صغيرةٍ مثل فيتنام، وتحرق أطفالها، وتلقي لهم بالقنابل في ألعاب الأطفال تحت شعار “تحرير فيتنام”؟ هل سمعت في التاريخ عن حضارةٍ تغزو الدول الأخرى تحت عنوان: (حرية الإنسان) (وتعتبر موت أطفال العراق وفلسطين “مخاضاً من أجل ولادة شرق أوسط جديد”؟) [جريدة المصريون الضوئية، مقال تحت عنوان (هذه حضارتهم) بتاريخ 26/ 9 /2011]

لقد وصل العالم اليوم إلى الانحطاط والحضيض، وإنّ تلك العلوم والتقنية التي امتلكتها لا تسمّى حضارة بل مدنيّة، ولا قيمة لهذه المدنيّة التي فتكت بالبشرية وصنعت الحروب والفتن بين الشعوب، فشرط الحضارة الأساسي إسعاد البشرية لا تدميرها وتبديدها.
وإذا نظرنا في الحضارة الإسلامية وجدنا العلماء المسلمين قدّموا النفع للبشريّة في علومهم، مع تحلِّيهم  بالإنسانيّة والأخلاق، ولم يخطر ببالهم أن يستخدموا علومهم في التدمير والقتل والوحشية التي نجدها اليوم عند الغرب.
هذه هي تعاليم القرآن الكريم التي أنشأت أمّةً متوازنةً تجمع بين العلم والأخلاق.
وأمّا الذين ينتقدون القرآن الكريم فيريدون أن يكون القرآن تبعاً لنظرتهم الضيّقة القاصرة، المبنيّة على الانبهار والخلابة، والتبعيّة العمياء للغرب.
 والقرآن أعظم وأجلّ من ذلك الانحطاط الذي ينبهرون به، فالقرآن منهجٌ كاملٌ وهو الذي اهتمّ بالإنسانيّة، وبفضله نشأت المنهجيّة العلميّة والفضيلة والأخلاق، أمّا الغرب فقد قابلوا فضل العلوم الإسلامية التي أخرجتهم من جهالتهم بالتنكّر لها والكيد ضدَّها، واستخدموا العلوم والتقنيات في الدمار والقتل والحروب والإضرار بالبشرية، فأيّ المنهجين لا يواكب التطور الفكري؟

دعواتٌ تعطيلية… وزعمٌ مكذوب

دعوات تعطيلية و زعم مكذوب -مربعة-
دعوات تعطيلية و زعم مكذوب -مستطيلة-

يقول بعض المنبهرين ببهرج الغرب ومدنيّتهم وتقنيّاتهم: إنّ القرآن معطِّلٌ للعقل ولا يواكب التطوُّر الفكريّ؛ لأنَّه يتحدّث عن الغيبيّات والموت، ويأمر بالزهد ويقلِّل من شأن الدنيا، ولا يشتمل على العلوم التي تصنع الحضارات, وهذا كلّه تعطيلٌ للعقول, وتخلّفٌ في التفكير.

والجواب على ذلك:
إنّ القرآن الكريم دستورٌ لإصلاح الدِّينِ والدُّنيا، ويعالج أحوال الإنسان منذ نشأته إلى خلوده في الآخرة، ويبيّن مناهج الحياة للمجتمعات والأمم ليرتقي بها في جميع المجالات، وهو أوسع وأعظم وأجلُّ من أن ينحصر في مجالٍ ضيّقٍ من مجالات الحياة, فلا يتجاوز ملاحظة الموجودات وصناعة الأجهزة الميتة، ويترك الإنسان تائهاً متخبِّطاً لا يدري
من خلق الكون، ولا يعلم وظيفته في هذه الدنيا وأين مصيره، ويهمل تزكيته وسلوكه.
إنّ القرآن كتاب هدايةٍ، يصنع الإنسان، ويعطي كلَّ حاجةٍ حقَّها، فاهتمّ بالرُّوح والعقل والقلب، وربط المخلوق بخالقه، وأمر بالعلم والتفكّر والتدبّر، وسعى إلى تزكية النفوس ونشر الفضائل.

أمّا قولهم: القرآن لا يشتمل على العلوم التي تصنع الحضارات: فلا يمكن لخالق السموات والأرض أن يُنزل كتاباً محصوراً في مجالٍ ضيِّقٍ ونظرةٍ جزئيّة، فالقرآن ليس كتاب فيزياء أو كيمياء وليس كتاب رياضيات ولا بيولوجيا، ولا نحوها من العلوم التجريدية والتجريبيّة، ومن يظنّ أنَّ صناعة التطور والحضارة محصورةٌ بهذه العلوم فإنّ نظره قاصرٌ محدود.
يهتمُّ الغرب بالعلوم التي تبني المدنيّة، ويتعاملون مع الجمادات من أجهزةٍ وأبنية، ويهملون النفس والروح والإيمان، ممَّا جعل مجتمعاتهم تتخبَّط في أوحال الفساد الخلقيِّ والانحلال دون رادع، بل شرّعوا الرذائل والشذوذ، وجعلوا مدنيّتهم وثقافتهم تحوم حول المتعة العاجلة والمظاهر الدنيوية، فتحوّلوا بتلك التقنيات والصناعات إلى وحوش، وصنعوا أسلحة الدَّمار التي تفتك بالإنسان، واستعبدوا الشعوب، وصنعوا الحروب لأجل مصالحهم وثرواتهم، وكلّ ذلك بسبب غياب الروح والقلب وابتعادهم عن تزكية النفوس.

 أمّا القرآن الكريم فيصنع الإنسان الكامل، ويبيّن له المنهج ويزوّده بالفكر والعلم والمعرفة والتزكية، ليشيد الحضارات الحقيقية التي تسعد الإنسان، فاهتمّ بتزكية النفوس وتطهيرها بالتقوى ومكارم الأخلاق، وسجّل المسلمون الأمثلة العليا في سلوكهم وأخلاقهم وإنسانيّتهم، ورحمتهم بالبشريّة.
كما نالت دعوة القرآن إلى العلم النصيب الأوفر من خطابه وتوجيهاته، فأخرج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلوم، ليجعل شخصيَّة المسلم متوازنةً من حيث: التقوى, والسُّلوك, والعلوم، قال تعالى:
 ((كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)) [البقرة: 151], لذا كان استهلال خطاب الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم بكلمة (اقرأ) والنبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمّيّ غير قارئ، وإذا نظرنا في مراعاة الكلام لحال المخاطب لا نجد توافقاً في الظاهر، فكيف يأمر الوحي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالقراءة وهو أمّيّ، وماذا يقرأ؟
لكنّ أبعاد هذا الخطاب أكبر بكثيرٍ من تلك الحال التي كان فيها.
نّ كلمة (اقرأ) تعمّ الكون بأسره؛ فهي توافق حال الأمّة، بأن يكون الوحي السماوي لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم  بدايةً لصنع حضارةٍ عظيمةٍ، تبدأ من كلمة اقرأ لتحثّ على العلم وبناء الحضارة وتقدّم الخير والنفع للإنسانيّة، فنجد كلمة (اقرأ) قد تكرّرت، وذُكِرَت أداة العلم وهي القلم.
وكما أمر القرآن بالعلم، فقد نهى عن اتّباع الجهل فقال تعالى:((وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) [الإسراء: 36] وقد جاء في الخطاب القرآني مئات الآيات في الحضّ على العلم والتعقّل والتفكّر والتدبّر.
والفرق بَين التفكّر والتدبّر: أَن التفكُّر هو النّظرِ فِي الأدلّة، والتدبُّر هو النظر في المآلات والعواقب، أي ما ينتج عن الأمر الذي نبحث فيه. [انظر: الفروق اللغوية للعسكري (ص: 75)]

إنّ هذه المعاني التي جاء بها القرآن لا يعرفها العرب، ولم تكن ذات بال لديهم، ولم تأخذ شيئاً من اهتمامهم، فأراد القرآن أن يرتقي بهم ويفتح آفاق النظر والتفكير والتدبّر، فأوضح لهم المنهج العلميَّ الراسخ، وأرسى أصول الفكر والعلوم بكلِّ معانيها، ومن ثَمّ تكوّنت لدى المسلمين عقليّةٌ ذات منهجيّةٍ علميّةٍ راسخةٍ، استمدّوها من الخطاب القرآني ومقاصده وتوجيهاته، فأبدعوا في شتّى العلوم, وسبقوا العالم في الابتكار والاكتشافات، وكان هذا العلم والبحث العلميُّ والمعرفيُّ عبادةً وقرباً إلى الله تعالى، قال ابن الهيثم العالم المحقِّق ومؤسِّس علم البصريَّات: (سعيت دوماً نحو المعرفة الحقيقية، وآمنت بأنَّ أفضل ما أتقرَّب به إلى الله أن أبحث عن المعرفة والحقيقة) [مجلة رواد الأعمال الرقمية].
وإليك ثلاثة نماذج من مئات آلاف العلماء المسلمين المبدعين والمبتكرين:
منهم: جابر بن حيّان: إنّ جابر بن حيّان أوّل من أسَّس للمنهج التجريبيِّ في العلوم، وكان يقول لطلابه: (من لم يعمل ولم يجرّب لم يظفر بشيء أبداً) وحوّل علم الكيمياء من نظرياتٍ وخرافاتٍ إلى علمٍ تجريبيٍّ حقيقيٍّ، وكان له الفضل على العالم بأسره في هذا العلم، قال ماكس مايرهوف: (يمكن إرجاع تطوُّر الكيمياء في أوربّا إلى جابر بن حيّان بصورةٍ مباشرةٍ، وأكبر دليلٍ على ذلك أنّ كثيراً من المصطلحات التي ابتكرها ما زالت مستعملةً في مختلف اللغات الأوربّيّة)، وقد ترجمت كتبه, وبقيت المرجع الأول على مدى ألف عام، وكانت مؤلّفاته موضع اهتمام ودراسة مشاهير علماء الغرب، مثل كوب هولميارد، سارتون وغيرهم. [انظر: موسوعة المعرفة على الشبكة الإلكترونيّة، صحيفة الخليج 28ديسمبر 2012هـ]
ومنهم الكرخي: فقد قدّم للرياضيّات أهمّ وأكمل نظريةٍ في الجبر، وبقيت نظريّاته تُدَرَّس حتّى القرن التاسع عشر الميلادي، قال أ. هور إيفز في كتابه (تاريخ الرياضيات): (إنّ الكرخيَّ يعدّ من بين العلماء الرياضيين المبتكرين لنظرياتٍ جبريّةٍ جديدةٍ تدلّ على عمقٍ وأصالةٍ في التفكير) [العلوم البحتة في الحضارة الإسلامية، د. علي عبد الله الدفّاع (210)]
وكذلك الخوارزمي: فقد أبدع في الرياضيّات، لا سيّما علم الجبر، وابتكر الخوارزميّات التي قامت على أساسها اليوم التكنولوجية الرقميّة، قال الأستاذ جورج سارتون: (وإذا أخذنا جميع المجالات بعين الاعتبار، فإنّ الخوارزمي أحد أعظم الرياضيّين في كلّ العصور) [العلوم البحتة: (149)]
فهذه النماذج غيضٌ من فيضٍ، بل قطرةٌ من بحر العلماء الذين صنعوا النهضة العلميّة الإسلاميّة، وقدّموا العلوم النافعة للبشريّة، بفضل القرآن الكريم الذي أنشأ حضارةً عظيمةً بدءاً من نقطة الصفر وذلك باهتمامه بالإنسان وتزويده بالمنهج والفكر.
وما وصلت أوروبا وأمريكا اليوم إلى ما وصلت إليه إلّا بفضل القرآن الكريم الذي أسَّس للمناهج العلميّة، وصنع العلماء والعباقرة المسلمين، وانتقلت علومهم وإبداعهم وابتكاراتهم إلى أوروبا، فبنى الغرب عليها علومه وتقنياته وإنتاجه المعرفيَّ.
وقد نشل المسلمون أوروبا من ظلمات الجهل والتخلُّف والخرافات التي كانت عليها في القرون الوسطى. 
وقد شهد عدد ٌكبيرٌ من منصفي الغرب بفضل الإسلام على الحضارة الأوربية، منهم:
توماس أرنولد فقد قال: (كانت العلوم الإسلامية وهي في أوج عظمتها تضيء كما يضيء القمر فتُبدِّد غياهب الظلام الذي كان يلفُّ أوروبا في القرون الوسطى) [مجلة إشراقات، مقال بعنوان: شهادات استشراقية أنصفت الحضارة الإسلامية، د. عماد عجوة الاثنين 31 أكتوبر 2011م، كتاب التطرف محمد أحمد السيد: (161)]
وقال هينولد: (إنَّ ما قام على التجربة والترصّد هو أرفع درجةً في العلوم، وإنّ المسلمين ارتقوا في علومهم إلى هذه الدرجة التي كان يجهلها القدماء… وكانوا أوَّل من أدرك أهمّية المنهاج في العالم، وظلُّوا عاملين به وحدهم زمناً طويلاً) [الحضارة الإسلامية ثقافة وفن وعمران، عبد السلام كمال: (61)]
وقال مسيو ليبري: (لو لم يظهر المسلمون على مسرح التاريخ لتأخّرت نهضة أوروبا الحديثة عدَّة قرونٍ) [الحضارة الإسلامية، عبد السلام كمال: (62)]
فهل عطّل القرآن العقول، أم أنَّه أسَّس للمنهج العلميِّ, وفتح آفاق الفكر والإبداع وصنع الحضارات؟

أمّا قولهم: إنّ القرآن يتحدّث عن الغيبيّات والموت، ويأمر بالزهد ويقلِّل من شأن الدنيا، وهذا يعطّل العقول ولا يواكب التطوُّر الفكري!

 فتتابعونه في المقال القادم إن شاء الله.

هل القرآن كاف في بيان قضايا الدين وأحكام الشريعة

هل_القرآن_الكريم_كافٍ_في_بيان_قضايا_الدين؟
هل_القرآن_الكريم_كافٍ_في_بيان_قضايا_الدين؟-مستطيلة-

اشتمل القرآن الكريم  على الدين كله، بجملته وتفصيله، بكلياته وجزئياته، فهو يحتوي جميع الأحكام التشريعية بتفصيلاتها، وما ترك شيئاً ولا فرط في شيء

ولهذا كان القرآن كافياً، ولم يكن ثمة حاجةٌ لمصدرٍ ثانٍ للتشريع، فلا حاجة للسنة النبوية، ولا مكان لها… هكذا قال بعض المدَّعين!
وقد استدلوا على كلامهم بما يأتي:
 قوله سبحانه وتعالى: ((مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )) [الأنعام: 38]
وقوله جل وعلا في وصف القرآن الكريم: ((مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )) [يوسف: 111] 
و استدلوا بالآيات التي وصف الله تعالى القرآن فيها بأنه (مبينٌ) من مثل قوله عزَّ وجل: ((إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ )) [يس: 69] 
ووجه استدلالهم بها: أن الله تعالى بيَّن فيها أنه ذكر في القرآن الكريم كلَّ شيء، فلم يفرط في الكتاب من شيء، بمعنى: لم يترك صغيرة ولا كبيرة، ولم يدع أمراً من أمور الدين، أو حكماً من أحكام الشرع يحتاج إليه الناس في عقائد أو عبادات أو معاملات إلا وقد ذكره في القرآن، فيقولون: إذا كان الأمر كذلك؛ فما حاجتنا إلى مصدر آخر غير القرآن؟!

ويقول من ينكر السنة النبوية:

  •  إن إضافة مصدر آخر إلى القرآن الكريم الذي لم يترك شيئاً، ولم يفرط الله فيه من شيء، إنما يعني أن نزيد في شرع الله ما ليس منه، وأن نخلط شرع الله الذي أنزله في كتابه بشرع من عند غير الله تعالى، وهذا باطل فاسد، وفساده إنما أتى من الاعتماد في الدين على غير كتاب الله الذي فصّل كل شيء وأحاط بكل شيء.
    وإذا كان القرآن فصّل كل شيء؛ فما حاجتنا إلى السنة؟ وماذا سنفيد منها؟
  • كذلكم الآيات التي وصفت القرآن بأنه: (مبين) ووصفت آياته بأنها: (آيات بينات)؛ فهذه تقطع السبيل على من يقولون: إن السنة مبينة للقرآن ومفصلة. فهذا هو القرآن يتحدث عن نفسه في آياته القاطعات، بأنه قد اشتمل على كل شيء، وفصَّله، وبيَّنه، وبهذا يتضح أن السنة لا محل لها من التشريع، ولا حاجة إليها في بيان أو تفصيل أو توضيح.

والجواب على هذا الكلام، وفق الآتي:

إن القول بهذه الشبهة يدل على عدم إدراك مقاصد ومضامين آيات القرآن الكريم؛ فإن الأمَّة اتفقت على أنَّ القرآن قد اشتمل على الدين مجملاً في كثير من جوانبه وأحكامه، ومفصلاً في جوانب أخرى، وقد جاءت السنة النبوية المطهرة فبيَّنت ذلك المجمل وفصلته.

وإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حين يبيّن ويفصّل إنّما ينفذ أمر الله تعالى ويؤدي ما وكَّله به من بيان القرآن المنزل على الخلق، فكان تطبيقاً واستجابةً لأمره عز وجل في قوله: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )) [النحل: 44] 
وقوله تعالى: ((وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )) [النحل: 64]
وإن كرر أصحاب ذلك الرأي قولهم بأن القرآن المجيد قد فصل كل شيء، وبين كل صغيرة وكبيرة في الدين؛ فلنحتكم وإياهم إلى عماد الدين: الصلاة؛ أين ذكر عدد الصلوات في القرآن الكريم؟ ووقت كل صلاة ابتداءً وانتهاءً؟ وعدد ركعاتها؟ والسجدات فيها؟ وهيئاتها؟ وأركانها؟ وما يقرأ فيها؟ وواجباتها؟ ونواقضها؟ إلى غير ذلك من أحكام لا يمكن أن تقام الصلاة بدونها. 
ومثل ذلك يقال في أحكام العبادات كافة، فقد ورد الأمر بالصلاة والزكاة والصيام والحجِّ في القرآن الكريم، فأين نجد الأنواع التي تُخرج منها الزكاة؟ ومقدار كل نوع؟ وأين نجد أحكام الصيام؟ وأين نجد مناسك الحج؟ 
إن الله سبحانه قد وكَّل بيان ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، ثم نجد رسول الله يقول: ((صلُّوا كما رأيتموني أصلي)) [متفق عليه]، ولم يقل: كما تجدون في القرآن، لأن القرآن قد خلا من تفصيل أحكامها وبيانها.
ولعل من حكمة الله سبحانه في جعل مهمة التفصيل والبيان لرسوله الكريم؛ أن تفصيل هذه الأحكام وبيان جزئياتها، وتوضيح دقائقها، إنما يكون أولى وأكثر جدوى بالطريق العملي، ولو أن الأحكام فصَّلت قولاً نظرياً فقط، لما استغنت عن ضرورة بيانٍ عملي واقعي. 
ولعله من الحكمة وراء ذلك أيضاً: بيان ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من منزلة سامية لا يشاركه فيها غيره، ومكانة رفيعة عالية لا يرقى إليها سواه، وذلك بإسناد الله تعالى تفصيل الأحكام وبيانها إليه صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان كل شيء مفصلاً مبيناً لكان رسول الله مثل غيره من الناس مطبّقاً فقط لما هو منزلٌ في القرآن فعلاً، لكنَّ الله عزَّ وجل اختصَّه صلى الله عليه وسلم بتفصيل الأحكام وبيان مجمل القرآن تكريماً لشأنه وإعلاءً لمنزلته، ولأنَّ النبي هو المتبَّع ولا معنى للنبي دون اتباع.
ونقول لمن يرفض الاعتراف بالسنة الشريفة مستدلاً بالقرآن الكريم أنه قد أخطأ بطريقة الاستدلال:

 فلا يمكن لمن أراد الاستشهاد بأيِّ نصٍّ من النصوص أن يأخذه بمعزلٍ عن النصوص الأخرى، وطالما أننا متفقون على أن القرآن الكريم هو كتاب من عند الله تعالى، فلنستوعب جميع الآيات القرآنية التي تبيّن شأن القرآن الكريم، ودور النبي صلى الله عليه وسلم. لا أن نختار آية أو آيات محددة دون غيرها.

ومن البدهيّات التي يعلمها طلبة العلم وكثير من الناس: أن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً، وأن آياته إنما يفهم بعضها في إطار البعض الآخر، وأن تفسير آياتٍ منه بعيداً عن بقية الكتاب الكريم قد يؤدي إلى عدم فهم المراد منها فهماً صحيحاً. 
وهؤلاء قد اعتمدوا آية أو بضع آيات من القرآن، ثم عزلوها عن بقية ما في القرآن من بيان في الموضوع نفسه، ثم حمَّلوها من المعاني مالا تحتمل… 
إنَّ الله سبحانه الذي ضَمَّن القرآن العظيم قضايا الدين وأصول الأحكام مجملةً، هو جلَّ جلاله الذي وجَّه الناس وأرشدهم إلى الطريق الذي يحصلون منه على تفصيل ذلك المجمل وبيانه، وقد جاء التوجيه في القرآن نفسه في قول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ))  [محمد: 33]
وقوله تبارك وتعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر: 7]
وغير ذلك آيات كثيرة تأمر المؤمنين بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخذ عنه.
وختاماً فإن القرآن الكريم والسنة المطهرة مصدران أصليان من مصادر التشريع في الإسلام، وكلاهما متمِّمٌ للآخر ولا يستغنى عنه ، فالقرآن الكريم ذكر عدداً من القضايا الكبرى والأحكام العامة في كثير من آياته، وجاءت السنة ببيانٍ مكمّل وموضّح لعموم النص القرآني، ومن أراد تحييد السنة وإقصاءها فقد جانب الصواب في إدراك الحقائق.

والحمد لله رب العالمين

القرآن لكل زمان ومكان

هل القرآن مناسب لجميع الأزمنة والأماكن
القرآن لكل زمان ومكان

إذا كان القرآن لكل زمان ومكان فلماذا يمثّل خطابه بيئة الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي

يطرح بعضهم انتقاداً للخطاب الذي جاء به القرآن الكريم فيقول: أنتم تقولون: إنّ الإسلام جاء لكلّ زمان ومكان، فلماذا لا يجاوز الخطاب القرآني الفترة الزمنية التي جاء فيها؟

فنجد بعض الآيات لا تتعلق بحياتنا أبداً، إنّما هي خاصة ببيئة القرن السابع الميلادي، ومن أمثلة ذلك:

1- كانت العقوبات في الجاهلية قاسية، كقطع يد السارق، ونحو ذلك، فأقرّها القرآن، وهذا لا يتناسب مع المدنيّة والحضارة اليوم.

2- يذكر الوأد وقتل الأولاد بسبب الفقر أو خشية منه في الآية: (﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾) [الأنعام: 151]، والآية: (﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾) [الإسراء: 31]، وهل أحد يقتل ولده اليوم؟!

3- تُذكرُ الوسائل القديمة في الحرب والسفر، كالخيل والإبل في قوله: (﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾) [الأنفال:60] والآية: (﴿ وتحملُ أثقالَكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بشقِّ الأنفُس﴾) [النحل 7]، و في وصف الحجيج: (﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾) [الحج: 27]، واليوم لا يوجد خيل في الحروب، ولا إبل في الأسفار.

4- تُذكر عادات أهل الجاهلية في تحريم بعض الأنعام على أنفسهم كما في الآية: (﴿وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾) [الأنعام: 138 – 139] وهذه العادات لا تعني إلاّ أناساً محدّدين جدّاً في زمان ومكان خاصَّين، وإذا كان القرآن دستوراً عامّا لكل زمان ومكان فيجب أن يتناول الأمور العامّة لا الجزئيّات الخاصة في زمن خاصّ وبيئة محدودة.

الجواب: 

نعم، إنّ القرآن الكريم دستور عامّ لكلّ زمان ومكان، وقد جاء بذكر تفاصيل البيئة التي أُنزِل فيها، وعالج المشكلات العامة والخاصّة في الجزيرة العربية، لحِكَم ومقاصد، أهمّها:

1- خاطب القرآن الكريم العرب بما عرفوه وما عهدوه ليكون ذلك أدعى لاستجابتهم؛ لأنّ النفس تأنس بالخطاب القريب الذي تعرفه.

2- لابد للتخطيط الاستراتيجي أن يضع أهدافاً قريبة عاجلة، وأهدافا بعيدة آجلة، ولا يمكن تحقيق الهدف البعيد الآجل ما لم يتحقّق الهدف القريب العاجل، ومن ثمّ فقد أراد الله تعالى أن يشكّل من العرب الذين أُنزِل عليهم القرآن نواةً ليحملوا هذا الدين وينشروه في أصقاع المعمورة، وكان الفساد منتشراً في الجاهليّة، فلا بدّ من الدخول في تفاصيل حياتهم، ومعالجة واقعهم؛ لتحقيق الهدف القريب العاجل، حتّى إذا تزكّت نفوسهم وباشر الإيمان قلوبهم حملوا الرسالة إلى غيرهم ونشروها في العالم، ومن المعلوم أنّ تهيئة النواة الأولى لحمل الرسالة لا بدّ أن تلقى اعتناءً خاصّاً، ومعالجةً دقيقةً لكلّ المشكلات التي تتعلّق بها؛ لأنّ الخللَ في توجيه الجيل الأول والنواة الأولى، وعدمَ تحقيق الهدف القريب ينعكس سلباً على جميع الأهداف بعده، لذا حمّل القرآن الكريم مسؤوليّة حمل الدين للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولقومه، قال تعالى: (﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾)[الزخرف: 44].

يقول أ. جيفري لانغ: (فهناك توجيهات وأوامر إن أُخِذَت بحرفيّتها بدت مهجورة في غالب المجتمعات الحديثة… من الواضح أنّ مهامّ القرآن الفوريّة إصلاح المجتمع في القرن السابع الميلادي، وحشد العرب. وبالحكم على المجتمع العربي في ذلك الزمن من خلال قواعده وقوانينه نجد أنّه كان مشلولاً، وآسناً بسبب انتشار الفوضى السياسيّة؛ لانعدام وجود أي نظام حكم، وانتشار العنف والرذيلة والفساد، ولكي يصبح هذا المجتمع العربي هو المسؤول عن حمل هذا الوحي الذي أريد له أن يكون للناس كافّة (﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)[يوسف: 104]، كان لا بدّ أن يخضع إلى عمليّة تحويل كاملة، لتخليص نفسه من عناصر العادات التي تضعفه وتدمّره، وإلاّ لبقي القرآن محصوراً في قطاع شبه الجزيرة العربية وعندئذٍ سيغيب في عالم النسيان، وهذا يفسّر جزئيّاً تلك الطبيعة التقنيّة الواضحة لأحكام القرآن؛ لأنّ النصائح المجرّدة نادراً ما تؤدّي إلى إصلاح سريع شامل، بل النصائح والتوجيهات العامّة نادراً ما تسفر عن إصلاح مجتمعي حتى على المدى الطويل) [ضياع ديني، صرخة المسلمين في الغرب، جيفري لانغ: (ص:70) وما بعدها، ترجمة إبراهيم الشهابي، دار الفكر، دمشق، عام 2008م]

3- إنّ عادات الجاهلية التي ذكرها القرآن وأبطلها ليست أعرافاً شكليّة، وإنّما تؤثر في صميم الدين، فتحريم أهل الجاهليّة بعض الأنعام على أنفسهم يتعلّق بتعظيم الأصنام، والشرك بالله، وأول مقاصد الإسلام هي معالجة العقيدة الفاسدة والخرافات السائدة.

وكذلك قتل أهل الجاهلية لأبنائهم بسبب الفقر جريمة عظمى تصادم الدين والإنسانيّة وتنمّ عن الوحشيّة والقسوة التي كانت لديهم فلا بدّ من معالجة القرآن لهذه القضيّة .

4- عندما يذكر القرآن الكريم الوسائل التي كانت في عصر التنزيل فإنه لا يقتصر عليها، وإنّما يذكرها من بين الوسائل الأخرى، ففي قوله تعالى: ﴿(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ)﴾ [الأنفال60]، لم يقتصر على رباط الخيل وإنّما ذكر القوة بشكل عامّ، والقوة تشمل جميع الوسائل القديمة والحديثة والمتطوّرة والذكيّة.

وعندما ذكر القرآن وسائل السفر التي كانت في عهد التنزيل أشار إلى وجود وسائل أخرى فقال: (﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾) [النحل8]، فقوله: (﴿ويخلق ما لا تعلمون﴾) يشير إلى وجود وسائل أخرى يركبها الناس لا يعلمها العرب الذين أُنزِل عليهم القرآن.

وأمّا قوله: (﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾) [الحج27]، فهذا الخطاب غير موجّه إلى سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم مباشرة، وإنّما هو إخبار عمّا أوحاه الله تعالى إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما أمره أن يبلّغ الناس بالحجّ، وإنّ وصف الحجيج ((رجالاً وعلى كلّ ضامر)) هو وصف للحجيج في عهد إبراهيم عليه السلام، وبقيت هذه الصورة للحجيج آلاف السنين حتى وقت قريب، وهذا من باب الخبر التاريخي، ومن المعلوم أنّ الخبر التاريخي لا تتغيّر لغته، لأنّه توصيفٌ لأشياء وأحداث مضت، ولا يصحّ فيه إلا تلك اللغة، فلو كتبت أحدث الصحف اليوم عن خبر تاريخي فلا بدّ أن تذكر مصطلحات عصر ذلك الحدث، مثل: (رُقُم، خيل، أوابد) ونحو ذلك، وكلما اقتربت اللغة إلى ذلك العصر كانت أدق وأقوى، وكذلك عندما يصف الله تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مشهد الحجّ في عهد إبراهيم عليه السلام، ويصف النوق التي يسافر عليها الحجيج بأنها ضوامر لطول السفر فهذه الدقّة في الوصف هي عين البلاغة والبيان. 

5- أمّا قساوة العقوبات القرآنية في ذلك العصر، وإقرار العقوبات التي كانت في الجاهلية، كقطع يد السارق، وجلد الزاني، ونحوه.

فقد كانت الجريمة والرذيلة آنذاك منتشرة بكلّ أنواعها، ومتاحةً سهلةً لمن يريدها، ولم يكن عند العرب نظام ولا قانون يردعهم عن ارتكاب كلّ محظور والتوغّل فيه، فجاء القرآن الكريم لتطهير المجتمع من الفساد المتفشي، وقصدَ تزكيةَ النفوس وإصلاحَها، وتربيةَ جيلٍ ينشر الرسالة الإسلامية في أرجاء المعمورة، ولتحقيق ذلك لابد من سنّ قانون للعقوبات يكون رادعاً زاجراً، فكانت العقوبات القرآنية أنسب تشريع لتطهير المجتمع من الرذائل، وقد أثبت هذا التشريع نجاحه وجدواه، ففي وقت قصير تحوّل المجتمع من الفساد إلى الطهارة، ومن الرذيلة إلى الفضيلة، وما دامت هذه العقوبات قد أثبتت نجاحها بامتياز وأدّت الغاية المطلوبة فلِمَ الاعتراض؟!

ومن أبلغ ما حقّقته هذه العقوبات أنّ المجتمع كان يرتع في مستنقعات الرذائل، وبعد تشريعها زال ذلك الفساد، وعمّ الصلاح، وتزكّت النفوس بأقصر وقت وأدنى كلفة وأعظم نتيجة، فلم تقع إقامة الحدود آنذاك إلاّ على أفراد معدودين على أصابع اليد الواحدة. على أنّ في ثنايا هذه العقوبات كثيرٌ من الرحمة والعفو، وسنذكرها في المقال التالي الذي نناقش فيه قول بعضهم بأنّ هذه العقوبات لا تتناسب مع المدنيّة والحضارة اليوم. 

وإجمالاً للقول: إنّ القرآن الكريم قد حقّق الغاية، وأنشأ مجتمعاً مؤمناً فتح مشارق الأرض ومغاربها، ونشر العلم والعدل والحضارة في أصقاع المعمورة، وتأثّر بلغة القرآن الكريم العربُ والعجمُ، وأسلم كثيرٌ من الناس بمجرّد سماعهم لآيات الله تعالى تُتلى، فأدّت هذه اللغة مهمّتها بكلّ جدارة، واستنبط منها العلماء الأحكام العظيمة التي لا تكاد تنتهي، واستخرج البلاغيون منها مواطن الدقة والجمال في المعاني والمباني، فلا داعي للاعتراض عليها إذاً؛ وإذا تحقّقت الغاية فلا داعي للاعتراض على اللغة التي أدت المهمة على أكمل وجهٍ، وبذلك يتبيّن أنّ الخلل في رأي المعترض وليس في لغة القرآن الكريم.

هل ألّف محمدٌ القرآن؟

يُعتبر طرحُ هذه الفكرة ابتعاداً عن الجوهر والتفاتاً إلى القشور، ويستخدم بوصفه مغالطةً منطقيَّةً للفت النظر عن الحقائق، ذلك أنَّ السؤال المطروح في مقابل هذا التساؤل هو: هل القرآن كتاب حقٍّ أم باطل؟ 

إذا كان الجواب: إنّه  كتاب حقٍّ، فالواجب اتِّباعه بغضِّ النظر عن كاتبه، وإن كان الجواب غير ذلك، فالواجب إقامة الحجَّة والدليل والبرهان على دعوى البطلان، وإن كان الجواب: لا أعلم، فالواجب على من لا يعلم أن يعلم.

في نقاش الفكرة، يطرحُ المقال عدَّة نقاط:

النقطة الأولى: القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد في البشرية الذي يَنسِب كلَّ حرفٍ فيه إلى الله تعالى، وينفي عنه تدخّلات البشر في أي نوعٍ من أنواع التدخل، ويقيم التحدّي على هذه الدعوى، وهذا الأمر يكفي ليثير تساؤل الباحثين عن الحقِّ، للتقصِّي والبحث وإشباع نَهَمِ الوصول إلى الحقيقة.

قد يقول قائلٌ: إنَّ كُلَّ الديانات تدّعي نسبة كتابها إلى الإله، وكلُّ الديانات السماوية تدَّعي نسبة كتابها إلى الله تبارك وتعالى، وهذا ليس حكراً على القرآن الكريم.

الكتب المقدَّسة موجودةٌ عند أتباع كلِّ الديانات تقريباً، لكنّهم لا يدّعون أنّ كل حرفٍ فيها منسوبٌ إلى الله تعالى، بل هي كتبٌ منسوبةٌ إلى أشخاصٍ مقدّسين، أصبَحت كلماتُهم، ونصائحهم، وحكمهم بمجموعها كتاباً مقدَّساً، يتّبعه أتباع الدين، ويمكن للباحث تقصّي الأمر والبحث في كتب الديانات السماوية، والهندية، وغيرها، ليجد أنّ القرآنَ هو الكتابُ الوحيد الذي يحمل فكرةَ نسبة كلِّ حرفٍ من حروفه إلى الله عز وجل، بل إنَّ فيه تهديداً واضحاً بعدم تدخُّل النبي  حتى ببعض الكلمات حيث قال: (﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيْلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِيْنِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِيْنَ﴾) [سورة الحاقة 44-45].

يُضاف إلى ذلك أنَّ رسولَ الله ، كان قد نهى عن كتابة السُّنَّة في حياته، حتى لا تختلطَ مع القرآن، فلو كان القرآن من تأليفه –كما يدِّعي البعض- لما نبّه الناسَ ألّا يكتبوا كلامَه بجوار كلام الله تعالى، خوفاً على المسلمين الأوائل الذين يتعلَّمون القرآن لأوَّل مرَّةٍ من أن يختلط عليهم القرآن بكلام النبوة.

النقطة الثانية: في القرآن الكريم، عتابٌ للنَّبيِّ ، وإعادةُ توجيهٍ لمواقف اتَّخذها، وذكرٌ لأمورٍ ما كان لصاحب ادِّعاءٍ أن يكتبها عن نفسه في كتابٍ يدعو الناس إلى اتِّباعه.

كعتاب الله تعالى لنبيه بسبب التفاته عن الأعمى أثناء دعوته لسادات قريش، وإذنه للمنافقين بالتخلف عن الغزوة، والحكم على أسرى بدر بما هو مغايرٌ لحكمِ النَّبيِّ ، إضافةً إلى بعض المواقف والأحكام الأخرى التي ما كان لصاحب ادِّعاء أن يثبتها على نفسه في كتابٍ سيُقرأ إلى قيام الساعة، فصاحب الادِّعاء يجعل محور الكتاب في تمجيد أفعاله وقراراته، وتقديس كلماته، وحِكَمه، كما هو الحال عند كثير من الكتب في الديانات الأخرى.  

النقطة الثالثة: لقد أقام الإسلام والقرآن والرسول  عقيدةَ الاتِّباع على تصديق معاني أركان الإيمان، بغضِّ النَّظر عن وجودها في القرآن أو عدمه، فأكثر المسلمين الأوائل اتَّبعوا الإسلام قبل أن يتنزّل القرآن كاملاً، ولم يأتِ رسول الله  بكتابٍ جاهزٍ، مُعدٍّ سابقاً، بل جاء برسالةٍ تدعو إلى أركان الإيمان، فآمن الناس بهذه الأركان، ثم اتَّبعوا بعد ذلك القرآن الذي يصدّق ويعزّز هذه الأركان في القلوب.

إذن فرسول الله  لم يبنِ أساس دعوته للناس بأن يصدِّقوا القرآن بدايةً، بل بناها على تصديق واتِّباع فكرة التوحيد الخالص لله تعالى، وعلى تصديق واتِّباع كلِّ أركان الإيمان الأخرى، ومنها الاقتناع بما جاء في الكتب السماوية السابقة للقرآن الكريم، فَوَاعَجَباً لكتابٍ يدعو أتباعه لتصديق الكتب الأخرى كشرطٍ لقبول إيمانهم به.

إنَّ كل الحقائق في هذه الحياة واضحةٌ وضوح الشمس في النهار، وهي مع وضوحها تحتاج إلى التجرُّد عن حظوظ النفس، والتصوُّرات السابقة، حتى يراها الباحث عنها.  

هل البخاري معصوم؟

هل البخاري معصوم
هل البخاري معصوم

كثيراً ما يرد سؤال: هل البخاريُّ معصوم؟

والجواب: الإمام البخاريُّ غير معصومٍ طبعاً، فهو بشرٌ يصيب ويخطئ، لكنّ هذا السؤال يدلّ على العبثيّة وعدم الوعي

ولا يخدم الطاعنين بالبخاري؛ لأنّ جوابه ينطبق على جميع البشر، وليس محصوراً بالبخاري؛ فالعلماء والأدباء والمبدعون والمفكّرون الذين قدّموا نفائس العلوم والابتكارات والاكتشافات، وغيّروا وجه العالم، وأصبحت علومهم تُدَرّس في الجامعات والأكاديميّات العالميّة، وأصبحوا موضع ثقةٍ تامّةٍ كلّهم غير معصومين، وجميعهم معرّضون للخطأ والوهم، ولا ينقص ذلك من مقامهم وعلومهم، ومن بين هؤلاء العظماء الذين نالوا الثقة والقبول: الإمام البخاري، فهو غير معصومٍ، وقد صنّف أصحّ كتابٍ في الحديث الشريف.

 وقبل ذلك, فإنَّ هذا السؤال ينطبق على السائل ذاته، فهل من يطعن بالبخاري معصوم؟!

طبعاً غير معصوم، وبناءً على تفكيره بما أنَّه غير معصومٍ, فهو مخطئٌ في طعنه على البخاري.

وفي الحقيقة: إنّ هذا السؤال سمِجٌ لا تستسيغه العقول، لأنّه يصدر من فوضويّةٍ فكريةٍ, وعدم فهمٍ لحقيقة الأمور. ولتتّضح لك صورة هذا السؤال فسأعرضه في مثالٍ آخر مطابقٍ له تماماً:

إذا أبدع عالمٌ من العلماء في مجال الطبِّ مثلاً، واستفاد منه الناس، وشهد له أهل الاختصاص، وتخرَّج على يديه عددٌ كبيرٌ من الأطبَّاء المشهورين والمشهود لهم، ثمّ جاء رجلٌ من العامّة فقال: إنّ هذا الطبيب الذي تقولون: إنَّه عالِم, وقد وثقتم بعلمه، لا يعدو كونه بشراً غير معصومٍ، فهو يخطئ!

كيف يكون وَقْع هذا الكلام على الأسماع؟ وكيف تكون نظرة الناس إلى قائله؟ ألم يكن كلامه سمجاً ثقيلاً؟

 وستكون نظرة الناس إليه في غاية الازدراء، بل يرونه في منتهى الجهل والغباء؟

أمّا أهل العلم والاختصاص, فلا يخطر ببالهم مثل هذا الكلام، لأنّهم يعرفون قيمة ذلك الطبيب العالم المبدع, فيقصدونه، ويتتلمذون على يديه، ويدوّنون كلّ كلمةٍ يقولها، ليستفيدوا من علمه وخبرته.

أمّا الأطباء العلماء الذين يقاربونه في المستوى، فإنَّهم يعلمون بمقامه أكثر من المبتدئين في طلب العلوم؛ لأنّ الإنسان كلّما ازداد علماً عرف قيمة العالِم أكثر، لا سيّما ذوو الاختصاص الواحد؛ فإذا شهدوا له بالعلم والإتقان دلّ ذلك على علوّ كعبه وتفوّقه في مجاله.

فهذا مثالٌ يوضح جواباً موجزاً لمن يقول عن البخاري أنَّه غير معصوم، فقد تزاحم الطلاب في حلقات البخاريِّ، وامتلأ بيته ومساجد البلاد التي كان يدرّس فيها، وتخرَّج على يديه أكبر علماء الحديث، وشهد له شيوخه، وكبار المحدّثين بتفوّقه على علماء عصره، واتفق الجهابذة من أهل الاختصاص بأنّ كتابه أصحُّ كتب الحديث الشريف. ثمّ يأتي إنسانٌ لا يعرف قدره ولا علمه، ليقول: لماذا تأخذون بصحيح البخاريِّ, فالبخاريُّ غير معصومٍ!

 بكلامٍ سمِجٍ ثقيلٍ بعيدٍ عن العلم والمنطق.

ولو أنَّنا قلنا عن أيٍّ من العلماء في جميع الفنون ومختلف الاختصاصات: إنَّهم غير معصومين، ورفضنا علومهم حتَّى لا نقع في الخطأ النادر الاحتمال الذي ربَّما يقعون فيه، لتعطّلت الحياة، وتبدّدت علوم العلماء، وعشنا في جهالةٍ وأوهامٍ، وسقطنا في حضيض التخلّف.

فإنّ من يرفض العلم الحقيقيَّ حتَّى لا يقع في الخطأ الوهميِّ، لديه خللٌ في التفكير، أو أنَّه مصابٌ بمرضٍ نفسيٍّ.

وإنّ عدم عصمة الإنسان صفةٌ طبيعيّةٌ، منبثقةٌ من ضعفه ومحدوديّة ملَكاته وقدراته، ليعرف حدّه ويدرك عجزه وضعفه، ويدرك أنّ معرفة الحقائق ليست بيده، وإنَّما هي بيد الله وحده؛ ليستشعر افتقاره وعبوديّته لله تعالى، وأنَّه مهما قصد الكمال فإنّ له حدّاً لا يمكنه تجاوزه، وأنّ الكمال لله وحده، والعصمة ليست إلا لأنبيائه.

ولا يمكن للإنسان الوصول إلى اليقين إلَّا في عددٍ محدودٍ من المسائل العلميَّة.

 وإنَّ الله تعالى لم يكلِّف عباده بأكثر ممّا استطاعوا أن يصلوا إليه في علومهم وأمور دينهم ودنياهم وعباداتهم، بشرط بذل الجهد، وإفراغ الوسع في أخذ الأسباب، وطلب الكمال.

فإذا قام العالم بواجبه على أكمل وجهٍ في البحث والتحرّي والتحقيق والتدقيق، فقد برئت ذمّته أمام الله تعالى، ووجب الأخذ بعلمه رغم احتمال الخطأ الذي قد يقع فيه، وهذا ما فعله الإمام البخاري، فقد بذل وسعه في إخراج أصحّ الصحيح من الحديث الشريف؛ فقال: ((صنّفت كتابي الصحيح لستَّ عشرة سنة، خرّجته من ستمئة ألف حديثٍ، وجعلته حجَّةً فيما بيني وبين الله تعالى)) [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (2/ 185)، تاريخ دمشق لابن عساكر (52/ 72)].

فلشدّة ثقة الإمام البخاري بهذا الكتاب, واعتنائه به وبصحّة رواياته جعله حجّة بينه وبين الله تعالى.

وأعود إلى السائل وأقول له:

 أيُّهما أولى: أنّ نأخذ بقول الإمام البخاري الذي بذل عمره في دراسة الحديث الشريف، مع قربه من عهد النبوّة، ومعرفته بالرّجال الذين رووه، وملاقاتهم، ومعرفة أحوالهم، وتمكّنه من هذا العلم-وإن جاز عليه الخطأ والوهم، بنسبةٍ ضئيلةٍ لأنَّه غير معصوم- أم نأخذ بقول الطاعنين عليه اليوم، الذين ليس لهم صلةٌ بهذا العلم أبداً، وينتقدونه بكلامٍ إنشائيٍّ من وهم الخيال، تكريراً لأقوال المستشرقين الحاقدين؟

فإن أخطأ البخاري فله أجر؛ لأنّه قصد الحقّ، وبذل أقصى جهده فيه.

 ومن يتّبعه معذورٌ ومأجور؛ لأنّه سار على خُطا إمامٍ عالمٍ ذي منهجيّةٍ علميّةٍ دقيقة.

أمَّا الجاهلون فإن أصابوا بكلمةٍ من كلامهم فإنّهم مأزورون غير مأجورين؛ لأنَّهم ليسوا أهلاً للعلم، ولا يتكلَّمون إلّا عن جهلٍ وهوىً، وقد وقع الصواب في تلك الكلمة صدفةً وليس عن علمٍ وتحرٍّ.

 ومُتَّبعهم مأزورٌ مثلهم؛ لأنّهم خالفوا المنهجيَّةَ العلميّةَ والمنطقيّة، وإجماعَ علماء المسلمين، والمنصفين من المستشرقين، وشذّوا عنهم، ومن شذّ, شذّ في النار.  

البخاريُّ في ميزان العلم

البخاري في ميزان العلم-مربع
البخاري في ميزان العلم -مستطيلة-

يظهر بعضهم على القنوات التي تعرض الغثَّ والسَّمين، ويتكلَّمون بكلامٍ إنشائيٍّ لا يمتّ إلى العلم بِصِلة، يُفصحون فيه عن جهلهم المركّب، فينالون من الإمام البخاري وهم لا يدرون من هو البخاري.

فمرّة يصفونه بأنَّه جاهل، ومرَّةً يتّهمونه بالكذب على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليناقض القرآن الكريم، ويصوّرون للمستمعين أنّ المسلمين متعلّقون بشخصٍ اسمه: (البخاري) دون سبب، وأنَّهم يقدّمون أحاديثه على القرآن الكريم، ومستعدّون لتشويه الدِّين (كرمال عين البخاري) فيتخيّل المستمع أنّ البخاريَّ قد وضع (تِوَلة) خرزة، يسحر بها الناس ويستقطب محبَّتهم، ويخدعهم في دينهم، وهم منقادون له دون تفكير!  

وفي الحقيقة لا يتكلّم بهذا الهوَس والوهم ولا يتصوّر هذا التصوّر إلا جاهلٌ حاقد.

 فما الدَّاعي لأن  يُجلَّ المسلمون الإمام البخاري دون سبب؟

إنّهم يتكلّمون دون منطقٍ، ويصوّرون علماء المسلمين الذين يأخذون بحديث النبي صلى الله عليه وسلَّم بأنّهم أغبياء سطحيّون ذوو نظرةٍ ضيّقة.

 وفي الحقيقة إنّهم لا يقصدون البخاريَّ، وإنَّما يقصدون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم 

مع يقيننا بأنّ بعض الذين انتقدوا الإمام البخاري إذا قرؤوا هذا المقال لا يفهمون المصطلحات المتعلِّقة بعلم الحديث مع تيسير اللغة والعبارة؛ لأنَّهم لو شمّوا رائحة العلم لخجلوا أن يفضحوا أنفسهم ويُفصحوا عن جهلهم أمام الجماهير. والأدهى من ذلك أنّهم يروّجون هذا الوهم والجهل للبسطاء ويغرّرون بهم، فيصدّقونهم ويصفّقون لهم، ويشتمون الإمام البخاري وينالون منه.

وأَخالُك أيُّها القارئ الكريم ذا عقلٍ رشيدٍ، ورأيٍ سديدٍ، تبحث عن الحقيقة المجرّدة، وتسلك المنهجيَّة العلميَّة، وتروم معرفة الحقّ دون مبالغة، سواء من الموالِين أو المبغضين.  

ولنضع الإمام البخاري في ميزان العلم من خلال اجتهاده، ومؤلّفاته، واختباره، وشهادة علماء عصره له.

وبدايةً لا بُدَّ من التَّعريف بالإمام البخاريِّ: 

أوَّلاً: من هو البخاري؟

هو أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي، ولد في عام 194هـ في بخارى وتقع الآن في جمهورية أوزبكستان. كان أبوه من العلماء وعلى درجةٍ عاليةٍ من الصلاح والتقوى.

مات أبوه وهو صغير، ونشأ يتيماً في حجر أمّه، وكانت أمُّه أيضاً من الصالحات، فتولّته بالتربية والتأديب، وأسلمته إلى الكتّاب ليأخذ العلم. 

ثانياً: طلبه للعلم واجتهاده فيه:

بدأ البخاري بحفظ الحديث النبوي منذ نعومة أظفاره قبل أن يبلغ العاشرة من عمره، وأخذ مبادئ العلم والحديث عن شيوخ بلده، ثمّ طاف في البلاد في رحلةٍ طويلةٍ إلى مكة والمدينة والشام والجزيرة وبلخ وبغداد والبصرة والكوفة ومصر وغيرها من البلدان، ولم يدع عالماً إلا أخذ عنه واستفرغ كلّ ما عنده من حديث النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فدوّنه، حتى إنّه أخذ عن أكثر من ألف شيخٍ من المحدّثين، وجمع مئات آلاف الأحاديث في رحلته الطويلة، أكثرها من المرفوع إلى النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ومنها الموقوف على الصحابة، ومنها فتاوى التابعين وغيرهم.

وكان كلّ همّ البخاري ونهمته العلمُ, فلا يغيب فكره عن حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليلاً ولا نهاراً.

 يقول تلميذه محمد بن يوسف الفربري: ((كنت عند البخاريّ بمنزله ذات ليلةٍ، فأحصيت عليه أنَّه قام وأشعل السِّراج يستذكر أشياء يعلّقها في ليلةٍ ثماني عشرة مرَّةً)). [تاريخ بغداد:(2/322)].

وذكر مثله تلميذه محمَّد بن أبي حاتم، فقال: (( كنَّا في سفرٍ, وجمع بيننا بيتٌ واحدٌ إلا في القيظ أحياناً، فكنت أراه يقوم في ليلةٍ واحدةٍ خمس عشرة مرَّةً إلى عشرين مرَّةً، في كلّ ذلك يأخذ القداحة فيشعل ناراً بيده ويسرج ثم يخرِّج أحاديث فيُعلّم عليها ثم يضع رأسه)) [انظر: تاريخ لإسلام للذهبي: (19/ 248)].

الليل ليل العبقريّ نهار     والصَّمت فكرٌ ثاقبٌ وحوارُ

فكان لا يدانيه أحدٌ في علوّ الهمّة والجدّ والاجتهاد، وقد فرّغ كلّ وقته لحفظ الحديث الشريف وتصحيحه وتحقيقه وتدقيقه والتصنيف فيه، دون كللٍ أو ملل، حتَّى صار أعلم أهل زمانه بالحديث النبوي، فنقد الأحاديث ودرس رواتها وطُرُقَها ورجالها وأسانيدها، وبيّن صحيحها من عليلها، وتشهد كتبه ومصنَّفاته على سعة علمه وتفوّقه على أقرانه.

ثالثاً: أهمّ الكتب التي صنّفها:

صنّف الإمام البخاريُّ ما يزيد على عشرين كتاباً، أهمُّها: 

1- (التَّاريخ الكبير) الذي صنّفه قبل (صحيح البخاري) وكان عمره ثماني عشرة سنة، ترجم فيه للصَّحابة والتَّابعين وأتباع التابعين وجميع رواة الحديث، وتكلّم فيهم جَرحاً وتعديلاً، وحال كلِّ راوٍ، وكلام العلماء فيهم، وهو كتابٌ مطبوعٌ في ثمانية أجزاء من الحجم الكبير.

2- التاريخ الأوسط والتاريخ الصغير: وهما مختصران عن التاريخ الكبير.

3- الأدب المفرد: وقد ذكر فيه أحاديث الآداب والأخلاق.

4- خلق أفعال العباد.

5- صحيح البخاري: واسمه: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وسننه وأيَّامه.

وكلّ كلمة من هذا العنوان مقصودةٌ في التسميّة، وقد التزم بها.

رابعاً: اختبار الإمام البخاري:

عندما ذاع صيت الإمام البخاري، وشهد علماء عصره بسعة علمه وسبقه على أقرانه، توجّه إلى بغداد، فسمع أصحاب الحديث بقدومه فاجتمعوا واتَّفقوا على أن يختبروه في مئة حديثٍ يقلبوا متونها وأسانيدها، ووزّعوا المهمة على عشرةِ رجالٍ يسأله كلُّ واحدٍ منهم عشرة أسئلة، وعقدوا موعداً للمجلس فحضر البخاريُّ.

 وتقدّم الأول فقلب الأحاديث وتلاعب بالمتون والأسانيد وسأله، فقال البخاريُّ: لا أعرفها، حتَّى ذكر الأحاديث العشرة، والبخاريُّ يقول لا أعرفها، ثم سأله الثَّاني والثَّالث حتَّى العاشر، وهو يقول: لا أعرفها، وتعجَّب الحاضرون، فكيف  يقال: إنَّ البخاريَّ أعلم النَّاس بالحديث ولم يعرف حديثاً واحداً من أصل مئة حديث!

وعندما فرغوا من الأسئلة أعاد لهم البخاريُّ الأحاديث كما ذكروها مقلوبةً مغلوطةً، ثم صحَّحها واحداً واحداً، فتعجَّب النَّاس من علمه وحفظه. وعلّق الحافظ ابن حجر على هذه الحادثة بعد أن ذكرها فقال: (فما العجب من ردّه الخطأ إلى الصواب، فإنَّه كان حافظاً، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه مرّة واحدة) [تغليق التعليق: (5/415)]  

خامساً: ثناء العلماء على الإمام البخاري وكتابه (صحيح البخاري): 

كان الناس يتزاحمون على مجالس الإمام البخاري ليأخذوا عنه الحديث النبوي، وقد تتلمذ عليه عشرات الآلاف من أهل العلم، يقول تلميذه محمد بن يوسف الفربري: ((سمع كتابَ (الصحيح) لمحمَّد بن إسماعيل البخاري تسعون ألف رجل)) [تاريخ بغداد: (2/9)]    

وقد أثنى على الإمام البخاري عددٌ لا يُحصى من أعلام السُّنَّة، حتّى قال الإمام ابن حجر العسقلاّني: ((ولو فتحتُ باب ثناء الأئمَّة عليه ممَّن تأخَّر عن عصره، لفنيَ القرطاس، ونفدت الأنفاس، فذاك بحرٌ لا ساحل له)) [فتح الباري: (1/485)].

– قال الإمام أحمد بن حنبل-وهو شيخه-: ((ما أخرجت خراسان مثل محمَّد بن إسماعيل البخاريّ)) [شذرات الذهب في أخبار من ذهب (3/ 253)].

– وقال ابن حمدون الأعمشي: سمعت مسلم بن الحجّاج -صاحب الصحيح- يقول لمحمَّد بن إسماعيل البخاريّ: ((لا يعيبك إلّا حاسد، وأشهد أن ليس في الدّنيا مثلك)) [شذرات الذهب: (3/ 253)].

– وقال أبو عيسى التّرمذي: ((ولم أر أحداً بالعراق ولا بخراسان، في معنى العلل والتاريخ، ومعرفة الأسانيد، أعلم من محمَّد بن إسماعيل [البخاري])) [تاريخ بغداد: (2/ 348)].

– وقال النسائيّ: ((ما في هذه الكتب كلها، أجود من كتاب محمَّد بن إسماعيل [البخاري])).

– وقال ابن خزيمة: ((ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ولا أحفظ له من محمَّد بن إسماعيل البخاري)) [مختصر تاريخ دمشق (22/ 25) ، سير أعلام النبلاء: (12/431)]

– وقال عبدَ الله بن عبد الرَّحمٰن الدارميّ: ((محمَّد بن إسماعيل البخاريّ أعلمُنا، وأفقهُنا، وأَغوَصُنا، وأكثرُنا طلَباً)) [البداية والنهاية: (14/ 530)].   

– وقال أبو أحمد الحاكم: ((كان البخاريُّ أحد الأئمَّة في معرفة الحديث وجمعه، ولو قلت: إنّي لم أر تصنيف أحدٍ يشبه تصنيفه في المبالغة والحسن لرجوت أن أكون صادقاً)) [تاريخ الإسلام: (6/146)].

– وقال الإمام النووي: ((واعلم أنَّ وصف البخاري، رحمه الله، بارتفاع المحلِّ والتقدّم في هذا العلم على الأماثل والأقران، مُتّفَقٌ عليه فيما تأخَّر وتقدَّم من الأزمان، ويكفي في فضله أنّ معظم من أثنى عليه ونشر مناقبه شيوخُه الأعلام المبرزون، والحُذَّاق المتقنون)) [تهذيب الأسماء واللغات (1/71)] من أمثال الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. 

– وقال الحافظ المؤرِّخ ابن كثير: ((أبو عبد الله البخاريّ الحافظ، إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدَّم على سائر أضرابه وأقرانه)) [البداية والنهاية: (11/30)].

– وقال الحافظ الفقيه ابن حجرٍ العسقلاني: ((أبو عبد الله البخاريُّ جبل الحفظ، وإمام الدنيا في فقه الحديث)) [تقريب التهذيب: (1/468)], وقال عنه أيضاً: ((هو الإمام العلم الفرد تاج الفقهاء، عمدة المحدِّثين، سيِّد الحفَّاظ)) [تغليق التعليق على صحيح البخاري: (5/384)].

ومن ثمّ نجد أنَّ البخاريَّ قد حقّق كلَّ مقوّمات العلم والحفظ والإتقان من خلال اجتهاده وهمّته في طلب العلم، وكتبه التي تشهد له، واختبار العلماء له، وثناء محدّثي عصره ومَن بعدهم عليه. وإنّ علماء الحديث هم أعلم الناس بالإمام البخاري، ولو لم يَفُقْ أهل زمانه، ويبلغ الدرجة العليا من الحفظ والإتقان ومعرفة رجال الحديث، وطرقه، والحكم عليه، ومعرفة علله، لما ذكره أحدٌ، ولما ذاع صيته؛ لأنّ تحصيل الشهرة كان مبنيّاً آنذاك على العلم والكفاءة والتفوُّق وشهادة أهل العصر.

 ويبدو أنّ الطاعنين بالبخاري لم يتصوّروا حالة عصره، بل لم يشمّوا رائحة العلم، ولو كان لديهم أدنى اطّلاع على قيمة شهادة العلماء في عصر البخاريِّ لما طعنوا فيه؛ لأنَّه لا يمكن لأحدٍ آنذاك أن يتنازل عن مقامه ويشهد بالعلم لمن هو دونه، فكيف يشهد لكذّاب أو مدلّس أو جاهل؟

 وكان المحدّثون يعرفون كلّ مَن يكذب على النّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويزدرونه ويحذّرون منه، ويعرفون الأحاديث التي رواها كذباً.

وإنّ الطاعنين عليه اليوم لا يعلمون ذلك أبداً؛ لأنَّهم بعيدون عن العلم، ويظنّون أنّ الحديث كالكلأ المباح، ليس عليه رقيبٌ ولا محقّقٌ ولا مدقّق، وأنَّ الكذب على النَّبيِّ سهلٌ لا يكشفه أحد، وأنّ الشهرة تُنال بالكذب والتدليس-حسب تصوّرهم- كما نالها الطاعنون الذين سعوا إلى الشهرة بالخديعة ومخالفة الأمّة فوجدوها قريبة المنال، فقاسوا أنفسهم اليوم بالإمام البخاريّ وزمنه بالأمس، ولم يدركوا الفارق العظيم بين الثرى والثريّا، فلم يكن آنذاك ترويجٌ إعلاميٌّ خلاّبٌ للباطل وأهله.

ستمئة ألف حديث في 16 سنة

احاديث البخاري -مربع-
احاديث البخاري-تويتر

كيف يمكن للبخاريِّ أن يجمع ستمئة ألف حديثٍ في ست عشرة سنة؟ 

إنّ ما يذكره بعض المعترضين من إشكاليَّة انتقاء الإمام البخاري كتابه الصحيح من بين ستمئة ألف حديثٍ خلال ست عشرة سنةً ليس معقولاً؛ لأنَّنا إذا حسبنا الوقت على مدار أربع وعشرين ساعةً فيجب حينها أن يُدَوّن كلّ ربع ساعةٍ حديثاً وهذا إذا قضى كلّ وقته في تصنيف الحديث، دون أن ينام أو يأكل أو يصلّي، ودون أن يقضي وقتاً آخر في غير الاشتعال بالحديث. 

والحقيقة فإنّ الأمر ليس كما يظنّ هؤلاء، وإنّ هذه الفرضيّة لا صحّة لها البتّة، وإنّما يكشف قولهم هذا عن جهلهم بعلم الحديث وبالإمام البخاري وطريقته في التصنيف.  

وللجواب على هذا السؤال:

أوَّلاً: ماذا يقصد علماء الحديث بحقيقة (الحديث):

يطلق المحدّثون لفظ الحديث على كلِّ طريقٍ من الطرق التي وردت فيها الرواية، يعني ذلك: إذا ورد الحديث الواحد عن عشرة طرق عدُّوه عشرة أحاديث وليس حديثاً واحداً، ومثال ذلك قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّما الأعمال بالنِّيَّات» فقد ورد عن مئة طريقٍ بعد يحيى بن سعيد، وكذلك حديث: «من كذب عليّ متعمِّداً فليتبوّأ مقعده من النار» فقد ورد عن أكثر من مئة طريق، وهذان الحديثان عند علماء الحديث ليسا حديثين فقط، وإنَّما يعتبرونهما أكثر من مئتي حديث، فيجعلون كلَّ سندٍ من أسانيده حديثاً مستقلاًّ، وإنّ أكثر الأحاديث وردت من أكثر من طريق؛ لذا فعندما يقولون: (ستمئة ألف حديثٍ)  فالمقصود في الطرق والإسناد، أمّا من حيث المتن-أي لفظ الحديث- فهي لا تتجاوز مئة ألف حديثٍ صحيحها مع معلولها. 

ثانياً: الإشكال الذي طرحه المعترضون هو إشكالٌ وهميٌّ

لأنّ الإمام البخاري بدأ بحفظ الحديث منذ نعومة أظفاره في بلده بخارى قبل أن يبلغ العاشرة من عمره، ثمّ طاف في البلاد في رحلةٍ طويلةٍ إلى مكَّة والمدينة والشَّام والجزيرة وبلخ وبغداد والبصرة والكوفة ومصر وغيرها من البلدان وهو يطلب الحديث ويدوّنه، حتى إنّه أخذ عن زهاء ألف شيخٍ من المحدّثين.  

وكان لا يدانيه أحدٌ في علوّ الهمّة والجدّ والاجتهاد، وقد فرّغ كلّ وقته لحفظ الحديث الشريف وتحقيقه وتصحيحه والتَّصنيف فيه، دون كللٍ أو ملل، وقد ألّف كتاب: (التاريخ الكبير) قبل أن يصنّف (صحيح البخاري) حين كان عمره ثماني عشرة سنةً، ترجم فيه للصحابة والتابعين وتابعي التابعين وجميع رواة الحديث، وذكر شيوخهم وتلامذتهم والأحاديث التي رووها، وتكلّم فيهم جرحاً وتعديلاً، أي بيّن مَن تُقبل روايته ممن لا تُقبَل، وحال كلِّ راوٍ، وكلام العلماء فيهم، وإنّ تأليف هذا الكتاب أصعب من تصنيف أحاديث الصحيح، وهو كتابٌ مطبوعٌ في ثمانية أجزاء من الحجم الكبير.

وقد أخطأ من ظنّ أنَّ البخاري بدأ بتصنيف (صحيح البخاري) من نقطة الصفر خلال ست عشرة سنةً، وأنّه لم تكن لديه ذخيرةٌ من الأحاديث، وإنَّما بدأ البخاريُّ بدراسة الحديث منذ سنة 204 هـ، وبدأ بتصنيف كتابه (صحيح البخاري) سنة 216هـ، أي بعد اثنتي عشرة سنةً من العلم والدراسة، وكانت لديه مئات آلاف الأحاديث التي دوّنها خلال طلبه للعلم في اثنتي عشرة سنةً، ثم استغرق ست عشرة سنةً في تصنيف كتابه الصحيح ينتقي وينقّح ويصحّح، فكان تصنيف صحيح البخاري في الواقع حصيلة دراسة ثمان وعشرين سنة قضاها في دراسة الحديث الشريف.

 إضافةً إلى ما ذكرناه في البداية من أنَّ عدد الأحاديث الحقيقيَّ من حيث المتن بلغ حوالي مئة ألف حديثٍ فقط، وإنَّما الطرق والأسانيد هي التي يبلغ عددها ستمئة ألف طريق.

والنتيجة: إنّ الإمام البخاري في الحقيقة اختار في صحيحه نحو أربعة آلاف حديثٍ، انتقاها من بين مئة ألف حديثٍ، خلال ثمانٍ وعشرين سنةً، وهذه المدَّة طبيعيةٌ جدّاً، بل تُعَدّ طويلةً، فلا إشكال إذاً ولا وجه للاستغراب أو الإنكار.