لماذا خَلَقنا الله 2

لماذا خلقنا الله-2
لماذا خلقنا الله-2 -تويتر

ناقشنا في الجزء الأول من المقال تساؤلين فرعيين يغطّيان جزءاً من الإجابة عن سؤال الغاية من الوجود، وهما:

1.  هل الله بحاجة لعبادتنا؟

2. لماذا كلّفنا بالأوامر الشرعية؟

أما هذا الجزء فهو مخصصٌ للإجابة عن التساؤل الثالث الذي طرحناه في بداية المقال، ونرجئ التساؤل الأخير إلى الجزء الأخير بإذن الله تعالى.

فبعد أن بيّنتْ الإجابةُ عن التساؤل الثاني النفعَ المتحقّق للمخلوقات بتنفيذ أوامر الله سبحانه، يتبادر إلى الأذهان تساؤلٌ من نوع آخر، وهو:

إذا كانت الأوامر التشريعية تعود بالنفع على الناس، فما الغرض من العبادات النُسُكية الخالصة؟

يقصد بالعبادات النُّسُكية: تلك العبادات التي تكون العلاقة فيها خالصةً بين العبد وربّه لا دخل للبشر فيها، كالتسبيح والتحميد والركوع والسجود وغيرها من أفعال نُسُكية تربط العبد بربه ربط المنزِّه لخالقه عن كل نقصٍ، المستسلم له استسلاماً خالصاً. 

تنبع الشبهة من تصوّر تعارض الألوهية المطلقة مع أمر الله لعباده بالقيام بهذه الأفعال النُسُكية، إذ يظنُّ السائل أنَّ أمر الله لعباده بالنُّسُك يناقض استغناءه عن خلقه، ويناقض ما لله من صفات جلالٍ وعظمةٍ وكبرياء.

 والحقيقة أنَّ الله غنيٌّ عن خلقه وعباده، لا يأمرهم لنقصٍ ولا يضرُّه إعراضهم عنه (كما وضّحنا ذلك في معرض إجابتنا عن التساؤل الأول)، إنَّما تكمن حقيقة المخلوقات بتسليمهم وخضوعهم لسلطانه، والله إنّما أمرهم بذلك إظهاراً لحقيقتهم، لا لنفعٍ يستجلبه لنفسه ولا لضرٍّ يدفعه. 

نشرح أكثر: إنَّ ارتباط المخلوق بالعبادة هو ارتباطٌ بصفته الملازمة له، ذلك أنَّ العبادة مرتبطةٌ بالحاجة والنقص، والمخلوق في حاجةٍ ونقصٍ دائمين، ولا تكون العبادة الحقُّ إلّا لمن لا تعتريه حاجةٌ ولا نقص بوجهٍ من الوجوه، وهي العبادة لله تعالى؛ وإلا سيبقى المخلوق في بحثٍ عمَّا يسدُّ نقصه ولن يزيده بحثُه إلا عطشاً.

هناك مثال هندسيٌّ شهيرٌ يشرح التناقض العقليَّ وهو أن تطلب رسم مثلث بأربع زوايا، والحقيقة أنَّ هذا الطلب متناقض في ذاته، ذلك أنَّ المثلَّث لا يكون مثلَّثاً إلا إذا كان بثلاث زوايا؛ وكذلك حال المخلوق فإنّه لا يكون مخلوقاً إلا إذا كان ناقصاً مفتقراً بذاته إلى من يوجده، وما العبادات النُّسُكية إلا اعترافٌ بهذا النقص وتوجهٌ إلى من له صفات الجلال والهيبة، فإذا ما ضلَّ الإنسان عن هذه الحقيقة الوجودية أرسل له الله رسالةً تُذكِّره بحقيقة نفسه.

وذلك حال المعلِّم الحكيم الذي يخبر المتعلِّم بجهله المسألة، ثم يوجّهه إلى حلِّها، وذلك أنَّ حقيقة المتعلِّم تكمن في جهله المسألةَ التي يريد تعلُّمها، وإلا لما كان اسمه “متعلِّماً”.

وفي معظم الحالات لا يحتاج الطلاب أن يذكّرهم المعلِّم الحكيم بجهلهم، لأنَّ حضورهم إليه اعترافٌ منهم بجهلهم، ولكنَّه يخبر “المتعالمَ” المتكبِّر المُعرِضَ عن حضور الدرس ويذكِّره بحقيقة جهله، لا لفائدةٍ يرجوها من مدح الطالب وثنائه عليه، وإنما تبييناً لحقيقته عساه يعود عن كبره وغروره، ومع ذلك قد يأبى الطالب الاعتراف بالحقيقة، وهذا لا يضر المعلم الحكيم  بشيءٍ، وسواءٌ اعترف الطالب بجهله أم لم يعترف فإنَّه جاهلٌ شاء أم أبى. 

((إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۙ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ۚ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [سورة غافر : 56].

نعم قد تجد في واقعنا بعضَ المعلِّمين الذين لم تَرقَ نفوسهم إلى صفات المعلِّمين المخلصين، فيتكبّرون بعلمهم على أقرانهم وطلّابهم، وينتهزون كلَّ فرصةٍ ليُظهروا عِلْمَهم ويعيّروا الطُّلاب بجهلهم، وينتشون فرحاً وطرباً لسماع مديح الآخرين لهم، وهؤلاء منبوذون ممن حولهم، يشعرُ من خالطهم بنَقْصِهم وينْفُرُ منهم وإن تبسّط في وجههم اتقاء شرِّهم. ومن هنا برزت الشبهة عند من يستشكل عليه أمر الله لعباده بالثناء عليه والتنزيه له، وذلك لتعارض مفهوم الإله الكامل الذي لا يضرُّه شيءٌ ولا ينفعه شيءٌ مع الصورة المنطبعة في أذهانهم عن بشرٍ يُحبُّون المديح والثناء لنقصٍ يعتري نفوسهم، تماماً كبعض المعلِّمين الذين ضربنا بهم المثال الأخير.

 فقالوا كيف يأمر الله البشر أن يحمدوه ويثنوا عليه؟

 وهل خلقهم من أجل أن يعبدوه ويقدسوه؟ 

هل كان ينقصه سماع مديحٍ من أحد فخلق خلقاً ضعيفاً ليمدحوه؟

وهذا التعارض حقيقيٌّ، فلا يمكن للإله سبحانه أن يتّصف بهذه الصفات الناقصة، التي تكون في حقِّ بعض البشر من الذين لم ترتقِ نفوسهم ولم تسمُ أرواحهم؛ فيطلبون المديح من غيرهم، ويطربون لسماع الثناء عليهم، واعتراف الآخرين بجهلهم أمامهم. وهذا لا يُتصوّر في حقِّ بشرٍ مثلِهم ممَّن كمَّلَهم اللهُ وزكّى نفوسهم، فضلاً عن أن يُتصور شيءٌ منه في حقِّ الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوَّاً كبيراً.

 أما وإنَّ حقيقة الأمر مشابِهةٌ لمثال المعلِّم الحكيم الذي يريد الخير والمنفعة للمتعلِّمين، فلا تناقض بين توجيه العباد إلى معرفة حقيقة نفوسهم الناقصة؛ وبين استغنائه عنهم وعن مديحهم وثنائهم.

فالله عزَّ وجلَّ يرشد العباد إلى ما فيه سُقيا قلوبهم، وطمأنينةُ نفوسهم، فتجد الأولياء والصالحين ممن زكت نفوسهم وارتقت أرواحهم، لا يسعدون إلا بالوقوف بين يدي الله متبتِّلين خاشعين منيبين، راجين من الله أن يُفيض على قلوبهم من أنواره وتجلياته. وخيرُ من نستقي منه هذه المواقف أعبدُ العبَّاد سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم القائل: ((وجُعِلَتْ قرَّةُ عيني في الصلاة)) [رواه أحمد والنسائي من حديث أنس رضي الله عنه].

فيجدر بنا في هذا المقام التوقُّف عند صورةٍ من صور العبودية التي كان عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم  وهو يقفُ بين يدي الله سبحانه متذوقاً لمعاني سلطان الله وعظمته، مُعرباً عن مكنونات نفسه صلّى الله عليه وسلّم  معترفاً بافتقاره وخضوعه لجلال الله

تروي هذه الصورةَ أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، واصفةً حال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في إحدى الليالي إذ تقول:

((كانت ليلةُ نصفٍ من شعبانَ ليلتي فباتَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عندي، فلمَّا كانَ جوفُ اللَّيلِ فقدتُهُ فأخذَني ما يأخذُ النِّساءَ منَ الغيرةِ فتلفَّفتُ بمِرطي … فطلبتُهُ في حُجَرِ نسائِهِ فلم أَجِدْهُ، فانصرفتُ إلى حجرتي فإذا أَنا بِهِ كالثَّوبِ السَّاقطِ على وجهِ الأرضِ ساجدًا وَهوَ يقولُ في سجودِهِ: سجدَ لَكَ سَوادي وجبهَتي، وآمنَ بِكَ فؤادي فَهَذِهِ يدايَ وما حدَّثت بِها على نفسي، يا عظيمُ يرجى لِكُلِّ عظيمٍ، اغفرِ الذَّنبَ العظيمَ، أقولُ كما قالَ داودُ عليهِ السَّلامُ: أعفِّرُ وجهي بالتُّرابِ لسيِّدي وحقَّ لَهُ أن يسجدَ وجهي للَّذي خلقَهُ، وشَقَّ سمعَهُ وبصرَهُ، ثُمَّ رفعَ رأسَهُ فقالَ: اللَّهمَّ ارزُقني قلبًا نقيًّا من الشِّركِ لا كافِرًا ولا شقيًّا، ثُمَّ سجدَ قال: أعوذُ برضاكَ من سخطِكَ وأعوذُ بعفوِكَ من معاقبتِكَ، لا أُحصي ثَناءً عليكَ، أنتَ كما أثنيتَ على نفسِكَ)) [أخرجه مسلم في صحيحه برقم 486 مختصراً، وذكره بطوله ابن الجوزي في العلل المتناهية]

فإذا ما تأمّلنا تلكم الصورة عرفنا نعمة الله علينا بتعريفنا إياه، فالعبادة حاجةٌ أساسيةٌ يشعر بضرورتها الإنسان، قال تعالى: ((أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ))[سورة الرعد : 28]، وكما يقول أحد العارفين: ((الحمدُ لله إذ علّمَنَا الحمدَ)). 

والعجيب أن تستحضر الملائكة المنزَّهة هذه النعمة، فتبادرَ إلى كتابة شيءٍ من هذه الكلمات تحمَد الله بها، فعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه أنّه قال:

((كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي ورَاءَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ، قالَ رَجُلٌ ورَاءَهُ: رَبَّنَا ولَكَ الحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قالَ: مَنِ المُتَكَلِّمُ قالَ: أنَا، قالَ: رَأَيْتُ بضْعَةً وثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أوَّلُ)) [صحيح البخاري 799].

 ويصف د. سامي عامري هذه الحقيقة بقوله:

((فالله سبحانه حقيقٌ بالعبادة قبل الخلق ودون الخلق، لأنَّه أهلٌ لذاته لأن يكون قِبلة العبادة)).

ويقول:

 ((إنَّ المسلم يعبد الله لأنَّه مأمورٌ بذلك من خارجه ومدفوعٌ إلى ذلك من داخله، هو مأمورٌ بذلك بنصوص الشرع، وهو الإلزام الخارجي، كما أنّه ملزمٌ بذلك من داخله إقراراً بكمال الخالق، حيث يستدعي نقصُه الإقرارَ بكمال خالقه، فنحن نعبد الله لأنّه أهلٌ أن يعبد فيطاع ولا يعصى، ويُمجّد ويُسبّح ويُحمد على نعمائه وآلائه، وكيف تغفل النفس عن ذكر حُسنِ أسمائه وصفاته، وخيرُه سبحانه عميمٌ، وعظمته تملأ النفس والكون؟ [د. سامي عامري -لماذا يطلب الله من البشر عبادته-ص 34- 35 بتصرف]

ويصف ابن القيم التعبُّد بأنَّه آخر مراتب الحبِّ، إذ يقال عبّده الحبُّ وتيّمه إذا مَلَكَهُ وذلك لمحبوبه ويقول:

((كمال العبودية تابعٌ لكمال المحبَّة، وكمال المحبَّة تابعٌ لكمال المحبوب في نفسه، والله سبحانه له الكمال المطلق التامُّ من كلُّ وجه، ولا يعتريه توهُّم نقصٍ أصلاً، ومَن هذا شأنه فإنَّ القلوب لا يكون شيءٌ أحبَّ إليها منه ما دامت فطرتها وعقولها سليمةً، وإذا كانت أحبّ الأشياء إليها فلا محالة أنَّ محبَّته توجب عبوديته وطاعته، وتتبّع مرضاته واستفراغ الجهد في التعبّد له والإنابة إليه، وهذا الباعث أكملُ بواعث العبودية وأقواها حتَّى لو فرض تجرُّده عن الأمر والنهي والثواب والعقاب استفرغ الوسع واستخلص القلب للمعبود الحق)) [ابن القيم -مفتاح دار السعادة- بيروت- 2/88].

لذلك نقول إنَّ العبادة حقٌّ لله من جهةِ نقصِ المخلوق وكمالِ الله سبحانه، ولا يُتوهّم أنَّ في طلب العبادة نقصاً أو حاجةً يريد طالبُّها أن يسدَّه، فالله سبحانه غنيٌّ عن خلقه لا يضرُّه كفر الكافرين ولا استهزاء المبطلين.

ومن سمع كلام النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يدرك أنَّ العبادة حقٌّ لا مِراء فيه، ومن ذلك حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه إذ يقول:

((كُنْتُ رِدْفَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ…ثُمَّ قالَ: يا مُعاذُ بنَ جَبَلٍ، قُلتُ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: هلْ تَدْرِي ما حَقُّ اللهِ علَى العِبادِ؟ قالَ: قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: فإنَّ حَقَّ اللهِ علَى العِبادِ أنْ يَعْبُدُوهُ، ولا يُشْرِكُوا به شيئًا)) [البخاري : 7373 -مسلم : 30].

 أمَّا التساؤل الأخير الذي يتوقَّف عنده السائل فهو قوله: 

إذا كانت العبودية الخالصة حقَّاً لله على العباد فلماذا يخلقهم ابتداءً؟

وهذا ما يجيب عنه الجزء الأخير من هذا المقال بإذن الله تعالى.

لماذا خَلَقنا الله 1

لماذا خلقنا الله -مربع
لماذا خلقنا الله -تويتر

تعتري كثيراً منّا تساؤلاتٌ وجوديَّةٌ تشغل تفكيره وتؤرِّق راحته، وتُحيل معيشته جحيماً لا يطيق العيش فيه، ولربَّما يسكتُها من حينٍ لآخر ثمَّ لا تلبث أن تطرق باب حياته بعنفٍ أشدّ مع أول هزّةٍ نفسيةٍ أو سلوكيةٍ أو إنسانيَّةٍ يتعرَّض لها.

ويعدُّ سؤال: (الغاية من الوجود) أشهر التساؤلات التي شغلت أذهان البشر، وحيَّرت أفئدتهم لقرونٍ طويلة، فتجد بعض السائلين تشغله مسألة خلق الإنسان وأمره بالعبادة؛ فمنهم من يتوهَّم أنَّ الله يُحصِّل من هذه العبادة حاجةً لنفسه، ويظنُّ أنَّ الله خلق الخلق لهواً وعبثاً أو تفاخراً وتبختراً، ومنهم من يعلم أنَّ الله غنيٌّ عن عباده لا تنفعه طاعةٌ، ولا تضرُّه معصيةٌ، ولكنّه يستغرب تكليف المخلوقات بأوامر ونواهٍ، ومنهم من يعترف بالمصلحة المُتحصِّلة من التزام التشريعات الربَّانية، ولكنَّه يستنكر العبادات النسكيَّة الخالصة لله، ومنهم من يسلِّم بحقِّ الله تعالى في التنزيه والتبجيل، ولكنَّه يسأل عن الحكمة من خلق الله تعالى الغنيِّ لمخلوقاتٍ لا تضرُّه ولا تنفعه.

وتيسيراً لدراسة المسألة سنقسم المبحث للإجابة عن أربعة تساؤلاتٍ رئيسية:

  1. هل الله بحاجة لعبادتنا؟
  2. لماذا كلفنا بالأوامر الشرعية؟
  3. ماذا عن العبادات النُسُكية؟
  4. لمَاذا خَلَقَنا الله ابتداءً؟

التساؤل الأول: هل الله بحاجة لعبادتنا؟

((وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)) [آل عمران97]

يبرز الإشكال عند من يعترض على أصل الأوامر الإلهية من نظرته إلى أمر الله نظرةَ مشابهةٍ لأمر المخلوق، فهو يرى أنَّ كلَّ أمرٍ مردُّه حاجةٌ أو نقصٌ يريد الآمر أن يسدَّه، فإذا أمر الله البشرَ أن يعبدوه تبادر إلى ذهن المعترض أنَّ الله في عوزٍ وتنقصه العبادة كي تسدّ عنده حاجةً ما. 

يرى د. سامي عامري [أستاذ العقيدة والفِرَق والأديان، دكتوراه في الأديان المقارنة]: أنَّ مردّ هذه النظرة إلى “أنسنة الإله” أو وصفه بصفات البشر، وطالما أنَّ الإنسان لا يطلب إلا لحاجةً، فكذلك كلُّ فعلٍ يقوم به الإله مردُّه الحاجة أيضاً. [انظر كتاب لماذا يطلب الله من البشر عبادته -مركز تكوين- ص 14 – 15].

لذلك نجد أنَّ الخلل يكمن في تصوُّر الإنسان عن الله، فالله ليس كَمِثله شيءٌ، ولا يُقاس على فعله فعلٌ، فلا يليق أن نقيس أفعال الله على أفعالنا، وإن كانت المخلوقات تتحرَّك وتفعل وتطلب عن حاجةٍ أو نقصٍ، كسباً لخيرٍ أو دفعاً لشرٍّ، فهذا لا يعني أنَّ الخالق يأمر المخلوقات عن حاجةٍ وعِوزٍ، لذلك لا تعارض بين الألوهية وأصل الأمر الإلهي.

والمتأمِّل في آيات القرآن الكريم يجد آياتٍ لا تكاد تحصى، تتحدَّث عن استغناء الله عن العالمين:

((قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)) [سورة النمل :40]

 ((ذَٰلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا ۚ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ۚ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)) [سورة التغابن: 6]

((وَقَالَ مُوسَىٰ إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)) [سورة إبراهيم: 8] 

وفي الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الله تبارك وتعالى:

 ((يَا عِبَادِي! إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْت كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَته، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي! إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ)) [صحيح مسلم: حديث رقم 2577]

فغِنى الله عن العالمين ظاهرٌ وبيّن، يُعرف بداهةً وهو فطرةٌ لكلِّ إنسانٍ، وقد عزَّزت نصوص الكتاب والسُّنَّة الصريحة هذه الحقيقة بشكلٍ واضحٍ لا لبس فيه، وعندها يبرز السؤال الثاني:

التساؤل الثاني: إذا كان الله ليس بحاجةٍ لعبادتنا فلماذا كلَّفنا بالأوامر الشرعية؟

((إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ)) [الإسراء:7]

نعلم جميعاً أنَّه قد يطلب المربي ممن يربِّيه أمراً يرى فيه مصلحةً متحقِّقةً للمطلوب منه، وكذلك الطبيب حين يطلب من مريضه التزام الحمية، وتناول الدواء في وقته المحدَّد؛ فيكون طلب الشَّيء محض فضلٍ من الطالب إذ يريد نفع غيره، أو قد يكون أمره إحقاقاً للحقِّ كحال القاضي، إذ يغرّم أحد المتخاصمين حقَّاً يدفعه لخصمٍ دون أن ينتفع القاضي منه شيئاً.

 

والناظر إلى الأوامر الشرعيَّة، يرى هذه المصلحة متحقِّقة بجلاء؛ فبعدما علمنا أنَّ الله غنيٌّ عن خلقه، وأنَّه يتفضّل عليهم منّاً منه وإحساناً، عرفنا أنَّ تمام هذه النعمة تكون بهدايتهم إلى الطريق المستقيم الذي يحقِّق لهم حياةً مطمئنَّةً طيّبةً:

ومن ذلك قول بعض السلف: (إنَّ الله سبحانه لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عنه بخلاً منه، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عمَّا فيه فسادهم) فهو سبحانه لا يأمر إلا بالحقِّ.

ولهذا الأثر أصلٌ في كتاب الله تعالى، فنجد في العديد من الآيات ما يذكِّرُنا بأنَّ الهداية إنَّما هي لمصلحة المهتدي نفسه –سواءً في الدنيا أو في الآخرة– وأنَّ المُعرِضَ عن هدي الله هو المتضرِّر الأكبر من إعراضه، وأنَّه الخاسر في دنياه وآخرته، قال تعالى: 

((مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)) [سورة فصلت: 46]

 ((قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ)) [سورة الأنعام: 104]

((الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)) [سورة البقرة : 27]

ومن ذلك فإنَّ الفاجر يستريح منه أهل الأرض عند موته، وما ذلك إلا بسبب فساده وإفساده بالإعراض عن هدي الله.

وقد جاء في الحديث أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُرَّ عليه بجِنَازَةٍ، فَقالَ: ((مُسْتَرِيحٌ ومُسْتَرَاحٌ منه. قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما المُسْتَرِيحُ والمُسْتَرَاحُ منه؟ قالَ: العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِن نَصَبِ الدُّنْيَا وأَذَاهَا إلى رَحْمَةِ اللَّهِ، والعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ منه العِبَادُ والبِلَادُ، والشَّجَرُ والدَّوَابُّ.)) [صحيح البخاري: 6512]

وفي ذلك دليلٌ على أنَّ فجر الفاجر إساءةٌ في حقِّ نفسه وحقِّ المخلوقات الأخرى، أمَّا العبد المؤمن فيُقيم بشريعة الله الحقَّ في الأرض، فيعمُّ خيره البلاد والعباد، وتستغفر له المخلوقات جميعها، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم يقول:

 ((فضلُ العالمِ على العابِدِ، كفَضْلِي علَى أدناكم، إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وملائِكتَهُ، و أهلَ السمواتِ والأرضِ، حتى النملةَ في جُحْرِها، وحتى الحوتَ, ليُصَلُّونَ على معلِّمِ الناسِ الخيرَ)) [سنن الترمذي]

فبعد أن عرفنا غِنى الله سبحانه عن مخلوقاته، وعرفنا أنَّ شريعة الله تعالى ما كانت إلّا لإحقاق الحقِّ بين الناس، ربّما يخطر للسائل أن يسأل نفسه عن الحكمة من العبادات النُسُكيّة، وعن الحكمة من خلق الناس ابتداءً، وهذان تساؤلان مهمّان نجيب عنهما في المقالين القادمين بإذن الله تعالى.

الإسلام والاختلاف الحضاري

﴿﴿وما كانَ ربُّك ليُهلكَ القرى بظلمٍ وأهلُها مصلحون۞ ولو شاءَ ربُّك لجعلَ الناس أمَّةً واحدةً ولا يزالونَ مختلفين [هود – 117-118]

﴿﴿ومن آياته خلقُ السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنَّ في ذلك لآياتٍ للعالِمين  [الروم – 22] 

تمثّل هاتان الآيتان القناعة الإيمانية الإسلامية في التعامل مع الاختلاف الحضاري بين البشر، فقد أدرك المسلمون حقيقة هذا الاختلاف بين الناس وتعاملوا معه بمنطق العقيدة الإيمانية التي علمهم إياها الإسلام، فلم يُلغوا حضارةً، ولم يعملوا على فرض الرؤية الثقافية العربية على الحضارات التي وصل إليها سلطان حكمهم، بل بقي الفرس فرساً، والروم روماً، والهنود هنوداً بحضاراتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، وثقافاتهم، وأفكارهم، بل حتى بأديانهم و عقائدهم إذا لم يقتنعوا بالدخول في الإسلام، فالإسلام يفهم حقيقة هذا الاختلاف وضرورته للحفاظ على سلامة استمرار الوجود الإنساني بشكل سويّ.

لكن ما نراه في أغلب العقائد، والقناعات، والأفكار الأخرى، التي مرت وتمر بها الإنسانية، هو محاولة مستمرة لإلغاء الوجود الحضاري، والعقائدي، والفكري، والثقافي، وأحياناً الوجود المادي للآخر. وإن مما يميَّز الإسلام أنه يطلب ممن يدخل تحت سلطانه أن يعلم ويؤمن بأنه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن يتبع الرسالة التي جاء بها،  دون أن يلغي وجوده الثقافي والحضاري بل ساعده على الاستمرار، ونرى ذلك جلياً في الاختلاف، والتنوع الكبير، والتفاعل بين المسلمين، على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأوطانهم، والمثال الأوضح على صدق هذا الكلام هو المظهر المادي للحضارة المصرية القديمة، فقد حارب الإسلام وانتقد بشدة ادعاء فرعون مصر للألوهية، ومحاربته دعوة سيدنا موسى عليه السلام لعقيدة التوحيد، لكن المسلمين عندما وصلوا إلى مصر لم يلغِوا بقاياها المادية الحضارية، فحافظوا على مقابر الفراعنة وتماثيلهم وأهراماتهم ومعابدهم وأوابدهم، بعكس الحضارة المادية الغربية التي سرقت وشوهت الكثير من الآثار المصرية عندما احتلت مصر في أواخر القرن العشرين.

والأمثلة التي تصدق هذا الكلام كثيرة بكثرة الحضارات التي كانت بلدانها تحت سلطان الدول الإسلامية المتعاقبة.

وإنَّ المتأمل لحال أكثر الأفكار والعقائد التي عرفتها وتعرفها الإنسانية سيجد –كما أسلفنا- رغبة جامحة بإلغاء الآخر، وابتلاعه حضارياً، كما تفعل الليبرالية والليبرالية الحديثة في زماننا.

وإنَّ خطرها في هذه الناحية يتجلى بأنَّها تدعي الاعتراف والرضى بكل الوجود الحضاري الإنساني على تنوعه، وتجذب بهذه الدعوى كثيراً من المنبهرين بها، إلا أنها على أرض الواقع  تمارس عكس هذا الادعاء وبشكل همجي ووحشي في أكثر الأحيان.

2 سؤال الملائكة

سؤال الملائكة
سؤال الملائكة

بسم الله الرحمن الرحيم

هل يخلق الله الشَّرَّ؟

الجزء الثاني (دفاع الإرادة الحرَّة)

ناقشنا في الجزء الأوَّل من المقال جزءاً من معضلة أبيقور، وقلنا: إنَّ أبيقور قد صاغ حجَّته الفلسفية بشكلٍ يبيّن تناقضاً بين (وجود الشَّرِّ في العالم) و (وجود إلهٍ كامل القدرة والعلم والخير)، وذلك أنَّ خيريَّة الله ستمنعه من فعل الشَّرِّ إلا إذا كان ناقص العلم (أي لا يعرف أنَّ هذا الفعل سيؤدي إلى شرّ)، أو ناقص القدرة (فلا يستطيع دفع هذا الشر).

وقد سردنا الحجَّة على شكل أسئلةٍ متتاليةٍ:

  • هل يريد الله أن يمنع الشرَّ ولكنَّه غير قادر؟
    • إذن هو عاجز.
  • هل هو قادر ولكنَّه لا يريد؟
    • إذن هو شرِّير.
  • هل يريد أو يقدر أن يمنعه؟
    • إذن لماذا وُجد الشَّرّ؟
  • هل هو غير قادرٍ وغير مريد؟
    • إذن فلم تسمُّونه إلهاً؟

وقد بيّن الجزء الأول من المقال أصل الإشكاليَّة عند أبيقور ومن سار على نهجه، وهي عدم التسليم بالعلم الكامل لله، ولكن بقيت الإشارة إلى الاحتمالين الآخرين المتحصِّلَين من معضلة أبيقور، وهما احتمالا (نقصان القدرة) أو (نقصان الخيريَّة) وما يترتَّب على ذلك من ادعاءاتٍ وعقائد تتعارض مع الإسلام والقرآن الكريم.

والشَّرُّ لَيسَ إِلَيكَ:

أمَّا ادِّعاء (نقصان الخيريَّة) فهو أن يدَّعي أحدهم أنَّ الله يخلق شراً مطلقاً، يخلق الشَّرَّ وهو يعلم أنَّه شرٌّ مع القدرة على دفعه، ولكنَّه لا يدفعه لأنَّه شرِّير –سبحانه وتعالى عن ذلك علوَّاً كبيراً– وهو مذهبٌ يندر أن تجده بين الناس، ويميل أصحاب هذا الاتّجاه إلى تحدِّي الله مع الاعتراف بوجوده، فغالباً ما تجده يقول: لماذا يفعل الله هذا الأمر؟

 معترفاً بأنَّ الله سبحانه هو الفاعل والقيّوم على مخلوقاته (خلافاً لمن يدّعي غير ذلك كما سيمرُّ معنا في مذهب “دفاع الإرادة الحرة”) إنَّما قد غاب عنه التسليم بحكمة الله وعلمه المطلق.

والعجيب أن تجد بعض الناس لا يعترفون بوجود الله بسبب وجود الشرور في العالم، مع أنَّ إدراك الشّرِّ بحدِّ ذاته هو أكبر دليلٍ على وجود معيارٍ للخير داخل الإنسان، وبالتالي دليلٌ على وجود الله سبحانه. فمن أين للبشر أن يأتوا بالخير ومعرفة الصواب من الخطأ لولا وجود الفطرة الإلهية في قلوبهم.

ويستطيع المؤمن أن يدفع هذه الوساوس عنه بتسليمه المطلق لحكمة الله تعالى وعلمه، وتلاوة القرآن الكريم، وتدبُّر آياته ومعانيه، مثل الآيات التي تتحدَّث عن الابتلاء والفتنة، وتدبّر بعض معاني سورة الكهف كالتي مرت معنا في الجزء الأول من المقال.

ومن أراد دليلاً عقليَّاً على خيريَّة الله فلينظر في معاني العدل والرَّحمة والشَّفقة بين الناس، وليسأل نفسه من أين جاءت هذه المعاني للبشر إن لم يكن مصدرها من الله؟ وإذا سأل عن الوحشيَّة والظلم والتعدِّي فيكفي أن يعرف أنَّ هذا من ظُلم الناس وإعراضهم عن نور الله، ولو عرّضوا قلوبهم لنور الله لما فعلوا ما فعلوه. فالقسوة والظلم لا تكون إلَّا بإعراض الناس عن الله.

((أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين)) [سورة الماعون1..3]

((مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ)) [سورة المدثر42..44]

((كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا))  [سورة الفجر17..20]

دفاع الإرادة الحرَّة:

أمَّا الاحتمال الأخير من الاحتمالات الثلاثة، فهو احتمال “نقص القدرة” الذي صيغ في االتَّساؤل:

 (هل يريد الله دفع الشَّرِّ ولكنَّه غير قادر)؟

ويندرج تحت هذا الادِّعاء مذهبان:

  • مذهبٌ يؤمن بالطبيعة، ويؤمن بوجود مسبِّبٍ أوّل خلق الكون، ولكنَّه لا يعتقد بالعديد من صفات الله سبحانه كالقيُّوميَّة والقدرة والإرادة وغيرها، فيعتقد أنَّ الإله غير قادرٍ على تغيير شيءٍ من قوانين الطبيعة وأنَّ هذه الشرور هي نتيجةٌ طبيعيَّةٌ للحتميَّات المادية، وأنَّ الله لا يستطيع دفعها، ويعتقدون أنَّ هذا النقصان في طبيعة الإله نفسه لا يستطيع به ردَّ شيءٍ من الحتميَّات المادية.

وهذا ادِّعاءٌ قال به بعض الفلاسفة الدَّهريِّين ولا يجد صدىً كبيراً بين الناس، ومعلومٌ لدى جميع المؤمنين بالله أنَّه سبحانه على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّه هو من أذن بوقوع الشَّرِّ لحِكَمٍ يريدُها، يسلّم بها المؤمن سواءً علمَها أم جهلها.

  • أمَّا المذهب الثاني فهو مذهبٌ يعتقد به كثيرٌ من المؤمنين بالله من اللادينيين وأصحاب الديانات الأخرى، وبعض المسلمين، وهو الاعتقاد بأنَّ الله ترك هذا الكون دون تدخُّلٍ منه –مع أنَّه قادرٌ على منع الشَّرِّ– ليحاسب السَّيِّء على فعله والخيِّر على فعله، فهم يعتقدون أنَّ الله ترك الناس لتفعل ما تشاء في هذا العالم دون تدخُّلٍ منه، ثمَّ يحاسبهم يوم القيامة على أفعالهم الخيِّرة والشّريرة، فما تجده من شرٍّ في هذا العالم هو لأنَّ الله ترك الناس تفعل ما تشاء، وليس لأنَّ الله أراد ذلك.

ومنهم فلاسفةٌ غربيّون اشتهروا بالردِّ على مشكلة الشرِّ مثل: “ألفين بلانتينغا Alvin Plantinga” أحد أشهر الفلاسفة الغربيين المعاصرين في الردِّ على الإلحاد من منظورٍ إيمانيٍّ، وقد اشتهرت حججه الدفاعية باسم: دفاع الإرادة الحرّة Free will defense، حيث قرَّر أنَّ الشَّرَّ هو ضريبة الإرادة الحرَّة، وأنَّ الله لا علاقة له بالشرور التي تحدث في العالم، واعتبر أنَّ أيَّ تدخُّلٍ إلهيٍّ يُفقد حريَّة الإرادة معناها، بل إنَّه عزى الابتلاءات التي تصنَّف على أنَّها كوارث طبيعيَّةٌ إلى أرواحٍ شرِّيرةٍ هي التي اختارت الشَّرَّ وفعلته بما يعزِّز نظرة أنَّ الله ترك العالم يجري حسب اختيار المخلوقات التي فيه.

وهذا ادعاءٌ خطيرٌ قد تجده عند بعض المسلمين، وقد اشتهرت به “المعتزلة” في التاريخ الإسلامي.

 [انظر تفصيل هذه المسألة في مقال “هل تنزل الأمطار برحمة الله أم بتكاثف الغيوم؟” للمؤلف]

وتبرز الإشكاليَّة في هذا المذهب في ادِّعاء وجود شركاء لله في الفعل، وأنَّ الله لا علاقة له في كلِّ ما يجري في الكون وأنَّه تركه همَلاً، خلافاً للعديد من الآيات في القرآن الكريم التي يخبرنا فيها الله عن أفعاله وقدرته سبحانه.

لذلك نجد أنَّ بعض من أراد إثبات كمال الله وقع في نسب نقيصةٍ إليه سبحانه، أمَّا المسلم فإنَّه يبحث عن صفات الله جلَّ جلاله في القرآن الكريم، ويعلم أنَّه ليس للبشر أن يحيطوا بشيءٍ من علم الله إلَّا بنطاق ما علّمهم إيَّاه سبحانه: ((وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ))[ البقرة255]

والمتأمِّل في القرآن الكريم يجد بطلان هذا الادِّعاء بوضوح، ففي الآيات القرآنية ينسب الله الابتلاء لنفسه وذلك من تمام التوحيد الإلهي:

((كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)) [سورة الأنبياء:35]

((وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ)) [سورة البقرة:49]

ويخطئ من يعتقد أنَّ تنزيه الله عن الشَّرِّ يكون بنفي العلاقة بين الله وبين الأفعال التي تجري، وقد أثبتنا تنزيه الله عن الشَّرِّ مع تسليمنا بأنَّه سبحانه هو الفاعل في نقاش ادِّعاء نقصان علم الإله في الجزء الأول من المقال.

أمَّا من يسأل: كيف يحاسب الله الناس على فعلٍ مع أنَّه ينسبه لنفسه، فجواب ذلك أنَّ المرء إنَّما يحاسب على كسب قلبه وإراداته الشَّرَّ والسوء، أمَّا أن يأذن الله للسوء بالوقوع فذلك يتبع لمشيئته سبحانه:

((وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ)) [سورة آل عمران:166]

((وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)) [سورة آل عمران:141]

أمَّا صاحب الإثم فيُحاسَب على سوء نيَّته وإن لم يأذن الله له بإتمام مراده، ودليل ذلك هو الحديثُ الذي رواه أبو كبشة الأنصاري عن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال:

(أُحدِّثُكم حديثاً فاحفظوه: إنَّما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رزقه الله مالاً وعلماً… وعبدٌ لم يرزقه الله مالاً ولا علماً، فهو يقول لو أنَّ لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيَّته، فوزرهما سواء) [أخرجه الإمام أحمد والترمذي في سننه وقال: حسن صحيح]

فالعمل بالنِّية، وذلك مقرَّرٌ في حديث: (إنَّما الأعمال بالنِّيات)، ومن ذلك نجد أنًّه ليس لمن كسب إثماً أن يحتجَّ بالقدر، فإنَّ الإنسان استحقَّ إثم العمل بكسب قلبه. [انظر تفصيل هذه المسألة في مقال “هل يفعل العباد ما يشاؤون هم أم ما يشاء الله؟” للمؤلف]

ماذا عن المشوَّهين:

أمَّا عن السؤال الذي يرد في أذهان كثيرٍ من الناس (لماذا يخلق الله المشوَّهين) فإنَّه بعد الاستعراض السابق تبيَّن لنا أنَّ أصل (سؤال الشَّرِّ) ينبع من جهل الإنسان وقلَّة إدراكه، ولا سبيل لإدراك بحر علم الله ومعرفة الحكمة من كل أمرٍ يريده سبحانه، ولا بدَّ أن يعتقد المؤمن أنَّ هذا الأمر أو غيره هو ابتلاءٌ يريد الله تعالى أن يبتلي به الشخص ومن حوله.

ولا سبيل للاعتقاد أنَّ هذا الأمر محض صدفةٍ عشوائيَّةٍ من فعل الطبيعة، وقد تبيَّن بطلان هذه العقيدة بنصِّ القرآن الكريم، حتَّى وإن تبيّن علمياً أنَّ هذه التشوهات جاءت نتيجةً لفعل الإنسان الذي أساء استخدام العلم التجريبي (كالتجارب النووية، أو العقاقير الطّبية)، فإنَّه على المؤمن أن يعتقد أنَّ هذه الأفعال الإنسانيَّة لا تخرج من دائرة الكسب (قد يستحقُّ فاعلها إثماً إن آخذه الله بها) مع التسليم المطلق بأنَّ الله هو من أذن بإجرائها لأنَّه هو المتصرِّف في الكون يفعل ما يشاء.

وقد يتبين لبعضنا الحكمة من هذا الابتلاء وقد لا يتبيّن، وقد ذُكرت بعض الحكم المستفادة من خلق المشوَّهين بشكلٍ عام، إذ يظهر كمال الخلق الإلهي في سائر المخلوقات الأخرى، حيث إنَّ نسبة التشوُّهات ضئيلةٌ جدَّاً، فيكون الاستثناء في الخلق سبباً خلقه الله يستشعر به بقيَّة الناس فضل الله عليهم بتمام الخِلقة.

ولكنَّ هذه الحكمة -إن صحَّت- فإنَّنا لا نستطيع إسقاطها على آحاد المبتلين بهذا البلاء، لأنَّ الله أراد لكلِّ مبتلىً من هؤلاء أن يُبتلى بالقدر الذي قدَّره له، وليس الأمر أنَّ الله أراد أن يبتلي طائفةً من الناس ليعتبر الآخرون، فكلُّ ابتلاءٍ من هذه الابتلاءات تمَّ بإرادةٍ إلهيَّةٍ، بالقدر الذي يريده الله، وعلى الوجه الذي يريده جلَّ جلاله، وهذا هو تمام التوحيد.

وبعد ذلك نجد أنَّه لا حجَّة للإنسان في الاعتراض على الشَّرِّ الموجود في العالم مهما بلغ، وعليه أن يردَّ كلَّ استشكال إلى نقصان علمه، وقصور إدراكه، ولكمال الله تعالى وحكمته وعلمه.

والله أعلم

القرآن أساطير الأولين وسحرٌ مبين

غلاف أساطير الأولين
أساطير الأولين
أساطير الأولين

نقاد القرآن (1)
القرآن أساطير الأولين وسحرٌ مبين أتى به محمد !

درج نقّاد القرآن الكريم قديماً وحديثاً على التشكيك في مصدرية النص القرآني، ولعلَّ الرأي المشترك بين غالبيتهم هو نزع صفة الألوهية عن النص القرآني، فمن وجهة نظر هؤلاء أن القرآن أساطير الأولين، أو سحر مبين أتى به محمد , فالقرآن انعكاس لتجارب النبي  في الحياة، وهذا ما قاله بعض رجال قريش قديماً وردده بعض المعاصرين.

ونحن في الدرس القرآني مأمورون بالعدل والإنصاف استجابة لقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) [المائدة:8].

ومن باب بيان الحق في هذه القضية يتوجب إيضاح الأمور الآتية:

  1. لقد سمع القوم القرآن الكريم فقالوا: لو نشاء لجئنا بمثله وقد بيَّن القرآن مقولتهم: ((وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ))[الأنفال:31]، وقوله تعالى:((وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ))[الزخرف:30]، فإنْ كان ما يتلى من القرآن الكريم أساطير وسحراً -حسب قولهم- فقد جاء التحدي بالمجيء بمثله في قوله تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ))[الطور 33-34] فعجزوا عن ذلك،
    ثم كان التحدي بالمجيء بعشر سور في قوله تعالى:
    ((أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ))[هود: 13] فعجزوا،
    فجاء التحدي بالمجيء بسورة من مثله بقوله تعالى:
    (( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))[البقرة: 23].  فعجزوا أيضاً ثم ختم التحدي إلى قيام الساعة بقوله تعالى: ((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا))[الإسراء:88].
  2.  ألم يخش النبي بهذا التحدي أن يثير حمية القوم الأدبية فيهبوا لمنافسته؟ وماذا عساه يصنع لو أن بلغاءهم تعاقدوا على أن يضع أحدهم صيغة ثم يتناولها سائرهم بالإصلاح والتهذيب، حتى يخرجوا كلامًا إن لم يتفوق عليه فلا أقل من أن ينافسه ولو في بعض نواحيه؟ ثم لو طوعت للنبي نفسه أن يصدر حكم العجز عن المجيء بمثله على أهل عصره فكيف يصدره على الأجيال القادمة إلى يوم القيامة؟ إن هذه مغامرة لا يتقدم إليها رجل إلا إذا كان موقناً بتصاريف القضاء، وخبر السماء.
    (النبأ العظيم /دراز/ 73)
  3. إنَّ عجز القوم عن أن يأتوا بآية من مثل ما أوتي النبي ، وهم الذين كانوا أفصح العرب دليل على عجز النبي بأن يأتي بالقرآن من عند نفسه من باب أولى. وقد طلب القوم من النبي  تبديله وتغييره فجاء النص القرآني صريحاً بأن ليس له ذلك، قال تعالى: ((وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) [يونس:15].
  4. لو كانت هذه القصص المتنوعة الواردة في القرآن الكريم قد تعلمها النبي ونقلها عن آخرين لأخبروا بذلك وبينوه، ولو أخبروا به لنقل وعرف بين القوم مما جعل الناس تتعرف على مصدرية الكلام فتنصرف عن النبي  ؟!!!
  5. النصوص القرآنية صريحة في أن النبي  لم يكن يعرف شيئاً من هذه القصص قبل نزول الوحي، قال تعالى: ((تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)) [هود:49].
  6. إنَّ من المستحيل عقلاً أن يظهر عالم في فن من الفنون دون أن يتتلمذ على أساتذة يتلقى عنهم معارفه وعلومه، والنبي  لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ولم يؤثر عنه أنه قد خرج من مكة لتلقي العلم، وهذا دليل على أن ما جاء به هو وحي من الله، قال تعالى: ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)) [يوسف:3].
  7. إن ما ورد من أخبار الغيب والنبيين في القرآن الكريم دليل على أن القرآن الكريم من عند الله وأنه ليس حديثًا مفترى، وليس أساطير الأولين.

من خلال ما سبق يتضح أن قولهم: القرآن أساطير الأولين وسحرٌ إنما هو من تخبط القوم وتحيرهم، وإن عجزهم عن المجيء بما يماثل سورة من مثل القرآن الكريم لدليل واضحٌ على أنه لا يمكن أن يكون من تأليف بشر، إذ إن هذا الاحتمال مخالف لبرهان العجز الذي دلّت عليه التجربة المشاهدة (من روائع القرآن، د.البوطي،129)، يقول الزركشي: “فقد ثبت أنه تحداهم به وأنهم لم يأتوا بمثله لعجزهم عنه لأنهم لو قدروا على ذلك لفعلوا ولما عدلوا إلى العناد تارة والاستهزاء أخرى، فتارة قالوا: سحر، وتارة قالوا: شعر، وتارة قالوا: أساطير الأولين، كل ذلك من التحير والانقطاع“.(البرهان في علوم القرآن/الزركشي/2/91).

درج نقّاد القرآن الكريم قديماً وحديثاً على التشكيك في مصدرية النص القرآني، ولعلَّ الرأي المشترك بين غالبيتهم هو نزع صفة الألوهية عن النص القرآني، فمن وجهة نظر هؤلاء أن القرآن أساطير الأولين، أو سحر مبين أتى به محمد , فالقرآن انعكاس لتجارب النبي  في الحياة، وهذا ما قاله بعض رجال قريش قديماً وردده بعض المعاصرين.

ونحن في الدرس القرآني مأمورون بالعدل والإنصاف استجابة لقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) [المائدة:8].

ومن باب بيان الحق في هذه القضية يتوجب إيضاح الأمور الآتية:

  1. لقد سمع القوم القرآن الكريم فقالوا: لو نشاء لجئنا بمثله وقد بيَّن القرآن مقولتهم: ((وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ))[الأنفال:31]، وقوله تعالى:((وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ))[الزخرف:30]، فإنْ كان ما يتلى من القرآن الكريم أساطير وسحراً -حسب قولهم- فقد جاء التحدي بالمجيء بمثله في قوله تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ))[الطور 33-34] فعجزوا عن ذلك،
    ثم كان التحدي بالمجيء بعشر سور في قوله تعالى:
    ((أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ))[هود: 13] فعجزوا،
    فجاء التحدي بالمجيء بسورة من مثله بقوله تعالى:
    (( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))[البقرة: 23].  فعجزوا أيضاً ثم ختم التحدي إلى قيام الساعة بقوله تعالى: ((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا))[الإسراء:88].
  2.  ألم يخش النبي بهذا التحدي أن يثير حمية القوم الأدبية فيهبوا لمنافسته؟ وماذا عساه يصنع لو أن بلغاءهم تعاقدوا على أن يضع أحدهم صيغة ثم يتناولها سائرهم بالإصلاح والتهذيب، حتى يخرجوا كلامًا إن لم يتفوق عليه فلا أقل من أن ينافسه ولو في بعض نواحيه؟ ثم لو طوعت للنبي نفسه أن يصدر حكم العجز عن المجيء بمثله على أهل عصره فكيف يصدره على الأجيال القادمة إلى يوم القيامة؟ إن هذه مغامرة لا يتقدم إليها رجل إلا إذا كان موقناً بتصاريف القضاء، وخبر السماء.
    (النبأ العظيم /دراز/ 73)
  3. إنَّ عجز القوم عن أن يأتوا بآية من مثل ما أوتي النبي ، وهم الذين كانوا أفصح العرب دليل على عجز النبي بأن يأتي بالقرآن من عند نفسه من باب أولى. وقد طلب القوم من النبي  تبديله وتغييره فجاء النص القرآني صريحاً بأن ليس له ذلك، قال تعالى: ((وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) [يونس:15].
  4. لو كانت هذه القصص المتنوعة الواردة في القرآن الكريم قد تعلمها النبي ونقلها عن آخرين لأخبروا بذلك وبينوه، ولو أخبروا به لنقل وعرف بين القوم مما جعل الناس تتعرف على مصدرية الكلام فتنصرف عن النبي  ؟!!!
  5. النصوص القرآنية صريحة في أن النبي  لم يكن يعرف شيئاً من هذه القصص قبل نزول الوحي، قال تعالى: ((تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)) [هود:49].
  6. إنَّ من المستحيل عقلاً أن يظهر عالم في فن من الفنون دون أن يتتلمذ على أساتذة يتلقى عنهم معارفه وعلومه، والنبي  لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ولم يؤثر عنه أنه قد خرج من مكة لتلقي العلم، وهذا دليل على أن ما جاء به هو وحي من الله، قال تعالى: ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)) [يوسف:3].
  7. إن ما ورد من أخبار الغيب والنبيين في القرآن الكريم دليل على أن القرآن الكريم من عند الله وأنه ليس حديثًا مفترى، وليس أساطير الأولين.

من خلال ما سبق يتضح أن قولهم: القرآن أساطير الأولين وسحرٌ إنما هو من تخبط القوم وتحيرهم، وإن عجزهم عن المجيء بما يماثل سورة من مثل القرآن الكريم لدليل واضحٌ على أنه لا يمكن أن يكون من تأليف بشر، إذ إن هذا الاحتمال مخالف لبرهان العجز الذي دلّت عليه التجربة المشاهدة (من روائع القرآن، د.البوطي،129)، يقول الزركشي: “فقد ثبت أنه تحداهم به وأنهم لم يأتوا بمثله لعجزهم عنه لأنهم لو قدروا على ذلك لفعلوا ولما عدلوا إلى العناد تارة والاستهزاء أخرى، فتارة قالوا: سحر، وتارة قالوا: شعر، وتارة قالوا: أساطير الأولين، كل ذلك من التحير والانقطاع“.(البرهان في علوم القرآن/الزركشي/2/91).

عدم المساواة بين المرأة والرجل

غلاف عدم المساواة بين الرجل والمرأة
عدم المساواة بين الرجل والمرأة
عدم المساواة بين الرجل والمرأة

سلسلة 
ماذا عن المرأة (1)

بالرغم من الطبيعة القاسية في أكثر الأحيان والمهينة في أحيان أخرى لحياة المرأة في الحضارة الغربية المادية، فإنّ كثيراً من الناس وخصوصاً أنصاف المثقفين العرب يسوّقون بشكل ببغائي صورةً ورديةً لامرأة الحضارة الغربية المادية، وصورةً قاتمةً مضطهدةً لامرأة الحضارة الإسلامية، فدافع الحقد أقوى من دافع الحق عند أكثر المنتقدين.
قضية المرأة في العصر الحديث ونظرة الإسلام لها وتعامله معها، هي من أكثر القضايا جدليةً، يستخدمها الكثيرون لترويع الناس من فكرة اعتناق الإسلام، ويستخدمها أنصاف المثقفين المعاصرين المتسترين تحت عباءة العلمانية لتشويه صورة الإسلام في أذهان معتنقيه.
ولأنّ كثيراً من العقول تتأثر بالمشوّهين لصورة المرأة في الإسلام، فيستغل هذا التشويه للنيل من الإسلام ومحاولة إبعاد الناس عنه، فإن من الواجب بيان الصورة الحقيقية للمرأة في الإسلام، والمغالطات الكبيرة التي تقود الحضارةُ الغربية المادية العالمَ إليها من خلال الدكتاتورية الفكرية التي تمارسها على مخالفيها.
لذلك فإننا سنبدأ بسلسلة تحاول بيان الحقائق الإسلامية والإنسانية المتعلقة بالمرأة، ولكن قبل الدخول فيها يجب التنويه إلى أنه من مفاتيح إدراك الحقائق المهمة: التجردُ عن الأهواء والصور النمطية السابقة قبل البحث.
بعض الشبهات التي ستتناولها هذه السلسلة:
1- قضية المساواة بين المرأة والرجل وموقف الإسلام منها.
2- ميراث المرأة في الإسلام.
3- المرأة وفريضة الحجاب.

المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة وموقف الإسلام منها

(وجهة نظر مختصرة جداً)

تعتبر الحضارة الغربية المادية نفسها ويعتبرها مؤيدوها حضارةَ المساواة بين المرأة والرجل كما لم يكن في التاريخ الإنساني سابقاً، ويحاولون وصمَ الإسلام بأنه دين التمييز في التشريع على أساس الجنس، وأنه دين اضطهاد المرأة، فهل من الصحيح أن الإسلام لا يساوي بين المرأة والرجل في التشريعات؟
قبل الإجابة على هذا السؤال سنطرح سؤالاً آخر مهماً: هل المساواة بين المرأة والرجل أمرٌ جيد؟
ربما يعتبر البعض هذا السؤال سؤالاً ساذجاً أو تمييزياً، فجوابه واضح عند الأغلبية: نعم المساواة بين المرأة والرجل أمر جيد، وهو تعبير عن الرقي الحضاري الذي وصلته الإنسانية.
ولكن ماذا لو جربنا أن نفكر بعيداً عن التبعية للرأي السائد أو كما يُقال “خارج الصندوق”؟ وهل يمكن أن تؤدي المساواة بين المرأة والرجل إلى ضرر بهما، وبدورهما في الحياة؟

لا يمكن أن تكون المساواة في كل شيء مُفيدة إلا إن كانت مساواة بين متماثلين في كل شيء، وإلا ستؤدي المساواة إلى ظلم لطرف على حساب طرف آخر، وبناء على هذه القاعدة يمكننا أن نقول: إن المساواة المُدعاة بين المرأة والرجل في حضارة القرن الواحد والعشرين غير عادلة، ولا تحقق الغاية المنشودة للمرأة في أن تعيش عيشة هنية سوية.
والسبب: هو أن الرغبة الجامحة في تحقيق المساواة في كل شيء دفعت لأن تكون المرأة مثل الرجل في كل شيء وهذا بدوره شكّل عبئاً كبيراً عليها، عبئاً يخالف طبيعتها المتميزة، وعندما عاشت المرأة حياةً لا تتناسب مع طبيعتها وتكوينها وجدت نفسها قد هربت مما صوروه لها على أنه اضطهاد إلى اضطهاد أكبر ومعاناة أشد.
فالمساواة الجيدة تكون بين المتماثلين، أما بين المتباينين فإنها ستؤدي إلى الخلل، والحل يكون في العدل لا في المساواة، والمساواة ليست عدلاً دائماً.
وعليه فإن المُطالبة التي تحقق مصلحة المرأة والرجل معاً، ومصلحة المرأة أكثر في زماننا، والتي ننصح بها النسويين والنسويات – إن كانوا يرغبون حقيقةً في تحقيق مصلحة المرأة – ليست في شعار المساواة الذي يُصدّعون به جهلاً رؤوسَ المجتمعات، بل في شعار يحمل معنيين؛ المعنى الأول هو العدالة بين الرجل والمرأة، والمعنى الثاني هو التكامل بين الرجل والمرأة.
فالعدالة تقتضي أن يُكلف الرجل بما يستطيع شرط أن لا ينتقص ذلك من رجولته، وأن تُكلف المرأة بما تستطيع شرط أن لا ينتقص ذلك من أنوثتها.
والتكامل يقتضي أن يكون النقص الموجود في دور الرجل في الحياة مُكَمَّلا في دور المرأة، والنقص الموجود في دور المرأة في الحياة مُكَمَّلاً في دور الرجل.
وعليه فإن جواب السؤال السابق: “هل الإسلام يساوي بين المرأة والرجل في التشريعات؟
هو: لا.
الإسلام لا يساوي بين المرأة والرجل في التشريعات، بل يُشرّع تشريعات لهما معاً، ولكل جنس منهما تخصيصاً، فالمرأة والرجل في النظرة الإسلامية لهما نفس الصفة التكليفية بشكل متساوٍ لكنهما لا يُكلفان بشكل متماثل.
وهذه التشريعات المتمايزة بين المرأة والرجل في الإسلام تميل لصالح المرأة أكثر ما تميل لصالح الرجل، ولو كان الرجل يفكر بعقلية النسويين لقام بعد معرفة التشريعات الإسلامية التي تمايز بين المرأة والرجل بتشكيل حركة الرجوليين للمطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة في تشريعات الإسلام.
وإن مقولة “المرأة تساوي الرجل” بحد ذاتها مقولة فيها نوع من نسب النقص للمرأة، وكأنها في صراع مستمر لتكون كالرجل، بينما هي في الحقيقة الطبيعية والحقيقة التشريعية ليست بحاجة للدخول في هذا الصراع، فهي ببساطة ليست متساوية مع الرجل، ومن الجهل الظالم أن تكون كذلك، بل هي متكاملة مع الرجل، لها ما لها مما يناسب طبيعتها النفسية والفيزيولوجية، وعليها ما عليها مما يناسب طبيعتها النفسية والفيزيولوجية.

 

 

بالرغم من الطبيعة القاسية في أكثر الأحيان والمهينة في أحيان أخرى لحياة المرأة في الحضارة الغربية المادية، فإنّ كثيراً من الناس وخصوصاً أنصاف المثقفين العرب يسوّقون بشكل ببغائي صورةً ورديةً لامرأة الحضارة الغربية المادية، وصورةً قاتمةً مضطهدةً لامرأة الحضارة الإسلامية، فدافع الحقد أقوى من دافع الحق عند أكثر المنتقدين.
قضية المرأة في العصر الحديث ونظرة الإسلام لها وتعامله معها، هي من أكثر القضايا جدليةً، يستخدمها الكثيرون لترويع الناس من فكرة اعتناق الإسلام، ويستخدمها أنصاف المثقفين المعاصرين المتسترين تحت عباءة العلمانية لتشويه صورة الإسلام في أذهان معتنقيه.
ولأنّ كثيراً من العقول تتأثر بالمشوّهين لصورة المرأة في الإسلام، فيستغل هذا التشويه للنيل من الإسلام ومحاولة إبعاد الناس عنه، فإن من الواجب بيان الصورة الحقيقية للمرأة في الإسلام، والمغالطات الكبيرة التي تقود الحضارةُ الغربية المادية العالمَ إليها من خلال الدكتاتورية الفكرية التي تمارسها على مخالفيها.
لذلك فإننا سنبدأ بسلسلة تحاول بيان الحقائق الإسلامية والإنسانية المتعلقة بالمرأة، ولكن قبل الدخول فيها يجب التنويه إلى أنه من مفاتيح إدراك الحقائق المهمة: التجردُ عن الأهواء والصور النمطية السابقة قبل البحث.
بعض الشبهات التي ستتناولها هذه السلسلة:
1- قضية المساواة بين المرأة والرجل وموقف الإسلام منها.
2- ميراث المرأة في الإسلام.
3- المرأة وفريضة الحجاب.

المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة وموقف الإسلام منها

(وجهة نظر مختصرة جداً)

تعتبر الحضارة الغربية المادية نفسها ويعتبرها مؤيدوها حضارةَ المساواة بين المرأة والرجل كما لم يكن في التاريخ الإنساني سابقاً، ويحاولون وصمَ الإسلام بأنه دين التمييز في التشريع على أساس الجنس، وأنه دين اضطهاد المرأة، فهل من الصحيح أن الإسلام لا يساوي بين المرأة والرجل في التشريعات؟
قبل الإجابة على هذا السؤال سنطرح سؤالاً آخر مهماً: هل المساواة بين المرأة والرجل أمرٌ جيد؟
ربما يعتبر البعض هذا السؤال سؤالاً ساذجاً أو تمييزياً، فجوابه واضح عند الأغلبية: نعم المساواة بين المرأة والرجل أمر جيد، وهو تعبير عن الرقي الحضاري الذي وصلته الإنسانية.
ولكن ماذا لو جربنا أن نفكر بعيداً عن التبعية للرأي السائد أو كما يُقال “خارج الصندوق”؟ وهل يمكن أن تؤدي المساواة بين المرأة والرجل إلى ضرر بهما، وبدورهما في الحياة؟

لا يمكن أن تكون المساواة في كل شيء مُفيدة إلا إن كانت مساواة بين متماثلين في كل شيء، وإلا ستؤدي المساواة إلى ظلم لطرف على حساب طرف آخر، وبناء على هذه القاعدة يمكننا أن نقول: إن المساواة المُدعاة بين المرأة والرجل في حضارة القرن الواحد والعشرين غير عادلة، ولا تحقق الغاية المنشودة للمرأة في أن تعيش عيشة هنية سوية.
والسبب: هو أن الرغبة الجامحة في تحقيق المساواة في كل شيء دفعت لأن تكون المرأة مثل الرجل في كل شيء وهذا بدوره شكّل عبئاً كبيراً عليها، عبئاً يخالف طبيعتها المتميزة، وعندما عاشت المرأة حياةً لا تتناسب مع طبيعتها وتكوينها وجدت نفسها قد هربت مما صوروه لها على أنه اضطهاد إلى اضطهاد أكبر ومعاناة أشد.
فالمساواة الجيدة تكون بين المتماثلين، أما بين المتباينين فإنها ستؤدي إلى الخلل، والحل يكون في العدل لا في المساواة، والمساواة ليست عدلاً دائماً.
وعليه فإن المُطالبة التي تحقق مصلحة المرأة والرجل معاً، ومصلحة المرأة أكثر في زماننا، والتي ننصح بها النسويين والنسويات – إن كانوا يرغبون حقيقةً في تحقيق مصلحة المرأة – ليست في شعار المساواة الذي يُصدّعون به جهلاً رؤوسَ المجتمعات، بل في شعار يحمل معنيين؛ المعنى الأول هو العدالة بين الرجل والمرأة، والمعنى الثاني هو التكامل بين الرجل والمرأة.
فالعدالة تقتضي أن يُكلف الرجل بما يستطيع شرط أن لا ينتقص ذلك من رجولته، وأن تُكلف المرأة بما تستطيع شرط أن لا ينتقص ذلك من أنوثتها.
والتكامل يقتضي أن يكون النقص الموجود في دور الرجل في الحياة مُكَمَّلا في دور المرأة، والنقص الموجود في دور المرأة في الحياة مُكَمَّلاً في دور الرجل.
وعليه فإن جواب السؤال السابق: “هل الإسلام يساوي بين المرأة والرجل في التشريعات؟
هو: لا.
الإسلام لا يساوي بين المرأة والرجل في التشريعات، بل يُشرّع تشريعات لهما معاً، ولكل جنس منهما تخصيصاً، فالمرأة والرجل في النظرة الإسلامية لهما نفس الصفة التكليفية بشكل متساوٍ لكنهما لا يُكلفان بشكل متماثل.
وهذه التشريعات المتمايزة بين المرأة والرجل في الإسلام تميل لصالح المرأة أكثر ما تميل لصالح الرجل، ولو كان الرجل يفكر بعقلية النسويين لقام بعد معرفة التشريعات الإسلامية التي تمايز بين المرأة والرجل بتشكيل حركة الرجوليين للمطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة في تشريعات الإسلام.
وإن مقولة “المرأة تساوي الرجل” بحد ذاتها مقولة فيها نوع من نسب النقص للمرأة، وكأنها في صراع مستمر لتكون كالرجل، بينما هي في الحقيقة الطبيعية والحقيقة التشريعية ليست بحاجة للدخول في هذا الصراع، فهي ببساطة ليست متساوية مع الرجل، ومن الجهل الظالم أن تكون كذلك، بل هي متكاملة مع الرجل، لها ما لها مما يناسب طبيعتها النفسية والفيزيولوجية، وعليها ما عليها مما يناسب طبيعتها النفسية والفيزيولوجية.

 

سؤال الملائكة

سؤال الملائكة
سؤال الملائكة

بسم الله الرحمن الرحيم

  هل يخلق الله الشَّرَّ؟

الجزء الأول (سؤال لاملائكة)

 وهو السؤال الذي يبحث في الحكمة الإلهية من بعض الأفعال التي تبدو للوهلة الأولى أفعالاً “غير مفهومة” أو “لا خير فيها” مما يستحيل في حق الله الحكيم الرَّحيم.

معضلة إبيقور:

إذا أردنا أن نؤصل لمشكلة الشر فلسفياً فإنّنا نحتاج إلى الاستعانة بصياغاتٍ فلسفية رصينة بشكل يمكن معه تبيين وجه الإشكال في سبيل حله؛ وعند البحث في المسألة نجد أنَّ “إبيقور” [فليسوف إغريقي عاش في اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد] وهو من أقدم الفلاسفة الذين صاغوا هذه المعضلة.  

صاغ “إبيقور” حجته الفلسفية على شكل يبيّن تناقضاً بين (وجود الشر في العالم)، و (وجود إلهٍ كامل القدرة والعلم والخير)، وذلك أن خيرية الله ستمنعه من فعل الشر إلا إذا كان ناقصَ العلم، (أي لا يعرف أن هذا الفعل سيؤدي إلى شر)، أو ناقصَ القدرة (فلا يستطيع دفع هذا الشر).

ويمكن سرد هذه الحجة على شكل أسئلة متتالية:

  • هل يريد الله أن يمنع الشر ولكنه غير قادر
    • إذن هو عاجز.
  • هل هو قادر ولكنه لا يريد؟
    • إذن هو شرير.
  • هل هو يريد أو يقدر أن يمنعه؟
    • إذن لماذا وُجد الشرّ؟
  • هل هو غير قادر وغير مريد؟
    • إذن فلِمَ تسمُّونه إلهاً؟

ونلاحظ من الصياغة أعلاه أن إبيقور يتكلَّم من منطلق كونه يعدُّ نفسه المرجع في الحكم على الأمور إن كانت خيراً أو شراً. ولكننا إذا نظرنا إلى الإنسان بصفاته الأصيلة المرتبطة فيه من الضعف والجهل ندرك أنَّ ما يراه إبيقور أو أيُّ إنسانٍ من منظوره الإنساني شراً ليس بالضرورة أن يكون شراً بالمعنى المطلق.

وعند مراجعة عقيدة إبيقور نجد أنَّه لم يكن مؤمناً بالله الخالق كما يعرفه المؤمنون، كما أنه لم يكن يعتقد بيوم الحساب، بل كان يظن أن الكون لا نهائي وأبدي.لذلك نرى أن هذا الطرح مرتبطٌ بشكل أصيل بالمنظور الفلسفي الذي كان إبيقور يعتقده؛ فقد طرح هذه الإشكاليات بناء على جهله بصفات الله وعدم إيمانه بيوم القيامة الذي يجزل الله فيه الثواب لمن وقع عليه الابتلاء في الدنيا. فحقيقة الحياة عند المؤمن تتألف من فصلين هما الدنيا والآخرة، والمؤمن يعتقد بعدل الله سبحانه ويعلم أنَّه يعاقب المسيء في الآخرة ويجزل العطاء لمن آمن واتقى وعمل صالحاً في هذه الحياة الدنيا.

يعلم المؤمن بالله أنه سبحانه هو العالم بكل شيء، وأنَّ جهل الإنسان بإدراك حقيقة الأمور لا يعطيه الحق في أن يحتج على ما يجهله. أما إبيقور فقد انطلق من نظرته الفلسفية، ولم يعتمد على معرفة حقيقة نفسه البشرية المركبة على الضعف والجهل، فقلب الموازين وجعل نفسه حاكماً على الله سبحانه.

نوضح أكثر ونقول: إن ادّعاء إبيقور: “نقصان علم الإله” وأنَّه أحد الاحتمالات الثلاثة لتفسير وجود شرٍّ في هذا العالم فيه نقصٌ لإدراك صفات الله سبحانه. [مناقشة الاحتمالين الآخرين (نقصان الخيرية أو نقصان القدرة) في الجزء الثاني من المقال إن شاء الله] انظر مقال هل يخلق الله الشر؟ الجزء الثاني

إن ادعاء نقصان العلم أتى من منطلق النظرة إلى الله سبحانه نظرة “أنسنة” (وصف الإله بصفات الإنسان) ثم يحاكم الإنسانُ ربَّه من منظوره الضيق فيسأل: كيف قام الإله بهذا الفعل الذي أراه -أنا الإنسان- فعلاً شريراً؟ إذن لا بد أنَّك أيها الإله لا تعلم أنَّ هذا الفعل سيؤدي إلى شر، أو أنَّك شرير، أو لا تستطيع دفع الشر.

لذلك نجد أن عقدة المشكلة في هذه المعضلة هي ادعاء نقصان علم الله ويكون الحل لها بالاعتراف بنقصان العلم الإنساني مقارنة بالعلم الإلهي. وهنا نرى الأمور على حقيقتها، نرى المخلوق مخلوقاً والخالق خالقاً، فيتهم الإنسانُ معرفته البشرية القاصرة أمام بحر علم الله.

الحاسوب الذي تفوَّق على الإنسان:

قد يجادل البعض في حقيقة أن المخلوق لا يحقُّ له بأن يحكم على الخالق أو أنَّ المخلوق لا يعلم أكثر من الخالق، ولعله يضرب مثالاً لذلك بقدرة الحاسوب _ وهو من صنع الإنسان_ على تأدية مهارات لا يستطيع الإنسان نفسه أن يفعلها، فيقول: “انظر كيف تفوق المصنوع على الصانع”!

والفارق في التشبيه هنا: هو أنَّ الإنسان لم ينشئ شيئاً من مواد الحاسوب، ولم ينشئ النظام الذي تسير وفقه هذه المواد، بل استخدم ما خلقه الله سبحانه من مكوناتٍ مادية وعقل إنساني، وسار وفق نظام الكون الدقيق وهو من بديع الخالق سبحانه؛ فسخّر هذا المخلوق الصغير (الحاسوب) لخدمته وحاجياته، تماماً كما سخر من قبله الخيول والكلاب وغيرها من مخلوقات يتفوَّق كل منها على الإنسان في جانب من جوانب الحياة؛ كقدرة التحمل والسرعة وغير ذلك …

أما الله فهو خالق الإنسان وخلق المواد التي يستفيد منها، و العقل الذي يستطيع به الإنسان تسخير هذه المواد، وخلق الله الأنظمة الكونية فاستطاع الإنسان بعقله المخلوق أن يفهم أحجياتها دون أن يملك تغيير شيءٍ منها. فالله –سبحانه– خالق كل شيء، و العالم بكل شيء، ومهما بلغت العلوم الإنسانية المكتسبة من دقةٍ في أدوات النظر والتحليل التي وهبها الله للإنسان (أعني العقل البشري) فإنَّها ستبقى غارقةً في بحر علم الله الذي خلق كل شيء، و ثمَّة فارقٌ كبير بين الأمرين.
ولذلك لا يحقُّ للإنسان أن يعترض على الإله ويتهمه بنقصان العلم، ثمَّ يحاكمه بناءً على ما يملك هو من معلومات قلّت أو كثُرت هي من علم الخالق نفسه.
لذلك فإن أوَّل أمرٍ يجب على الإنسان أن يسلم به هو الجهل الملازم له منذ الخلق، وأنه ما من شيءٍ تعلَّمه إلا بقدرة الله سبحانه وإذنه، فهو الذي علّمه بعد أن كان جهولاً. وحينها يعرف الإنسان قدرَ نفسه وينزع عنه عباءة الغرور المعرفي، ويستطيع أن يفهم شيئاً من هذه الحقائق.

سؤال الملائكة:

قلنا في صدر المقال: إنَّه يمكن تسمية هذا النوع من التساؤلات بـ “سؤال الملائكة” وذلك نسبةً إلى التساؤل الملائكي الذي افتُتحت به قصة الخليقة في القرآن الكريم، حيث استغربت الملائكة فعل الله الحكيم، وهزَّها وجود مخلوقات تسفك الدماء في الارض وتتناحر فيما بينها: 
((قالوا أَتجعَلُ فيها من يُفسِدُ فيها ويَسفِكُ الدِّماءَ ونحنُ نُسبِّح بِحَمدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ)) [البقرة30]

وقد أُتبعت الحيرةُ الملائكية بإجابةٍ بليغةٍ مُحكمةٍ لخّصت المسألة بخمس كلمات: ((إنِّي أَعلمُ ما لا تعلمون)) [البقرة30]
نلاحظ بين طيات هذه الكلمات جلالاً وهيبة يستدعي في نفس السامع تدبُّراً عميقاً ولسان حاله يقول: لا بدَّ أنَّ الله أجاب الملائكة ولكنني لم أفهم مراده، ثمَّ ما يلبث أن يجد ما كان يبحث عنه بين ثنايا الإجابة نفسها.
لقد أوضحت الإجابةُ الفرق بين كمال علم الله الذي لا تجادل فيه الملائكة ونقص علم الملائكة وما تبعه من استغرابهم وتساؤلهم، وإنَّ تسليم الملائكة بنقصان معرفتهم هو أصل حل المعضلة التي يرونها “شراً”. وهذا متَّسقٌ مع ما ذكر آنفاً حول علاقة نقصان معرفة المخلوقات مع تساؤلهم عن حكمة الأفعال الإلهية.
تجدر الإشارة إلى أن هذا التساؤل الملائكي قاد أحد أشهر الأساتذة الجامعيين في الولايات المتحدة –أستاذ الرياضيات في جامعة كنساس الدكتور: جيفري لانج إلى الإسلام، بعدما كان متشككاً في حكمة الله؛ وقد وصف نفسَه بأنَّه كان لا دينياً نشأ في أسرةٍ كاثوليكية، ليؤلف بعد إسلامه كتاباً بعنوان (حتى الملائكة تسأل)!

موسى عليه السلام يسأل سؤال الشر:

وهنا يجدر بالقارئ أن يسأل: إذا كانت معلوماتنا قاصرة، وقد سلّمنا بذلك؛ فهل من سبيل لمعرفة شيءٍ من الحِكَم الخفيّة كي تستقرَّ نفوسُنا وترتاح أفئدتنا؟

والحقيقة أنَّ الله سبحانه لم يترك الإنسانَ دون الإجابة عن هذه التساؤلات، فبيّن شيئاً منها ليروي ظمأ شغفه للمعرفة. هذا الإنسان الذي وصفه الله في سورة الكهف: ((وكانَ الإنسانُ أكثرَ شيءٍ جدلاً)) [الكهف54]، وأجابه في السورة ذاتها عن حيرته بثلاث قَصص تروي شيئاً من عطش الإنسان المجادل.
هذه القَصص التي عاش أحداثها موسى –عليه السلام– إذ آثر التعب والعناء في سبيل تحصيل علمٍ من عبدٍ رحيمٍ: ((لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ)) [الكهف60]، فهو يستعذب السير لبلوغ تلك الغاية ولو أمضى من عمره سنين ((أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)) [الكهف60]
ما هو ذلك العلم الذي يريد موسى –عليه السلام– تحصيلَه؟ إنَّه علمٌ من نوع خاص لا يُحصَّل في كتاتيب، ولا يوجد في مكتبات. فما أطيب التعب في سبيله! سيتعلم شيئاً من العلوم التي ذكرها الله للملائكة بقوله: ((إِنِّي أعلمُ ما لا تعلمون)) [البقرة30]. فيلتقي بعد رحلةٍ طويلةٍ من الجوع والنَّصَب بالخضر الرجل الذي شكل في قصصه الغامضة تجسيداً لمعاني عميقة في القدر تجيب عن شيء من أسئلة الإنسان الحائر.
ثم تنبه السورة في خاتمتها أن على الإنسان أن يعترف أنه لن يبلغ شيئاً من علم الله مهما عظم شأنه ((قُل لو كانَ البحرُ مِداداً لِكلماتِ ربي لَنفدَ البحرُ قبلَ أن تنفدَ كلماتُ ربي ولو جِئنا بمثلهِ مدداً)) [الكهف109]، فلن تستطيع مع تلك الحال صبراً إلا إن سلمت بقلَّة حيلتك، وضعف علمك أمام علم الله سبحانه.

لذلك لا عجب أن يوصينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقراءة سورة الكهف في كلِّ جمعة لتضيء نوراً للمؤمن يمشي به في ظلمات الحياة، فقال صلى الله عليه وسلم: (مَن قَرَأَ سورةَ الكَهفِ يومَ الجُمُعةِ أضاءَ له من النورِ ما بَينَ الجُمُعتينِ) [رواه الحاكم والبيهقي وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه]

حِكَمٌ أخرى:

وفي سورٍ أخرى أشار الله إلى بعضٍ من حكمته في ابتلاء المؤمنين وتمحيصهم، وفتن العباد بعضهم ببعض وبألوان من مصائب الدنيا، وبين جلَّ جلاله أنَّه لم يكن ليترك المؤمنين بلا فتنة بل أقسم بأنه سيبلوهم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات ليبشر الصابرين:
((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)) [المُلك 2]. ((الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) [العنكبوت3]. ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) [البقرة214]. ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)) [محمد 31].

هذه الابتلاءات قدّر الله أن يستخرج بها أفضل ما في النفس البشرية من القيم الراقية كالصبر والتضحية والإخلاص، ولا يمكن لعقلٍ بشري أن يدركها دون التسليم بنقصان علمه ومعرفته، إذ لا بد من إعادة الموازين إلى نصابها، ولابد للإنسان أن يعرف قدر نفسه وأن ينزع عنها عباءة ظنِّ المعرفة المطلقة التي أوصلت فلسفة “إبيقور” إلى ادعاء نقصان علم الإله ((وما قَدَروا اللهَ حقَّ قدرِهِ)) [الأنعام91].

بقيت الإشارة إلى الاحتمالين الآخرين المتحصلين من معضلة إبيقور، وهما احتمالا: (نقصان القدرة) أو (نقصان الخيرية)، وما يترتب على ذلك من ادعاءاتٍ وعقائد تتعارض مع الإسلام والقرآن الكريم، نجيب عنها في المقال القادم بإذن الله تعالى.

إيهام المشككين

غلاف إيهام المشككين
إيهام المشككين

نجد اختلافاً بين روايات الأحاديث لنفس الموضوع فهل أحاديث
النبي صلى الله عليه وسلم متناقضة؟

ادَّعى المستشرق الإنكليزي رينولد نيكلسون (ت 1945م) في مؤلفه (تاريخ العرب الأدبي في الجاهلية وصدر الإسلام): أنَّ المحدِّثين جمعوا كثيراً من الأحاديث المتناقضة دون توفيقٍ أو تأويل، ونسبوها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مما أدى إلى تعارض بعض متون السنة النبوية الشريفة وصعوبة التوفيق بينها. 

ومما قاله: (تفاخر بعض المحدِّثين بأنَّ الإسناد من خصائص أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنَّه لم يسبق هذه الأمة غيرها في تحرّي الدقة والموضوعية عند نقل الأخبار المقدسة وتوثيقها، إلا أنَّ الأحاديث المتعارضة عند المسلمين تدلُّ على خلاف ذلك حيث توجد في السُّنَّة متونٌ كثيرةٌ متعارضةٌ حيرت المحدِّثين ولم يجدوا سبيلاً للتوفيق بينها).
(ومتن الحديث هو لفظه، وسنده هو رواته وصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلّم).

وقال بعضهم: (وُضعت مبادئ شكليةٌ لإزالة التعارض بين الأحاديث النبوية، وزعم أصحاب الحديث أنها تستهدف تصحيح علل الحديث).
وعقد محمود أبو رية (ت 1957م) في كتابه: (أضواء على السُّنَّة المحمدية) فصلاً بعنوان: (أحاديث مُشكلة)، ذكر فيه أحاديث أشكلت عليه هو، بعضها مرفوعٌ وبعضُها موقوفٌ، ومنها ما هو صحيحٌ ومنها ما هو غير صحيح، ليؤكد من خلال ذلك هذه الدعوى المفتراة التي ألصقها المستشرقون بالإسلام: دعوى التناقض بين الروايات والأخبار، مما يجعل ذلك سبباً وجيهاً بزعمهم للتشكيك والطعن في الحديث النبوي.

والجواب على هذا الكلام وأمثاله بالآتي:

أولاً: هذه الشبهة في الحقيقة ليست جديدة، فقد وجَّهها بعض أهل الأهواء إلى المحدِّثين من قديم، وتصدَّى للرد عليهم أئمَّة الإسلام في ذلك الحين ومنهم الإمام ابن قتيبة الدينوري صاحب كتاب: (تأويل مختلف الحديث)؛ الذي تكلَّم في مقدِّمته عن الباعث له على تأليف هذا الكتاب، وكان مما ذكره فيه: انتقاص أهل الكلام من أهل الحديث وامتهانهم لهم، ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض حتى وقع الاختلاف، وكثرت النِّحَل …إلخ. (النِحَل: المذاهب)
ثم تبعهم في ذلك المستشرقون ومقلِّدوهم الذين رددوا هذه الدعاوى متغافلين أصول المحدِّثين وقواعدهم في التعامل مع مثل هذا النوع من الأحاديث.

ثانياً: من القضايا التي يجب أن تكون مسلَّمةً لدى كل مسلم أن دين الله محفوظٌ من التناقض والتعارض، وشريعته منزَّهةٌ عن التضاد والتضارب، لأنَّها مُنزلة من عند الله العليم الحكيم الذي لا تتضارب أقواله ولا تتنافر أحكامه.
فلا يمكن أن يوجد دليلان صحيحان من حيث الثبوت، صريحان من حيث الدلالة، يناقض أحدهما الآخر مناقضةً تامَّةً واضحةً بحيث يتعذر الجمع والترجيح بينهما بحالٍ من الأحوال.
والقول بوجود تناقضٍ بين أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم:

  • إما أن يأتي من عدم المعرفة بعلم الحديث، بحيث لا يميِّز القارئ بين الصحيح وغيره، فيورد أحاديث متعارضةً لكن لا أصل لها، أو يعارض حديثاً صحيحاً بآخر مختلقٍ موضوع.
  • وإما أن يأتي من عدم الفهم وضعف الفقه في حقيقة المراد بالنص.

وقد كان الإمام ابن خزيمة وهو ممن اشتهر عنه الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض يقول: (لَا أَعْرِفُ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَانِ بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَلْيَأْتِنِي بِهِ لِأُؤَلِّفَ بَيْنَهُمَا) [الكفاية للخطيب: ص606].

ثالثاً: إن وجود تعارضٍ في الظاهر بين بعض النصوص ليس بالأمر المستغرب، ما دام فيها ما ليس منه بدٌّ من عام وخاص، ومطلق ومقيد، ومجمل ومفسّر، ومنسوخٍ وناسخٍ يرفع حكمه، وليس بالضرورة أن يكون مردُّه إلى الوضع، وقد ذكر العلماء وجوهاً كثيرةً لأسباب اختلاف الحديث:

  • منها أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم الفعل على وجهين إشارةً إلى الجواز، كأحاديث صلاة الوتر أنها سبع أو تسع أو إحدى عشرة.
  • ومنها اختلافهم في حكاية حالٍ شاهدوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل اختلافهم في حِجة الرسول، هل كان فيها قارناً أو مفرداً أو متمتعاً، وكل هذه حالات يجوز أن يفهمها الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم، لأن نية القران أو التمتع أو الإفراد مما لا يطلع عليه الناس.
  • ومنها أن يسمع الصحابي حكماً جديداً ناسخاً للأول، ولا يكون الثاني قد سمعه، فيظل الأول يروي الحكم على ما سمع.

إلى غير ذلك من الأسباب التي ذكرها المحدِّثون والعلماء.

ومع ذلك فقد تعامل المحدِّثون مع هذا النوع من الأحاديث، ووضعوا له القواعد والقوانين التي تكفل عدم وجود تعارضٍ أو تناقض بين أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما عرف بعلم: (مختلف الحديث)، وهو علمٌ جليل القدر، عظيم المنفعة، يحتاج إليه العالم والفقيه، ولا يمهر فيه إلا من وسع علمه ودقَّ فهمه وثقب رأيه.
وهذه القواعد والضوابط هي من صميم منهج المحدِّثين في النقد، ولها اتصالٌ وثيقٌ ومباشر بشروط قبول الحديث نفسها، ولذلك تفرع عنها أنواع من علوم الحديث كالشاذ والمحفوظ، والمنكر والمعروف، والناسخ والمنسوخ، والمضطرب والمعلل.
فالحديث المقبول إذا عارضه حديث ضعيف طُرِح الحديث الضعيف وحُكِمَ عليه بأنه منكر، ويكون معارضه هو المعروف.

وأما إذا عارضه حديث من رواية الثقات -ولا نسميه الآن صحيحاً- فإننا ننظر في طبيعة النصين وفي دلالتهما:
فإما أن يمكن الجمع بين الحديثين المختلفين، وإبداء وجه من التفسير للحديث المشكل يزيل الإشكال عنه، وينفي تعارضه مع غيره، فيتعين المصير إليه، وهذا هو الأكثر الأغلب في تلك الأحاديث.

ومن أمثلة ذلك في أحاديث الأحكام حديث: ((إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث))
[رواه أحمد والأربعة والدارقطني والبيهقي وابن حبان عن ابن عمر رضي الله عنهما، لكن لفظ ابن ماجه: “إذا بلغ الماء قلتين؛ لم ينجسه شيء”، ورواه الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه: “إذا بلغ الماء قلتين فما فوق ذلك؛ لم ينجسه شيء”.

وحديث: ((خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه))[أبو داود والترمذي والنسائي].

فالأول: ظاهره طهارة القلتين [القلتان: واحدتهما قلة، وهي الجرة، سميت بذلك؛ لأن الرجل العظيم يقلها بيديه، أي يرفعها، يقال: قلَّ الشيء وأقله: إذا رفعه. وقدرها الفقهاء بخمسمائة رطل عراقي تقريباً، وتساوي باللتر: 160.5 لتراً تقريباً] تغير أم لا،
والثاني: ظاهره طهارة غير المتغير سواء أكان قلتين أم أقل، فخُصَّ عموم كل منهما بالآخر.

ومن أمثلته في غير أحاديث الأحكام التعارض بين أحاديث إثبات العدوى، كحديث: ((لا يوردن مُمرضٌ على مُصح)) [البخاري، ومسلم]، وحديث: ((… وفِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد)) [البخاري]، وأحاديث نفيها: كحديث: ((لا عدوى ولا طيرة)) [البخاري ومسلم]

قال الإمام النووي: (قال جمهور العلماء: يجب الجمع بين هذين الحديثين، وهما صحيحان، قالوا: وطريق الجمع أن حديث “لا عدوى” المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى، وأما حديث “لا يورد ممرض على مصح” فأرشد فيه إلى ترك ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره، فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله، وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره). [شرح صحيح مسلم: 4/213 – 214]

وأما إذا تعذر الجمع بين الحديثين فلا يخلو الأمر من أحد حالين:

الأول: أن يتبين لنا بعد استعمال التاريخ أن أحد النصين جاء بعد الآخر وحلَّ محله، فلا تعارض أيضاً، لأن الشارع نسخ الحكم المتقدم بالحكم المتأخر، فيُعمَل بالناسخ ويتُرَك المنسوخ.
والثاني: أن لا تقوم دلالةٌ على النسخ، فنلجأ حينئذ إلى الترجيح، ويعمل بالأرجح منهما والأقوى، ويكون هو الصحيح، ويسمى: “المحفوظ“، ويكون المرجوح: “شاذاً” أو “معللاً” وهو المردود.

وقد عُني العلماء بأوجه الترجيح وأنواعها، و تتبعوها ودققوها بجزئياتها وكلياتها حتى زادت جزئياتها على مئة وجه من أوجه الترجيح، كالترجيح بحال الرواة، ووجوه التحمل، وكيفية الرواية، والترجيح بأمر خارجي، إلى غير ذلك من وجوه الترجيح.
ولم يكتف العلماء بتأصيل القواعد والضوابط في هذا الباب، بل درسوا هذه الأحاديث دراسة تفصيلية، فتناولوا كل حديث بالشرح، وأجابوا عن الإشكالات التي قد ترد عليه وعلى النصوص الأخرى، وذلك في شروحهم الحافلة التي صنفوها على كتب السنة، وأفردوا لهذا اللون من الأحاديث مؤلفات خاصة، جمعت الأحاديث المشكلة والتي ظاهرها التعارض، مبينين وجه الصواب فيها بما يزيل أي إشكال، ويرد على كل  متهمٍ مفترٍ، ومن تلك المؤلفات:

  • اختلاف الحديث للإمام الشافعي
  • تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة
  • مشكل الآثار للطحاوي
  • مشكل الحديث لأبي بكر بن فَورَك.

ادَّعى المستشرق الإنكليزي رينولد نيكلسون (ت 1945م) في مؤلفه (تاريخ العرب الأدبي في الجاهلية وصدر الإسلام): أنَّ المحدِّثين جمعوا كثيراً من الأحاديث المتناقضة دون توفيقٍ أو تأويل، ونسبوها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مما أدى إلى تعارض بعض متون السنة النبوية الشريفة وصعوبة التوفيق بينها. 

ومما قاله: (تفاخر بعض المحدِّثين بأنَّ الإسناد من خصائص أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنَّه لم يسبق هذه الأمة غيرها في تحرّي الدقة والموضوعية عند نقل الأخبار المقدسة وتوثيقها، إلا أنَّ الأحاديث المتعارضة عند المسلمين تدلُّ على خلاف ذلك حيث توجد في السُّنَّة متونٌ كثيرةٌ متعارضةٌ حيرت المحدِّثين ولم يجدوا سبيلاً للتوفيق بينها).
(ومتن الحديث هو لفظه، وسنده هو رواته وصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلّم).

وقال بعضهم: (وُضعت مبادئ شكليةٌ لإزالة التعارض بين الأحاديث النبوية، وزعم أصحاب الحديث أنها تستهدف تصحيح علل الحديث).
وعقد محمود أبو رية (ت 1957م) في كتابه: (أضواء على السُّنَّة المحمدية) فصلاً بعنوان: (أحاديث مُشكلة)، ذكر فيه أحاديث أشكلت عليه هو، بعضها مرفوعٌ وبعضُها موقوفٌ، ومنها ما هو صحيحٌ ومنها ما هو غير صحيح، ليؤكد من خلال ذلك هذه الدعوى المفتراة التي ألصقها المستشرقون بالإسلام: دعوى التناقض بين الروايات والأخبار، مما يجعل ذلك سبباً وجيهاً بزعمهم للتشكيك والطعن في الحديث النبوي.

والجواب على هذا الكلام وأمثاله بالآتي:

أولاً: هذه الشبهة في الحقيقة ليست جديدة، فقد وجَّهها بعض أهل الأهواء إلى المحدِّثين من قديم، وتصدَّى للرد عليهم أئمَّة الإسلام في ذلك الحين ومنهم الإمام ابن قتيبة الدينوري صاحب كتاب: (تأويل مختلف الحديث)؛ الذي تكلَّم في مقدِّمته عن الباعث له على تأليف هذا الكتاب، وكان مما ذكره فيه: انتقاص أهل الكلام من أهل الحديث وامتهانهم لهم، ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض حتى وقع الاختلاف، وكثرت النِّحَل …إلخ. (النِحَل: المذاهب)
ثم تبعهم في ذلك المستشرقون ومقلِّدوهم الذين رددوا هذه الدعاوى متغافلين أصول المحدِّثين وقواعدهم في التعامل مع مثل هذا النوع من الأحاديث.

ثانياً: من القضايا التي يجب أن تكون مسلَّمةً لدى كل مسلم أن دين الله محفوظٌ من التناقض والتعارض، وشريعته منزَّهةٌ عن التضاد والتضارب، لأنَّها مُنزلة من عند الله العليم الحكيم الذي لا تتضارب أقواله ولا تتنافر أحكامه.
فلا يمكن أن يوجد دليلان صحيحان من حيث الثبوت، صريحان من حيث الدلالة، يناقض أحدهما الآخر مناقضةً تامَّةً واضحةً بحيث يتعذر الجمع والترجيح بينهما بحالٍ من الأحوال.
والقول بوجود تناقضٍ بين أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم:

  • إما أن يأتي من عدم المعرفة بعلم الحديث، بحيث لا يميِّز القارئ بين الصحيح وغيره، فيورد أحاديث متعارضةً لكن لا أصل لها، أو يعارض حديثاً صحيحاً بآخر مختلقٍ موضوع.
  • وإما أن يأتي من عدم الفهم وضعف الفقه في حقيقة المراد بالنص.

وقد كان الإمام ابن خزيمة وهو ممن اشتهر عنه الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض يقول: (لَا أَعْرِفُ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَانِ بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَلْيَأْتِنِي بِهِ لِأُؤَلِّفَ بَيْنَهُمَا) [الكفاية للخطيب: ص606].

ثالثاً: إن وجود تعارضٍ في الظاهر بين بعض النصوص ليس بالأمر المستغرب، ما دام فيها ما ليس منه بدٌّ من عام وخاص، ومطلق ومقيد، ومجمل ومفسّر، ومنسوخٍ وناسخٍ يرفع حكمه، وليس بالضرورة أن يكون مردُّه إلى الوضع، وقد ذكر العلماء وجوهاً كثيرةً لأسباب اختلاف الحديث:

  • منها أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم الفعل على وجهين إشارةً إلى الجواز، كأحاديث صلاة الوتر أنها سبع أو تسع أو إحدى عشرة.
  • ومنها اختلافهم في حكاية حالٍ شاهدوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل اختلافهم في حِجة الرسول، هل كان فيها قارناً أو مفرداً أو متمتعاً، وكل هذه حالات يجوز أن يفهمها الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم، لأن نية القران أو التمتع أو الإفراد مما لا يطلع عليه الناس.
  • ومنها أن يسمع الصحابي حكماً جديداً ناسخاً للأول، ولا يكون الثاني قد سمعه، فيظل الأول يروي الحكم على ما سمع.

إلى غير ذلك من الأسباب التي ذكرها المحدِّثون والعلماء.

ومع ذلك فقد تعامل المحدِّثون مع هذا النوع من الأحاديث، ووضعوا له القواعد والقوانين التي تكفل عدم وجود تعارضٍ أو تناقض بين أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما عرف بعلم: (مختلف الحديث)، وهو علمٌ جليل القدر، عظيم المنفعة، يحتاج إليه العالم والفقيه، ولا يمهر فيه إلا من وسع علمه ودقَّ فهمه وثقب رأيه.
وهذه القواعد والضوابط هي من صميم منهج المحدِّثين في النقد، ولها اتصالٌ وثيقٌ ومباشر بشروط قبول الحديث نفسها، ولذلك تفرع عنها أنواع من علوم الحديث كالشاذ والمحفوظ، والمنكر والمعروف، والناسخ والمنسوخ، والمضطرب والمعلل.
فالحديث المقبول إذا عارضه حديث ضعيف طُرِح الحديث الضعيف وحُكِمَ عليه بأنه منكر، ويكون معارضه هو المعروف.

وأما إذا عارضه حديث من رواية الثقات -ولا نسميه الآن صحيحاً- فإننا ننظر في طبيعة النصين وفي دلالتهما:
فإما أن يمكن الجمع بين الحديثين المختلفين، وإبداء وجه من التفسير للحديث المشكل يزيل الإشكال عنه، وينفي تعارضه مع غيره، فيتعين المصير إليه، وهذا هو الأكثر الأغلب في تلك الأحاديث.

ومن أمثلة ذلك في أحاديث الأحكام حديث: ((إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث))
[رواه أحمد والأربعة والدارقطني والبيهقي وابن حبان عن ابن عمر رضي الله عنهما، لكن لفظ ابن ماجه: “إذا بلغ الماء قلتين؛ لم ينجسه شيء”، ورواه الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه: “إذا بلغ الماء قلتين فما فوق ذلك؛ لم ينجسه شيء”.

وحديث: ((خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه))[أبو داود والترمذي والنسائي].

فالأول: ظاهره طهارة القلتين [القلتان: واحدتهما قلة، وهي الجرة، سميت بذلك؛ لأن الرجل العظيم يقلها بيديه، أي يرفعها، يقال: قلَّ الشيء وأقله: إذا رفعه. وقدرها الفقهاء بخمسمائة رطل عراقي تقريباً، وتساوي باللتر: 160.5 لتراً تقريباً] تغير أم لا،
والثاني: ظاهره طهارة غير المتغير سواء أكان قلتين أم أقل، فخُصَّ عموم كل منهما بالآخر.

ومن أمثلته في غير أحاديث الأحكام التعارض بين أحاديث إثبات العدوى، كحديث: ((لا يوردن مُمرضٌ على مُصح)) [البخاري، ومسلم]، وحديث: ((… وفِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد)) [البخاري]، وأحاديث نفيها: كحديث: ((لا عدوى ولا طيرة)) [البخاري ومسلم]

قال الإمام النووي: (قال جمهور العلماء: يجب الجمع بين هذين الحديثين، وهما صحيحان، قالوا: وطريق الجمع أن حديث “لا عدوى” المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى، وأما حديث “لا يورد ممرض على مصح” فأرشد فيه إلى ترك ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره، فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله، وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره). [شرح صحيح مسلم: 4/213 – 214]

وأما إذا تعذر الجمع بين الحديثين فلا يخلو الأمر من أحد حالين:

الأول: أن يتبين لنا بعد استعمال التاريخ أن أحد النصين جاء بعد الآخر وحلَّ محله، فلا تعارض أيضاً، لأن الشارع نسخ الحكم المتقدم بالحكم المتأخر، فيُعمَل بالناسخ ويتُرَك المنسوخ.
والثاني: أن لا تقوم دلالةٌ على النسخ، فنلجأ حينئذ إلى الترجيح، ويعمل بالأرجح منهما والأقوى، ويكون هو الصحيح، ويسمى: “المحفوظ“، ويكون المرجوح: “شاذاً” أو “معللاً” وهو المردود.

وقد عُني العلماء بأوجه الترجيح وأنواعها، و تتبعوها ودققوها بجزئياتها وكلياتها حتى زادت جزئياتها على مئة وجه من أوجه الترجيح، كالترجيح بحال الرواة، ووجوه التحمل، وكيفية الرواية، والترجيح بأمر خارجي، إلى غير ذلك من وجوه الترجيح.
ولم يكتف العلماء بتأصيل القواعد والضوابط في هذا الباب، بل درسوا هذه الأحاديث دراسة تفصيلية، فتناولوا كل حديث بالشرح، وأجابوا عن الإشكالات التي قد ترد عليه وعلى النصوص الأخرى، وذلك في شروحهم الحافلة التي صنفوها على كتب السنة، وأفردوا لهذا اللون من الأحاديث مؤلفات خاصة، جمعت الأحاديث المشكلة والتي ظاهرها التعارض، مبينين وجه الصواب فيها بما يزيل أي إشكال، ويرد على كل  متهمٍ مفترٍ، ومن تلك المؤلفات:

  • اختلاف الحديث للإمام الشافعي
  • تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة
  • مشكل الآثار للطحاوي
  • مشكل الحديث لأبي بكر بن فَورَك.

تدوين السنة بين الحجية والمغالطة

تدوين السنة بين الحجية والمغالطة
تدوين السنة بين الحجية والمغالطة
تدوين السنة بين الحجية والمغالطة

تقول الشبهة : إن تأخر تدوين السنّة النبوية دليل على عدم حجيتها
وعدم حفظ الله لها !

تفترض هذه الشبهة مغالطةً تربط الحفظ والحُجّية بالتدوين والكتابة، وتوحي بأن الكتابة والتدوين هي السبيل الوحيد للحفظ عن الخلط والتحريف، بينما يبني علماء الحديث منهجيتهم في قبول السنة وحفظها على جملة من القواعد المنطقية العلمية  التي يرتضيها العقل السليم والفكر القويم.

والواقع يشهد بوضوحٍ على كثيرٍ من التحريفات والادعاءات والتضليلات التي تشوب العديد من المدونات القديمة، سواء  الدينية والتاريخية منها أو حتى العلمية، فلم تستطع الكتابة والتدوين لها أن تحفظها عن هذه الأخطاء في النقل.

هذا في حال افترضنا أن السنة لم تدوَّن أبداً منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عصر التدوين في القرن الأول الهجري، وهذا الافتراض ليس دقيقاً فالعديد من مصادر السنة جاءت من مدوَّنات متفرقة تركها الصحابة على شكل صحف ، كانوا يروون  الحديث منها للناس.

وفي بداية عهد الصدّيق رضي الله عنه كانت التوراة مدوَّنة والإنجيل كذلك، ولم يكن القرآن مجموعاً مدوناً في مصحفٍ واحد، فهل هذا يعطي للتوراة والإنجيل قوةً في الإثبات والقبول عن القرآن في ذلك الوقت؟

 إن حجية القرآن لم تأتِ مِن كتابته حتى نقول بوجوب كتابة السُّنة النبوية، ثم إن حجية السُّنة لا تأتي مِن كتابتها؛ إنما مِن حفظها ونقلها على مرِّ العصور، والكتابةُ لا تعني القطعَ بالشيء؛ لأن ما يُقطَع به في العلم هو عدالة ناقل الشيء، والتحقُّقُ منه، ضمن قواعد التأكد من صحة الخبر، فنقول: الكتابةُ ليست من لوازم الحُجِّية، وكتابة الشيء لا تفيد القطع به، فكثير من المعلومات التي يتناقلها الناس قديمًا كانت تعتمد على المشافهة والسماع أكثر؛ وذلك في سائر الأديان، و إذا تعارَضَ عند العلماء حديثٌ مسموع مع آخر مكتوب، أُخذ بالمسموع.

 لا يُوجَد تلازمٌ بين عدم الكتابة و عدم الحجية، فهل نستدلُّ على حجية القرآن؛ لأنه مكتوب فقط؟ نقول أن الحجية تثبت بأشياء كثيرة؛ منها التواتر، ونقل العدول الثقات، ومنها الكتابة، وليس النقل عن طريق الحفظ أقل صحة وضبطاً من الكتابة، وخاصة من قوم عُرِفوا بقوة الحافظة، فاعتمادهم على ذاكرتهم التي انضبط  الأخذ عنها بالقواعد العلمية المنطقية كان أساساً لما ينقلونه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتدارسونه.

تفترض هذه الشبهة مغالطةً تربط الحفظ والحُجّية بالتدوين والكتابة، وتوحي بأن الكتابة والتدوين هي السبيل الوحيد للحفظ عن الخلط والتحريف، بينما يبني علماء الحديث منهجيتهم في قبول السنة وحفظها على جملة من القواعد المنطقية العلمية  التي يرتضيها العقل السليم والفكر القويم.

والواقع يشهد بوضوحٍ على كثيرٍ من التحريفات والادعاءات والتضليلات التي تشوب العديد من المدونات القديمة، سواء  الدينية والتاريخية منها أو حتى العلمية، فلم تستطع الكتابة والتدوين لها أن تحفظها عن هذه الأخطاء في النقل.

هذا في حال افترضنا أن السنة لم تدوَّن أبداً منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عصر التدوين في القرن الأول الهجري، وهذا الافتراض ليس دقيقاً فالعديد من مصادر السنة جاءت من مدوَّنات متفرقة تركها الصحابة على شكل صحف ، كانوا يروون  الحديث منها للناس.

وفي بداية عهد الصدّيق رضي الله عنه كانت التوراة مدوَّنة والإنجيل كذلك، ولم يكن القرآن مجموعاً مدوناً في مصحفٍ واحد، فهل هذا يعطي للتوراة والإنجيل قوةً في الإثبات والقبول عن القرآن في ذلك الوقت؟

 إن حجية القرآن لم تأتِ مِن كتابته حتى نقول بوجوب كتابة السُّنة النبوية، ثم إن حجية السُّنة لا تأتي مِن كتابتها؛ إنما مِن حفظها ونقلها على مرِّ العصور، والكتابةُ لا تعني القطعَ بالشيء؛ لأن ما يُقطَع به في العلم هو عدالة ناقل الشيء، والتحقُّقُ منه، ضمن قواعد التأكد من صحة الخبر، فنقول: الكتابةُ ليست من لوازم الحُجِّية، وكتابة الشيء لا تفيد القطع به، فكثير من المعلومات التي يتناقلها الناس قديمًا كانت تعتمد على المشافهة والسماع أكثر؛ وذلك في سائر الأديان، و إذا تعارَضَ عند العلماء حديثٌ مسموع مع آخر مكتوب، أُخذ بالمسموع.

 لا يُوجَد تلازمٌ بين عدم الكتابة و عدم الحجية، فهل نستدلُّ على حجية القرآن؛ لأنه مكتوب فقط؟ نقول أن الحجية تثبت بأشياء كثيرة؛ منها التواتر، ونقل العدول الثقات، ومنها الكتابة، وليس النقل عن طريق الحفظ أقل صحة وضبطاً من الكتابة، وخاصة من قوم عُرِفوا بقوة الحافظة، فاعتمادهم على ذاكرتهم التي انضبط  الأخذ عنها بالقواعد العلمية المنطقية كان أساساً لما ينقلونه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتدارسونه.