تقديس العلم التجريبي (العلمويّة) نقض الميتافيزيقيا
تعريف العلمويّة وظهورها:
(العلمويَّة) أو (النزعة التعالمية) مصطلح يعني: أنَّ العِلم التجريبيّ يستطيع أن يزوّد الجنس البشري بفلسفةٍ شاملةٍ في الحياة، ويحلُّ جميع المشكلات، وأنّه يشتمل على أرفع القيم وأرقاها. [انظر: قاموس علم الاجتماع لمحمَّد عاطف غيث: (ص: 403)].
وقد شهد القرن التاسع عشر أقوى صياغةٍ للعلمويّة، ومن أشكالها: النظريّة الوضعيّة.
والنظريّة الوضعيّة نظريّةٌ فلسفيّة، تنصُّ على أنّ كلَّ المعارف الإيجابيّة تستند إلى الظواهر الطبيعيّة وخصائصها وعلاقاتها، كما تمّ التحقّق منها بواسطة العلوم التجريبيّة الوضعيّة المنطقيّة، وهي نظريّةٌ تطوّرت من الوضعيّة المنطقيّة التي تنصّ على أنّ جميع العبارات ذات المعنى إمّا تحليليّة أو قابلة للتَّحقّق بشكلٍ قاطع.
الفلسفة الوضعيّة والعلمويّة (فلسفة كونت):
الفلسفة الوضعيّة أعمّ من الفلسفة التجريبيّة التي تعتبر أنّ جميع أنواع المعرفة ترتكز على التجربة؛ لأنّ الفلسفة الوضعيّة تشتمل على شكلين: الشكل الأول: الوضعيّة المنطقيّة، والشكل الثاني: العلموية أو فلسفة كونت، وإليك البيان:
الشكل الأول: (الوضعيّة المنطقيّة):
أوَّل من استخدم مصطلح (الوضعية) هو (سان سيمون) ليشير به إلى منهجٍ علميٍّ يمتدُّ ليشمل الفلسفة أيضاً، ثمَّ تبنّاه بعد ذلك (أوجست كونت) ليؤسِّس به حركةً فلسفيةً كبيرةً انتشرت بقوَّةٍ في كلِّ بلاد العالم الغربيّ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والعقود الأولى من القرن العشرين.
وتطوّرت الوضعيّة المنطقيّة من جانب دائرة فيينّا بزعامة الفيزيائيّ والفيلسوف (موريتس شليك)، وعدد من كبار الفلاسفة والعلماء، وكان مبدؤها فكرةً خلافيّةً تسمّى: (معيار التحقّق من المعنى)، ووفقاً لهذا المبدأ فإنّ كلّ الأقوال التي لا يمكن التحقّق منها بالإدراك الحسّي هراءٌ لا معنى لها، ما عدا التعبيرات الرياضيّة والمنطقيّة التي يمكن إثباتها بالدليل والبرهان.
وكانت دائرة فيينّا تهدف من ذلك إلى تخليص العلم والفلسفة من الأقوال والأفكار التي لا يمكن التحقّق من صحّتها.
الشكل الثاني: العلمويّة أو (فلسفة كونت):
انطلق (أوجست كونت) في فلسفته من الفلسفة التجريبيّة الشّكّيّة للفيلسوف (ديفيد هيوم) الذي قرّر أنّ المعرفة الصحيحة هي التي تحصل عن طريق الحواسّ، وأنّ كلّ شيءٍ لا تدركه الحواسّ، أو ينتمي لعالم الغيب لا يمكن أن يكون ادّعاءً صحيحاً.
وبناء على ذلك أهمل (كونت) البحث في العلل والغايات، وكلّ تفكيرٍ في الأسباب التي نتجت عنها مسبّباتها المدركة بالحسّ مباشرة، وعلّق كلَّ ثقته وإيمانه بنتائج العلوم الطبيعية الحديثة.
وزعم كونت أنَّ العقل البشري مرّ منذ تاريخه الأوَّل حتَّى عصر العلوم التجريبية بثلاث حالات:
الحالة الأولى: الحالة اللاهوتية: فقد كان دأْبُ العقل الإنساني فيها البحث عن كُنه الكائنات وأصلها ومصيرها، مُحاولاً إرجاع كلِّ طائفةٍ من الظواهر إلى مبدأ مشتركٍ بعلل، وأنّ هذه الحالة اللاهوتية تدرَّجت وفق ثلاث درجات:
– الدرجة الأولى: كانت في بَدءِ التصوّرات العقلية فيه (الفَتَشِيَّة)، وهي الإيمان بالأفتاش مفردها (فَتَش) وهي الأشياء التي كانت الشعوب البدائية تعتقد أنَّ لها قدرةً سحريَّةً، أو قدرةً غيبية غيرَ مُدركةٍ بالحواسّ على حماية صاحبها، أو مساعدته.
– الدرجة الثانية: مرحلة تطوّرَ إليها العقل البشري في الحالة اللاهوتية، وهي (تعدّد الآلهة).
وقد تصوَّر العقل في هذه المرحلة أنّ التصرّفات في الظواهر الكونية آثارٌ لموجوداتٍ غير منظورة، وأنَّ هذه الموجودات ذاتُ عَالَمٍ علوي، فهناك إلهٌ للمطر وإلهٌ للشمس ونحو ذلك.
والعقل في هذه الحالة يجعل تلك الآلهة التي تصوَّرها عِللاً وأسباباً خارجةً عن الكون ومفارقًة له.
– الدرجة الثالثة التي تطوّر إليها العقل البشري في الحالة اللاهوتية هي التوحيد: أي: جمع الآلهة المتعدِّدة في إلهٍ واحدٍ مفارقٍ لكلِّ الظواهر المادية الطبيعية.
الحالة الثانية التي مرَّ بها العقل البشري في تَطَوُّره: (الحالة الميتافيزيقية).
رأى (كونت) أنّ العقل البشري في هذه الحالة قد صرف عن تصوّره العِلَلَ المتعدِّدة وكذلك العلّة الواحدة، إذا كانت مفارقةً للطبيعة، وجَعَل بدلَ ذلك عِللاً ذاتيَّة توهَّمها موجودةً في باطن الأشياء الطبيعية، من وراء المنظور منها.
وهذه العِلل ليست أكثر من معانٍ مجرَّدة جَسَّمها له الخيال، فقال العقل: (العِلّة الفاعلة- القوة الفاعلة- الجوهر- الماهية- النفس- الحرية– الغاية) ونحو ذلك.
واندفع العقل بمقتضى هذا التصوّر إلى أن يعتقد بوجود قوى متعدّدةٍ في بواطن الأشياء هي من وراء المشهود منها، بعدد أقسام الظواهر الطبيعيّة وطوائفها، مثل: (القوّة الكيميائية – القوَّة الحيوية) ونحو ذلك.
ثمّ انتقل العقل من تعدّدية هذه القوى إلى توحيدها، في قوّةٍ كليّةٍ أوَّليَّةٍ واحدةٍ، هي (الطبيعة).
وإنَّ هذه (الحالة الميتافيزيقيّة) قد بلغت أوجَها في مذهب (وحدة الوجود) الذي يجمع في (الطبيعة) جميع قوى الميتافيزيقية.
الفرق بين الحالة اللاهوتيّة وحالة الميتافيزيقيا:
1- إنّ المعاني المجرّدة في حالة الميتافيزيقيا تحلُّ محلّ المشخّص في الحالة اللاهوتيّة، وإنَّ الاستدلال الفكريَّ في حالة الميتافيزيقيا يحلُّ محلَّ الخيال في الحالة اللاهوتيّة.
2- إنَّ العقل في حالة الميتافيزيقيا يضع (قوى) في ذات الأشياء، ثمّ يجمعها في قوّةٍ واحدةٍ وهي الطبيعة، فَيُضْعِف من سلطان القوى المفارقة للأشياء الطبيعية، أمّا في حالة اللاهوت فيعتقد العقل أنّ هناك إلهاً مفارقاً للطبيعة يتحكّم في الكون عن إرادة.
3- الفكر الميتافيزيقي: فكرٌ مطلقٌ أعمُّ من اللاهوت، ولا يعنيه الدين، وإنَّما تعلُّقُه بالظواهر الطبيعيّة والكون والحدس والخيال، أمّا الفكر اللاهوتيّ فمحصورٌ بالدين والإله.
4- يرى المفكّرون والفلاسفة الميتافيزيقيا أرقى وأكثر عقلانيّةً من اللاهوتيّة، فإذا أنكروا الميتافيزيقيا فإنكارهم للّاهوت من باب أولى.
الحالة الثالثة التي مرّ بها العقل البشريّ في تَطَوُّره، هي: (الحالة الواقعية).
رأى (كونت) أنَّ العقل في (الحالة الواقعيّة) يدرك أنَّ الحصول على معارفٍ مطلقةٍ أمرٌ متعذّر غير ممكن، لذلك فهو يقتصر على التعرّف على الظواهر الكونيّة، ويبحث ليكتشف قوانين هذه الظواهر، ويرتّبها من الخاص إلى العامّ.
ورأى أنَّه في هذه الحالة تحلُّ الملاحظة للظواهر الكونية محلّ الخيال الذي كان في الحالة الأولى، ومحلّ الاستِدلالِ الفكريّ الذي كان في الحالة الثانية، وتأتي التجربة فتدعم الملاحظة أو تعدّلها أو تبدّلها.
وفي هذه الحالة يجعل الفكر قوانين الطبيعة (أي: العلاقات المطّردة بين الظواهر) بدل العلل والأسباب.
والخلاصة: فإنّ اللاهوت ينجم أوَّلاً، ثمّ تظهر الميتافيزيقيا فتعارضه، وأخيراً: يولد العلم الواقعي (أي: العلم القائم على الملاحظة والتجربة) الذي هو وحده القادر على البقاء، لأنَّ الحالتين السابقتين حالتان قائمتان على الخيال، وبسبب ذلك كانتا دائماً مَبْعَثَ ظنونٍ متجدّدة، ومناقشاتٍ جديدة.
بينما يقوم العلم التجريبيّ مستنداً إلى الواقع، فيجمع العقول على وحدة الرأي، ويحلُّ محلَّهُما تِلقائيّاً، إذ تسقطان من أنفسهما.
الإلحاد وإنكار اللاهوت في هذه النظريّة:
اعترف كونت بأنّ علوم البشر قاصرةٌ عن إدراك كلِّ شيء، وأنّ العلوم التجريبيّة لا تستطيع أن تغطّي كلّ الظواهر، فقال: (إنّ التجربة ستبقى محدودةً دائماً بالنسبة إلى الظواهر الطبيعية التي لا نستطيع حصرها؛ لذلك فإنَّ كثيراً من هذه الظواهر ستبقى خارج علومنا) [كواشف زيوف (ص: 413)]، ومع هذا فقد أنكر وجود خالقٍ للكون كما تقرّر؛ لأنّ إثبات وجود الخالق خارج إطار العلوم التجريبيّة، وكلّ ما لم تثبته العلوم التجريبيّة ولم تدركه الحواسّ فهو وهم.
وبناءً على ذلك فإنّ الحداثيّين ومتبنّي هذه النظرة الفلسفيّة يرون أنّ الإنسان في عصر العلوم التجريبيّة ليس بحاجةٍ إلى إثبات إلهٍ أصلاً؛ لأنّ كلّ الحوادث العالميّة والظواهر الطبيعيّة لا بدّ أن تعود إلى سببٍ طبيعيٍّ يمكن تعليله تعليلاً علميّاً، حتَّى ولو لم نكتشفه، ومن ثمّ فلم يبق فراغٌ يسدّه الاعتقاد بوجود الله تعالى، ولا داعي يدفع للإيمان به.
وبما أنَّ الظواهر متباينة، فمن المتعذّر علينا أن نرُدّ العلوم بعضها إلى بعض، وكذلك من المتعذّر أن نَرُدَّ القوانين إلى قانونٍ واحد، لذلك فلا يمكن أن تنتهي الحالة الواقعية إلى وحدةٍ مطلقة، مثل (الله) في الحالة اللاهوتية، ومثل (الطبيعة) في الحالة الميتافيزيقيّة. [كواشف زيوف (ص: 408- 414)].
ومن خلال الارتقاء المستمرّ في الوضعيّة أو العلمويّة سيتلاشى الدين، وتتحوّل الفلسفة والعلوم الإنسانيّة إلى مجرّد مبادئ طبيعيّة، وتصبح المعارف البشريّة هي المنتج المباشر للعلم، وأيُّ فكرةٍ خارج مجال العلم ستكون ضرباً من الخيال والخرافة والوهم. [صحيفة (المحطة) الإلكترونيّة، بقلم: إدريس امجيش، بتاريخ 14 نوفمبر 2017م]
وتقوم الإلزامية الوضعية أو العلمويّة على مبدأ أنَّ العلم هو المصدر الصادق والوحيد للمعرفة والحقائق، وتتَّخذ الوضعية موقفاً عدائياً من الدين، ولهذا فهي تنكر كلَّ جوهرٍ يذهب وراء حقائق وقوانين العلم، وترفض أيَّ نوعٍ من الميتافيزيقيا، وتستبدل بالدين المعروف ديناً وضعياً، كما وضعت أخلاقاً وسياسةً وضعيةً. [انظر: Nicola Abbagnano, Posivitism, The Encyclopedia of Philosophy Macmillan Publishing N Y Q London p 414]
توظيف العلمويّة في محاربة الدين:
وقد تبنّت المؤسّسات والسياسات الغربيّة هذه النظريّة، وأخذت تنسب فكرة التخلّف والتراجع والشؤم والشقاء إلى الدِّين، وأنّه لا يصلح للحياة العلميّة المتطوّرة، يقول علي الكنز: (… فهل يمكن لنا أن ندلي بأنَّ الوعي الدينيَّ أو التشبُّث بالدين هو مُزامنٌ للفترات التراجعية والمراحل المتقهقرة، وأنَّ الفكر العقلاني يزامن الفترات التصاعدية أو المتطورة، ونقول أن ذلك هو تطبيقٌ للقانون التاريخيّ…
وعليه؛ فإنَّ الدين هو بمثابة تعبيرٍ عن الحزن، وبالتالي فهو انعكاسٌ لبؤس العالم وشقائه، وعكس ذلك اعتبار الفكر العقلانيّ بمثابة تعبيرٍ عن حيويَّة الوعي الجماعي الذي يعكس هذه المرَّة تطوُّر العالم وازدهاره). [الإسلام والهوية، الدين في المجتمع العربي: (ص:99)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1990].
مزج العلمويّة بالآداب والفنون:
إنّ الغرب في ترويجه لفكرة إنكار الميتافيزيقيا وإنكار الألوهيّة _وهي في نظرهم أدنى من إنكار الميتافيزيقيا_ لم يقفوا عند إدخالهما إلى الفلسفة والفكر، بل مزجوهما بالأدب والفنون لإيصالهما إلى جميع الأوساط الشعبيّة.
فأدخلوا فكرة موت الإله في الحداثة التي باح بها (نيتشه) وقد انساق وراءه عددٌ من الأدباء الحداثيّين العرب، فضلاً عن الفلاسفة والمفكِّرين.
ومن الأدباء الذين تأثَّروا بهذه الفكرة: نجيب محفوظ الذي صرّح بالعلمويّة، فقال: (إنَّ الميتافيزيقيا تتراجع أمام الضرورات الأرضية). [الصحافة والأقلام المسمومة: (ص 189)].
وجسّد محفوظ هذا المعنى بموت الإله الذي سمّاه (الجبلاوي) عندما قتله (عرفة) الذي يرمز به إلى العلوم الحديثة في رواية (أولاد حارتنا) التي نال بها جائزة (نوبل).
يقول الدكتور عبد العظيم المطعني عن الهدف من وضع (أولاد حارتنا): هذا الهدف -باختصارٍ شديد- هو تفشيل دور الدِّين بوجهٍ عامٍّ في حلول مشكلات الحياة، وتحقيق السعادة للنَّاس فيها، وبعد وقوع ذلك التفشيل، من خلال ما ورد في الرواية، يأذن الأستاذ محفوظ للعلم الحديث أن يطلَّ برأسه إلى الوجود، ثمَّ ينمو شيئاً فشيئاً حتَّى يُصبح عملاقاً لا يُقاوم، وقادراً لا يعجز، ثمَّ يتمكَّن من القضاء على الدِّين متمثِّلاً في قتل أو موت الجبلاوي… ويهزُّ مشاعر أولاد الحارة أو الدنيا، بمخترعاته المذهلة، فينحاز الناس أو أولاد الحارة إلى عرفة وحنش، اللذَين يمثِّلان العلم الحديث، ويفضِّلونه على الدِّين عياناً جهاراً، وينخلعون عن الإطار الدِّينيّ النَّبويّ في وَضَح النَّهار؟!) [جوتنيات الرموز المستعارة لكبار “أولاد حارتنا” أو نقض التاريخ الدِّينيّ النّبويّ: (ص 8 – 9)].
وبهذا نجد أنّ تقديس العلم التجريبيّ (العلمويّة) كان أساساً يستند إليه الملحدون في إنكار اللاهوت، وإنكار الأديان، وقد حاولت المؤسَّسات الغربيّة التي تؤيّد هذه النظريّة نشر هذا الفكر وتعميمه في ميادين الحياة حتَّى أدخلته في الآدب والفنون.
وسنردُّ في المقال القادم إن شاء الله على النظريّة العلمويّة التي يجعلها الملحدون أساساً يعتمدون عليه في إنكار الذَّات الإلهيّة.