تقديس العلم التجريبي (العلمويّة) نقض الميتافيزيقيا

غلاف تقديس العلم التجريبي
تقديس العلم التجريبي

تقديس العلم التجريبي (العلمويّة) نقض الميتافيزيقيا

Loading

تعريف العلمويّة وظهورها:

(العلمويَّة) أو (النزعة التعالمية) مصطلح يعني: أنَّ العِلم التجريبيّ يستطيع أن يزوّد الجنس البشري بفلسفةٍ شاملةٍ في الحياة، ويحلُّ جميع المشكلات، وأنّه يشتمل على أرفع القيم وأرقاها. [انظر: قاموس علم الاجتماع لمحمَّد عاطف غيث: (ص: 403)].

وقد شهد القرن التاسع عشر أقوى صياغةٍ للعلمويّة، ومن أشكالها: النظريّة الوضعيّة.

والنظريّة الوضعيّة نظريّةٌ فلسفيّة، تنصُّ على أنّ كلَّ المعارف الإيجابيّة تستند إلى الظواهر الطبيعيّة وخصائصها وعلاقاتها، كما تمّ التحقّق منها بواسطة العلوم التجريبيّة الوضعيّة المنطقيّة، وهي نظريّةٌ تطوّرت من الوضعيّة المنطقيّة التي تنصّ على أنّ جميع العبارات ذات المعنى إمّا تحليليّة أو قابلة للتَّحقّق بشكلٍ قاطع.

الفلسفة الوضعيّة والعلمويّة (فلسفة كونت):

الفلسفة الوضعيّة أعمّ من الفلسفة التجريبيّة التي تعتبر أنّ جميع أنواع المعرفة ترتكز على التجربة؛ لأنّ الفلسفة الوضعيّة تشتمل على شكلين: الشكل الأول: الوضعيّة المنطقيّة، والشكل الثاني: العلموية أو فلسفة كونت، وإليك البيان:

الشكل الأول: (الوضعيّة المنطقيّة):

أوَّل من استخدم مصطلح (الوضعية) هو (سان سيمون) ليشير به إلى منهجٍ علميٍّ يمتدُّ ليشمل الفلسفة أيضاً، ثمَّ تبنّاه بعد ذلك (أوجست كونت) ليؤسِّس به حركةً فلسفيةً كبيرةً انتشرت بقوَّةٍ في كلِّ بلاد العالم الغربيّ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والعقود الأولى من القرن العشرين.

وتطوّرت الوضعيّة المنطقيّة من جانب دائرة فيينّا بزعامة الفيزيائيّ والفيلسوف (موريتس شليك)، وعدد من كبار الفلاسفة والعلماء، وكان مبدؤها فكرةً خلافيّةً تسمّى: (معيار التحقّق من المعنى)، ووفقاً لهذا المبدأ فإنّ كلّ الأقوال التي لا يمكن التحقّق منها بالإدراك الحسّي هراءٌ لا معنى لها، ما عدا التعبيرات الرياضيّة والمنطقيّة التي يمكن إثباتها بالدليل والبرهان.

 وكانت دائرة فيينّا تهدف من ذلك إلى تخليص العلم والفلسفة من الأقوال والأفكار التي لا يمكن التحقّق من صحّتها.  

الشكل الثاني: العلمويّة أو (فلسفة كونت):

انطلق (أوجست كونت) في فلسفته من الفلسفة التجريبيّة الشّكّيّة للفيلسوف (ديفيد هيوم) الذي قرّر أنّ المعرفة الصحيحة هي التي تحصل عن طريق الحواسّ، وأنّ كلّ شيءٍ لا تدركه الحواسّ، أو ينتمي لعالم الغيب لا يمكن أن يكون ادّعاءً صحيحاً.

وبناء على ذلك أهمل (كونت) البحث في العلل والغايات، وكلّ تفكيرٍ في الأسباب التي نتجت عنها مسبّباتها المدركة بالحسّ مباشرة، وعلّق كلَّ ثقته وإيمانه بنتائج العلوم الطبيعية الحديثة.

 

وزعم كونت أنَّ العقل البشري مرّ منذ تاريخه الأوَّل حتَّى عصر العلوم التجريبية بثلاث حالات:

الحالة الأولى: الحالة اللاهوتية: فقد كان دأْبُ العقل الإنساني فيها البحث عن كُنه الكائنات وأصلها ومصيرها، مُحاولاً إرجاع كلِّ طائفةٍ من الظواهر إلى مبدأ مشتركٍ بعلل، وأنّ هذه الحالة اللاهوتية تدرَّجت وفق ثلاث درجات:

– الدرجة الأولى:  كانت في بَدءِ التصوّرات العقلية فيه (الفَتَشِيَّة)، وهي الإيمان بالأفتاش مفردها (فَتَش) وهي الأشياء التي كانت الشعوب البدائية تعتقد أنَّ لها قدرةً سحريَّةً، أو قدرةً غيبية غيرَ مُدركةٍ بالحواسّ على حماية صاحبها، أو مساعدته.

– الدرجة الثانية: مرحلة تطوّرَ إليها العقل البشري في الحالة اللاهوتية، وهي (تعدّد الآلهة).

وقد تصوَّر العقل في هذه المرحلة أنّ التصرّفات في الظواهر الكونية آثارٌ لموجوداتٍ غير منظورة، وأنَّ هذه الموجودات ذاتُ عَالَمٍ علوي، فهناك إلهٌ للمطر وإلهٌ للشمس ونحو ذلك.

والعقل في هذه الحالة يجعل تلك الآلهة التي تصوَّرها عِللاً وأسباباً خارجةً عن الكون ومفارقًة له.

– الدرجة الثالثة التي تطوّر إليها العقل البشري في الحالة اللاهوتية هي التوحيد: أي: جمع الآلهة المتعدِّدة في إلهٍ واحدٍ مفارقٍ لكلِّ الظواهر المادية الطبيعية.

الحالة الثانية التي مرَّ بها العقل البشري في تَطَوُّره: (الحالة الميتافيزيقية).

رأى (كونت) أنّ العقل البشري في هذه الحالة قد صرف عن تصوّره العِلَلَ المتعدِّدة وكذلك العلّة الواحدة، إذا كانت مفارقةً للطبيعة، وجَعَل بدلَ ذلك عِللاً ذاتيَّة توهَّمها موجودةً في باطن الأشياء الطبيعية، من وراء المنظور منها.

وهذه العِلل ليست أكثر من معانٍ مجرَّدة جَسَّمها له الخيال، فقال العقل: (العِلّة الفاعلة- القوة الفاعلة- الجوهر- الماهية- النفس- الحرية– الغاية) ونحو ذلك.

 واندفع العقل بمقتضى هذا التصوّر إلى أن يعتقد بوجود قوى متعدّدةٍ في بواطن الأشياء هي من وراء المشهود منها، بعدد أقسام الظواهر الطبيعيّة وطوائفها، مثل: (القوّة الكيميائية – القوَّة الحيوية) ونحو ذلك.

ثمّ انتقل العقل من تعدّدية هذه القوى إلى توحيدها، في قوّةٍ كليّةٍ أوَّليَّةٍ واحدةٍ، هي (الطبيعة).

وإنَّ هذه (الحالة الميتافيزيقيّة) قد بلغت أوجَها في مذهب (وحدة الوجود) الذي يجمع في (الطبيعة) جميع قوى الميتافيزيقية.

الفرق بين الحالة اللاهوتيّة وحالة الميتافيزيقيا:

1- إنّ المعاني المجرّدة في حالة الميتافيزيقيا تحلُّ محلّ المشخّص في الحالة اللاهوتيّة، وإنَّ الاستدلال الفكريَّ في حالة الميتافيزيقيا يحلُّ محلَّ الخيال في الحالة اللاهوتيّة.

2- إنَّ العقل في حالة الميتافيزيقيا يضع (قوى) في ذات الأشياء، ثمّ يجمعها في قوّةٍ واحدةٍ وهي الطبيعة، فَيُضْعِف من سلطان القوى المفارقة للأشياء الطبيعية، أمّا في حالة اللاهوت فيعتقد العقل أنّ هناك إلهاً مفارقاً للطبيعة يتحكّم في الكون عن إرادة.

3- الفكر الميتافيزيقي: فكرٌ مطلقٌ أعمُّ من اللاهوت، ولا يعنيه الدين، وإنَّما تعلُّقُه بالظواهر الطبيعيّة والكون والحدس والخيال، أمّا الفكر اللاهوتيّ فمحصورٌ بالدين والإله.

4- يرى المفكّرون والفلاسفة الميتافيزيقيا أرقى وأكثر عقلانيّةً من اللاهوتيّة، فإذا أنكروا الميتافيزيقيا فإنكارهم للّاهوت من باب أولى. 

الحالة الثالثة التي مرّ بها العقل البشريّ في تَطَوُّره، هي: (الحالة الواقعية).

 رأى (كونت) أنَّ العقل في (الحالة الواقعيّة) يدرك أنَّ الحصول على معارفٍ مطلقةٍ أمرٌ متعذّر غير ممكن، لذلك فهو يقتصر على التعرّف على الظواهر الكونيّة، ويبحث ليكتشف قوانين هذه الظواهر، ويرتّبها من الخاص إلى العامّ.

ورأى أنَّه في هذه الحالة تحلُّ الملاحظة للظواهر الكونية محلّ الخيال الذي كان في الحالة الأولى، ومحلّ الاستِدلالِ الفكريّ الذي كان في الحالة الثانية، وتأتي التجربة فتدعم الملاحظة أو تعدّلها أو تبدّلها.

وفي هذه الحالة يجعل الفكر قوانين الطبيعة (أي: العلاقات المطّردة بين الظواهر) بدل العلل والأسباب.

والخلاصة: فإنّ اللاهوت ينجم أوَّلاً، ثمّ تظهر الميتافيزيقيا فتعارضه، وأخيراً: يولد العلم الواقعي (أي: العلم القائم على الملاحظة والتجربة) الذي هو وحده القادر على البقاء، لأنَّ الحالتين السابقتين حالتان قائمتان على الخيال، وبسبب ذلك كانتا دائماً مَبْعَثَ ظنونٍ متجدّدة، ومناقشاتٍ جديدة.

بينما يقوم العلم التجريبيّ مستنداً إلى الواقع، فيجمع العقول على وحدة الرأي، ويحلُّ محلَّهُما تِلقائيّاً، إذ تسقطان من أنفسهما.

الإلحاد وإنكار اللاهوت في هذه النظريّة:

اعترف كونت بأنّ علوم البشر قاصرةٌ عن إدراك كلِّ شيء، وأنّ العلوم التجريبيّة لا تستطيع أن تغطّي كلّ الظواهر، فقال: (إنّ التجربة ستبقى محدودةً دائماً بالنسبة إلى الظواهر الطبيعية التي لا نستطيع حصرها؛ لذلك فإنَّ كثيراً من هذه الظواهر ستبقى خارج علومنا) [كواشف زيوف (ص: 413)]، ومع هذا فقد أنكر وجود خالقٍ للكون كما تقرّر؛ لأنّ إثبات وجود الخالق خارج إطار العلوم التجريبيّة، وكلّ ما لم تثبته العلوم التجريبيّة ولم تدركه الحواسّ فهو وهم.

وبناءً على ذلك فإنّ الحداثيّين ومتبنّي هذه النظرة الفلسفيّة يرون أنّ الإنسان في عصر العلوم التجريبيّة ليس بحاجةٍ إلى إثبات إلهٍ أصلاً؛ لأنّ كلّ الحوادث العالميّة والظواهر الطبيعيّة لا بدّ أن تعود إلى سببٍ طبيعيٍّ يمكن تعليله تعليلاً علميّاً، حتَّى ولو لم نكتشفه، ومن ثمّ فلم يبق فراغٌ يسدّه الاعتقاد بوجود الله تعالى، ولا داعي يدفع للإيمان به. 

وبما أنَّ الظواهر متباينة، فمن المتعذّر علينا أن نرُدّ العلوم بعضها إلى بعض، وكذلك من المتعذّر أن نَرُدَّ القوانين إلى قانونٍ واحد، لذلك فلا يمكن أن تنتهي الحالة الواقعية إلى وحدةٍ مطلقة، مثل (الله) في الحالة اللاهوتية، ومثل (الطبيعة) في الحالة الميتافيزيقيّة. [كواشف زيوف (ص: 408- 414)].

ومن خلال الارتقاء المستمرّ في الوضعيّة أو العلمويّة سيتلاشى الدين، وتتحوّل الفلسفة والعلوم الإنسانيّة إلى مجرّد مبادئ طبيعيّة، وتصبح المعارف البشريّة هي المنتج المباشر للعلم، وأيُّ فكرةٍ خارج مجال العلم ستكون ضرباً من الخيال والخرافة والوهم. [صحيفة (المحطة) الإلكترونيّة، بقلم: إدريس امجيش، بتاريخ 14 نوفمبر 2017م]

وتقوم الإلزامية الوضعية أو العلمويّة على مبدأ أنَّ العلم هو المصدر الصادق والوحيد للمعرفة والحقائق، وتتَّخذ الوضعية موقفاً عدائياً من الدين، ولهذا فهي تنكر كلَّ جوهرٍ يذهب وراء حقائق وقوانين العلم، وترفض أيَّ نوعٍ من الميتافيزيقيا، وتستبدل بالدين المعروف ديناً وضعياً، كما وضعت أخلاقاً وسياسةً وضعيةً. [انظر: Nicola Abbagnano, Posivitism, The Encyclopedia of Philosophy Macmillan Publishing N Y Q London p 414]

توظيف العلمويّة في محاربة الدين:

وقد تبنّت المؤسّسات والسياسات الغربيّة هذه النظريّة، وأخذت تنسب فكرة التخلّف والتراجع والشؤم والشقاء إلى الدِّين، وأنّه لا يصلح للحياة العلميّة المتطوّرة، يقول علي الكنز: (… فهل يمكن لنا أن ندلي بأنَّ الوعي الدينيَّ أو التشبُّث بالدين هو مُزامنٌ للفترات التراجعية والمراحل المتقهقرة، وأنَّ الفكر العقلاني يزامن الفترات التصاعدية أو المتطورة، ونقول أن ذلك هو تطبيقٌ للقانون التاريخيّ…

وعليه؛ فإنَّ الدين هو بمثابة تعبيرٍ عن الحزن، وبالتالي فهو انعكاسٌ لبؤس العالم وشقائه، وعكس ذلك اعتبار الفكر العقلانيّ بمثابة تعبيرٍ عن حيويَّة الوعي الجماعي الذي يعكس هذه المرَّة تطوُّر العالم وازدهاره). [الإسلام والهوية، الدين في المجتمع العربي: (ص:99)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1990].

مزج العلمويّة بالآداب والفنون:

 إنّ الغرب في ترويجه لفكرة إنكار الميتافيزيقيا وإنكار الألوهيّة _وهي في نظرهم أدنى من إنكار الميتافيزيقيا_ لم يقفوا عند إدخالهما إلى الفلسفة والفكر، بل مزجوهما بالأدب والفنون لإيصالهما إلى جميع الأوساط الشعبيّة.

فأدخلوا فكرة موت الإله في الحداثة التي باح بها (نيتشه) وقد انساق وراءه عددٌ من الأدباء الحداثيّين العرب، فضلاً عن الفلاسفة والمفكِّرين.

 ومن الأدباء الذين تأثَّروا بهذه الفكرة: نجيب محفوظ الذي صرّح بالعلمويّة، فقال: (إنَّ الميتافيزيقيا تتراجع أمام الضرورات الأرضية). [الصحافة والأقلام المسمومة: (ص 189)].

 وجسّد محفوظ هذا المعنى بموت الإله الذي سمّاه (الجبلاوي) عندما قتله (عرفة) الذي يرمز به إلى العلوم الحديثة في رواية (أولاد حارتنا) التي نال بها جائزة (نوبل).

يقول الدكتور عبد العظيم المطعني عن الهدف من وضع (أولاد حارتنا): هذا الهدف -باختصارٍ شديد- هو تفشيل دور الدِّين بوجهٍ عامٍّ في حلول مشكلات الحياة، وتحقيق السعادة للنَّاس فيها، وبعد وقوع ذلك التفشيل، من خلال ما ورد في الرواية، يأذن الأستاذ محفوظ للعلم الحديث أن يطلَّ برأسه إلى الوجود، ثمَّ ينمو شيئاً فشيئاً حتَّى يُصبح عملاقاً لا يُقاوم، وقادراً لا يعجز، ثمَّ يتمكَّن من القضاء على الدِّين متمثِّلاً في قتل أو موت الجبلاوي… ويهزُّ مشاعر أولاد الحارة أو الدنيا، بمخترعاته المذهلة، فينحاز الناس أو أولاد الحارة إلى عرفة وحنش، اللذَين يمثِّلان العلم الحديث، ويفضِّلونه على الدِّين عياناً جهاراً، وينخلعون عن الإطار الدِّينيّ النَّبويّ في وَضَح النَّهار؟!)  [جوتنيات الرموز المستعارة لكبار “أولاد حارتنا” أو نقض التاريخ الدِّينيّ النّبويّ: (ص 8 – 9)].

وبهذا نجد أنّ تقديس العلم التجريبيّ (العلمويّة) كان أساساً يستند إليه الملحدون في إنكار اللاهوت، وإنكار الأديان، وقد حاولت المؤسَّسات الغربيّة التي تؤيّد هذه النظريّة نشر هذا الفكر وتعميمه في ميادين الحياة حتَّى أدخلته في الآدب والفنون.

وسنردُّ في المقال القادم إن شاء الله على النظريّة العلمويّة التي يجعلها الملحدون أساساً يعتمدون عليه في إنكار الذَّات الإلهيّة. 

نسبية الحقيقة

غلاف نسبية الحقيقة
نسبية الحقيقة

نسبية الحقيقة

Loading

نسبية الحقيقة

ما المقصود بنسبيّة الحقيقة؟

المقصود بنسبيّة الحقيقة: أنّه لا يوجد حقٌّ مطلقٌ ولا حقيقةٌ ثابتةٌ في الكون، ويصحّ إطلاق الأحكام المتناقضة على الشيء الواحد، وأنّ الحكم على الشيء يتبع الظروف ووجهات النظر، فما كان حقّاً في ظرفٍ يكون باطلاً في ظرفٍ آخر، وما كان صحيحاً برؤية بعضهم يكون بنظر غيرهم باطلاً، وكلّهم على صواب.

تحرير موضع النزاع: ليس المقصود بنسبيّة الحقيقة هنا ما يتعلّق بالرأي الخاصّ وتفضيل الأشياء لدى الأشخاص، فالآراء لا خلاف في نسبيتها، ولا إشكال في الاختلاف فيها، فلكلّ واحدٍ رأيه وذوقه وتفضيله، فقد يستحسن بعضهم لوناً معيّناً ويستقبحه غيره، ويفضّل بعضهم طعماً معيّناً ويعافه الآخر، وهذا الاختلاف متَّفقٌ عليه ولا ينكره أحد.

ولكنَّ المقصود بنسبيّة الحقيقة هنا ما يتعلّق بالحقائق الثابتة بالبرهان العقليّ أو الحسيّ، كمن ينظر إلى البحر فيقول: هذا بحر، ويقول الأخر: بل هذا صحراء.

 وهذا مذهبٌ فلسفيٌّ يسمّى (المذهب النسبي)، نشأ في القرن الخامس قبل الميلاد، وقد ظهر على يد (بروتاغوراس السوفسطائي) عندما قال: يمكن إعطاء رأيين متناقضين في الشيء الواحد، وأخذ يعمل على الإقناع بهذه النظريّة بطريقة سوفسطائيّة، ثمّ توصّل إلى استنتاج متطرّف وهو: (كلُّ شيءٍ حقيقة).

وحين أراد أن ينقد أصول المعرفة، قال: (إنَّ الإنسان هو مقياس وجود ما يوجد منها، ومقياس وجود ما لا يوجد).

 ثمَّ أخذ بهذا مذهب أهل الشكّ، فطبَّقوها على الحدود -أي التعريفات- كما طبَّقوها على نواحي العلم كلِّه، فلم تعد لديهم حقيقةٌ من حقائق العلم ثابتةً أو مستقرَّةً، بل كلُّ شيءٍ في تغيّرٍ مستمرٍّ كما يقول هرقليطس. [انظر: موسوعة المعرفة الإلكترونية].

ومن البراهين التي يذكرونها لتأييد هذه النظريّة:

أنّه لو كُتِب الرقم 9 بخطٍّ كبيرٍ على الأرض، فإنّ من وقف عند رأسه سيقرؤه 9، ومن وقف في أسفله سيقرؤه 6 وكلاهما مصيب، فبتغيّر مكان القارئ تغيّرت الحقيقة!

وهذا ينطبق على كلِّ موجودٍ في الكون، وعلى كلّ فكرةٍ يطرحها المفكّرون والعلماء، فكلّ إنسانٍ يرى الحقيقة بغير ما يراها غيره، ولا مانع أن يكون الحكم متناقضاً، وكلُّهم مصيب.

بيان معاني نظريّة (نسبيّة الحقيقة) ونقض الباطل منها:

إذا قمنا بالتقسيم الحاصر في (نسبية الحقيقة) نجد لقولهم (نسبية الحقيقة) ثلاثة معان:
الأوّل: أن يراد بها أنّ معرفة الناس للحقِّ نسبيّ.
والثاني: أنّ الشيء نسبيٌّ بالنسبة إلى غيره وليس بالنسبة إلى ذاته.
والثالث: أنَّ الشيء في نفسه نسبيٌّ، فيحمل الضدّين.
وإليك البيان:

  • المعنى الأوّل: معرفة الناس للحقِّ نسبيٌّ: وهذا معنىً صحيح؛ لأنَّ كلَّ إنسانٍ يتصوّر الحقَّ حسب علمه وإحاطته به، وعلوم الناس تختلف، ونظراتهم تتباين، فقد يصيب بعضهم الحقّ، ويخطئ بعضهم، ويقارب الآخرون، كلٌّ حسب علمه وتصوّره للحقيقة، وكلُّ واحدٍ منهم يعتقد نفسه مصيباً وغيره مخطئاً.

وهذا الاختلاف ليس تعدُّداً للحقيقة بتعدّد الأنظار، بل إنَّ الحقَّ ثابتٌ، وإدراكه مرهونٌ بتصوّره تصوّراً علميّاً سليماً دقيقاً، وأمّا من لم يدرك الحقيقة إدراكاً تامّاً فيظنّ الوهم يقيناً وحقّاً، وهو مخالفٌ للحقيقة ولا يدري. 

وإذا عدنا إلى مثال الرقم 9 نجده في الحقيقة لا يعدو مغالطةً وسفسطة؛ لأنّ الكاتب عندما كتبه قصد به الرقم 9 ولم يقصد به الرقم 6 فالحقّ موافقة ما قصده الكاتب وليس ما يظهر لكلِّ قارئ.

وإنّ الذي قرأه 6 ليس مصيباً بل هو مخطئ وإن رآه 6 يقيناً وظنّ نفسه على الصواب، وإنَّما جاء الغلط لأنّه أخلّ بشرطٍ من شروط صحّة التصوّر، وهو مخالفة الاتّجاه الذي قصده الكاتب، فوقف أسفل الرقم، ولم يحقِّق شرط صحَّة القراءة.

فإن قيل: لعلَّ الكاتب قصد به 9 و6 في آنٍ واحد، فالجواب: لا يصحّ حمل الكلمة الواحدة على معنيين مختلفين في آنٍ واحدٍ كما قرّر علماء المنطق، قال عبد العزيز البخاري الحنفي: (إنَّ اللفظ بمنزلة الكسوة للمعاني، والكسوة الواحدة لا يجوز أن يكتسيها شخصان كلُّ واحدٍ منهما بكمالها في زمانٍ واحد، فكذا لا يجوز أن يدلَّ اللفظ الواحد على أحد مفهوميه بحيث يكون هو تمام معناه، ويدلُّ على المفهوم الآخر كذلك أيضاً في ذلك الزمان). [كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (1/ 41)].

وكما يختلف إدراك الحقائق حسب تصوُّر الأشياء، كذلك يكون في المعنى السلبي بالنسبة إلى رفض الحقيقة، فكلّما ازداد الجهل بالحقّ ازداد البعد عنه؛ لذا قالوا: الإنسان عدوّ ما يجهل.

فكم من جاهلٍ ينتقد حقيقةً لأنّه يحمل صورةً مشوّهةً عنها، وهو يظنّ أنّه على الصواب المطلق، فإذا زال الوهم وظهر جهله بها غيّر رأيه، وصار يدافع عمّا كان ينتقده بالأمس.

ومن أمثلة ذلك: (أرنود فان دورن) منتج الفلم المسيء للرسول  نائب رئيس حزب (من أجل الحرّيّة) أكثر الأحزاب اليمينيّة تطرّفاً في هولندا، فقد كان يحمل حقداً شديداً على الإسلام وعلى رسول الله ﷺ بسبب جهله بالإسلام وتعاليم رسوله الكريم ، ووظّف جهوده وخبراته في الهجوم على رسول الإنسانيّة وأنتج فيلماً مسيئاً في حقّ النبي ، ولكنّه عندما اطّلع على مصادر المعرفة الأصليّة، وعرف حقيقة النَّبيِّ  أعلن إسلامه، وقال في مقابلةٍ له: (كانت نظرتي للإسلام سيّئةً، لقد انجرفت مع كلّ التصريحات السلبيّة عن الإسلام… لذلك انجرفت مع الكراهية ضد الإسلام. كنت أعتبر الإسلام في ذلك الوقت أنَّه شيءٌ غير جيِّد).

 وبعد إسلامه أدّى مناسك الحجّ والعمرة، ثمّ قصد زيارة النَّبيِّ   ووقف عند قبره معتذراً منه يبكي نادماً على ما فعله، واعتذر من المسلمين على إخراجه لهذا الفيلم، وعاهد النَّبيَّ أن ينتج فيلماً في بيان حقيقة رسول الله ﷺ وشمائله الحميدة. [انظر: شبكة بحوث وتقارير، بوابة الشروق الإلكترونيّة]

ومنهم: (دانيال سترايش) أكبر المعادين للإسلام والحاقدين عليه في سويسرا، وأشرس القائمين على حملة منع المآذن فيها، وهو الذي أشاع أنّ (الإسلام والإرهاب وجهان لعملةٍ واحدة)، كلُّ ذلك بسبب تصوّره المغلوط المخالف للواقع، وهو يظنّ أنّ الحقيقة المطلقة معه، وأراد أن يؤكّد النظرة السلبية للإسلام حسب تصوّره من كتب المسلمين، فأخذ يقرأ كتب التفسير والحديث النبوي ونحوها ليقوّي حجّته ويردّ على المسلمين من كتبهم، لكنّه عندما اطّلع على ما كتبه المسلمون وما نقلوه عن كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم   تبيّن له أنّه كان مخطئاً، وأنّ تصوّره عن الإسلام كان وهماً كلُّه، وما وسعه بعد ذلك إلاّ أنّه دخل الإسلام، وأصبح داعيةً يدافع عنه، وقال: (أجد نفسي مضطراً على أن أحاضر وأكتب الكثير من المقالات لتوضيح أهمّيّة المساجد في سويسرا، وتسليط الضوء على مكامن الخطورة في منع بناء المآذن في بلادي) [انظر: موقع قصة الإسلام بإشراف د. راغب السرجاني]، وهناك المئات من أمثالهما. 

فقبل إسلام (أرنود فان دورن) و(دانيال سترايش) عندما كانا يحكمان عن قناعةٍ تامّةٍ بأنّ محمَّداً جاء بالإرهاب، ويريان نفسيهما على الصواب، وكان المسلم يقول عن علمٍ ويقين: بل محمَّدٌ   هو نبيّ الرحمة، والإسلام دين الإنسانيّة والسلام، واختلف الفريقان في الحكم على النَّبيِّ  وعلى الإسلام، فهذا لا يعني أنّ الحقيقة نسبيّة، وحكم (أرنود فان) و(دانيال سترايش) حقٌّ لأنَّه صادرٌ عن قناعة، بل الحقيقة ثابتة، وإنَّما كان هذا الحكم حسب تصوّرهما والحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره، لذا نجدهما عند وضوح الحقيقة لديهما أخذا يدافعان عمّا كانا ينتقدانه بالأمس.

ومن خلال هذين النموذجين وأمثالهما نجد أنّ الحقيقة ثابتة، وتعدّد الأحكام على الشيء الواحد لا يعني أنّ الحقيقة نسبيّة والشيء يشتمل على الصفات المتناقضة، بل الحقيقة واحدةٌ وهي تتبع العلم الصحيح والتصوّر السليم للشيء، وأنّ الجهل المركَّب هو الذي يجعل صاحبه يرى الوهم حقيقةً والخطأ صواباً.  

– المعنى الثاني: أنّ الشيء نسبيّ بالنسبة إلى غيره وليس بالنسبة إلى ذاته: فهذا المعنى منطقيٌّ، وهناك أمورٌ نسبيةٌ بطبيعتها، والناس متَّفقون على نسبيَّتها؛ فلا ينبغي أن يختلط هذا المعنى بنسبيَّة الحقيقة في ذاتها.

فالألوان والطول والقِصَر ونحوها أعراضٌ نسبيّة، فالبياض ليس على درجةٍ واحدة، فإنَّ لون الثلج يختلف عن لون الحليب، وكلاهما أبيض، وهذا يُسمّى في علم المنطق (مشكّك).

 ومثله نسبية الطول والقصر والإبداع ونحو ذلك، فإذا قورن الطويل في شرق آسيا بالإفريقي كان قصيراً، وكذلك قدرات البشر على درجاتٍ متفاوتة، فمن يكون مبدعاً بين متوسِّطي المواهب لا يكون متميّزاً بين المتفوّقين.

فيصحّ إعطاء الشيء الواحد حكمين مختلفين، ولكن ليس بالنسبة إلى ذاته، بل حسب نسبته إلى غيره، وهذان الحكمان صحيحان ومنطقيّان لوجود حقيقتين ثابتتين:

حقيقة الشيء بالنسبة لنفسه، وحقيقته مع غيره، فعند المقارنة يظهر الفرق بين الشيئين، وهذا من باب التفضيل، وكأنّنا قلنا: حقيقة الطول بالنسبة للآسيوي ثابتة، لكنّ حقيقة الطول لدى الإفريقي أقوى، وحقيقة الإبداع عند زيد بين المتوسِّطين عالية، ولكن بمقارنتها مع المتفوّقين غير متميّزة.

  • المعنى الثالث لنسبيّة الحقيقة: أنّ الحقّ نسبيٌّ في الشيء ذاته: أي إنَّ الشيء الواحد حقٌّ وباطل، وحسنٌ وقبيحٌ في آنٍ واحد، فلا شيء ثابت، ولا معيار للحقّ، وهذا هو المعنى الذي يقصده الملحدون والحداثيون والعلمانيون من هذه النظرية.

وإنّ القول بنسبيّة الحقيقة باطلٌ باتفاق العقلاء؛ وهو تناقضٌ صريح؛ لأنَّ الحقَّ في ذاته واحدٌ لا يتغيَّر ولا يجتمع النقيضان فيه. 

وإنّ مُنشئ هذه الفكرة: (بروتاغوراس السوفسطائي) عندما قال: يمكن إعطاء رأيين متناقضين في الشيء الواحد، وأخذ ينقد أصول المعرفة، وقال: (إنَّ الإنسان هو مقياس وجود ما يوجد منها، ومقياس وجود ما لا يوجد).

رفض جميع الفلاسفة فكرته، وعارض أرسطو وأفلاطون استنتاجاته، فقال أرسطو في الخطابة: (إنّ أقوال بروتاغوراس هي وهمٌ وخداع، وتبدو أقوالاً متطرّفة، وليس لها أيّ مقامٍ في أيِّ فنٍّ من الفنون باستثناء الخطابة) [انظر: موسوعة المعرفة الإلكترونيّة] ومعنى الخطابة هنا الكلام الذي لا يستند إلى أصلٍ علميّ.

ومع وهن هذه النظريّة وتناقضها، فهي تنقض نفسها بنفسها، نقول: بما أنّ الحقيقة نسبيّةٌ ولا يوجد أمرٌ ثابتٌ، فهذه النظرية ليست ثابتةً، والحكم على صحَّتها نسبيٌّ، والحكم عليها بالبطلان من تقرير النظرية نفسها.

وإن أرادوا أن يلزموا الناس بها ويجعلوها الحقَّ المطلق فقد نقضوها وناقضوا أنفسهم؛ لأنّ النظريّة نفسها تنفي الحقَّ المطلق أصلاً.

تبنّي الغرب لنظريّة (نسبيّة الحقيقة):

 أحيا الغرب في عصر النهضة فكرة (نسبية الحقيقة) نتيجة الصراع لديهم بين رجال العلم التجريبي ورجال الدين الكهنوتي، عندما منع رجال الدين علماء الطبيعة من التجارب العلميّة، وتمسّكوا بنصوص الكتاب المقدّس التي كانوا يستبدّون بتفسيرها، يقول الأستاذ غازي التوبة: (نسبية الحقيقة إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة، ويربط المفكِّرون الغربيون بين تلك الركيزة وتغيّر الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع، ويعتقدون أنَّ تغيُّر الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة، غير أنَّ تكوّن تلك الركيزة في الثقافة الغربية يعود إلى فترةٍ أبعد من العصور الحديثة، ويرتبط بالعصور الوسطى.

  فمن المعروف أنّ الكنيسة كانت تنطلق آنذاك في حكمها لأوروبا من نصّ “الإنجيل المقدس” الذي كان ثابتاً، والذي كانت تحتكر الكنيسة تفسيره، وعندما قامت حقائق علميّةٌ وكونيّةٌ متعدّدةٌ تُناقض النصَّ الثابت وتُناقضُ تفسير رجال الكنيسة له، وقع التصادم المريع بين الدِّين والعلم، وكانت النتيجة اضطهاد رجال العلم، بحجَّة مخالفة النصِّ المقدَّس الثابت، ولكنّ الكنيسة انهزمت أمام الثورة عليها، وأمام حقائق العلم، واعتبرت الثورة رجال الدين عقبةً في طريق العلم والتقدُّم، وصار الربط منذئذٍ بين النصِّ المقدّس وثبات الحقيقة، وكذا بين العلم ونسبية الحقيقة). [مجلة الوعي الإسلامي المجلد (42) العدد (473) (ص: 39)].

توظيف نظريّة (نسبيّة الحقيقة) في التحرّر ونشر الإلحاد:

إنّ نظريّة نسبيّة الحقيقة تنسجم مع نظريّة المصلحة (البراغماتيّة) لدى الغرب؛ لذا تبنّى العلمانيّون والحداثيّون فكرة نسبيّة الحقيقة؛ لأنّها تخدم أفكارهم في هدم الثوابت، والدعوة إلى التحرّر من قيود الأخلاق والأعراف والأديان، فإذا كان كلّ شيءٍ نسبياً فما يراه المجتمع أو الدِّين ممنوعاً يراه أصحاب النزوات حقّاً، ومن ثمّ أصبح للشواذّ حقوقٌ خارج الإطار الديني والعرفي، ولهم الحقُّ بالمطالبة بحقوقهم التي انتزعها منهم الدين والمجتمع!  

وكذلك اتّخذ الملحدون فكرة (نسبيّة الحقيقة) أصلاً يبنون عليه أفكارهم، للقضاء على (الحقّ المطلق) الذي تؤمن به الأديان، وهو (الله) أو (الدين).

فتبنّى الملحدون هذه النظريّة، وقالوا لا شيء في الكون مطلقٌ وثابت، وإنّ الأمور نسبيّةٌ ومتغيّرة، فالأصلح من الأفكار والرؤى هو الحقيقة، ثمّ ما كان صالحاً وحقيقةً في الأمس قد يكون فاسداً ووهماً اليوم.

وبناءً على ذلك إذا استغنت البشريّة عن الحقيقة المطلقة التي تنادي بها الأديان، وصلحت الحياة باعتبار أنّ الحقيقة نسبيّة، ولا يؤثّر إنكار الحقّ المطلق عند الأديان على سير عجلة الحياة، فلا داعي لوجود حقيقةٍ مطلقةٍ وهي الإيمان بـ(الله) أو بـ(الدين).

وبمعنىً آخر: هناك اتجاهان يتنازعان تفسير وتسيير هذه الحياة:

 الاتجاه الأول: الدعاة إلى الدين الذين يرون (الإله حقاً مطلقاً).

والاتجاه الثاني: أصحاب النظرة المادّيّة الذين يرون أنّ هذا المطلق لا يصلح للحياة، فلا بدّ أن يكون نسبيّاً متغيّراً، وهذه النظرة هي الأصلح والأجدر بالحياة بالنسبة إليهم . [انظر: مجلة البيان (79/ 95)].

وبناء على ذلك:

 يرى الملحدون أنّ الحياة هي المادّة، ووجود الإله أو عدم وجوده ليس له تأثيرٌ في حركة الحياة، ومن ثمّ مهما جاء المسلمون بحججٍ علميّةٍ ومنطقيّةٍ في إثبات أن: (الإله هو الحقُّ المطلق) فهم يقولون بنسبيّة الحقيقة، وأنّه لا حقّ مطلقٌ في الكون البتّة، وتلك الحجج لا تعدو وجهة نظرٍ خاصّة بأصحابها، فلا وجود لثوابت قطعيّة، وأنّ ما يراه المسلمون حقَّاً يراه الملحدون وهماً، وبذلك يجعلون أفكارهم الإلحاديّة مهما كانت واهيةً تكافئ الأدلّة والبراهين القطعيّة التي يستدلّ بها العلماء.

وهكذا يحاولون أن يتجمَّلوا بمصطلحاتٍ فلسفيّةٍ ذات إيحاءات معيّنة فيقولون (نسبيّة الحقيقة) بدلاً من أن يقولوا (إنكار وجود الإله) دون أن يتغيَّر شيءٌ في المضمون. 

الإلحادُ والدروَشة، وجهان لعملةٍ واحدة

غلاف الإلحاد والدروشة
الإلحاد والدروشة

الإلحادُ والدروَشة، وجهان لعملةٍ واحدة

Loading

الإلحادُ والدروَشة، وجهان لعملةٍ واحدة

يروى أنَّ عجوزاً كانت تدعو الله في جوف الليل أن يرزقها طعاماً لأحفادها الأيتام؛ فسمع دعاءها أحدُ الملحدين المستهزئين بالأديان، فأرسل لها صباح اليوم التالي طعاماً، وقال لخادمه: إذا سألتك هذه العجوز: من الذي أرسل الطعام، فقل لها: (الشيطان).

فلما أوصل الخادم الطعام لها شكرته وأرادت أن تغلق الباب، فقال لها الغلام: مهلاً يا سيِّدة ألا تريدين أن تعرفي من الذي أرسل لك الطعام؟ فقالت: لا يهمُّ، لأنَّ الله إذا أراد أن يرزقني سخّر لي من شاء من عباده وإن كان الشيطان.

تلخِّص القصَّة السابقة جدليّةٌ قديمةٌ حديثةٌ عن العلاقة بين الدعاء والأسباب، فإن كان التاريخ الإسلاميّ قد عرف أشخاصاً ساذجين عُرفوا بلقب (الدراويش) تركوا العمل بالأسباب المادّية ظنَّاً منهم أنَّهم لا يحتاجون شيئاً من أسباب الدُّنيا لأنَّهم (متكلون على الإرادة الإلهية)، فقد عرف الحاضر اليوم أناساً تركوا الدعاء والالتجاء إلى الله، بل وربَّما تركوا الدِّين بالكلّية، ظنَّاً منهم أنَّ الأسباب المادية حلّت محلَّ الإرادة الإلهية.

 
تعارضٌ أم توافق؟

ناقشنا في المقال السابق (إله الفجوات المعرفية) إشكالية التعارض بين العلم والدّين في ذهن الملحد، فالنظرة الإلحاديَّة ترى أنَّ أيَّ سببٍ مادّي يعني الاستغناء عن قدرة الخالق؛ فمجرَّد أن يعلم الملحد السبب المادِّي وراء ظاهرةٍ كونيَّةٍ ما، صار الحديث عن القدرة الإلهية المحيطة بالظاهرة بالنسبة إليه عبثاً لا يُفهم.

والمتأمِّل في آيات القرآن الكريم يعلم أنَّ الله سبحانه لم يعطِّل الأسباب المادّية، لكنَّه بيّن أنَّها مسخَّرةٌ بأمره سبحانه، وأنَّه إذا أراد شيئاً دبَّر الأسباب الموصلة إليه. وقد استعرضنا باستفاضةٍ عدداً من تلك الآيات في مقال: (هل تنزل الأمطار برحمة الله أم بتكاثف الغيوم؟) وبيّنا الفرق بين الحكم الإلهي والأسباب المادية في مثال (القاضي والسجّان) في المقال نفسه.

لكن ما يهمُّنا في هذا المقال بيان أنَّه لا تعارض بين الإرادة الإلهية والأسباب المادية، وأنَّ قولي: (إنَّ الله أراد أن يرزقني)، لا يُنافي قولي: (رُزقت بسبب العمل)، بل إنَّ كلا القولين صحيحٌ في مجاله. لكن ظهرت الإشكالية عندما توهَّم بعض الناس أنَّ الإرادة الإلهية والأسباب المادّية يتصارعان على دائرةٍ واحدة، فنشأ التعارض في ذهن كلٍّ من (الملحد) و(الدرويش). ولو علم أحدهما أنَّ لكلٍّ مجاله لربما أعادوا النظر في عقيدتيهما! 

 
الدعاء وخوارق العادات

يحيط في أذهان العديد من البسطاء و”الدراويش” أنَّ دعائيَ بشيءٍ يعني أنَّ الله سيخرق العادات والسُّنن الكونية لكي يحقِّق لي هذا الشيء، وأنَّه إذا لم يتم هذا الأمر الخارق فإنَّ الله لم يستجب لي بعد.

ولو عاد “الدراويش” إلى البوصلة القرآنية، وتأمَّلوا سنن الله في إهلاك الأقوام السابقة، لرأوا أنَّ الله سبحانه وإن أهلك أقواماً بخوارق للعادات كفرعون وجنوده، إلَّا أنّه بيّن لنا في آياتٍ أخرى أنَّه سخَّر لإهلاك أقوامٍ آخرين سنناً كونيَّةً يراها كثيرٌ من الناس كوارث طبيعية. فقد أهلك سبحانه قوم عادٍ بالريح العاتية:

 ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ ۖ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ[سورة الأعراف : 15 – 16].

كما سخَّر سبحانه هذه السُّنَّة الكونية نفسها لينصر نبيَّه على الأحزاب:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا[سورة الأحزاب : 9].

وقد وردت في القرآن الكريم قصصٌ عن إهلاك زروع بعض الظالمين وفقاً لسننٍ كونية لا تحتاج إلى ما يخرق العادة، كقصَّة صاحب الجنَّتين في سورة الكهف، وأصحاب الجنَّة في سورة القلم.

فقال تعالى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَٰلَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّىٓ أَحَدًا[سورة الكهف : 42].

 ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ[سورة القلم : 19 – 20].

 
متى يعتبر الملحد؟

تفصل العقلية الإلحادية -كما أشرنا- بين الإرادة الإلهية والسنن الكونية، فلا يعتبر الملحد بما يراه من نُذرٍ كونيةٍ لأنَّه يعزوها إلى أسبابها المادّية دون أن يتبصّر أو يذّكر. فعندما يرى الملحد إهلاك قومٍ بسنَّةٍ طبيعيةٍ كالزلازل والبراكين والفيضانات، نجده يعلِّل الأمر بحركاتٍ طبيعيةٍ في القشرة الأرضية في عودةٍ إلى السجال الذي أشرنا إليه في المقال السابق: (إله الفجوات المعرفية) تحت عنوان: (معرفة الكيفية، والاستغناء عن الموجِد).

تكمن المشكلة في هذه العقلية في أنَّها عصيَّةٌ على الاعتبار، ففي قصَّة أصحاب الجنَّة التي أشرنا إليها، نجد أنَّ أصحاب الجنَّة قد تابوا بعد أن رأوا جنَّتهم قد احترقت، إذ علموا أنَّ ما أصابهم ليس إلَّا عقوبةً من الله سبحانه. فكان ما أصابهم نذيراً لهم بين يدي عذابٍ شديد، ولم يُرجعوا بلاءهم إلى الصدفة المحضة أو الحتمية المادية في مصير المزروعات التي كانت ستحترق بسبب (كذا وكذا) من جملة الأسباب المادية.

فلا فرق عند الملحد بين الجنَّة التي تصدَّق أصحابها، والجنَّة التي منع أصحابها زكاة أموالهم، فالأمر يرجع إلى الأسباب المادّية وحدها، لذلك يَسخَر الملحدون من المؤمنين عندما يردِّدون أذكار الصباح والمساء ويستعيذون بالله من شرِّ كلِّ يومٍ وليلة، ولا يفهمون معنى: (داووا مرضاكم بالصدقة، وحصِّنوا أموالكم بالزكاة) وما ذلك إلَّا لأنَّ العقلية الإلحادية لا تستطيع أن ترى ما كانت تراه العجوز في القصَّة التي ذكرناها في بداية المقال.

ربَّما يعتبر الملحد بحالةٍ وحيدة، وهي عندما يرى هلاك قومٍ بخارقٍ للعادة، مثل فرعون وجنوده، عندها فقط يرى الملحد أنَّ هذه العقوبة هي عقوبةٌ إلهيَّة، فإذا خرقت العادة فهذا دليلٌ على عقاب الله وإلَّا فإنَّ الله لم يعاقب، حاله كحال (الدرويش) الذي ينتظر خارقاً للعادة كي يعلم أنَّ الله قد استجاب له، فالحياة الدنيا وسننها لا علاقة لها بالله.

 مرَّةً أخرى نرى أنَّ كلَّاً من الملحد والدرويش يتشاركان الأفكار ذاتها! 

الشذوذ الجنسي من الناحية الشرعية

غلاف الشذوذ الجنسي من الناحية الشرعية
الشذوذ الجنسي من الناحية الشرعية

الشذوذ الجنسي من الناحية الشرعية

Loading

الشذوذ الجنسي من الناحية الشرعية

نعم إنّ انتشار المثلية يساهم في انقراض البشريّة… ليس في ذلك مبالغةٌ ولا تهويل…

وبدأ الحوار معه بعد أن عاد من أوروبّا، وقد خلبَه بريق المدنيّة، وأعمته غشاوة الأهواء الدّنيّة، فقال لي: أين نحن من الدول الغربية، دول التقدّم والحرّيّة، يعيش فيها الإنسان كما يريد، ويفعل ما يشاء، دون عائقٍ أو معارض، ويشعر هناك بالحياة الحقيقيَّة والسَّعادة والارتياح.

أمّا بلادنا فبلاد التَّخلُّف والقمع، يرزح فيها الإنسان في قيود المحرّمات والممنوعات… حتّى إذا مارس حقّه الشخصيّ يُعدّ مجرماً…

فقلت له: وماذا تقصد بالحقِّ الشَّخصيّ الذي يحرمونك منه ويجرّمونك فيه؟

إذا كنت محقّاً فأنّا أوّل من يدافع عن هذا الحقّ.

فقال: قد لا تتقبّل ما أريد أن أقوله.

فقلت له: هات ما عندك فأنت في حوار, ولستَ في قضاء.

فقال: مثلاً الممارسة المثليّة تعدّ هنا جريمةً كبرى، مخالفة للدين والقانون والأخلاق والأعراف، أمّا في الدول الغربية فهناك منظّمات تدافع عن هذا الحقّ.

فقلت له: إذا كان تفكيرك هكذا فلا جدوى من الحوار الدّيني؛ لذا سيكون حوارنا علميّاً واقعيّاً توصيفيّاً.

فقال: هذا هو المراد.

فقلت له: هل تسمح أن أوجّه إليك سؤالاً؟

قال: نعم تفضّل.

فقلت له: لماذا تجعل المثليّة حقّاً من الحقوق؟ 

فقال: هي حقٌّ لمن كانت ميوله مثليّة، والأمر ليس بإرادته، إنَّما هو حالةٌ فطريّةٌ وراثيّة، والجينات لديه لا تقبل الجنس الآخر، وتدفعه إلى المثليّة. 

فقلت له: ومن قال لك إنّ المثليّة أمرٌ فطريٌّ وراثيٌّ، وإنّ الميول الجنسيّة والجينات هي التي تسوقه إلى هذا السلوك دون إرادةٍ منه؟

فقال: هذا ثابتٌ علميّاً، ولذلك أقرّ الغرب قانوناً لحماية حقوق المثليّين.

فقلت له:

أولاً- كلامك هذا لا يقرّه علماء الجينات والبيولوجيا، وإنَّما هي معلوماتٌ مغلوطةٌ ومضلّلة ومُبالَغٌ فيها حسب ما تذكره المصادر العلميّة، وإنّ أثر الجينات في ذلك ضئيلٌ جدَّاً وغير مباشر، ولا يتجاوز تأثير الجينات على المثليين عن 10% فقط  [انظر: كتاب المثليّة والدليل العلمي: (ص:18) وما بعدها (ص:162) وما بعدها]…

 ثانياً- ليس من شأن السياسيّ ولا الحقوقيّ، ولا المعلّم ولا الاستشاريّ، ولا الجماعة التي لديها نزعةٌ مثليّة، أن تقرّر أمراً علميّاً لا يتعلّق باختصاصهم وعلومهم، وإنما أقرّت دول أوروبا وأمريكا المثليّة لغاياتٍ ومصالح أرادت أن تكسبها.

فقال: وكيف لا يقرّ العلم دور الجينات في هذا الموضوع الذي لا يخفى على أحد، وهذا الأمر واقعيٌّ ملموسٌ لا يقبل النقاش، فتجد المثليّين يميلون إلى أجناسهم ميلاً قويّاً، فهل تنكر هذه الحقيقة والواقع الذي لا يختلف فيه اثنان؟

فقلت له: أمّا قولك: إنّ المثليّين يميلون إلى أجناسهم ميلاً قويّاً، فهذا صحيح، وهو واقع لا يُنكَر، ولكنّ هذا الشذوذ ليس دافعاً فطريّاً ولا بفعل الجينات، بل بسبب تنشئتهم الخاطئة، وسلوكهم المخالف للأسوياء.

فقال: كيف ذلك؟

فقلت له: إنّ حالة توقان المثليين إلى جنسهم، كحالة مدمني الحشيشة والمخدّرات ونحوها، فإنّهم لم يُولَدوا حشّاشين أو مدمنين، لكنّهم عندما تعاطوا المخدّرات تعلّقوا بها، فكان لسلوكهم المنحرف وللبيئة والتربية دورٌ في تنامي حالة الإدمان.

 فنجد أغلب القوانين تجرّم بيع المخدرات وتعاطيها، وتحجر على المدمنين، وتعاملهم معاملة المرضى، ولم يقل أحدٌ من أهل الوعي والإنصاف إنّ هذا السلوك الذي تسلكه الدول والمؤسَّسات تجاه المدمنين تعدّياً على الحرّيّة الشَّخصيّة، وكذلك الشذوذ فإنَّه مثل ذلك تماماً، فهو مرضٌ نفسيٌّ أو اجتماعيٌّ ينبغي معالجته، وليس حالةً سويّةً كي ندافع عنها.

فقال: كيف تسمّيه شذوذاً وإنّ نسبة المثليين تكاد تقارب نسبة غَيْرِيي الجنس، وكيف تجعله مرضاً وهو حالةٌ طبيعيّةٌ باعتراف المنظَّمات الصحّيّة؟ 

 فقلت له:

 أمّا قولك: إنّ نسبة المثليّين تقارب نصف المجتمع فهذا غير صحيح، فقد لعب الإعلام دوراً كبيراً في تضخيم أعداد المثليّين لترويج المثلية، ونقلها من حالة الشذوذ إلى حالة الطبيعة، فالمثليّون هم القلَّة النادرة مقابل الأسوياء، وإنّ نسبة المثليين الحقيقيّة حسب الإحصاءات العلمية لا يتجاوز 2,5 % وهذه النسبة تشتمل على مزدوجي الميل الجنسي أيضاً. [انظر: كتاب المثليّة والدليل العلمي: (ص:4)].

 وأمّا كونه مرضاً نفسيّاً: فالشواذّ مخالفون للفطرة والأصل الذي عليه الناس، وهذا معروفٌ منذ فجر التَّاريخ، وكان الشذوذ مصنّفاً لدى الدوائر العلمية والطبّيّة في الغرب مع الأمراض النفسيّة والاجتماعيّة أو العضويّة، حتى عام 1967م عندما طالَب الشواذّ في بريطانيا بتغيير اسم الشذوذ وإطلاق اسم (المثليَّة) عليه.

ثمّ بعد عامٍ من تاريخه انعقد اجتماعٌ في فندق (ستون دول) في نيويورك بأمريكا أعقبه أعمال شغبٍ دامت ثلاثة أيّام، نادى فيها الشّواذّ بسقوط المرجعيّة الجنسيّة التقليديّة، حتى أطلَقوا على الشُّذوذ اسم (الحبّ الخالص).

وفي عام 1973م طالبَ المثليّون بإلغاء تصنيف المثليّة من الأمراض النّفسيّة، ووقع جدلٌ كبيرٌ بين أخذٍ وردّ بين الأطبّاء؛ إذ أنّ كثيراً منهم لم يوافقوا على ذلك، لكنّ الأمر انتهى لصالح المثليّين؛ فألغت الجمعيّة الأمريكيّة للأطبّاء النفسيّين تصنيف المثليّة الجنسيّة من قائمة الأمراض النفسيّة، وتبعهم مجلس ممثّلي جمعية علم النَّفس الأمريكيّة عام 1975م.

وبهذا نجد أنّ تغيير تصنيف المثليّة من مرضٍ نفسيٍّ أو اجتماعيٍّ إلى حالةٍ سويّة، لم يكن بناءً على الدِّراسات المعرفيّة والأبحاث العلميّة، وإنّما جاء تلبيةً لمطالب المثليين الذين أقاموا المظاهرات والتجمّعات الميدانيّة لتحقيق مآربهم.

 وإنّ الحقائق العلمية أو التصنيفات المرضيّة أو الصحّية لا تُبنى على أعمال الشغب والتجمّعات والمظاهرات والجمعيّات والترويج الإعلامي…

فقال: دعني من ذلك كلّه، أنا أريد أن أتمتّع في حياتي وأعيش سعيداً.

فقلت له: هل تعلم أنّك إذا سلكت طريق المثليّة سينعكس ذلك عليك تعاسةً وليس سعادة.

فقال: اتّفقنا في بدء الحوار على عدم التعرّض إلى الناحية الدينيّة، فأنا أريد الحياة الواقعيَّة وليس حكم الدِّين.

فقلت له: وأنا أكلّمك عن الحياة الواقعيّة، وليس عن حكم الدين.

فقال: وكيف ذلك؟

فقلت له: إنّ المثليّين والمثليّات يشعرون بفراغٍ لا يستطيعون مِلْأَه، ولديهم اضطراباتٌ نفسيّةٌ وسلوكيّةٌ، وإنّ ما يسعى إليه المثليون من المتعة الآنيّة لا يحقِّق لهم السعادة، بل يعود عليهم بالاكتئاب والأمراض النَّفسيّة؛ لأنّ التركيب البشريَّ مبنيٌّ على التكامل بين الذكر والأنثى، قال الأستاذ عدنان السّبيعي: (مهما قيل في المرأة والرجل، ووظيفة كلٍّ منهما وأهمّيّته في الحياة، فإنّ الأمر الثابت الذي لا يقبل الجدل: إنّ المرأة تكمّل حياة الرجل، وإنّ الرجل يكمّل حياة المرأة) [سيكولوجيّة الأمومة ومسؤوليّة الحمل: (1/69)]

وممّا يساهم في توازن حياة المرأة تحقيق دافع الأمومة، فهو دافعٌ فطريٌّ، وإذا فقدته لا تستقيم حياتها النفسيّة، فهي تحتاج إلى الحبّ وإلى الأمومة في آنٍ واحد؛ لأنّ المبيض يفرز نوعين من الهرمونات، الأول يُسمّى (الفوليكولين) والثاني يُسمّى (اللوتيين) ولكلٍّ من هذين النوعين أثره الذي يتجاوز العضويّة لكي يؤثّر في مزاج الفتاة، حتّى إنّ بعضهم أطلق على الهرمون الأول (هرمون الحبّ) والثاني هرمون (الأمومة) [سيكولوجيّة الأمومة: (1/72)].

والمثليّات لا يحقّقن دافع الأمومة الذي فُطِرنَ عليه.

والمثليّون بشكل عامّ يخالفون نظام الكون، ويسيرون منفردين عن النهج السليم الذي يسلكه الأسوياء، فقد ذكرت مجلة (عالم المعرفة) دراسةً شملت جماعاتٍ بشريّةً متنوّعة: أنّ العائلة هي الوحدة الاجتماعيّة عند البشر، وأنّ ما يميّز الأنواع الراقية عن غيرها-ومن ضمنها الإنسان- كونها تعيش في زمرٍ اجتماعيّة مؤلّفة من الجنسين، من أعمارٍ متفاوتة، ومن النادر مصادفة الأنثى بلا ذكر، ويندر كذلك وجود الذكور في حالة واحدة. [انظر: مجلة عالم المعرفة (الأمومة نموّ العلاقة بين الطفل والأمّ) د. فايز قنطار العدد-166- (ص: 22)].

فلا تتحقَّق السعادة إلا من خلال التَّوازن النَّفسيّ، وإشباع دافع الأمومة لدى المرأة، والشّعور بالكمال عند الرجل، حين تنتقل حياة الرجل والمرأة من مرحلةٍ إلى أخرى، حيث يشعران بالتطوّر والتغيير، فيصبحان زوجين، ثمّ ينجبان طفلاً يملأ حياتهما بالبهجة والسرور، و يجتمع قلباهما على محبّته، ويكوّنان أسرة، ويصبح الزَّوج أباً والزَّوجة أمّاً، ويُشبِعان هذا الدَّافع الفطري الذي جُبلا عليه، ويجدان حياتهما في تطوّرٍ مستمرٍّ من أوّل مرحلةٍ من زواجهما حتى يكبر أبناؤهما، ثم يتزوَّج الأبناء وينجبون، فتتلوّن لديهما الحياة، ويشعران أنّ أبناءهما وأحفادهما امتدادٌ لحياتهما، وتخليدٌ لذكراهما، وهذه سنّة الله في الكون التي تصبُّ في مصلحة الإنسان، والحفاظ على النسل واستمرار البشرية، وبقاء النوع الإنسانيّ.     

ولا يمكن أن تتطوَّر الحياة وتتغيّر لدى المثليّين؛ لأنّهم لا يريدون سوى المتعة العاجلة فحسب، فيندفعون نحوها، وبعد مدّةٍ من الزمن يشعرون بفراغٍ وركود في الحياة، ثمّ مللٍ وسآمة، ثمّ يتحوّل الملل إلى اكتئاب، ثمّ اضطرابات، ثم أمراض نفسيّة، لذا فقد كشفت دراسةٌ أمريكيّةٌ أنّ المثليّين والمثليّات جنسيّاً أكثر عرضةً للمشاكل النَّفسيَّة والصحّيّة، وأكثر إفراطاً في تعاطي المخدّرات والتَّبغ [انظر: موقع إذاعة (مونت كارلو الدوليّة) بتاريخ 28/6/ 2016م] وغالباً ما يتحوّل الاكتئاب والاضطرابات إلى عُقَد نفسيّة، وقد تقودهم هذه العقد النفسيَّة إلى الانتحار.

 لذا أشارت الإحصائيّات أنّ نسبة المنتحرين من المثليّين في أمريكاً أعلى بثلاث مرّاتٍ من الأسوياء [انظر: صحيفة الدستور مقال تحت عنوان (ارتفاع نسبة الانتحار بين الشواذّ في أمريكا) يوم الأربعاء 12 فبراير 2020م].

وإضافةً إلى ذلك تعرّضهم للأمراض الخطيرة والمعدية بسبب ممارسة الشذوذ،  وقد ذكرت المصادر أنّ نسبة إصابة المثليّين بالأمراض الجنسية كمرض الإيدز ونحوه أكثر من إصابة الأسوياء من غَيرِيي الجنس [انظر: موقع إذاعة DW مقال تحت عنوان: ارتفاع نسبة المصابين بالإيدز بين المثليّين جنسيّاً 20/7/2012م] كما أنّ انتشار مرض الزهري لدى المثليّين في أمريكاً بلغ نسبة 75% وفقاً لموقع (هيلث داي الطبي).وأكَّدت منظمة الصّحّة العالمية مؤخراً أنَّ غالبية الإصابات بمرض جدري القردة رصدت بين الرِّجال الذين يمارسون الجنس مع الرِّجال.

وإذا أوصلت الممارسات المثليّة مع مرور الزمان إلى الاكتئاب والأمراض النفسيّة التي قد تقود إلى الانتحار، وأدّت إلى الأمراض الجنسية المعدية والخطيرة، فإنَّ المثليّ يعيش حياته قلقاً كئيباً، فأين السَّعادة المتوخّاة من ممارسة الشُّذوذ؟

وما هذه الحرّيّة التي ينادي بها المثليّون؟

ومن جانبٍ آخر على المستوى العامّ، فإنّ حفظ النسل وبقاء النوع الإنساني من مقاصد الدّين لتبقى الحياة مستمرّة، فإذا اكتفى الرِّجال بالرِّجال والنِّساء بالنِّساء فسينقطع النسل، وينقرض الإنسان مع مرور الزمن، وتتوقّف الحياة بأسرها.

 وإنّ الذين يدعون إلى المثليّة ويروّجون لها، ويدَّعون أنّها من الحرّيّات المشروعة لا تقلّ دعوتهم خطورةً عمّا يفعله مجرمو الحروب في إبادة الشعوب؛ لأنّ الدعوة إلى المثليّة تعني إبادة مستقبل الحياة، والقضاء على النوع الإنساني قاطبةً من وجه الأرض!

وبعد بيان مخاطر المثليّة وآثارها الوخيمة على الفرد وعلى المجتمع، بل على الإنسانيّة بأسرها، نستطيع أن نتحدّث في الجانب الدِّينيّ، ونقول:

 جاء الدِّين لجلب المصالح ودرء المفاسد، وإنّ تحريم الشذوذ في الشريعة الإسلامية وسائر الشرائع السماويّة ليس عبثاً، ولا محاصرةً للنُّفوس كما يدّعي أصحاب التَّحرر والأهواء، وليس تشديداً دون غايةٍ أو مقصد، بل بلغت الشريعة شأواً عظيماً من الحكمة في تحريم الشذوذ، ورمت بذلك إلى أعظم المصالح ووقاية الإنسان من المفاسد والمهالك ذات الآثار الخطيرة المترتّبة عليه، والأخذ بيده إلى سُبل النجاة.

ومع قبح الشذوذ وعظيم خطره، إلّا أنّ هناك شيءٌ أعظم من هذا الفعل القبيح ذاته، أتدرون ما هو؟

إنّه ما يقع اليوم في الإعلام من إظهار هذا الشذوذ والمجاهرة به، والدعوة إليه، والترويج له، وتبريره، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «كلُّ أمَّتي معافى إلَّا المجاهرين، وإنَّ من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» [متفق عليه], وإنّ ما ينشره الإعلام يتجاوز حدّ الإظهار والمجاهرة، إلى الجرأة والوقاحة وتجاوز الخطوط الحُمر في الدعوة إلى الرذيلة، فهذه هي الطَّامة الكبرى والمصيبة العظمى…

وعندما تُذاع الفاحشة ويُعلن عنها ينزل غضب الله تعالى، وتقع الأمراض والأوباء، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «كيف أنتم إذا وقعت فيكم خمس، وأعوذ بالله أن تكون فيكم أو تدركوهنّ: ما ظهرت الفاحشة في قومٍ قط يعمل بها فيهم علانية، إلَّا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم…» [شعب الإيمان: (3043)] وهذا ما نراه اليوم.

ولا مزيد ملامة على من يغرق وحده، وإنَّما المجرم من يدعو المجتمع إلى الهلاك في مستنقعات الرذائل، وينادي بتشريعها والاعتراف بها، ويدّعي أنّها من الحقوق البشريّة، فإنّه بذلك يتحمّل أوزار كلّ من تأثّر به وانحرف عن الصراط السويّ.

الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية _ الجزء الثاني

الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية -الجزء الثاني-
الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية -الجزء الثاني-

الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية _ الجزء الثاني
بقلم: م. إحسان هلالة

Loading

الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية

ناقشنا في الجزء الأوَّل من هذه المقالة عنوانين رئيسيين هما:

  • تعريف الشذوذ الجنسيّ.
  • هل نحدِّث أبناءنا عن الشذوذ الجنسيّ؟ ومتى؟

ونفصِّل الحديث اليوم عن:

  1. أسباب الشذوذ الجنسيّ؟
  2. كيف نحمي أبناءنا من الشذوذ الجنسيّ؟
ثالثاً: أسباب الشذوذ الجنسيّ:

يقوم الخطاب الدَّاعم للمثليَّة الجنسيَّة بنشر فكرة “طبيعية” الشذوذ الجنسيّ معتمداً على ثلاثة محاور:

المحور الأول: هو مقارنة السلوك البشري بالسلوك الحيواني.

المحور الثاني: هو الزعم بوجود كود جيني معيَّن مسؤولٍ عن الشذوذ الجنسيّ والسلوك الجنسيّ بشكلٍ عامٍّ في الحمض النووي البشري.

المحور الثالث: فيدور حول أنَّ المتغيرات البيئية، والعوامل الاجتماعية لا علاقة لها بتحديد التوجُّه الجنسيّ والهويَّة الجنسيَّة. وقد دُحِضَت كلُّ هذه المزاعم ورُفضت بشكلٍ علميٍّ في كثيرٍ من الأبحاث . وهذا إن دلّ على شيءٍ فإنَّما يدلُّ على كذب المروِّجين لهذه الظاهرة الشاذَّة، وأنَّها أمرٌ منافٍ للفطرة البشريَّة التي فطر الله الناس عليها.

وفيما يلي أهمُّ أسباب ظاهرة الشذوذ الجنسيّ:

أوَّلاً- أسبابٌ دينيَّة:

    • ضعف الإيمان، وهو السبب الرئيسيُّ في انتشار الفواحش عامَّةً، والشذوذ الجنسيّ خاصَّةً.

ثانياً: أسبابٌ اجتماعيَّة: وهي كثيرةٌ من أهمِّها:

    • التربية الخاطئة.
    • تقليد النماذج المغلوطة سواءً في البيت أو المجتمع أو على شبكات التواصل الاجتماعيّ.
    • الفقر والحاجة.
    • الشعور بفقدان الحقوق الذاتيَّة، والشرف والمكانة في المجتمع.
    • غياب المُشرف أو وليِّ الأمر، ممَّا يجعل الشخص عرضةً لكلِّ من أراد الاعتداء عليه.
    • فقدان قنوات الاتِّصال والتفاهم بين الأب والأم من جهة، وبين الأبناء من جهةٍ أخرى.
    • القسوة في معاملة الأبناء.
    • التفكُّك الأسريُّ كالطلاق، أو الهجر، أو غياب أحد الزوجين، أو انشغال أحدهما، وعدم قيامه بواجباته الأسريَّة.
    • قلَّة الأمن، وشيوع الفوضى، وانتشار الرُّعب، وكثرة الاضطرابات في المجتمع.
    • رفاق السوء، حيث يُسيطر مبدأ التقليد الأعمى والمحاكاة.

ثالثاً: أسبابٌ اقتصادية: تعقيد أمر الزواج في بعض المجتمعات.

رابعاً: أسبابٌ نفسيَّة: ومنها ما يلي:

    • عدم الارتياح الجنسيّ مع الطرف الآخر في العلاقة الزوجية.
    • تجمعات الأجناس المتماثلة في مكانٍ معيَّنٍ لفترةٍ طويلةٍ كالسجون والمدارس الداخلية.

خامساً: أسبابٌ إعلاميَّة ومنها:

    • المواد الإعلاميَّة المُفسدة بجميع أنواعها.
    • الانفتاح الثقافي، وتيسير سبل التواصل الاجتماعيّ مع عدم وجود محاذير أخلاقيَّة تحكم هذا التواصل، وما يترتَّب على ذلك من إدمان الشبان والفتيات على مشاهدة المواقع والأفلام (الإباحيَّة) وبعضها يعرض لمثل تلك الممارسات ويدعو لها ويزينها.

سادساً: أسبابٌ قانونيَّة: عدم تفعيل القوانين الوضعية، والتساهل مع الجناة.

سابعاً: أسبابٌ عضويَّة: فقد يكون الشذوذ ناتجاً عن نقصٍ في الهرمونات أو جيناتٍ داخليَّةٍ معيَّنةٍ تجعل الشخص جسمانياً (ذكراً) لكنَّ المخَّ والتفكير والأسلوب أنثى، كمرض (العنة) أو مرض (الجَب) أو (الخصاء) أو يكون ناتجاً عن (الخنوثة).

ثامناً – أسبابٌ أخرى: هناك أسبابٌ إضافيَّةٌ ساعدت في نشأة هذه الظاهرة، ومنها:

    • بعض الأفكار الغربية المناهضة للفطرة الإنسانية السَّليمة مثل نظرية (فرويد والسلوك الجنسي).
    • مناداة الدول الغربيَّة بالحريَّة الجنسيَّة، إلى جانب الضغوطات الممارسة من قبل الجمعيات والمنظَّمات المدافعة عن حقوق الشواذّ جنسياً.
    • الدعم الدولي للشذوذ الجنسيّ في العالم الغربي ومنظَّمات الأمم المتَّحدة.
    • الدعم من قبل الدول والحكومات الغربية التي تقدِّم التسهيلات للشاذِّين جنسياً ومن ذلك: منحهم حقَّ اللجوء السياسي.
    • دعوى الوراثة الجينية.
    • الاغتراب: فالشخص الذي يبتعد عن أهله وقومه إلى بلادٍ غربيةٍ لا يعرفه فيها أحدٌ، وربَّما لا يجد فيها زواجاً، قد يجد ضالَّته في الشذوذ مع الغلمان وغيرهم، خصوصاً إذا كانت تلك الهجرة إلى بلدٍ لا يُنكر مجتمعه هذه الممارسات الشاذَّة.
    • يُعتبر تعاطي المخدِّرات، وإدمان الخمر من أقوى الأسباب التي تؤدِّي إلى اضطراب الوعي والميزان القيميّ والأخلاقيّ إلى درجةٍ يسهل معها انتهاك كلِّ الحُرمات ممَّا يُساعد على وقوع الشذوذ الجنسيّ.
    • نظرية دارون.
    • الاختلاط المحرَّم بين الأجانب ذكوراً وإناثاً.
رابعاً –كيف نحمي أبناءنا من الشذوذ الجنسيّ:

من خلال عرضنا لأهمِّ أسباب الشذوذ الجنسيّ نجد تأكيداً على أنَّ هذه الظاهرة إنَّما هي خروجٌ عن الفطرة البشرية التي فطر الله الناس عليها. ومن هذا المنطلق؛ إذا أردنا الحديث عن حماية أبنائنا من الشذوذ الجنسي فإنَّما هو حماية فطرتهم السليمة. قال الإمام القرطبيُّ رحمه الله: ” إنَّ الله خلق قلوب بني آدم مؤهَّلةً لقبول الحقّ، كما خلق أعيُنهم وأسماعهم قابلةً للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقيةً على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية أدركت الحقّ، ودين الإسلام هو الدين الحقّ، وقد جاء ذلك صريحاً في الصحيح، جبل الله الخلق على معرفته، فاجتالتهم الشياطين“. وقد دلَّ بذلك على الحديث الصحيح، فقد روى البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ قال: “مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ“، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ]8[

أمَّا عن كيفية حماية أبنائنا من الشذوذ الجنسيّ فهو المبدأ العام في حمايتهم من انحراف الأخلاق والمبادئ.

ونضع بين أيديكم شرحاً لما يُسمَّى (معادلة التربية – كيف تسقط القيم عند الأبناء)]3[

المرحلة الأولى من المعادلة التربوية:

عادةً عندما يكون الأهل –أباء وأمَّهات– أسرةً ملتزمةً قائمةً على مبادئ الشرع الحنيف، فإنَّهم ومِن دافع محبَّتهم الشديدة لأبنائهم يسعون إلى تربية أبنائهم على شرع الله عزَّ وجلَّ، وبالتالي تكون ملاحظاتهم دقيقةً جدَّاً فيما يخصُّ أيَّ خطأ يقوم به الابن منذ نعومة أظفاره، لكنَّ المشكلة تكمن في طريقة تقويمهم وتأديبهم لابنهم، ففي الغالب تكون طريقةً شديدةً تتراوح حسب العائلة بين السلوكيَّات التالية: (الضرب– كثرة الصراخ– كثرة الانتقاد واللوم– الأحكام الانتقاديَّة القاسية– السبُّ والشتم- المقارنة السلبية– المحاضرات المملَّة– التهديد والوعيد– التشهير– السخرية والتهكُّم…). ومع الأسف، فإن كلَّ هذه السلوكيَّات التي يقوم به الآباء من دافع محبَّتهم لأبنائهم وغيرتهم عليهم إنَّما يُرافقها –في الغالب– حالةٌ من التوتُّر والغضب والانفعال، ولعلَّ هذه الحالة هي شبه دائمةٍ عند الأهل وفي معظم الوقت.

المرحلة الثانية من المعادلة التربوية:

تكمن المشكلة في سلوكيَّات الأهل من خلال ثلاث نقاط:

  • تعتبر هذه السلوكياتٌ سلوكيَّاتٍ فظّةٌ بعيدةً كلَّ البعد عن سلوك النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام والذي خاطبه الله عزَّ وجلَّ بقوله: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[البقرة 44]، وبالتالي؛ وعند استمرار هذه السلوكيَّات فإنَّها ستُسبِّب نفور الأبناء من آبائهم وأمهاتهم، وهذا ما يُسمَّى (الفجوة بين الآباء والأبناء).
  • إنَّ هذه السلوكيَّات تُسبِّب عند الأبناء حالةً من انعدام الثقة بالنفس وتقدير الذات، لأنَّها تُشوِّه نظرتهم لأنفسهم بسبب ممارستها عليهم منذ نعومة أظفارهم من قبل الأهل، حيث يُشكل كلامهم وتقريرهم مرجعيةً لأبنائهم في تصوُّرهم عن ذواتهم.
  • إنَّ حالة التوتُّر والانفعال –شبه الدائمين عند الأهل– تحرم الأبناء من أحد أهمِّ احتياجاتهم النفسية ألا وهي العاطفة والأمان، لأنَّ الإنسان المنفعل والمتوتِّر لا تصدر منه عاطفة.

المرحلة الثالثة من المعادلة التربوية:

  • إنَّ حالة الحرمان والنقص العاطفي تجعل الابن مُنجذباً إلى أصدقائه الذين يعطونه العاطفة بطريقةٍ غير مباشرةٍ من خلال تقبُّلهم له، وحوارهم وتعاطفهم معه بكلِّ أحواله الإيمانيَّة والسلوكيَّة والأخلاقيَّة دون قيدٍ أو شرط -وهذا ما يُسمَّى “الحبَّ غيرَ المشروط-
  • وأمام حالَتي انعدام تقدير الذات، والنفور من الأهل يُصبح الأبناء غير مؤمنين بقيم أسرتهم ومبادئها، بل لا يشعرون بالفخر من الانتماء إلى أسرتهم بسبب نفورهم من آبائهم وأمهاتهم، ولا يؤمنون بالمنهج الأخلاقيّ لهذه الأسرة. وبالتالي يُصبح الأبناء عُرضةً لكلِّ أنواع الاقتراحات الفاسدة التي تقولها لهم جماعة الأصدقاء التي ينتمون إليها. وهنا يبدأ سقوط القيم وتهاويها شيئاً فشيئاً.
  • وفي معرض حديثنا عن أسباب الشذوذ الجنسي نجد أنَّ الأبناء قد يُصبحون عرضةً للانحلال الأخلاقيّ شيئاً فشيئاً، وقد نستغرب أنَّهم يسقطون في مهاوي الخمر والمخدرات ثمَّ في الإباحيَّة بكلِّ ما فيها.

نسأل الله عز وجل أن يعصم أبناء المسلمين من مكائد شياطين الإنس والجنّ.

والحمد لله ربِّ العالمين.

المراجع:

[1] المثلية الجنسية.. سلوك مكتسب أم جينات لا نتحكم بها؟ مقال للدكتور إبراهيم السيد نُشر على شبكة الإنترنت موثق بالمراجع والأبحاث.

[2] التدابير الواقية والعلاجية للمجتمع من الشذوذ الجنسي في ضوء القرآن الكريم – د. حنان شبانة إبراهيم عبد الواحد (بتصرف).

[3]  الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.

[4] معادلة التربية – برنامج صناعة الأبناء العظماء 2013 – إحسان هلالة

الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية _ الجزء الأول

الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية -الجزء الأول-
الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية -الجزء الأول-

الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية _ الجزء الأول
بقلم: م. إحسان هلالة

Loading

فساد الأمم

الشذوذ الجنسيّ من الموضوعات التي تثير جدلاً وتساؤلاتٍ في أذهاننا، ولدى أبنائنا خاصَّةً، ولكن ليست كلُّ الأُسَر متفهِّمةً للأمر أو واعيةً له، وربَّما لا تملك إجاباتٍ شافيةً وعلميَّةً تُشبع فضول الأبناء وتحترم عقولهم، وفي الوقت نفسه تُجيبهم بحرصٍ ودقَّةٍ مع تفهُّمٍ دون نظرة اتِّهامٍ بعدم الأدب، أو التفاهة أو غيرها.

وقد وضع المروِّجون للشذوذ الجنسيّ كلمة (المثلية) بديلاً عن مصطلح الشذوذ الجنسي للتَّرويج له بأنَّه ميلٌ طبيعيٌّ في البشر وليس فيه مخالفةٌ للفطرة.

وفي حديثنا عن الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية نتناول أربع فقرات:

الجزء الأول:

  • تعريف الشذوذ الجنسيّ.
  • هل نحدِّث أبناءنا عن الشذوذ الجنسيّ؟ ومتى؟

الجزء الثاني ويتناول:

1- أسباب الشذوذ الجنسيّ.

2- كيف نحمي أبناءنا من الشذوذ الجنسيّ.

أولاً – تعريف الشذوذ الجنسيّ:

الشذوذ الجنسيّ: مصطلحٌ مُستحدثٌ يُطلق على كافَّة الممارسات الجنسيَّة غير الطبيعية المخالفة للفطرة الإنسانية التي فطر اللهُ عَزَّ و جَلَّ الناسَ عليها . [1]

وما نقصده  في مقالتنا هنا هو الشذوذ الجنسيُّ المثلي (المثلية الجنسية) وهو أحد أشكال الشذوذ الجنسيّ، والذي يتضمَّن وجود المشاعر الرومانسيّة والانجذاب الجنسيَّ لأفرادٍ من نفس الجنس والرغبة بممارسة الجنس معهم.

ثانياً – هل نحدِّث أبناءنا عن الشذوذ الجنسيّ؟ ومتى؟

قبل الحديث عن فكرة التَّحدُّث مع أبنائنا عن الشذوذ الجنسيّ نحتاج إلى الحديث عن فكرة الثقافة الجنسيَّة مع أبنائنا. “ولعلّ تحفُّظ الأهل عن الخوض فيما يُسمى بالثقافة الجنسيَّة مع أبنائهم نابعٌ أوَّلاً من نوع التربية التي تلقّاها الآباء أنفسهم، هذه التربية التي تعتبر السؤال والبحث في هذا الموضوع شيئاً محظوراً خارجاً عن إطار التربية السليمة، وثانياً من تخوُّف الأهل أن يعرف أبناؤهم هذه الأمور فيفتحوا أذهانهم على أشياء لم تكن تخطر ببالهم. إلَّا أنَّ تغيُّرات العصر، ومتطلَّبات الواقع أصبحت تفرض تغيير هذا الأسلوب مع أبنائنا، والتحدُّث معهم حول المواضيع التي تفرضها عليهم المراحل العمرية، وموضوع الثقافة الجنسية خاصَّةً. “]2[

والمقصود بالثقافة الجنسية: الإطار العلميَّ والشرعيَّ والأخلاقيَّ الذي يحيط بموضوع الجنس، والذي يؤثِّر في التكوين الشخصيّ للفرد في حياته. ]3[

وبشكلٍ عمليٍّ، من المفيد أن نذكر أنَّ “التثقيف الجنسيَّ للأبناء يبدأ منذ مرحلة الطفولة بعد سنِّ الثالثة، ولكن ليس أكثر من معرفة أعضائه التناسلية. ثمَّ يتطوَّر الأمر إلى التساؤل عن الفرق بين الذكر والأنثى، ثمَّ يتطوَّر إلى التساؤل عن الخلق والولادة في سنِّ السادسة.

ويستمرُّ التساؤل في التطوُّر إلى أن يصل إلى سنِّ المراهقة التي تستدعي من الأهل أن يُعرِّفوا أبناءهم على  الأمور الجنسيَّة والأجهزة الجنسيَّة معرفةً شاملةً ومفصَّلة، ولعلَّ كثيراً من الناس يستهجنون هذا الأمر، لكن لا بدَّ من معرفة أنَّ أبناءنا ليسوا منفصلين عن المجتمع، وإذا لم يثقَّفوا جنسياً في الوقت المناسب ضمن الإطار العلميِّ والشرعيِّ والأخلاقيِّ، فإنَّهم سيعرفون ذلك من اصدقائهم ولكن بطريقةٍ مغلوطةٍ، أو بطريقةٍ تحرِّك الشهوة، بعيدة كلَّ البعد عن الإطار الشرعيِّ والأخلاقيّ.”]4[

“والتثقيف الجنسيُّ الصحيح للأبناء ينضبط بالشروط التالية: ]5[

  1. وضع الأمر ضمن نطاق العلميَّات الحيوية العاديَّة للإنسان، وإدخاله تحت بند النظافة البدنيَّة، والطهارة الجسمية، والطهارة الحُكميَّة.
  2. استخدام مصطلحاتٍ شرعيَّة، بل ونظيفة لما يتعلَّق بالأجزاء الجنسيَّة والعمليات المتعلِّقة بها، فيزول بذلك كثيرٌ من الحرج.
  3. طرح الموضوع شرعيَّاً طرحاً لا يُخرج الموضوع عن جدِّيَّته، ويجعله قريباً إلى المتعلِّم من خلال حافز الثواب.
  4. احترام الموضوع، وعدم تقذيره أو جعله تحت أبواب الخطيئة، فيُلقي ذلك في روع الشاب أو الفتاة الاطمئنان، ويزيل كثيراً من مشاكل المراهقة بعد ذلك.”

بعد ذلك يأتي دور الحديث مع الأبناء عن الشذوذ الجنسيّ –موضع بحثنا– وطريقة الحديث، ووقته، وعمقه معهم في هذا الشأن هو أمرٌ نسبيٌّ، فالأهل الذي يعيشون في مجتمعٍ غربيٍّ يعترف بالشذوذ الجنسيّ تُنظَّم له فيه الحفلات لا يستطيعون تجاهل تساؤل أبنائهم حول هذه التظاهرات التي ترفع فيها أعلامهم، وتنتشر في الشوارع، بل لا يستطيعون إلَّا المصارحة.

أمَّا من يعيش في بلدٍ إسلاميٍّ فلا بأس أن يطرح الموضوع على الأبناء بعد دخولهم سنَّ البلوغ، وربطه بمنافاة الفطرة البشرية التي خلق الله عزَّ وجلَّ الناس عليها، وإلَّا سمع بها الأبناء من خلال الإنترنت، أو الأصدقاء، أو من خلال رؤيتِهم للعلَم الذي اتَّخذه هؤلاء شعاراً لهم، ثمَّ إذا سألوا آباءهم عن هذا المصطلح فلا بأس من إعلامهم به ضمن الشروط والضوابط التي ذكرناها.

وعند التحدُّث مع الأبناء حول موضوع الشذوذ الجنسيِّ، يجب مواكبة جميع الأبحاث العلميَّة، ليكون حديثاً ذا سندٍ علميٍّ؛ كعدم وجود أدلَّةٍ علميَّةٍ قاطعةٍ تدلُّ على ارتباط الجينات الوراثيَّة بالمثلية.

يقودنا هذا إلى التفصيل في:

أولاً: أسباب الشذوذ الجنسي.

ثانياً: كيف نحمي أبناءنا من الشذوذ الجنسيّ.

وهو موضوع بحثنا في الجزء الثاني من مقالتنا إن شاء الله.

المراجع:

[1] التدابير الواقية والعلاجية للمجتمع من الشذوذ الجنسي في ضوء القرآن الكريم – د. حنان شبانة إبراهيم عبد الواحد (بتصرف).
[2] التربية الجنسية للأطفال، كلام في الممنوع –الدكتور ياسر نصر– 2015.
[3] المصدر السابق نفسه.
[4]  المصدر السابق نفسه (بتصرف).
[5] بلوغ بلا خجل، الدكتور أكرم رضا- دار التوزيع والنشر الإسلامية، ط الثالثة 2000. 

الشذوذ الجنسية من وجهة نظر نفسية

الشذوذ الجنسي من الناحية النفسية
الشذوذ الجنسي من الناحية النفسية

الشذوذ الجنسي من وجهة نظر نفسية
بقلم: أ. رهف قره حمودة

Loading

لا يخفى بين الحين والآخر ظهور آراء فرديّةٍ وجماعيّةٍ حول ظاهرةٍ معيَّنةٍ بشكلٍ مُختلفٍ عن التّعاطي السابق لها، ولعلَّ ذلك مرتبطٌ بشبكةٍ من الأجندات والمسوِّغات، وعلى الرَّغم من أنَّنا لا نُقحم نظريّة المؤامرة هنا إلَّا أنّ الأمثلة التي تدعم الفكرة السابقة كثيرة.

في بداية القرن العشرين نظر علم النفس كأوَّل التَّخصُّصات العلميّة إلى الشُّذوذ الجنسيّ على أنَّه اضطرابٌ نفسيٌّ متضمِّناً المثليّة، والفيتشيّة، والبيدوفيليا، والسَّاديّة، والمازوشية، وغيرها، وذلك استناداً إلى الافتراضات التي جرى اختبارها وإلى ما كان يعتبر معياراً اجتماعياً، وعلى انطباعاتٍ سريريّة تألّفت من مرضى طلبوا العلاج بسبب سلوكهم الشّاذ جنسياً، حتى إنَّ القانون كان له إسهامٌ في معالجة ذلك.

وفي سبعينيَّات القرن العشرين، أصبح هناك إجماعٌ في مجال العلوم السلوكيّة والاجتماعيّة والمهنيّة الصِّحّيّة والنفسيّة على أنَّ أحد أنواع الشذوذ الجنسيّ أو ما أصبح يسمَّى لاحقا “المثليّة الجنسيَّة” هو شكلٌ صحِّيٌّ من أشكال التّوجُّه الجنسيّ عند البشر.

وعلى الرّغم من أنَّ معظم العاملين في هذا المجال مازالوا يرون في ذلك اضطراباً نفسياً إلَّا أنَّه ومع الأسف تَّمت إزالته من قبل مؤسَّسات الصِّحَّة النّفسيّة الكبرى مثل:DSM  (دليل التَّشخيص الإحصائي النَّفسيّ الأمريكيّ للاضطرابات النّفسية) من قائمتها باعتباره أحد الاضطرابات النفسيّة.

لا بُدّ أن نقف عند بعض التعاريف النفسيّة الخاصَّة بالاضطرابات الجنسيّة لنفهم تماماً في فوضى المصطلحات القائمة ما هو السواء والشذوذ الجنسيّ:

  • الهويّة الجنسيّة sexual identity:

وهي الخصائص الجنسيَّة البيولوجيّة للشّخص (الصبغيات- الأعضاء التناسلية الخارجية والداخلية– الهرمونات– الغدد التناسلية- الصفات الجنسية الثانوية).

  • هويَّة الدّور الجنسيّgender identity:

هو إحساس الشَّخص بكونه ذكراً أو أنثى (وقد يرتبط هذا الإحساس بمفاهيم نشأ عليها الفرد أو تأثَّر بها تباعاً؛ بغضِّ النظر عن هويته الجنسيّة).

  • الدّور الجنسيّ gender role:

وهو السُّلوك والدور الذي يمارسه الشخص ليُظهر نفسه ذكراً أو أنثى، وهذا لا يكون موجوداً عند الولادة، ولكنَّه يتشكَّل تدريجياً من خلال خبراتٍ تراكميّةٍ تعليمية.

  • التوجُّه الجنسيّ sexual orientation:

وهو ما يصف الأمور التي تثير الدّوافع الجنسيّة، ولعلّ اختلافها من خلال ما سبق يوضح أنَّ الصفات الجنسيّة البيولوجية للذّكر مختلفةٌ حتماً عن الصِّفات الجنسيّة البيولوجيّة للأنثى بما في ذلك الصبغيّات، والهرمونات، والغدد، والأعضاء الجنسيّة…

وأنَّ الإشباع الجنسيّ السّويّ هو العلاقة الجنسيّة المشروعة بينهما والْمُهيَّأة بيولوجياً لهذا الغرض، أمَّا غير ذلك من أشكال الإشباع الجنسيّ: كالاستمناء، والمثليَّة، والفيتشية (العلاقة مع الأشياء)، والبيدوفيليا (العلاقة مع الأطفال)، والمازوشية (الإشباع عند التَّعرُّض للأذى والعنف)، والسَّاديَّة (الإشباع عند التَّسبُّب بالأذى والعنف) وغيرها… هي أشكالٌ مُنحرفةٌ غيرُ سويّةٍ للإشباع الجنسيّ.

وبعيداً عن الدِّراسات التي يتمُّ التّرويج لها إعلاميّاً، أجرى فريقٌ من الباحثين بجامعة (نورث ويسترن) الأمريكيَّة دراسةً علميَّةً عام 2014 شملت فحص الحمض النووي لـ 400 ذكر من “المثليين الجنسيين” ولم يتمكَّن الباحثون من العثور على جينٍ واحدٍ مسؤولٍ عن توجُّههم الجنسيّ، وقالوا بأنَّ الجينات كانت إمَّا غير كافية، أو غير ضروريّة لجعل أيٍّ من الرِّجال شاذَّاً جنسيّاً.

وعلّق أستاذ علم الجينات الأمريكيّ (آلان ساندرز) على هذه الدِّراسة قائلاً:

الجينات ليست هي القصَّة الكاملة، إنَّها ليست كذلك“.

هذه الإشكاليَّة التي طرحها أستاذ الدِّراسات العائليَّة بجامعة (نبراسكا دوغلاس آبوت) تقول بأنَّ كثيراً من الناس يعتقدون أنَّ الجينات تؤثِّر في سلوكٍ نفسيٍّ مركب، والأمر ليس كذلك في أغلب الحالات، حيث ينتج السُّلوك من تأثيرٍ جينيٍّ مُتفاعلٍ مع العوامل البيئية.

لذلك فإنَّ الدّور الجنسيَّ والتوجُّه الجنسيّ يتأثَّران بآليَّات البرمجة الفكريّة، والاكتساب من المحيط ليشكِّلا فيما بعد أحد أشكال السُّلوكيّات الجنسيّة.

وبالتالي فإنَّ أيَّ أخطاء في التربية الجنسيّة كتعامُل الأهل الأُنثويّ مع أطفالهم الذُّكور أو العكس، أو التّعرُّض للتَّحرُّش الجنسيّ يمكن أن يُفعِّل مساراتٍ عصبيّةً للَّذّة أو ألماً في دماغ الطفل، وهذه المسارات غير السويّة تحرِّض فيما بعد قهريَّاً أو بإرادة الفرد سلوكيَّاتٍ جنسيَّةً شاذَّة.

ختاماً نقول:

إنَّ تغيُّر نسبة التَّقبُّل، والاعتراف بالإشباع الجنسيّ غير السّويّ وما ينطوي عليه من دعواتٍ لحريَّة الهويَّة الجنسيّة، أو وجود علاقةٍ بين الجينات والسُّلوك الجنسيّ وغير ذلك لابدَّ وأن يُنظر إليها نظرة استبصارٍ موضوعية.

ومن وجهة نظرٍ نفسيَّةٍ:

فإنَّ أيَّ انحرافٍ جنسيٍّ سواء كانت أسبابه تحليليَّةً أو نفسيَّةً معرفيَّةً يمكن أن يخضع للعلاج الدَّوائيّ والنّفسيّ التّحليليّ والمعرفيّ والسُّلوكيّ، من خلال جلساتٍ لا يَسعُنا ذكرها هنا، مع التَّأكيد على نجاحها في حال رغب المستفيد بالعلاج ونظر إلى الأمر على أنَّه مشكلةٌ يلزمها العلاج المناسب.

أمَّا مع وجود هذا التَّعنُّت والفكر الذي يقول: إنَّ هذا الإشباع الشاذّ هو ليس انحرافاً بل طريقةً من طرق الإشباع الجنسيّ، وعلاقةً عاطفيَّةً، وزواجاً مشروعاً استجابةً لأجنداتٍ لا دينيَّةٍ وماديَّةٍ وتسويقيّة… فإنَّ الكلام عن الفطرة والسواء النفسيّ والجنسيّ لن يُنظر  إليه إلَّا من منظار التَّعصُّب والجهل والتّخلُّف.

وفي النهاية مهما اختلفت الآراء تبقى الحقيقة واحدة.

المراجع بتصرف:
  • الشذوذ الجنسيّ حقيقته وأشكاله، محيي الدّين محمّد عطيّة، دار المنهل 2015.
  • مذكَّرة إعداد استشاريّ نفسيّ معتمد، تأليف الدكتور: حكم دياب، اختصاصيّ الطّبّ النّفسيّ.
  • Diagnostic and statistical manual of mental disorder (DSM2)
  • American psychological association Appropriate therapeutic responses to sexual orientation 2018
  • Homosexuality and American psychiatry the politics diagnosis Bayer Ronald 1987
  • Shuvo Ghosh MD gender identity from emedicine.medscspe.com 2020
  • John M Grohol transvestic disorder symptom from psychcentral .com 2020 
 

الشذوذ الجنسي من الناحية الطبية

غلاف الشذوذ الجنسي من الناحية الطبية
غلاف الشذوذ الجنسي من الناحية الطبية

الشذوذ الجنسي من الناحية الطبية
بقلم: أ. غالية القصار

Loading

رحمته في الجهاد

الشذوذ الجنسي (المثلية الجنسية:  Homosexuality)

الناحية الطبِّية

نظرت المجتمعات الغربية المعاصرة إلى حرية الإنسان نظرةً مختلفةً، ففسحت المجال أمامه لممارسة ما يحلو له دون قيودٍ أو ضوابط، فانساق الإنسان الغربيُّ وراء أهوائه ورعوناته واندفع يلبِّي شهواته خارج حدود التشريعات السماوية التي ما وُجِدت إلَّا لسعادته، فما ناله من وراء ذلك إلَّا الشقاء.

ومع تزايد الجهود التي ترمي إلى نشر الشذوذ الجنسيّ وتطبيعه مع المجتمعات حتَّى أطلقوا عليه:

(المثلية الجنسية Homosexuality) هروباً من مصطلح (الشذوذ الجنسيّ) الذي يعني خروجاً عن التنوع الطبيعيّ، كما يعني في عرف المجتمعات والتشريعات السماويَّة كافَّةً خللاً في المعايير الأخلاقيَّة والدينيَّة واستباحةً للمحرَّمات، بالإضافة إلى سنِّ تشريعاتٍ وقوانين في العديد من دول العالم في أوروبا وأمريكا وغيرها تحمي ذلك الخروج المرفوض عن الفطرة الإنسانية السويَّة، ولذلك كان لزاماً علينا أن نستعرض أبعاد الموضوع وننقل آراء لأطبَّاء وباحثين حول القضية نستبين من خلال ذلك ما عليه حقيقة الأمر.

لمحة تاريخية:

يرى الأطبَّاء النفسيُّون الشذوذ الجنسيَّ (المثلية) مرضاً نفسيَّاً، ونشرت الجمعية الأمريكية للطبِّ النفسيّ (وهي المصدر الرئيسيّ لتشخيص الاضطرابات النَّفسيَّة في أمريكا والعالم) عام 1952م في دليلها للدِّراسات الإحصائية تصنيف المثلية على أنَّها اضطرابٌ وخللٌ نفسيٌ شديدٌ يصنَّف ضمن قسم الانحرافات أو الشذوذ الجنسيّ.1

رفض بعض الناشطين الشواذّ المثليين اعتبار المثليَّة مرضاً، وساهمت ضغوطٌ شديدةٌ مارستها جمعيات المثليين (المدعومة سياسياً) في أمريكا في تشكيل لجنةٍ لمراجعة موقف الدليل. وترى جمعيَّات المثليين ذلك السلوك المنحرف حقَّاً طبيعياً لأصحابه بناءً على ما تقتضيه حريَّة الإنسان التي صانتها الجمعيات الحقوقية العالمية وميثاق حقوق الإنسان في الأمم المتَّحدة، كما اعتبرته ميلاً طبيعيَّاً كأيِّ ميلٍ جنسيٍّ طبيعيٍّ آخر.

فانعقدت لجنةٌ خاليةٌ من أيِّ عالمٍ يعتقد أنَّ المثلية اضطرابٌ نفسيٌّ، وقرَّرت اللجنة بسرعةٍ لم يسبق لها مثيلٌ حذف المثليَّة من الدَّليل التشخيصيَّ وذلك عام 1973م1، ثمَّ أزالت مؤسَّسات الصحَّة النفسية الكبرى حول العالم ذلك التصنيف بمن فيهم منظَّمة الصحَّة العالمية التابعة للأمم المتحدة، ما يعني أنَّ المثلية في نظرهم توجُّهٌ طبيعيٌ لا مشكلة فيه ولا يحتاج علاجاً، وأنَّه لا يسبِّب أيَّ خللٍ في الحكم أو الاستقرار أو الموثوقيَّة أو القدرات الاجتماعية والمهنية. وهكذا يُستخدم الطبُّ النفسيُّ وسيلةً لإلغاء تجريم الشذوذ الجنسيّ واعتباره خروجاً عن الفطرة السويَّة.

وجديرٌ بالذكر أنَّه في عام 2003م أظهر استطلاعٌ دوليٌّ بين الأطبَّاء النفسيين موقفهم من الشُّذوذ الجنسيّ (المثلية) أنَّ الغالبيَّة العظمى منهم تعتبره سلوكاً منحرفاً على الرغم من استبعاده من الدليل الأمريكيّ للصّحّة النّفسية [الجمعية الروسية للأطبَّاء النفسيين الروس]. كما ذكرت لجنة الصّحّة العامّة في أكاديمية نيويورك الطّبية في تقريرها عن (المثلية الجنسية) 1963م ما مضمونه: (الجنسيَّة المثليَّة مرض، والمثليُّ إنسانٌ مضطربٌ وجدانياً).2

كان لحذف الشذوذ الجنسيّ من التشخيصات المرضية أثرٌ سلبيّ، فلم يعد مسموحاً للأطبَّاء النفسيين معالجة هؤلاء بل على العكس صار واجباً على كلِّ طبيبٍ نفسيٍّ يتعرَّض لاستشارة طبِّيَّة حول الموضوع أن يساعد الشاذّ على تقبُّل ذاته والتكيُّف مع حاجاتها، وأصبحت المراجع الطبِّيَّة الغربية شبه خاليةٍ من تقنياتٍ علاجية لهذا الأمر.

هل يولد النَّاس وهم شاذُّون مثليون؟

هل هناك مورِّثاتٌ تسبِّب الشذوذ الجنسيّ؟

هل هناك سلوكٌ توجِّهه المورِّثات، وتتحكَّم به؟

في سعيٍ حثيثٍ لتبرير الشذوذ الجنسيّ، ونشر فكرة كونه تنوُّعاً طبيعياً مقبولاً، ظهرت ادّعاءاتٌ علميةٌ تربط ذلك الشذوذ بالجينات على اعتبار وجود مورِّثةٍ مسؤولةٍ عن ذلك التوجُّه لا يتحكَّم بها الإنسان كلون بشرته وطول جسمه، وذلك بناءً على بحوثٍ قام بها دين هامر 1993م (وهو عالم وراثة أمريكي)، ادَّعى من خلالها أنَّ هناك صلةً محتملةً بين مؤشِّرٍ جينيٍّ محمولٍ على الكروموسوم x والشذوذ الجنسيّ أو أنّه هو المسبِّب الفعليَّ له3، فدُحضت تلك الادِّعاءات عام 2012م من قبل الجمعية الأمريكية لعلم الوراثة البشرية التي أجرت بحوثاً موسَّعةً ولم تجد دليلاً على ما جاء به دين هامر.4 وفي عام 2015م قدَّمت تلك الجمعية دراسةً نُشرت في صحيفة التلغراف توضح أنَّ المثلية قد تكون ناجمةً عن العوامل البيئية بعد الولادة.5

ولقد واجهت الادّعاءات بشأن وجود ذلك الجين إشكاليةً كبيرةً وهي علاقة الجينات بالسلوك وهذا ما لم يستطع العلم الحديث إثباته حتَّى اليوم.

يقدِّم (دوغلاس آبوت) أستاذ الدراسات العائلية في جامعة نبراسكا في أمريكا شرحاً لهذا فيقول: (يعتقد كثيرٌ من الناس أنَّ الجينات تتسبَّب في سلوكٍ نفسيٍّ مركَّب، لكنَّ الأمر ليس كذلك، ففي أغلب الحالات ينتج السلوك من تأثيرٍ جينيٍّ متفاعلٍ مع العوامل البيئية، وحرية الإرادة الإنسانية، وعندما نقرأ: إنَّ الجين x يتسبَّب في السلوك y فإنَّ هذه مبالغةٌ لا يصدِّقها إلَّا البسطاء من الناس). ويوضح: (الجينات لا تتسبَّب مباشرةً في السلوك).6

وعن دراسةٍ حول المثلية الجنسية يذكر عالم الإحصاء الحيوي والأوبئة (لورنس ماير) 2016م، وعالم النفس (بول ماكهوغ): (لا يوجد دليلٌ علميٌّ موثوقٌ بأنَّ الجينات تحدِّد الميل الجنسيّ لدى الفرد، وإنَّ فهم التوجُّه الجنسيِّ على أساس أنَّه أمرٌ فطريٌّ ثابتٌ بيولوجياً عند البشر غير مدعومةٍ بأدلَّةٍ علميَّة).3

ويتحدث الدكتور الشهير: (نيل وايتهيد) وهو عالمٌ في الأحياء والإحصاء في كتابه: (هل الجينات فعلت ذلك؟) عن ذلك فيقول في خلاصة مؤلَّفه بعد دراساتٍ وبحوثٍ معمَّقة في علم الوراثة والجينات7:

1- لا يرى أحدٌ من علماء الجينات أنَّ الجينات تُملي السلوك وخاصَّة الجنسيَّ منه، لأنَّ الجينات تصنع البروتينات ولكنَّها لا تورِّث الميول.

2- لو كانت الميول المثلية أمراً تُمليه الجينات لكان اختفى نسلها من المجتمع خلال بضعة أجيال، ولما ظهرت اليوم.

3- لم يُكتشف أيُّ سلوكٍ بشريٍّ تحدِّده الجينات. ولا يمكن للسُّلوك الجنسيِّ الشاذّ أن يكون مُسبَّباً عن طفرةٍ في المورِّثات من الناحية البيولوجية.

4- يندرج الميل إلى نفس الجنس (المثلية) بصورةٍ أساسيَّةٍ تحت تصنيف (السِّمات النفسيَّة).

أسباب ظهور التوجُّه الجنسيّ الشاذّ (المثلية)

يؤكِّد علم النفس أنَّ عملية التنشئة هي عمليةٌ يكتسب الفرد فيها نمط سلوكه وتوجُّهه وفقاً لما يمرُّ به من خبراتٍ عديدةٍ ناتجةٍ عن احتكاكه المباشر وغير المباشر مع مختلف الأفراد والجماعات في الأسرة والمدرسة أو حتَّى ممَّا يشاهده عبر التلفاز، وفي وسائل التواصل عبر الإنترنت. ولهذه التنشئة الدور الأكبر في تركيب شخصية الإنسان وميوله من الناحية النفسية والاجتماعية.

وهناك دورٌ أساسيٌّ للتنشئة الاجتماعية في ظهور الشذوذ الجنسيّ، ويظهر أنَّ العوامل الأكثر وضوحاً وتأثيراً تتمثَّل فيما تقدِّمه اليوم بعض المؤسَّسات الإعلامية الضخمة المسيطرة، وما تبثُّه من مضمونٍ مشجِّعٍ ومروِّجٍ لذلك، وإذا أغمض المجتمع عينيه عمَّا يُغرس في عقول أبنائه ولم يقم الآباء والمربُّون بواجبهم في التربية الجنسيَّة الصحيحة باعتبارها جزءاً هامَّاً من عملية التربية، بحث الأولاد عن مصادر أخرى لإشباع فضولهم المعرفيّ في هذا الشأن، وربما اتَّجهوا إلى الأفلام والصور الإباحية، وما فيها من سمومٍ تؤدِّي إلى الاضطراب والانحراف الجنسيّ.

وفي هذا السياق، نشرت عالمة الاجتماع (آميباتلر) بحثاً تحدَّثت فيه عن أنَّ كثيراً من العوامل الإعلامية والاجتماعية والسياسية لها دورٌ كبيرٌ في تحديد الميول الجنسية، وأشارت في بحثها إلى تغيُّرٌ واضحٍ نحو الزيادة في نسب المثلية بسبب ما سبق ذكره.     

إنَّ السلوك الجنسيَّ في الأساس هو مفهومٌ ثقافيٌّ يتوقَّف على عوامل ثقافيةٍ واجتماعيةٍ أكثر ممَّا يتوقَّف على عوامل بيولوجية8.

وترجع بعض أسباب الشذوذ الجنسي (المثلية) إلى الانشغال بنمط حياةٍ منحرفٍ، والإدمان على المخدِّرات والمواد الإباحية، أو ربَّما هرباً من صدمةٍ حصلت أثناء فترة الطفولة، كما أنَّ عدداً من المثليين تعرَّضوا لاعتداء جنسيٍّ عندما كانوا يافعين، أو أنّهم يميلون إلى سلوكياتهم الشاذة لملء فراغٍ عاطفيٍّ لم يملأه الأب والأم. ويؤكِّد بعض الباحثين: أنَّ هناك علاقةً سببيَّةً بين المواد الإباحية والتوجُّه الجنسيِّ الشاذ9 .

وترى منظمة (Exodus international: _وهي منظَّمةٌ دينيَّةٌ تعمل على نشر التثقيف الجنسيِّ الصحيح، وتساعد المثليين على التخلُّص من سلوكهم الشاذ_ أنَّ أسباب الشذوذ الجنسيّ تتلخَّص في غياب الأبوين أو أحدهما أو التعرض لاعتداء جنسي، أو قسوة الآباء.9

ختاماً:

بناءً على ما سبق، وبما أنَّ المثليَّة سلوكٌ شاذٌّ لا تسبِّبه تغيُّراتٌ فيزيولوجيَّةٌ جسميَّةٌ حسب الرأي الطِّبِّي، ولا تتحكَّم به عوامل وراثيةٌ، وأنَّه اضطرابٌ نفسيٌّ ناتجٌ عن تأثير العوامل البيئيَّة المحيطة وهذه أشياء قابلةٌ للتَّعديل والمعالجة، فبالإمكان تفادي العوامل المساعدة على ظهور التوجُّهات الشاذّة من خلال زيادة جرعات الوعي الاجتماعيّ والتربويّ، وقبل ذلك زيادة الوعي الدينيّ، فهو صمَّام الأمان في المجتمعات الإنسانية في زمن أضاعت معه البشرية بوصلتها.      

 

المراجع

  1. Drescher, J. (2015). Out of DSM: Depathologizing homosexuality. Behavioral sciences, 5(4), 565-575.‏
  2. السياسات الجنسية والمنطق العلمي_ مجلة التاريخ النفسي رقم5_1992_ د. أوسم وصفي
  3. Mayer, L. S., & McHugh, P. R. (2016). Sexuality and gender: Findings from the biological, psychological, and social sciences. The New Atlantis, 10-143.‏
  4. Harrub, B., Thompson, B., & Miller, D. (2004). ‘This is the Way God Made Me’—A Scientific Examination of Homosexuality and the ‘Gay Gene,’. Reason & Revelation, 24(8), 73-79.‏
  5. Ellis, L., & Ames, M. A. (1987). Neurohormonal functioning and sexual orientation: A theory of homosexuality–heterosexuality. Psychological bulletin, 101(2), 233.‏
  6. https://www.aljazeera.net/midan/intellect/sociology/2017/8/1/
  7. Roughton, R. (2003). The international psychoanalytical association and homosexuality. Journal of Gay & Lesbian Psychotherapy, 7(1-2), 189-196.‏

8.شاهين_ إيمان فوزي سعيد_ الجنسية المثلية لدى الذكور: تناولٌ وجوديٌّ فينومينولوجي_ مجلَّة كلية التربية جامعة عين شمس_رقم 11_ العدد(3)/2005

  1. Jahangir, J. B., & Abdul-Latif, H. (2016). Investigating the Islamic perspective on homosexuality. Journal of homosexuality, 63(7), 925-954.‏

الشذوذ الجنسي من الناحية التاريخية

الشذوذ الجنسي من الناحية التاريخية
الشذوذ الجنسي من الناحية التاريخية

الشذوذ الجنسي من الناحية التاريخية
بقلم: أ. محمد زياد الوتار

Loading

رحمته في الجهاد

70 عاماً كانت كفيلةً بقلب المعايير! هل أصبح الشذوذ الجنسيّ أمراً طبيعياً؟

(سلاحٌ للدَّمار الشامل) هو الوصف الأدقُّ لما يواجه العالم اليوم من السُعار الجنسيّ الذي وصل إليه المجتمع الغربيُّ، والذي يسعى جاهداً لنشره عالمياً وفقاً لأجندته الإعلامية في صورةٍ جديدةٍ رسمها للعلاقات الجنسية. شكلٌ لم يعهده الإنسان سابقاً بعد أن فُتح الباب على مصراعيه في عالمٍ من العلاقات المفتوحة.

علاقاتٌ جنسيَّةٌ بلا حدود، لا تجد فيها أيَّ ممنوعٍ أو محظور، كلُّ شيءٍ مباح، كلُّ شيءٍ مسموح، وأيَّاً كان الأمر الذي تفعله، ومع أيٍّ كان، أيَّاً كان جنسه (كلُّه مباح إن تمَّ بالتراضي بين الأطراف). علاقةٌ لا رادع فيها لأيِّ ممارسةٍ تتمُّ تحت مظلَّة القانون والتراضي بين الطرفين، بل لربَّما قولنا: الأطراف هو وصفٌ الأدقُّ، لأنَّ العلاقة المفتوحة تعدَّت كونها علاقةً جنسيَّةً بين اثنين فقط!

يظهر ذلك بالتزامن مع النزعة الفردية التي طفت مؤخَّراً على السطح، والتي تهدف إلى تأليه الإنسان، وإشباع رغباته وشهواته في المقام الأوَّل. فلا يهمُّ البتَّة إن حكمت نتائجها اليقينية بتشويه القيم والأخلاق والفضيلة، أو دمار الجنس البشريّ عندما يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء. يتمُّ كلُّ ذلك عبر تجنيد آلاف القنوات والآلات الإعلاميَّة من قنواتٍ فضائيَّةٍ، ومواقع عبر شبكة الإنترنت تنشر الفحش والرذيلة على مدار الساعة بأشكالٍ تروِّج للشُّذوذ الجنسيّ والانحطاط الأخلاقيِّ حتَّى في المواد الترفيهية التي تُقدَّم للأطفال، فضلاً عن دمج تلك الأفكار في المناهج التعلميَّة ضمن المواد المدرسية في فصولٍ مبكرةٍ لأطفالٍ لم يُتمُّوا السابعة من العمر.

سُعارٌ فكريٌّ يهدف إلى تكوين ثقافةٍ جنسيَّةٍ منحلَّة ٍمن أيِّ قيدٍ أخلاقيٍّ ينظِّمها في مجتمعٍ يسعى إلى التفلُّت ممَّا يسمَّى “سجن الزواج” ليصبح الجنس وإقامة علاقاتٍ متنوِّعةٍ هو الوسيلة الأساسية للاستمتاع. تلك الحالة من الانفلات الحيوانيّ التي توفِّرها العلاقات الفاسدة محوِّلةً الوسيلة إلى غايةٍ في حدِّ ذاتها، يجري كلُّ ذلك تحت مظلَّة القانون وحمايته لتكون هذه الممارسات متاحةً في أيِّ وقتٍ، متدنِّيةً بالإنسان إلى أسفل مراتب الشذوذ الفكريِّ والأخلاقيِّ.

وبعد، هل سمعت بـ(حركة تحرير المثليين)، أو هل تعرف ما هو مجتمع الميم؟

حركة تحرُّر المثليين: هي حراكٌ اجتماعيٌّ للشواذّ، يسعى لمنح كلِّ  الحقوق المدنيَّة للمثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسيّ ممَّن يطلقون على أنفسهم (مجتمع الميم LGBTQ). وبعد أن كانت المثليّة جريمةً يُعاقب عليها القانون أصبحت أمراً طبيعيَّاً ينظِّمه القانون ويحميه في معظم دول أوروبا بل ويمنح أصحابه الحرية والرعاية.

لربَّما تسأل نفسك الآن: كيف حدث ذلك؟ وكيف يرعى القانون أمراً شائناً كهذا، كان في وقتٍ ما من الزمن خارجاً عن القانون والأعراف والأديان؟

تاريخياً، وبالعودة إلى الوراء، وتحديداً إلى ستينات القرن الماضي، يمكننا أن نقول إنَّ معظم القوانين في أوروبا لم تتقبَّل المثلية الجنسية في بادئ الأمر بل على العكس تماماً كانت تجرِّمها وتعاقب عليها، وذلك عندما كان الدين المسيحيُّ هو الحاكم في أوروبا عموماً، وقد فرضت المسيحية عقوبة الإعدام ضدَّ من تثبت عليه تلك الجريمة، ففي القرن السادس عشر، صنَّف المشرِّعون في بريطانيا السلوك المثليَّ على أنَّه سلوكٌ إجراميٌّ وليس مجرَّد سلوكٍ غير أخلاقيّ.

 

إذن كيف تغيَّرت الحكاية وتبدَّلت المعايير؟

في بريطانيا وتحديداً في ثلاثينات القرن الخامس عشر أصدرت إنجلترا قانون اللواط، ووضعت له عقوبة الإعدام شنقاً، وذلك حتَّى عام 1861م، وبعد عشرين عاماً في حوالي 1885م، أثبت قانون العقوبات الألمانيّ الأخير في الفقرة (175) تجريم العلاقات المثلية بين الذكور مع عقوبة السجن والحرمان التامّ من الحقوق المدنية، واستمرَّ هذا الأمر طيَّ الكتمان والسرية بين أفراد مجتمع الميم حتَّى نهاية القرن التاسع عشر، ولم يُرصد أيُّ حراكٍ اجتماعيٍّ يُدافع عن حقوق الشواذّ أو يعلن عنهم؛ لكن وكما هو الحال دائماً إذا أردت لفكرةٍ ما أن يتمَّ تقبُّلها في المجتمع فعليك أن تمهِّد لها الطريق عبر وسائل الإعلام.

إنَّها الطريقة المثلى التي يمكن أن يروَّج من خلالها للأفكار الجديدة. ولأنَّ الشعراء والمفكِّرين هم أهمُّ أدوات الإعلام في ذلك الوقت فقد أعلن اللورد ألفريد دوغلاسحبَّه لشريكه، وميوله المثليّ الجنسيّ لعشيقه أوسكار وايلد في قصيدته التي كتبها عام 1890 بعنوان: “Two Loves عبر قوله صراحةً في قصيدته “أنا المثلية الجنسية؛ أنا الحبّ الذي لا يجرؤ أحدٌ على التحدُّث باسمه”.

تسميمٌ واضحٌ للمفاهيم، وكسرٌ للصورة النمطية لمفهوم الرجولة والأنوثة عبر أجندةٍ إعلاميَّةٍ ممنهجة، وهي السمة الواضحة التي اتَّبعها الإعلام الأمريكيّ عبر وسائله المختلفة لإقناع الناس بأنَّه لا مانع من أن يكون الرجل مخنَّثاً أو أن تكون المرأة مسترجلة، فترويج الفكرة في قالبٍ ترفيهيٍّ أو دراميٍّ يهدف إلى تمرير فكرة تخنُّث الرجال لدى عموم الناس، وهذا أمرٌ واضحٌ، وليس رسالةً خفيَّةً لا يُدركها أيٌّ كان، بل  لطالما روِّج لذلك عبر المنصَّات الإعلاميَّة بمختلف أشكالها.

فعلى سبيل المثال: صوَّرت الممثِّلة الأمريكية سارة سيلفر مان في إعلانٍ لها هذا الاتجاه عندما مثَّلت إعلاناً على أنَّها طبيبة تجري عملية ولادةٍ لإحدى النساء، وبعد تأكُّدها من صحَّة المولود تتوجَّه إلى الأم لتخبرها بلهجةٍ حزينةٍ عن جنسه، فتقول:

 “أنا آسفة… إنَّه ولد“، ورغم أنَّ الإعلان صُوِّر بطريقةٍ ساخرةٍ وسياقٍ كوميديّ إلَّا أنَّ ما ورائيَّاته كانت واضحةً، وتهدف لزرع فكرةٍ فقط، فكرةٍ نافذةٍ وقادرةٍ على تدمير المجتمع السليم، فهذا الإطار يضع الولد في موضع الاتِّهام منذ نعومة أظفاره، وعليه ألَّا يخضع لقيم الرجولة مطلقاً، وهذا هو التمهيد الحقيقيُّ لتدمير معاني الرجولة، وخلق ميلٍ يُشعر الذكور من الأطفال ممَّن يُتاح لهم مشاهدة هذا الإعلان بأنَّهم منقوصي الهويَّة!

مقدِّماتٌ مهّد لها الإعلام الأمريكيّ عبر زرع فكرةٍ سامَّةٍ ليصادق عليها المجتمع، يرويَها ويتعهَّدها فلاحٌ نشيطٌ يقوم بدوره الواضح وهذا الفلاح هو (البرلمان) الذي استخدم أداته (القانون) في سنِّ التشريعات التي تتيح للشواذِّ ممارسة حرِّيَّاتهم صراحةً وعلناً في المجتمع. وكما هو متوقَّعٌ؛ تبادر وتمتثل الحكومات في أوروبا لدعم أيِّ فكرةٍ تٌدمِّر الأسرة والعلاقات السلميَّة تمهيداً لنشر فوضى الأخلاق، متذرِّعةً بأنَّها بلدان الحريَّات المفتوحة، ففي عام 1897 مُنح المثليّون من الرجال والنساء صوتًا انتخابياً مع تأسيس اللجنة العلمية الإنسانية (Wissenschaftlich-humanitäres Komitee؛ WhK) في برلين في ألمانيا مع حقِّ تقديم التماسٍ للمطالبة بإلغاء الفقرة 175 من قانون العقوبات، والتي كانت تجرِّم المثلية والمثلييين في عهد هتلر.

 كما نشرت اللجنة العلمية آنفة الذكر مؤلَّفاتٍ تروِّج للتَّحرُّر الجنسيّ، ورعت تجمُّعات المثليين، وقامت بحملاتٍ لدعم التغيير القانونيّ في جميع أنحاء ألمانيا، وكذلك في هولندا والنمسا، وبحلول عام 1922 كانت قد طوَّرت حوالي 25 لجنةً محلّية للمثليين.

كان مؤسِّس هذه الجمعية هو ماجنوس هيرشفيلد Magnus Hirschfeld، الذي افتتح في عام 1919 معهد العلوم الجنسية (Institut für Sexualwissenschaft)، والذي تبعته بعد عدَّة عقودٍ مراكز أخرى (مثل معهد كينزي لأبحاث الجنس والجندر والتكاثر في الولايات المتحدة).

ساعدت هذه المراكز برعاية الرابطة العالمية ما أسموه: الإصلاح الجنسيّ، والتي تأسَّست عام 1928 في مؤتمرٍ عُقد في كوبنهاغن. وبذلك  أصبحت السلطات أكثر تسامحاً مع النزوات الليلية للمثليين.

إبَّان الحرب العالمية الثانية، لم يكن النشاط الاجتماعي والسياسي للمثليين مرئيًا بشكلٍ عام، وكثيراً ما تتبَّعتهم الشرطة أينما تجمَّعوا؛ لكنَّ هذا كلَّه تغيَّر بعد الحرب العالمية الثانية؛ فقد جلبت الحرب العديد من الشباب إلى المدن، وسلَّطت الضوء على مجتمع المثليين.

أثار الحضور الاجتماعيّ للمثليين في الولايات المتَّحدة بعض ردود الفعل العكسية، لا سيما من الحكومة والشرطة؛ فغالباً ما فُصل موظَّفوهم من الخدمة المدنية، وحاول الجيش كثيراً تطهير صفوفه من الجنود المثليين، لكن تحت هذه القشرة من الملاحقة القانونية كان هناك حراكٌ سياسيٌّ واجتماعيٌّ أكبر يهدف إلى إلغاء تجريم المثلية الجنسية.

إنَّ تخصيص جمعياتٍ وناشطين وفنَّانين ومشاهير وقوانين تتحدَّث في شأن المثلية أمرٌ يجعل الشذوذ مسألةً اجتماعيةً وقضيةً تتملَّك سلطةً واضحةً عبر الأجندة التي قُدِّمت بها بهذا الشكل الجديد حيث تصبح النقاشات العلميَّة ودراسات الأخلاق والقانون والإنتاج الفنيّ مسألة متخصِّصين؛ بمعنى أنَّه لم يعد مسموحاً أن يترك للعامَّة حقُّ الحكم الأخلاقيّ على تلك الممارسات بوصفها أخلاقيةً أو غير أخلاقية، حتَّى لو كانت في فجاجة المثلية؛ بل صادَر من يسمِّيهم المجتمع الحديث: “المتخصصون” حقَّ الكلام في التصنيف الأخلاقي والعلمي، وبعد أن كانت جرماً في يومٍ من الأيَّام أصبح لا يمكن لك أن تتحدَّث عن هؤلاء بسوءٍ، وخصوصاً بعد أن أعلن عددٌ كبيرٌ من المسؤولين في أوروبا عن ميلهم الجنسيّ المثليّ وشرِّعت القوانين لحمايتهم.

الطامَّة الكبرى، أُشعل فتيلها في منتصف القرن العشرين، عندما بدأت المنظَّمات الداعمة للمثلية في التزايد فتأسَّس مركز Cultuur en Ontspannings (“مركز الثقافة والترفيه”)، أو COC، في عام 1946 في أمستردام.

وفي عام 1950 أسَّس هاري هاي في لوس أنجلوس أوَّل منظَّمةٍ للمثليين الذكور، تحت اسم جمعية ماتاشين إضافةً إلى تأسيس منظَّمة مثليات بيليتس عام 1955 على يد فيليس ليون وديل مارتن في سان فرانسيسكو.

تتسارع الأحداث والتطوُّرات فبعد عامين في بريطانيا حوالي عام 1957 أصدرت لجنةٌ برئاسة السير جون ولفندن تقريراً يوصي بحذف العلاقات الجنسية المثلية بين البالغين المتراضين من جرائم القانون الجنائي، ليُدرس القانون جدِّياً، ويتمَّ تنفيذ توصية البرلمان وتحذف الممارسات المثلية من قانون الجرائم الجنسية.

منذ ذلك الوقت، بدأت حركة حقوق المثليين في كسب العديد من الحريات القانونية، لا سيما في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. ولكنَّ الحدث الأهمَّ والمحدَّد لنشاط المثليين في الولايات المتحدة؛ جاء في الساعات الأولى من صباح يوم 28 يونيو/حزيران 1969، عندما داهمت الشرطة حانة ستونوول Stonewall Inn، وهي حانةٌ خاصَّةٌ بالمثليين في قرية غرينتش في مدينة نيويورك، فكانت النتيجة أن انضمَّ ما يقرب من 400 شخصٍ إلى أعمال شغب استمرَّت 45 دقيقة، ثمَّ تستأنف تلك الأعمال في الليالي التالية.

ويحتفل مجتمع  الميم كلَّ عامٍ بهذه الحادثة في شهر يونيو (الذي يطلقون عليه شهر الفخر)، ليس في المدن الأمريكية فقط، بل في العديد من البلدان الأخرى، وذلك بتنظيم مسيرات الفخر.

فخرٌ بما وصلوا إليه من إعلانٍ لميولهم الشاذّة، ورغباتهم المتدنّية التي دعمها القانون لتصير مقبولةً اجتماعياً، فقد حصل الناشطون المثليون في عام 1980 على دعم الحزب الديمقراطي وذلك عندما أدرج الحزب في برنامجه شرط “عدم التمييز” الذي يتضمَّن المساواة بين الميول الجنسيّة المختلفة. كلُّ هذا الدعم كان يسير جنباً إلى جنبٍ مع حملات ناشطي المثليين الذين يحثُّون الرجال والنساء المثليين على “الخروج من القمقم”.

حيث شجَّعت الجمعيَّات التي تُعنى بشؤون الشواذ مجتمعَ الميم على دخول المعترك السياسي، وذلك ليكون إعلاناً رسمياً من الحكومات أنَّه لن تسلب الحقوق المدنية للمثليين بل على العكس؛ فالقانون يضمن للشواذّ أن يتقلَّدوا أرفع المناصب السياسية.

وفي عام 1977، انتخب الناشط الأمريكي في مجال حقوق المثليين هارفي ميلك، لعضوية مجلس المشرفين Board of Supervisors في سان فرانسيسكو، لكنَّه اغتيل في العام التالي.

وفي عام 1983، أصبح جيري ستودز أوَّل عضوٍ في الكونغرس في الولايات المتَّحدة يُعلن عن مثليَّته الجنسية، كما أصبح تامي بالدوين من ولاية ويسكونسن، أوَّل سياسيٍّ مثليّ الجنس يتمُّ انتخابه في كلٍّ من مجلس النوَّاب الأمريكي (1998) ومجلس الشيوخ الأمريكيّ (2012).

وفي عام 2009، انتخب أنيس باركر عمدةً لمدينة هيوستن -رابع أكبر مدينةٍ في أمريكا- ممَّا يجعلها أكبر مدينةٍ في الولايات المتَّحدة تنتخب سياسياً مثلياً علناً رئيساً للبلدية، ثمَّ أتى إقرار المحكمة العليا في 2015 ليمثِّل حلقةً ضمن سلسلةٍ طويلةٍ من الحراك الاجتماعي والسياسيّ لمجتمع الميم.

و في ألمانيا أصبح زواج المثليين قانونياً في البلاد منذ 1 أكتوبر عام 2017، بعدما صوَّت البوندستاغ (البرلمان الاتحادي) بغالبية أعضائه يوم 30 يونيو عام 2017 على تشريعٍ يكفل للشركاء المثليين كامل حقوق التَّبنِّي أيضاً، وكانت الشراكات المسجَّلة قبل ذلك متاحةً للشركاء المثليين منذ إقرارها عام 2001. ضمِنت هذه الشراكات معظم الحقوق القانونية المتاحة للأزواج المغايرين جنسياً وليس كاملها، وتوقَّف العمل بها بعد دخول قانون زواج المثليين حيِّز التنفيذ، فأصبح تبنِّي الشريك المثليّ لأطفال الشريك الآخر البيولوجيين قانونياً عام 2005، وقد جرى تعديل القانون عام 2013 ليسمح أيضاً بتبنِّي أحد الشريكين للطفل الذي تمَّ تبنِّيه سابقاً من قبل الشريك الآخر.

يبدو أنَّ الانحطاط الفكريَّ الذي نراه في هذا العصر بدأ منذ أعوامٍ طويلةٍ مضت جعلت من تلك البشاعة أمراً مُستساغاً يمكن أن نراه في المجتمعات الغربية بشكلٍ علنيٍّ دون أدنى خجل، بل إنَّه أصبح قانونياً في كثيرٍ من البلدان فضلاً عن تطبيع المثلية بطريقةٍ أو بأخرى لتصبح منظومةً بقوانين تتيح لأولئك أن يمارسوا الرذيلة بأشكالٍ شتَّى دون أيّة مُحاسبةٍ، بل على العكس تماماً يسعى مجتمع الميم أن يضمن حقوقه في مقاضاة كلِّ من يعترض على كون أحد أفراده شاذّاً، فلا عجب من أن يجرَّم في القانون من يتهجَّم على أحد أفراد هذا المجتمع الشاذّ بوصفه بأنَّه شخصٌ مقرفٌ أو مقزِّز في ميوله أو توجُّهاته، فهو في قانونهم شخصٌ محترمٌ لا يجب أن تُجرح مشاعره بنعته بتلك الصفات، ويجب الاقتناع بأنَّه يمتلك الحقوق التي تمتلكها أنت كلَّها.

فهل كانت تلك العقود البسيطة من الزمن كفيلةً في قلب تلك المعايير رأساً على عقب؟
هل سيصبح الأسوياء هم المنبوذين في المستقبل!
لا ندري لعلَّ كلَّ ما نعرفه وما ألفناه سيتبدَّل ويتغيَّر… كلُّ شيءٍ ممكنٌ في هذا العالم المجنون.

زياد الوتار

بقلم: أ. محمد زياد الوتار

رحمته ﷺ بالطبيعة

رحمته بالطبيعة
رحمته بالطبيعة

رحمتُهُ ﷺ بالطبيعة

Loading

رحمته في الجهاد

إنّ بين الرحمة والمحبّة ارتباطاً وثيقاً، فالمحبّة من أخصِّ أنواع الرحمة، وكلَّما ازدادت الرَّحمة في القلب نمت المحبّة فيه، وفاض إرهافاً ورِقّةً، وأحبّ كلّ ما حوله من الطبيعة.

ولا أقصد بذلك ما يعتري الرومانسيين، الذين اتّسموا بالإحساس المرهف، والمشاعر الوجدانيّة العميقة، فعشقوا الطبيعة وبادلوها مشاعرهم، واتّخذوها حبيبتهم.

فإنّ هؤلاء العشّاق عاشوا في حالةٍ من التشاؤم والسوداويّة والكآبة، والانزواء عن الحياة، والابتعاد عن الواقع، ولم ينشأ هذا التعلّق بالطبيعة عن نفسٍ سويّةٍ تتكامل فيها معاني المحبّة والرَّحمة، بل هو مذهبٌ يلجأ إليه من اسودّت الدنيا في وجوههم وأرادوا إفراغ مشاعرهم في الطبيعة التي بين أيديهم.

فالعشق عند هؤلاء ليس بصادق، بل هم أشدّ الناس قسوةً إلّا على محبوبهم؛ وقد هربوا من الواقع بقصد ملء الفراغ الذي شتّت قلوبهم، ولم يجدوا ملجأً لهم إلَّا الطبيعة، فاعتاضوا بها عن البشر، وتجاوز هذا التعلّق حدّه عند بعضهم، حتى أصبح حالةً مَرَضيّةً جليّة، فجعل العلاقة بينه وبين الطبيعة علاقة تزاوجٍ مادّيٍّ كما يتزوّج من المرأة.

 أمّا المقصود من محبّة الطبيعة في هذه المقالة: فهي المحبّة الحقيقيّة الصادقة الممتزجة بالرحمة، النابعة من نفسٍ سويّةٍ، ونظرةٍ إيجابيّةٍ إلى الكون بأسره، وهذا ما كان عليه رسول الله من كمال الرحمة والمحبّة التي استوعبت كلّ ما في الخليقة، حتَّى عمّت البشر والطبيعة والجماد، ولم تكن محبّته  للطبيعة نابعةً عن حالةٍ نفسيّةٍ نافرةٍ من البشر، منزويةٍ في زاويةٍ من مشاعر الكآبة والإحباط كما يفعل الرومانسيون، بل كانت محبّته فيضاً من الرحمة التي جعلها الله تعالى في قلبه، والكمال الذي تفوّق به الأنبياء على سائر البشريّة.

فقد شخّص رسول الله  الطبيعة من حوله، وبادلها المحبّة…

فإنّه حين خرج من مكَّة التفت إليها ومَشاعرُ الحبِّ تلتهب بين جوانحه، فخاطبها بلسان الوداد كما يخاطب حبيباً معتذراً عن فراقه وقال لها: (ما أطيبَكِ من بلد، وأحَبَّك إليَّ، ولولا أنَّ قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيرَك) [الترمذي وابن حبان وغيرهما واللفظ للترمذي].

وأَحبَّ حجارتها وأحبّته، فكان فيها حجرٌ يسلّم على رسول الله  فقال: ((إني لأعرف حجراً بمكّة كان يُسلّم عليّ قبل أن أُبعَث، إنّي لأعرفه الآن)) [مسلم والترمذي].

وأَحبَّ جبل أُحُد، وأخبر بأنّ هذا الجبل أيضاً يحبّه حين نظر إليه فقال: «هذا جبلٌ يُحبّنا ونُحبّه» [متفق عليه].

فكان  يبني علاقته مع ما حوله من الأرض والحجارة والجبال والأشجار والطبيعة على المحبّة، فضلاً عن الإنسان، فقد نال شأواً رفيعاً في الرحمة والرّقة والعطف والمحبّة لم يبلغه أحد.

ولم يكن هذا الأمر من طرفه فحسب، بل بادلته تلك الجمادات التي نراها ساكنةً هذا الشعور، فكانت ذرَّاتها مشحونةً بمحبَّة رسول الله وتحنّ شوقاً إليه، كما يحبّها ، وقد ثبت في الحديث الصحيح بل قال ابن كثير (المتواتر) أنَّ رسول الله لمّا صُنِع له المنبر، وقد كان يوم الجمعة يقف إلى جانب جذعٍ من جذوع المسجد، وكان يضع يده عليه، فلما وُضِع المنبر وجاء النَّبيُّ ليخطب وتجاوز الجذع ومضى نحو المنبر، وكان الجذع متشوّقاً إلى رسول الله متشوِّفاً إلى قربه ومسّه له، ففوجئ بأنَّ النَّبيّ قد جاوزه ولم يعرّج عنده، فلم يطق صبراً، فحنّ الجذع وجعل يئنّ كما يئنّ الصبيُّ الذي يُسَكَّن لما يسمع من الذِّكر والوحي عنده، ولم يَسكُن حتّى وضع رسول الله  يده عليه…

قال جابر رضي الله عنه : (فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار، حتَّى جاء النَّبيُّ  فوضع يده عليها فسكنت) [حديث حنين الجذع أخرجه البخاري في عدّة مواضع عن جابر وابن عمر، وكذلك أخرجه الترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وغيرهم].(والعشار هي النوق الحوامل)

 وكان الحسن البصريُّ رحمه الله إذا حدّث بهذا الحديث بكى ثمَّ قال: (يا عباد الله، الخشبة تحنّ إلى رسول الله  شوقاً إليه لمكانه من الله، فأنتم أحقُّ أن تشتاقوا إلى لقائه) [البداية والنهاية لابن كثير من رواية البغوي: (6/132) وابن حبان (6507)].

وكأنّي ببعض القُرّاء يتعجّب ويلوح بباله ما يقوله المنكرون بأنّ الدّين يصدّق الخرافات، فهل من المعقول، أن يسلّم حجرٌ، ويئنَّ جذع…!

فالجواب:

إنّ الحياة ليست مادّةً فحسب، بل هناك ما بعد المادّة ما لم يتوصّل إليه الإنسان، فالحواس لا تُدرك إلَّا النزر اليسير من الحقائق، أمّا الروح فبها يسمو الإنسان، ويتذوّق الحقائق الإيمانيّة والوجدانيّة التي لا يشعر بها ذوو النظرة المادّيّة السطحيّة.

وإنّنا لم ندرك شعور ما حولنا من الطبيعة لأنّ أجناسها مختلفةٌ عنّا، ولكن بيَّنت الدراسة والتجارب أنّ النبات له شعورٌ، ولا عجب إذن أن يحنّ الجذع ويئنّ. وقد أُجرِيَت دراساتٌ في إيطاليا على النباتات، وتبيّن أنّ النباتات تتأثّر وتحبّ وتكره وتخاف. [انظر يوتيوب قناة العربيّة تحت عنوان: (النباتات تتأثّر بمشاعر الإنسان ..تحبّ وتكره، وأحياناً تنتحر) بتاريخ 20/4/2018 ]

وكذلك أجريت دراسةٌ على الماء -وهو جماد- من عدّة باحثين منهم: العالم الفرنسي (جاك بنفنست) وهو أوّل من أثار هذا الموضوع، وتبعه الفرنسي (جاك كولين) واليابانيّ (ماسارو إيموتو) وغيرهم.

 وتبيّن لهم أنّ الماء يحتفظ بذاكرةٍ تُخزّن المعلومات، وأنّه يتأثّر ويتغيّر تشكيله الهندسيّ مع كلِّ صوتٍ أو ضوء أو تفاعلٍ مغناطيسيٍّ ونحوه، وأيّ تشكيلٍ هندسيٍّ فيه فهو بمثابة خليّةٍ معلوماتيّة، وأنّ أقوى التأثيرات التي تقع على الماء هي المشاعر التي تصدر عن الإنسان سواء كانت إيجابيّة أو سلبيّة، كالحبّ والعطف والحنان، أو البغض والحسد والكراهية ونحو ذلك، [انظر صحيفة الاتحاد، مقال تحت عنوان: (ذاكرة الماء) 14 فبراير 2019م، موقع إسلام أون لاين: مقال تحت عنوان: انتبه من ذاكرة الماء] فالماء يتأثّر بالحبّ وبالبغض.

وقبل هذا كلّه، وسواء أُجرِيَت هذه الدراسات أو لم تُجْرَ، فالمؤمن يصدّق الأحداث التي وردت في السنّة عن رسول الله ، ولا يشكّ أحدٌ من المؤمنين بأنّ الله تعالى الذي خلق كلَّ شيءٍ قادرٌ على أن يُنطِق الحجر والنبات وجميع المخلوقات، وأن تعبّر عن محبّتها، فإذا بلَغَنا إنطاقها بالخبر الصادق فلا يسع المؤمن إلّا أن يصدّق به، لأنّ الإيمان منظومةٌ متكاملة، فالإيمان بالله ورسوله يقتضي التسليم بكلّ ما ورد في القرآن الكريم وصحيح السنّة النبويّة.

 وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك النطق والشعور الذي في الطبيعة، وصرّحت به السنّة النبويّة.

فقال تعالى في نطق تلك الكائنات وتسبيحها: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ[الإسراء: 44]

وقال في ما يتعلّق بمشاعرها: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ[الدخان: 29] أي عندما أُغرِق قوم فرعون لم تحزن عليهم الأكوان.

وقال رسول الله  في هذه الآية: (ما من مؤمنٍ إلا وله بابان، بابٌ يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بَكيَا عليه، فذلك قوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوْا مُنْظَرِيْنَ﴾) [أخرجه الترمذي]

وقال عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه في هذه الآية: (إنّ المؤمن إذا مات بكى عليه مُصَلّاه من الأرض، وبابه الذي يصعد منه عمله) [الزهد لأبي داود (ص: 118)].  

وقال رسول الله  في أحاديث آخر الزمان عن نطق الحجر والشجر: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهوديُّ من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهوديٌّ خلفي، فتعال فاقتله، إلَّا الغرقد، فإنَّه من شجر اليهود) [أخرجه مسلم وغيره].

وكلّما ازداد الإيمان في القلب تذوّق هذه المعاني، وأدرك تلك المشاعر المتبادَلة بين البشر والطبيعة، كونهم جميعاً عباد الله وعلى فطرة التوحيد.

فنجد المحبّين العاشقين يشعرون بأنّ كلّ ذرّةٍ في الكون لها قلبٌ ينبض بالمحبّة؛ لأنّ الأرواح تدرك ما لا تدركه الحواسّ، قال المحبّ العالم عفيف التلمساني يخاطب الذات الإلهيّة:

سَبَيْتَ الورى طُرّاً وأنت مُحَـــجَّبُ     فكيف بمن يهواك لو زالت الحُجُبُ

وأصبحتَ معشوقَ القلوب بأسرِها    ولا ذرّة في الكـــــــون إلّا ولـــــها قلــــــــبُ

فها هو حال المحبّين والعاشقين، فإنّهم يشعرون أنّ كلّ شيءٍ في الكون يشاركهم العشق والوله، وهذا الشعور حقٌّ، ولكن لا يلمسه إلَّا أهل الأذواق الرفيعة.

أمّا المنكرون فيتتبّعون ما يَرِد عن النَّبيِّ بالنَّقد والتكذيب، لعدم وصولهم إلى تلك المعاني العميقة الرقيقة، مع أنّ أقواله وأفعاله  جاءت بعين الكمال، فهو مسدّدٌ بالوحي من عند الله تعالى، لكنّهم لم يدركوا ما جاء به لقصور نظرهم.

 وبالمقابل فإنّهم ينظرون إلى المذاهب المبنيّة على الأساطير، والفلسفات، والأوهام، والخيالات، بعين الاحترام والإكبار، ويسمّونها إبداعاً ورومانسيّة.

والحقيقة فإنّ كمال الرحمة والمحبّة والعطف، والمشاعر الراقية إنّما هي في قلب رسول الله ، الذي يتّسع لمحبّة كلّ شيء، فيعامل كلّ ما حوله معاملة عطف وحنان.

ومن ثمّ نجده يشخّص النّعم التي حوله من طعامٍ وشراب، ويجعل العلاقة بينه وبينها كعلاقة الجيران الذين يجب الإحسان إليهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل عليَّ رسول الله  فرأى في بيتي كسرةً مُلقاة، فمشى إليها فشمّها، ثمَّ أكلها فقال:ا عائشة أحسني جوار نعم الله، فإنّها قلَّما نفرت من أهل بيتٍ فكادت أن ترجع إليهم)) [الطبراني في المعجم الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان].

وإنّ هذه النظرة المليئة بالرحمة والمحبّة إلى الطبيعة تفضي إلى الحفاظ على البيئة؛ لذا نجد رسول الله  كان ينهى عمّا يضرّ بالبيئة من هدرٍ وإسرافٍ وقطعٍ للأشجار ونحو ذلك، ويدعو إلى كلِّ ما يُصلحها من ترشيدٍ وإحياء الأراضي بالزراعة والاستثمار ونحو ذلك.   

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنّ النبيّ  مرّ بسعدٍ وهو يتوضّأ، فقال: (مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟) قال: أفي الوضوء سَرَف؟ قال: (نعم، وإن كنت على نهرٍ جار) [أحمد وابن ماجه].

لذا كان الاقتصاد والحفاظ على النِّعَم سجيّةً فيه دون تكلّف، فعن أنس رضي الله عنه قال: (كان النَّبيُّ  يتوضأ بالمدّ، ويغتسل بالصاع، إلى خمسة أمداد) [متفق عليه].

وللتَّرغيب في الحفاظ على البيئة، وإكثار النباتات والزروع والأشجار فقد منح الأرض لكلّ من يحيي مواتاً فيزرعها أو يغرسها، ويرعاها فقال : ((من أحيا أرضاً ميتةً فهي له)) [البخاري وأبو داود والترمذي] وهذا من أعظم القوانين التي تعتمد عليها بعض الدول في الحفاظ على البيئة، والحثّ على الزراعة، وزيادة الثروة النباتيّة.

فرحمته  بالطبيعة ومحبّته لها تتّسق مع هذه التشريعات التي قرّرها في الحفاظ على البيئة.

وبهذا نجد تلك الرحمة والمحبّة والإحساس المرهف مع الإيجابيّة في السلوك عند رسول الله  وامتزاج ذلك بعظمة التشريع الذي جاء به، والتي تصبّ جميعها في محبّة الطبيعة وتنعكس على البشريّة بالخير والنفع.