نقد العلموية

غلاف نقد العلموية
نقد العلموية

نقد العلموية

Loading

نقد العملوية

يظنّ الذين تبنّوا العلمويّة أو الفلسفة الوضعيّة التجريبيّة أنّهم وقعوا على الحقيقة المطلقة، ووصلوا إلى نهاية العلم وغايته، وأنّ كلّ منهجٍ يخالف منهجهم باطلٌ قطعاً، وخاصّةً ما يتعلّق بالميتافيزيقيا واللاهوت، فكلُّ ذلك يعدّونه خرافاتٍ وأوهاماً؛ لأنّها لا تخضع للبحث التجريبيّ، وأنّ القول بالإلحاد وإنكار الإله هو المنهج العلميّ السليم.

وقد شطّ أصحاب هذه النظرة القاصرة وتناقضوا مع أنفسهم ومع المناهج العلميّة، ووقعوا في مغالطاتٍ وأخطاء، أهمّها:

1- توهّموا أنّ الدِّين يُناقض العلم:

وُلِدت أطروحة الوضعيّة التجريبيّة في أفياء الصراع الكنسيّ العلميّ، وكانت هذه النظريّة ردّة فعلٍ من رجال العلم الكوني عندما وقف في وجوههم رجال الدِّين في أوروبّا آنذاك وحرّموا عليهم البحث العلميّ، وفرضوا عليهم الأفكار اللاهوتيّة، ومنعوهم من العلوم الكونيّة، وكان تصرّفهم بناءً على رأيٍ خاطئٍ منهم، وليس هذا رأي الدِّين الذي ارتضاه الله لعباده وأنزله على أنبيائه، فظنّ أصحاب العلم التجريبي أنّ الدِّين يناقض العلم مطلقاً، وقالوا بإنكار الدِّين لأنّه يؤدّي إلى الجهل والتخلّف، ويعيق البحث العلمي، ويفرض على الناس الإيمان بغيبيّاتٍ لا يمكن التحقّق من صدقها، ويؤمن بالخرافة، وعمّموا ذلك على جميع الأديان بما في ذلك الإسلام، ووقعوا في الخطأ المنطقيّ وهو (التعميم).

 وفي الحقيقة، إنّ تصوّرهم فاسدٌ مغلوط، والأمر على عكس ما يظنّون تماماً، فالدِّين الإسلاميّ هو الذي حارب الجهل وحثّ على العلم، فحرّم الشعوذة والكهانة والاعتقادات الفاسدة التي تشلّ العقول، ونهى عن الخرافات والتقليد الأعمى، وأمر بالعلم، وحثّ على التفكّر والتدبّر والتعقّل والنظر، وكانت أوّل كلمةٍ أُنزلت في القرآن الكريم (اقرأ) ممَّا جعل المسلمين يدرسون علوم الحضارات السابقة وفلسفاتها، فأسّسوا المناهج العلميّة المختلفة، وأنشؤوا وطوّروا أهمّ مصادر العلوم، كالكيمياء، والجبر، والتفاضل والتكامل، والجراحة، والبصريّات، وعلم الصحّة، وعلم الاجتماع، وغيرها كثير، وقد اعترف علماء الغرب بأنّ قصب السبق والتطوير لهذه العلوم يعود إلى المسلمين.

قال ماكس مايرهوف: “يمكن إرجاع تطوُّر الكيمياء في أوروبّا إلى جابر بن حيّان بصورةٍ مباشرة، وأكبر دليلٍ على ذلك أنّ كثيراً من المصطلحات التي ابتكرها ما زالت مستعملةً في مختلف اللغات الأوروبّيّة”.

 وقد تُرجمت كتب ابن حيّان وبقيت المرجع الأوَّل على مدى ألف عام، وكانت مؤلّفاته موضع اهتمام ودراسة مشاهير علماء الغرب، مثل (كوب هولميارد)، (سارتون) وغيرهم). [انظر: موسوعة المعرفة على الشبكة الإلكترونيّة، صحيفة الخليج 28ديسمبر 2012هـ]

أمّا الرياضيّات: فممّن أبدع فيها العالم العربي أبو بكر بن الحسن الكرخي: فقدّم أهمّ وأكمل نظريةٍ في الجبر، وبقيت نظريّاته تُدَرَّس حتّى القرن التاسع عشر الميلادي. قال أ. هور إيفز في كتابه (تاريخ الرياضيات): “إنّ الكرخي يعدّ من بين العلماء الرياضيين المبتكرين من نظريات جبريّةٍ جديدةٍ تدلّ على عمقٍ وأصالةٍ في التفكير“. [العلوم البحتة في الحضارة الإسلامية، د. علي عبد الله الدفّاع (210)].

وكذلك (الخوارزميّ): فقد أبدع في علم الجبر، وابتكر الخوارزميّات التي قامت على أساسها اليوم التكنولوجية الرقميّة، قال الأستاذ جورج سارتون: “وإذا أخذنا جميع المجالات بعين الاعتبار، فإنّ الخوارزمي أحد أعظم الرياضيّين في كلّ العصور[العلوم البحتة: (149)].

 وفي عصر الازدهار العلميّ والمعرفيّ للمسلمين كانت أوروبّا ترقد في ظلمات الجهل والتخلّف والخرافات، فانتشلها علم العرب والمسلمين من جهلها وتخلّفها، حتَّى وصلت أوروبا وأمريكا اليوم إلى ما وصلت إليه.

فقد كان الفضل للعلماء المسلمين في تخريج الأساتذة الأُوَل في جامعة (أوكسفورد) الذين درسوا مباشرةً على أيدي العلماء المسلمين في الأندلس، ثمّ بنى الغرب علومه وتقنيّاته وإنتاجه المعرفيّ على جهودهم. [يُنظر: موقع نبراس تحت عنوان (المسلمون هم واضعو أسس العلم التجريبي الحديث)].

 ومن المعلوم أنّ التقدّم العلميّ والحضاريّ تراكميّ، وأنّ اللَبِنات الأولى والأساسيّة في تاريخ الحضارة القائمة اليوم هي من إبداع المسلمين، ثمَّ تطوّرت المعارف وتسلسلت بفضلهم، قال مسيو ليبري: “لو لم يظهر المسلمون على مسرح التاريخ لتأخّرت نهضة أوروبا الحديثة عدَّة قرون“. [ينظر: الحضارة الإسلامية، عبد السلام كمال: (62)].

وإنّ المنهج الذي يتبجّح به العلمويّة وأصحاب الوضعية التجريبيّة ويتّخذونه وسيلةً لإنكار الميتافيزيقيا واللاهوت إنَّما هو من إبداع المسلمين، فهم الذين وضعوا أسس المنهج التجريبيّ والعلم الحديث.

قال هينولد: “إنّ ما قام على التجربة والترصّد هو أرفع درجةٍ في العلوم، وإنّ المسلمين ارتقوا في علومهم إلى هذه الدرجة التي كان يجهلها القدماء… وكانوا أوَّل من أدرك أهمّية المنهاج في العالم، وظلّوا عاملين به وحدهم زمناً طويلاً“. [الحضارة الإسلامية ثقافة وفن وعمران، عبد السلام كمال: (61)].

وقال (بريفولت) في كتابه (صناعة الإنسانية): “ليس (لفرانسيس بيكون) ولا لسميّه من قبله -يقصد (روجر بيكون)- أن يدّعيا اكتشاف المنهج التجريبيّ، إذ إنّ كلّ ما قدّماه في ذلك إنّما هو العلم المسروق من العرب، فقد استطاع علماء المسلمين بجهودهم أمثال ثابت بن قرّة، والحسن بن الهيثم، وابن سينا، وجابر بن حيّان الربط بين العلم والتجريب، والاهتداء إلى المنهج العلميّ التجريبيّ، ومن ثمّ إرساء قواعد العلوم الطبيعيّة، وذلك قبل أن يفطن إليها الأوروبيّون بمئات السنين“. [ من كتاب: دراسات في المنطق ومناهج البحث (ص:6)].

مع (أنّ روجر بيكون) حتّى لو ادّعى الأسبقيّة كذباً، فقد درس اللغة العربيّة والعلم العربي في مدرسة (أكسفورد) على يد تلامذة العلماء المسلمين في إسبانيا، فالفضل في منهجيّته العلميّة تعود إلى المسلمين الذين درّسوا أساتذته، واستمدّ معارفه منهم.

 ولم نجد تناقضاً بين العلم والدِّين في تلك النهضة والحضارة الإسلاميّة كما يدّعي العلمويّة، بل كان الدِّين هو الذي يدعو إلى العلم والإبداع ويشجِّع عليهما.

 

2- حصروا مناهج البحث للعلوم المختلفة بمنهجٍ واحدٍ وهو المنهج التجريبي:

يظنّ متبنّو العلمويّة أنّ العلم التجريبيّ قادرٌ على الإحاطة بكلّ الحقائق الكونيّة، وأنّ البشر ليسوا بحاجةٍ إلى مصدرٍ آخر للمعرفة أو الأنظمة مع وجود هذا المنهج؛ لأنَّه أغناهم عن جميع المصادر الفلسفيّة والدينيّة وغيرها، وحاولوا إخضاع كلّ الظواهر الإنسانيّة للمنهج العلميّ التجريبيّ، وقالوا بأنّه لا بدَّ لها أن تعود إلى سببٍ طبيعيٍّ يكشفه العلم.

وقد حصروا بذلك جميع المعارف والعلوم بمنهجيّةٍ واحدة، ونظروا إلى الظواهر الكونية والعلميّة نظرةً ضيّقةً قاصرة، ولم يفرّقوا بين الطبيعة الصمّاء والإنسان الذي يتميّز بالإدراك والتفكير والمشاعر والأحاسيس، قال (دركايم): “ينبغي التعامل مع الظواهر الاجتماعيّة كما لو كانت أشياء“. [محدوديّة العلم بو عزّة منتدى التوحيد]، فقاموا (بتشييء) الإنسان وعاملوه معاملة الجماد، ووقعوا في أخطاء منهجيّة جسيمة.

وقد انتقد نظرتَهم القاصرة العالمُ الفيزيائي (إروين شرودنجر) الذي نال جائزة نوبل في الفيزياء، فقال: “الصورة التي يقدّمها العلم الطبيعي-أي العلمويّة- عن الواقع من حولي صورةٌ ناقصةٌ جدّاً… لا يتكلّم ببنت شفةٍ عن الأحمر والأزرق، والمرّ والحلو، والألم واللّذة، إنّه لا يعرف شيئاً عن الجميل والقبيح، الحسن والسيّء، الله والخلود، يتظاهر العلم أحياناً بأنّه يجيب عن أسئلةٍ في هذه المجالات، ولكن غالباً ما تكون إجاباته سخيفةً للغاية، إلى درجة أنَّنا لا نميل إلى أخذها على محمل الجدّ“. [وهم الشيطان: الإلحاد ومزاعمه العلمية ديفيد بيرلسنكي، هامش (ص:22)].

وقال أ. عبد الإله بلقزيز: “والحقّ إنّ فشوّ الروح الوضعانيّة في النظر إلى الظواهر الاجتماعيّة والإنسانيّة بمقدار ما أهدر الحدود بين الظواهر الصمّاء (الطبيعة) والظواهر المقترنة بفعل الإرادة الإنسانيّة، قاد إلى الإخفاق في إخضاع المجتمع والإنسان للدَّرس العلميّ المطابق… لقد كان تغييب عوامل الإرادة والوعي والخيال والإيمان من الدّرس الاجتماعيّ الوضعيّ، والإخضاع القسريّ للظواهر الإنسانيّة للمناهج الفيزيائيّة وبالاً على علوم المجتمع والإنسان“. [صحيفة سكاي نيوز عربيّة، بقلم أ. عبد الإله بلقزيز- 30 ديسمبر 2020م].   

فلكلِّ علمٍ مجاله ومصادره وأدواته، وإنّ طبيعة العلوم تختلف من حيث المنهج وطريقة البحث والاستدلال، فالعلوم الإنسانيّة كعلم الاجتماع والموارد البشرية والتاريخ والاقتصاد والسياسة والعلوم والآداب والفنون المختلفة لها مناهجها وطرقها البحثيّة والإبداعيّة.

وكذلك العلوم التجريديّة كالمنطق والرياضيّات والهندسة لها طرقها وقوانينها أيضاً.

وإنّ حصر العلوم كلّها بمنهجيّةٍ واحدةٍ يؤدّي حتماً إلى خلل ٍكبيرٍ في النظر والاستدلال، يقول الفيلسوف التحليلي (ألفين بلانتنغا): “إنّ معادلة جميع المعارف بالعلوم الطبيعيّة هي معادلةٌ في موضعٍ غير مترابطٍ منطقيّاً؛ لأنّ العلم نفسه لا يستطيع أن يقدّم لنا أيّ سبب للاعتقاد بأنّ هذا العلم صحيح“. [New Atlantis -2012 مقال بعنوان: حماقة العولمة بقلم أ. أوستن هيونز_ ترجمة ليان الفارس]. 

3- الربط غير المنطقيّ بين الإلحاد وتبنّي المنهج التجريبي:

وقع أصحاب النظرية الوضعيّة التجريبيّة أو العلمويّة في مغالطاتٍ منطقيّةٍ وأخطاء علميّة عندما أنكروا ما وراء المحسوس ونفَوا وجود خالقٍ للكون إنكاراً جازماً، وقد وصف الله تعالى أمثال هؤلاء الذين تكون غاية علمهم ما يتعلّق بالموجودات والمدركات الحسيّة بقوله: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ[النجم: 29]، فلا يتجاوز علمهم حدود ما يدركونه بحواسّهم القاصرة في الحياة المادّيّة، وإنّ نظرتهم تتنافى مع الحقيقة، فمن المسلّمات العلميّة والمنطقيّة أنّ (عدم الوجدان لا يقتضي عدم الوجود) فلا يصحُّ عقلاً الجزم بإنكار ما لا ندركه، فكيف إذا كانت هناك أدلّةٌ عقليّةٌ جازمةٌ تدلّ على وجوده؟ وقد خالفوا هذه القاعدة وجزموا بإنكار وجود الإله، دون أساسٍ علميٍّ.

ثمّ إنّهم وقعوا في مطبٍّ آخر، وهو خروجهم عن القاعدة المنطقيّة المسلّمة (قانون السببيّة)، فما من مُسَبَّب إلّا له سبب، ولا بدّ لهذا الكون من خالقٍ أبدعه، ومن المستحيل أن ينشأ شيءٌ من العدم.

وعند هذه النقطة أخذوا يتهرّبون بالسفسطة، ويفصّلون شروطاً للمسبّب مع السبب على مقاس رأيهم، فيدورون ضمن قوقعتهم، ويضيّقون ساحة تفكيرهم، ويحصرونها بالمدركات الحسيّة، فقالوا: يشترط للمسبِّب أن يُدرَك عند تأثيره على المُسَبَّب، والخالق الذي تدْعون إليه هو ضمن فكر اللاهوت الذي لا يُدرك، فيستحيل وجوده.

وهم بذلك يكابرون ويتمسَّكون بنظريّة (ديفيد هيوم) التي لا يخفى بطلانها وفسادها، فينكرون مبدأ السببيّة من أصله، ويدّعون أنّ الأسباب مجرّد اقترانٍ عاديٍّ وليس مبدأً عقليّاً، فحوّلوا السببيّة من مبدأٍ عقليٍّ إلى إدراكٍ حسّيّ،

ووقعوا في التناقضات المنطقيّة، ومن المعلوم أنّ (العقل: غريزةٌ فطريةٌ خلقها الله في الإنسان، تنطوي على مبادئ ضرورية الصدق أعظمها مبدأ عدم التناقض، ومبدأ السببية). [مجلة البيان (221/ 2) مبحث: الوحي الإلهي، العقل الوضعي لعبد الله بن نافع الدعجاني]، وهم خالفوا هذين المبدأين.

قال بو عزّة: “والموقف الإلحاديّ الذي تنطّعت لإعلانه الفلسفة الوضعيّة لو درسناه بتجرّدٍ ومن داخل معايير النزعة العلمويّة ذاتها، سنلاحظ أنّه موقفٌ غير علميّ؛ لأنّه يبتّ في شأنٍ ليس له عنه أيّ معلومة، فالقول بالموقف الإلحاديّ قولٌ غير علميّ، بل يجاوز إمكانات العلم ويتخطّى حدوده، فليس في إمكان العلم ونظرته المحدودة أن ينفي في شأن ما يجاوز نطاق مقاييسه في الملاحظة“. [مقال بعنوان: محدوديّة العلم- منتدى التوحيد].

فإن قالوا: إنَّ الإمام أبا حامد الغزاليّ جعل الأسباب عاديّةً وليست عقليّة، واعتبر العلاقة بين المُسبِّب والمسبَّب اقترانيّة وليست عقليّة، وهو بذلك يتّفق مع (ديفيد هيوم).

   فالجواب: لا مقارنة بين نظريّة (ديفيد هيوم) ونظرة الإمام الغزاليّ إلى الأسباب، فإنّ (هيوم) ينكر مبدأ السببيّة من أصله، ويجيز وقوع الأشياء دون أسباب، وهذا محال.

 أمّا الغزاليّ فلا ينكر مبدأ السببيّة، نعم هو يقول: العلاقة بين الأسباب ومسبَّباتها عاديّة وليست عقليّة، ولكنّه يحتّم أن يكون هناك مسبّبٌ حقيقيٌّ للأسباب، وهو الله تعالى، فينسب المسبَّبات إلى الله خالق الأسباب كلّها، وهذا هو عين الصواب.  

لذا نجد بعض الملحدين اضطروا إلى الاعتراف بوجود قوّةٍ منظّمةٍ للكون وإن لم يعلنوا إيمانهم، فقد سئل كبير الملحدين الفيزيائي (ستيفن هوكينغ) إن كان يؤمن بوجود إله، فأجاب “بأنّه يؤمن بوجود الإله، لكنّ هذه القوّة الإلهيّة أسّست قوانين الطبيعة والفيزياء، وبعد ذلك لم يتدخّل للتحكّم في العالم“. [كتاب: هناك إله: كيف غيّر أشرس ملاحدة العالم أفكاره- مركز براهين: (ص: 25)].

وكذلك (لابلاس) المعروف بالإلحاد، فقد شرح دليل الحركة الكونية وبيّن أنّها أقوى ثغرةٍ في جسم الإلحاد، وقال: (أمَّا القدرة الفاطرة-أي الخالقة- التي عيّنت جسامة الأجرام الموجودة في المجموعة الشمسية وكثافتها، وثبّتت أقطار مداراتها، ونظّمت حركاتها بقوانين بسيطة، ولكنَّها حكيمة، وعيّنت مدّة دوران السيارات حول الشمس، والتوابع حول السيارات بأدقّ حساب، بحيث إنَّ النظام المستمرّ إلى ما شاء الله لا يعروه خلل… هذا النظام المستند إلى حسابٍ يقصر عقل البشر عن إدراكه، والذي يضمن استمرار واستقرار المجموعة إزاء ما لا يعدّ ولا يحصى من المخاطر المحتملة، لا يمكن أن يحمل على المصادفة إلَّا باحتمالٍ واحدٍ من أربعة تريوليونات، وما أدراك ما أربعة تريوليونات؟

إنَّه عددٌ من كلمتين، ولكن لا يمكن أن يحصيه المحصي إلَّا إذا لبث خمسين ألف عامٍ يعدُّ الأرقام ليلاً ونهاراً، على أن يعدَّ في كلِّ دقيقةٍ (150) عدداً). [صراع مع الملاحدة حتى العظم (ص: 132)].

 أي إنّ الملحد بمكابرته يبني اعتقاده وتصديقه على احتمال وقوع واحدٍ من أربعة تريليونات، ويكذّب الأدلة والبراهين العقليّة والعلميّة الساطعة.

وأمَّا من يسمّى بـ(حارس مرمى الإلحاد) الفيلسوف البريطاني (أنتوني فلو) فإّنه بعد أن قضى حياته في الدفاع عن الإلحاد ونصرته، وألّفَ زهاء ثلاثين كتاباً في الأدلّة والفلسفات الإلحاديّة، لم يستطع أن يدوم على مكابرته ومناقضاته المنطقيّة، فأعلن إسلامه وألّف كتاباً باسم (هناك إله)، وقال: “يستحيل ألّا يكون لهذا الكون ربٌّ حكيمٌ قديرٌ يدبّر أمره“.  [ينظر: كتاب: (هناك إله) كيف غيّر أشهر ملحد رأيه- مركز براهين: (ص:173)، صحيفة المصري اليوم، مقال بعنوان: هناك إله: كيف أدرك الملحد الأكبر أنتوني فلو وجود الله، بقلم مختار محمود- الثلاثاء 25/ 5/2021م].

على أنّه لا تناقض بين الإيمان بالله والبحث العلمي، ولا تلازم بين الإلحاد والعلم إلّا في وهم الملحدين، بل الأمر على العكس من ذلك، فالمنهج العلميّ السليم يدعو إلى الإيمان، وإنَّما وقع التناقض عند العلمويّة بسبب فساد منهجهم الضيّق، ومخالفتهم لطرائق البحث المختلفة فيما يتعلّق مع كلِّ علم، وجمودهم على المنهج التجريبي، فشذّوا عن الطرق العلميّة المتّبعة في العلوم الإنسانيّة والدينيّة والأخلاقيّة ونحو ذلك، فكان الإلحاد مظهراً لفساد مسلكهم.

4- التهوين من أهمّيّة الأسئلة المتعلّقة ببدء الخلق والحياة وما بعد الموت:

إنّ الأسئلة المتعلّقة بخالق الكون وبداية الخلق، والحياة، والمصير فيما بعد الموت ليست ترفاً فكريّاً، بل حاجةً فطريّةً مُلِحّةً، يبحث عن إجابتها كلُّ عاقل، ولا يمكن تجاهلها، وإنّ كَبْتَها يؤثّر سلباً على النفس، فيؤدّي إلى اضطراباتٍ نفسيّة، وقد تتأزّم إلى عُقَدٍ مما يدفع إلى الانتحار، لذا نجد أنَّ أكثر من يتعرّض للأمراض النفسيّة هم الملحدون، وأنّ نسبة الانتحار لديهم أكبر نسبةٍ على الإطلاق، وفي المقابل فإنّ أقلّ نسبةٍ للأمراض النفسيّة والانتحار هي عند المسلمين، وقد تصل إلى صفر. [صوت العراق، مقال بعنوان: دراسة بحثيّة لنسبة الانتحار مقارنة بالأديان].

فالإيمان بوجود إلهٍ خالقٍ للكون أمرٌ فطريٌّ مركوز في جميع البشر بلا استثناء، بغضِّ النظر عن كون المعبود حقّاً أو لا، وقد أكّدت ذلك الآثار التاريخيّة منذ القِدَم، قال المؤرخ اليوناني بلوتارك: “من الممكن أن نجد مدناً بلا أسوار ولا ملوك ولا ثروة ولا آداب ولا مسارح، ولكن لم يُرَ قطّ مدينة بلا معبدٍ أو لا يمارس أهلها عبادة“. [صحيفة الخليج الإلكترونية، ملحق الصائم، مقال تحت عنوان: الدين حاجة فطرية- 8 سبتمبر/ 2008م].

 ومع هذا فقد خالف العلموية الفطرة، وأخذوا يتهرّبون من الإجابة عن الأسئلة المتعلّقة بخالق الكون ونشأة الحياة، ويهوّنون من قيمتها، ويحقّرون من يسألها، ويصفونه بأنّه سطحيٌّ بدائيّ التفكير، ويحاولون تفسير كلّ شيء فيزيائيّاً وكيميائيّاً لأنّ منهجهم ضيّقٌ لا يستوعب الإجابة عن مثل هذه الأسئلة التي تُبدي عوار منطقهم المادّي الإلحاديّ وفساده، لذا يبذلون كلّ جهدهم لتحويل الإنسان من روحٍ وحياةٍ إلى آلةٍ ومادّة.

قال الفيلسوف الطيب بو عزّة: “ليس صحيحاً أنّ تجاهل أسئلة البدء والماهيّة المتعلّقة بالوجود الفيزيائي نتاج زهدٍ عن التفكير فيها، بل إنّ السبب هو العجز عن الإجابة، بسبب طبيعة أدوات الإدراك الاستقرائيّة التي يتوسّلها العلم… وبمراجعة صيرورة تطوّر علم الأحياء في تاريخ الثقافة الأوروبّيّة سنلاحظ أنّه ابتداء من عصر الحداثة سيتمّ العلم على اختزال ظاهرة الحياة في جملةٍ من العلاقات الآليّة“. [صحيفة التجديد الإلكترونيّة، مقال للطيّب بو عزّة بعنوان: (الحياة بين العلم والدين) بتاريخ 26/2/ 2008م].  

ومن ثمّ نجد العلمويّة ضخّموا المنهج التجريبي وتوهّموا بأنّه قادرٌ على إدراك جميع المعارف والحقائق والعلوم، ومنحوه من الثقة فوق إمكانيّاته، ففشلوا وتخبّطوا وشذّوا، وخالفوا الفطرة والمنطق والعقل والبحث العلمي المُتَّبَع في العلوم الأخرى عندما اقتصروا عليه.

مفاهيم متغيرة والثابت واحد

غلاف مفاهيم متغيرة والثابت واحد
مفاهيم متغيرة والثابت واحد

مفاهيم متغيرة والثابت واحد

Loading

مفاهيم ومتغيرة والثابتواحد

إنَّها الشريعة التي اختصَّها الله تعالى بأن تكون صالحةً لكلِّ الأزمنة والأمكنة، شريعةٌ كان قرآنها دستوراً لا تنقضي عجائبه، جعل فيه سبحانه أحسن القصص في البلاغ للرَّسالة والذكر الحكيم، أنزل فيه المحكم والمتشابه ليكون آيةً في إعجازه إلى يوم يبعثون، دستوراً للحياة ومنهجاً للنجاة.

الرسالة الخاتمة (رسالة الإسلام) التي اختارها الله للبشر من فوق سبع سماواتٍ كمنهجٍ للحياة تضبط علاقة الناس بربِّهم وعلاقتهم ببعضهم البعض. نهج متكاملٌ يبدأ بالقرآن ولا ينتهي بالسُّنَّة، مع اعتبارهما أساس هذا الدِّين، ليأتي الصحابة والتابعون ومن بعدهم الأئمَّة والفقهاء والعلماء الذين تمكَّنوا من علوم الشريعة وأصولها ليستنبطوا منها القواعد الكلِّية التي ترتبط بحياة الإنسان ومعاملاته فتنتج عنها أحكامٌ تُصلح وتضبط حياة المسلمين في أحكامهم ومعاملاتهم فيتكوَّن لدينا ما نسمِّيه بـ (الفقه الإسلامي).

لم يختر الله سبحانه وتعالى الإسلام شريعةً خاصَّةً بشعبٍ أو قوم، إنَّما جعله دين العالمية: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا[سبأ-28].
وليكون هذا الدِّين خالداً فلا بدَّ أن تكون تشريعاته وأحكامه مناسبةً لكلِّ زمانٍ ومكان، ومن خصائصه أن يكون مرناً في محتواه يتلاءم مع متغيِّرات الزمان، ثابتاً في أصوله كالشجرة تضرب الأرض بجذورها، مورقةٌ في أغصانها، تغيّر أوراقها على مدار الفصول لتبقى عبقةً نضرة: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُها في السَّمَاءِ[إبراهيم-24].

وبذلك جمعت الشريعة الإسلامية الغرَّاء في داخلها بين الثبات والتغيّر،  وهذه الخاصية واحدةٌ من مظاهر الإعجاز التشريعيّ التي لا يمكن أن تتوافر إلَّا للشريعة الإسلامية الخاتمة، لأنَّها ربَّانيةٌ، مُوحى بها من عند الله الذي خلق الخلق وهو بأزمانهم وأحكامها حكيمٌ خبير، مُحيطٌ عليمٌ بفطرتنا وطبائعنا وأزماننا وما يناسبها.

فالقرآن والسُّنَّة أصولٌ للشريعة، والفقه ما هو إلَّا استنباطٌ للأحكام التي يحتاجها كلُّ مسلمٍ في حياته، وقد يختلف الفقهاء في الأحكام التي تفهم من نصوص الأصلين، ولا يمكن لمؤمنٍ يريد أن يعيش حياته كما اختارها له ربُّه بأن يفصل الشريعة عن الفقه، فأصوله تحتاج إلى خبراء عالمين عارفين يستنبطون أحكامه من أدلَّته الشرعية، فمنها ما هو قطعيٌّ ومنها ما هو ظنِّيٌّ، تجد فيه الكلِّيات والجزئيات، أركانه ثابتةٌ راسخةٌ لا خلاف فيها، والتي تمثل مجموعةً من الأحكام القطعية، وهي مدار بقيَّة الأحكام، وما يجري من اجتهاداتٍ فرعية لا بدَّ من أن تكون ضمن تلك الأطر للأصول الكلية.

ما هو  الثابت إذن؟

الثابت في اللغة: اسم فاعلٍ من ثبت الشيء ثباتاً وثبوتاً فهو ثابتٌ وثبيت، وثبت، والثبات فيه معنى الديمومة والاستمرار والملازمة والبقاء.
فالثابت في الإسلام هو مجموعة الأسس والحقائق التي لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، كأصول العقيدة وأركان الإيمان الستَّة، وأركان الإسلام الخمسة، وما يتعلق بالله سبحانه من توحيده وإثبات أسمائه وصفاته وأفعاله، وإفراده بالألوهية والرُّبوبية والعبادة، وأصول العبادات والمعاملات ومكارم الأخلاق، وإنَّ الإسلام هو وحده الدِّين المقبول عند الله سبحانه، قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ[آل عمران-19]، وغيرها من أصول الإسلام التي يصعب حصرها، والتي منها وجوب الالتزام بأحكام الله تعالى وتشريعاته، وعدم جواز إقرار أيِّ تشريعٍ يخالف تشريعه سبحانه، فأركان الدِّين من عقيدةٍ وقيّمٍ ومقاصد ثابتةٍ لا تتغيَّر، أمَّا الجانب المرن في الدِّين إنَّما كان في الشقِّ التشريعيِّ المعاملاتي، ويظهر ذلك جلياً في العديد من آيات القرآن الكريم .

الثابت اصطلاحاً :

يُقصد به التشريعات التي لا تتبدّل مع تغيُّر الزمن والتي تتَّصف بالاستقرار والديمومة المطلقة، فالثابتُ هو مقصد الدِّين والغاية التي من أجلها أرسل الله الرسل في كلِّ زمانٍ ومكانٍ كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتابَ والميزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيْدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ[الحديد-25]، فإقامة العدل وتحقيق العدالة بين الناس مقصدٌ ثابتٌ وهدفٌ وغايةٌ جاء الرسل لتحقيقها على أرض الواقع في كلِّ حين، وهي تحتاج إلى وسائل للوصول إليها، والمقصود بذلك إرسال الرسل بشريعةٍ سماوية، فالهدف هو مقصد الدِّين الثابت، والوسائل وهي الشريعة وهي متغيِّرة بتغيُّر الزمان والمكان.

 وقد أطلق الفقهاء اسم الإجماع على الثابت، ومثاله وجوب الصلاة والزكاة والحجِّ وصيام رمضان وليس شهراً آخر، وأنَّ الوضوء شرطٌ للصَّلاة ويأتي قبلها (وليس بعدها) وأنَّ البيع حلالٌ، والزواج حلالٌ، ووجود أحكامٍ للطَّلاق والقصاص والحدود وحرمة السرقة والزنا والرِّبا والقتل والعدوان والميتة، وهي الأحكام التي وصلت إلينا بدليلٍ قطعيٍّ لا يقبل التغيير والتبديل، فهي عناصر ثابتةٌ في الشرع لورودها في الصحيح القطعيّ، أمَّا المتغيِّر من الأحكام فهي التي وردت إلينا بدليلٍ ظنِّيٍ واختلف فيها الفقهاء، وهي ليست من الثوابت في الشريعة وإنَّما من الأحكام المتغيرِّة التي تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان واختلاف فتاوى الفقهاء.

رحمته في الجهاد

ما المقصود بالمتغيّر؟

المتغيِّر هي التشريعات التي تتبدّل مع تغيُّر الزمان، فقد تصلح لزمنٍ دون غيره فذلك لا يعطيها سمة الاستمرارية والديمومة، وهناك من يرى أنَّ الثابت هي مقاصد الشريعة أي الضروريات الخمس: الحياة (النفس)، العقل (العلم) الدِّين (المعيار الثابت) والعرض (الكرامة الفردية والجماعية) والمال (الثروة الوطنية)، والمتغيِّرات هي الحاجيات والتحسينات طبقاً لظروف كلِّ عصر  .

لقد أقرَّ الإسلام مجموعةً من القواعد الفقهية الكبرى التي تحقِّق الخير للنَّاس فتحصل مصالحهم، وتنظِّم حياتهم، وتسعى إلى تعطيل المفاسد وتقليلها، ومنها: قاعدة (الأمور بمقاصدها) و (لا ضرر ولا ضرار) و(الضرورات تبيح المحظورات)، فتلك القواعد تبقى ثابتةً لأنَّها مبنيةٌ على استقراء أحكامٍ فقهيَّةٍ كثيرةٍ حتَّى وصلت إلينا، وتبقى الأحكام الشرعية مرتبطةً بالمصادر الأصلية للتشريع الإسلاميّ المتَّفق عليها والمحصورة بالقرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الصحيحة، وقد راعت الشريعة الضرورات والحاجات والأعذار التي تنزل بالناس، فشرَّعت لها أحكاماً استثنائيةً تناسبها وفقاً لاتجاهها العام في التيسير على الخلق.

ويؤكِّد ابن القيِّم هذا التقسيم في كتابه: “إغاثة اللهفان“؛ حيث يقول: “الأحكام نوعان: نوعٌ لا يتغيَّر عن حالةٍ واحدةٍ هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمَّة؛ كوجوب الواجبات، وتحريم المحرَّمات، والحدود المقدَّرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرَّق إليه تغييرٌ ولا اجتهادٌ يخالف ما وُضع عليه، والنوع الثاني: ما يتغيَّر بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالًا؛ كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإنَّ الشارع يُنوِّع فيها بحسب المصلحة“، ثمَّ يقول ابن القيِّم رحمه الله في بيان أنَّ هذه المعاني قد تخفى على كثيرٍ من الناس: “وهذا بابٌ واسعٌ اشتبه فيه على كثيرٍ من الناس الأحكام الثابتة اللازمة التي لا تتغيَّر بالتعزيرات التابعة للمصالح وجوداً وعدماًإغاثة اللهفان، (1/ 570 – 574).

فالمتغيِّرات في الشريعة الإسلامية: تتمثَّل بالأحكام الفقهية الفرعية المستمدَّة من نصوصٍ ظنِّية الدِّلالة يمكن الاجتهاد فيها، أو هي تلك النصوص التي تستمدُّ من نصوصٍ معلَّلةٍ بعللٍ خاصَّةٍ، والتي تتغيَّر بتغيُّر الزمان أو المكان، أو الأحكام المبنية على قواعد العرف، والتي تتغيَّر بتغيّره، والأمور التي تندرج تحت الكماليات والتحسينات أيضاً، وهي تختلف باختلاف الزمان والمكان.

ويمكن للناظر في الفقه أن يلحظ أنَّ الفقه القديم ركَّز على أن تكون الأولوية للعبادات لا على المعاملات، وفي الفقه الجديد يركِّز الفقهاء على المعاملات لا على العبادات، فالعبادات قد استقرَّت أمَّا المعاملات فهي بحاجةٍ إلى فقهٍ جديدٍ متجدِّدٍ في ظلِّ المستجدَّات المعاصرة، وهو ما يسمِّيه فقهاء العصر الحديث “فقه الزمان” وهذا يؤكِّد الفكر الإسلاميَّ الذي يتحرَّك فيه الفقهاء في الوقت الراهن درساً واجتهاداً واستنباطاً لأحكامٍ درجت حديثاً، كالمعاملات التي كثرت بين الناس وبين الدول وتشعَّبت في مجالاتٍ عديدةٍ متنوِّعةٍ، كالبنوك الإسلاميَّة والتعاملات النقديَّة، وغيرها مما استجدَّ في زماننا ولم تكن على عهد من كان قبلنا.

فالتجديد في الفكر الديني إنَّما هو مشروعٌ يركِّز على فهمنا الدينيّ وقراءتنا له، وليس على الدِّين نفسه، فالدِّين فوق أن يتجدَّد، وتجديد الدِّين خطأٌ منهجيٌّ، فالدِّين كاملٌ مطلقٌ يحتوي الحوادث المتجدِّدة على الدوام لأنَّه جاء من عند الله سبحانه وتعالى الذي يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، ويعلم ما يصلح للإنسان في كلِّ زمانٍ ومكان.

والتجديد في تعاملات الناس وفهم النصوص أمرٌ شرعه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأقرَّه في الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه عن أبي هريرة عن رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم:: “إنَّ الله يبعث لهذه الأمَّة على رأس كلِّ مئة سنةٍ من يجدّد لها دينها)). وفي رواية: ((من يُقيم أمر دينها“، والمراد بتجديد الفكر الديني: إحياء معالمه العلمية والعملية التي أبانتها نصوص الكتاب والسُّنَّة .

إنَّ مسألة الثابت والمتغِّير ليست مسألةً جديدةً فقد شغل هذا الأمر الفقهاء الأوائل، وحاولوا أن يلتمسوا الحلول والإجابات للمسائل الجديدة التي طرأت بتغيُّر الزمان، وابتكروا لذلك أدلَّةً جديدةً تصلح لكلِّ زمانٍ كالقياس والاجتهاد والمصالح المرسلة، والسبب فيها يرجع إلى أنَّ النصَّ الدينيَّ والتشريعات الإسلامية محدودةٌ متناهيةٌ، ومشاكل الواقع ومستجدَّاته متجدِّدةٌ باستمرارٍ وغير متناهية.

وإنَّ كثيراً من الأحكام تختلف باختلاف الزمان؛ لتغيُّر عُرْفِ أهله، أو لحدوث ضرورةٍ أو فسادٍ في أهل الزمان؛ بحيث لو بقيَ الحكم على ما كان عليه أوَّلًا للزِم منه المشقَّة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد، فالتطبيق العمليُّ قد تتولَّد منه مشاكلُ تتطلَّب حلولًا في ظلِّ الشريعة، وهذه الحلول تقتضي الخروج عن الدائرة النظرية إلى ما هو أوسع وأرحب منها، طبقاً لروح الشريعة وقواعدها الكلية.

 وإنَّ من رحمة الله بخلقه أن جعل دينه يسيراً في أحكامه ليتواءم مع كلِّ زمانٍ ومكانٍ، ويظهر ذلك فيما أكَّده النَّبيُّ في أكثر من موضع، فعَنْ أَبِىهُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَالَ:

إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ [رواه البخاري (39) ومسلم (2816)]. 

زياد الوتار

بقلم: أ. محمد زياد الوتار

الثابت والمتغير في الدين

غلاف الثابت والمتغير في الدين الإسلامي
الثابت والمتغير في الدين الإسلامي 2

الثابت والمتغير في الدين

Loading

الثابت والمتغير في الدين الإسلامي

قال أحد الشباب: لا أستطيع أن ألتزم بالدِّين؛ لأنَّ الإسلام يقيّد عملي وإبداعي واختياراتي، ويمنعني من ممارسة الحياة التي أرغب فيها.

وقال آخر: كدْتُ أن أترك الإسلام، لولا أنّ محمّد شحرور عرض الدِّين بصورةٍ سهلةٍ جميلةٍ تتَّفق مع رغباتي، فتبعت أفكاره.

 تصوّران مغلوطان عن الثوابت والمتغيّرات في الإسلام:

فمن ظنّ أنّ الالتزام بالدِّين وممارسة الحياة لا يجتمعان؛ لأنّ أحكام الدِّين ثابتة، وأنّ الإسلام يقيّد حركته، ويلزِم الناس بطريقةٍ واحدةٍ في السلوك والعلم والعمل والتصرّفات والمَلْبَس والعادات، فهو واهم، ولم يدرك حقيقة الشريعة التي وصفها العلماء بقولهم: (فإنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلُّها، ومصالح كلُّها، وحكمةٌ كلُّها؛ فكلّ مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة) [إعلام الموقعين عن رب العالمين: (3/11)].

فالإسلام جاء لمصالح العباد وتحقيق سعادتهم في الدنيا والآخرة، ومن ثمّ فساحة المتغيّرات في الدِّين كبيرةٌ واسعة؛ لأنّ المصالح الدنيوية متغيّرةٌ ومتجدّدة، وكلّ ما يصلح المعاش من المعاملات، والعادات، والمكاسب، والعمل، والسلوك، والاختيارات الخاصَّة، وتدابير الحياة، فإنّ الشريعة وسّعته وأباحته، ولم تُلزِم فيه بطريقةٍ معيّنة، إلاّ أنَّها وضعت لها شروطاً عامّةً كلّيّةً مرنة، ولم تفصّل فيها الأحكام حتَّى لا تقيّد تصرّفات الناس. قال الطاهر بن عاشور: (وأقول: قد تتبّعت تفريع الشريعة زمن الرسول ، فوجدت معظمه في أحكام العبادات… بخلاف أبواب المعاملات… فأمّا المعاملات فبحاجةٍ إلى اختلاف تفاريعها باختلاف الأحوال والعصور… ولذلك نجد أحكام المعاملات في القرآن مسوقةً غالباً بصفةٍ كلّية) [مقاصد الشريعة: (ص:389)].

ومن ثمّ فساحة المباح واسعةٌ، بل هي الأصل في كلّ ما يعود إلى الإنسان بالفوائد الدنيوية المعتبرة، حتّى قرّر الأصوليّون قاعدة: (الأصل في المنافع الإباحة) فقد خوّلت الشريعة الناس أن يتصرّفوا بما ينفعهم في حياتهم وعاداتهم ومعيشتهم مطلقاً، ولا يشترط لهذه الأعمال أن يَرِد فيها دليل، وإنّما يكفي عدم ورود ما يعارض أحكام الشرع فيها، قال الدكتور محمَّد الريسوني: (التكاليف العادية – تكاليف العادات والمعاملات – يكفي لصحّتها، ألّا يكون القصد فيها مناقضاً لقصد الشارع، ولا يشترط فيها ظهور الموافقة) [نظرية المقاصد عند الشاطبي : ( 322 )].

لذا عندما فتح المسلمون بلاد المغرب كان لباس المغاربة يختلف عن لباس المشارقة، ولم يعتادوا تغطية رؤوسهم بالعمائم، فترك المسلمون لهم اختيارهم في أزيائهم وعاداتهم، ولم يلزموهم بتغطية رؤوسهم، مع أنّ تغطية الرأس أمرٌ مؤكَّد، وكشفه من خوارم المروءة عند المشرقيّين، ولكنّ العلماء استثنوا أهل المغرب من هذا الحكم؛ لأنّ الشريعة راعت العادات ولم تغيّر ما أَلِفَه الناس، قال الإمام الشاطبي في كلامه عن الأحكام المتبدّلة في الشريعة: (والمتبدّلة منها: ما يكون متبدّلاً في العادة من حسنٍ إلى قُبح، وبالعكس، مثل كشف الرأس، فإنَّه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيحٌ في البلاد المشرقيّة، وغير قبيحٍ في البلاد المغربيّة، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحاً في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح) [الموافقات (2/ 489)].

وعلى هذا فقِس، فما كان سائغاً من اللباس والأفعال والعادات والترفيه والإبداع، فلا تقف الشريعة في طريقه أبداً.

وإنّ الالتزام بالدِّين وإقامة شعائره من صلاةٍ وصيامٍ وغيرهما، والأخذ بمكارم الأخلاق، لا تتعارض مع اختيارات الانسان الدراسيّة، والعلميّة، والإبداعيّة، وممارسة الرياضة، والاستجمام، والتنزّه، والمرح، ممَّا لا تشوبه مخالفاتٌ شرعيّة.

فإن قال قائل: لماذا يمنع علماء الدِّين بعض التسريحات والألبسة والموضات؟

فالجواب: الدين لا يحجر على أحدٍ تصرّفاته، فلكلّ إنسانٍ أن يلبس ما يشاء، ويسرّح شعره كيف شاء.

بيد أنّ الأصل في اللباس الستر الذي تدعو إليه الفطرة، والقصد من تسريح الشعر الجمال والتأنّق الذي يسعى إليه كلّ إنسان، ولكن إذا تغيّرت هذه الوظيفة عند بعضهم في اللباس وقصّ الشعر، فتحوّل اللباس إلى أزياء تظهر العورات، أو تقليداً لجماعات غربيّةٍ شاذّة، وصار تسريح الشعر اتّباعاً أعمى مستورداً من دول أوروبية، يحمل رمزيّةً سيّئةً لدى مُصَدِّريه، فالشريعة تمنع هذا السلوك من اللباس وتسريح الشعر وتقوّمه؛ للحفاظ على كرامة المسلم ومروءته؛ لأنّ المسلم ذو عزّةٍ وكرامة، وهذه الأمور تحطّ من المقام الذي يليق به، فكشف العورات يرفضها كلّ إنسانٍ سليم الفطرة، واتّباع الجماعات الغربيّة الشاذَّة واللاأخلاقيّة في لباسهم وسلوكهم وتسريح شعرهم نزولٌ عن المستوى اللائق بالإنسان السويّ.

أمّا لو ابتكر حلّاقٌ تسريحةً دون أن تكون لها رمزيّةٌ سلبيّة، أو أبدع مصمّم أزياء ثياباً لمجرَّد الجمال والأناقة، فلا خلاف في جوازه.

فالشريعة لا تعارض الإبداع والأناقة والجمال البتّة، وإنّ النبيّ  عندما حذّر أصحابه من الكبر وقال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرَّةٍ من كبْر»، قال رجلٌ: إنَّ الرجل يحبُّ أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، قال : «إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال، الكبر بطر الحقّ، وغمط الناس» [مسلم]، فلم يقصد النّبيّ من ذمّ الكبر جمال الثياب أبداً، بل استحسنه فقال: ((إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال))، كما حثَّ على الاعتناء بالشعر، فقال : ((من كان له شعرٌ فليكرمه)) [أبو داود].

فإنّ الإسلام لا يعارض التأنّق والذوق الرفيع، بل جعل له اعتباراً ضمن مرتبة التحسينات، وإنّما منع من التقليد الأعمى، والانبهار بمظاهر الفساد لدى الغرب، والانسلاخ عن الهويّة.

 وإذا عدنا إلى الشابّ الثاني الذي كاد أن يترك الإسلام، ثمّ اتّبع أفكار شحرور:

 فنهمس في أذنه بمحبّة ونقول له: ليس الدين بالأهواء، ولا منظومةً من الآراء الشاذّة التي تتجاوز الثوابت، بل يجب الانقياد لأوامره، لا أن نغيّر أحكامه ونجعلها تابعةً لهوانا.

فثمّة ثوابت وأصولٌ وخطوطٌ حُمُر لا يسوّغ تجاوزها، ولا بدّ من مراعاتها؛ لأنّ الدين يشتمل على أحكامٍ ومقاصد، فلا بدّ من تحقيقها للفوز بسعادة الدنيا والآخرة.

فالثوابت تتمثّل بالتمسّك بالأصول: كالأخذ بالقرآن الكريم والسنّة النبويّة، وعدم الخروج عن إجماع المسلمين، وألَّا يُحدَث  في الدِّين ما ليس منه.

 والحفاظ على العقائد التي تشمل أركان الإيمان بتمامها وشروطها، وتعظيم شعائر الإسلام، والتصديق بكلّ ما جاء به رسول الله ﷺ من ربّه.

وكذلك العبادات: وتشتمل على الأوامر والنواهي:

فالأوامر منها شعائريّة: كالصلاة والصيام والزكاة والحجّ، ومنها تعامليّة: كالصدق والأمانة والعدل وبرّ الوالدين، وصلة الأرحام ونحو ذلك.

 والنواهي: كتحريم السرقة والزنا والربا وشرب الخمر والمخدّرات، وكشف العورات وغيرها من المحرّمات.

فالثوابت لا تتغيّر ولا تتبدّل، وثبوتها لا يعيق حركة الحياة، ولا يجلب مشقَّةً أبداً، بل يضبط الاعتقاد والسلوك، ويفتح آفاق الفكر والإبداع لدى المسلم، وهناك الآلاف من المبدعين الملتزمين بدينهم في عصرنا ولم يجدوا تعارضاً بين الدين والحياة، نذكر خمسةً منهم:

البروفسور الليبيّ محمد القماطي: صاحب أكثر من (200) براءة اختراع في البصريّات، ورئيس جمعيّة التراث الإسلامي، وإمام مسجد في بريطانيا.

البروفسور الباكستانيّ الداعية حسين عبد الستَّار: مختصٌّ في علم الأمراض في جامعة شيكاغو، ويعمل في الدعوة إلى الله ونشر الإسلام.

البروفسور الجزائريّ يوسف كمال تومي: حافظٌ لكتاب الله، ولديه أكثر من (50) اختراعاً في صنع الروبوتات، ومحاضرٌ في المساجد.

البروفسور الجزائريّ محمَّد لاشمي: رئيس أعرق جامعةٍ كنديّة (رايرسن)، وله أكثر من (200) ورقة علميّة، داعيةٌ، ومساهمٌ في بناء المساجد في كندا.

– الطبيب المصريّ عبد الكريم الحسن: درس في جامعة الأزهر، اختارته مجلّة (باثولوجي) ضمن قائمة أفضل (100) رائد علميّ باثولوجيّ في العالم عام 2019م.

وغيرهم كثير، والقائمة لا تكاد تنتهي.

فالملتزم بدينه يزداد تركيزه، ويتّسع وعيه واستيعابه، ويبدع في مجاله، بخلاف من يريد الانفلات من الدين، فإنّ تفكيره يكون مشتّتاً، ونفسَه مضطربة.     

فالثوابت تضبط الحياة وتحيط الدّين بالصيانة والحماية، وتكفل السعادة الدنيويّة والأخرويّة للمسلم. 

تقديس العلم التجريبي (العلمويّة) نقض الميتافيزيقيا

غلاف تقديس العلم التجريبي
تقديس العلم التجريبي

تقديس العلم التجريبي (العلمويّة) نقض الميتافيزيقيا

Loading

تعريف العلمويّة وظهورها:

(العلمويَّة) أو (النزعة التعالمية) مصطلح يعني: أنَّ العِلم التجريبيّ يستطيع أن يزوّد الجنس البشري بفلسفةٍ شاملةٍ في الحياة، ويحلُّ جميع المشكلات، وأنّه يشتمل على أرفع القيم وأرقاها. [انظر: قاموس علم الاجتماع لمحمَّد عاطف غيث: (ص: 403)].

وقد شهد القرن التاسع عشر أقوى صياغةٍ للعلمويّة، ومن أشكالها: النظريّة الوضعيّة.

والنظريّة الوضعيّة نظريّةٌ فلسفيّة، تنصُّ على أنّ كلَّ المعارف الإيجابيّة تستند إلى الظواهر الطبيعيّة وخصائصها وعلاقاتها، كما تمّ التحقّق منها بواسطة العلوم التجريبيّة الوضعيّة المنطقيّة، وهي نظريّةٌ تطوّرت من الوضعيّة المنطقيّة التي تنصّ على أنّ جميع العبارات ذات المعنى إمّا تحليليّة أو قابلة للتَّحقّق بشكلٍ قاطع.

الفلسفة الوضعيّة والعلمويّة (فلسفة كونت):

الفلسفة الوضعيّة أعمّ من الفلسفة التجريبيّة التي تعتبر أنّ جميع أنواع المعرفة ترتكز على التجربة؛ لأنّ الفلسفة الوضعيّة تشتمل على شكلين: الشكل الأول: الوضعيّة المنطقيّة، والشكل الثاني: العلموية أو فلسفة كونت، وإليك البيان:

الشكل الأول: (الوضعيّة المنطقيّة):

أوَّل من استخدم مصطلح (الوضعية) هو (سان سيمون) ليشير به إلى منهجٍ علميٍّ يمتدُّ ليشمل الفلسفة أيضاً، ثمَّ تبنّاه بعد ذلك (أوجست كونت) ليؤسِّس به حركةً فلسفيةً كبيرةً انتشرت بقوَّةٍ في كلِّ بلاد العالم الغربيّ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والعقود الأولى من القرن العشرين.

وتطوّرت الوضعيّة المنطقيّة من جانب دائرة فيينّا بزعامة الفيزيائيّ والفيلسوف (موريتس شليك)، وعدد من كبار الفلاسفة والعلماء، وكان مبدؤها فكرةً خلافيّةً تسمّى: (معيار التحقّق من المعنى)، ووفقاً لهذا المبدأ فإنّ كلّ الأقوال التي لا يمكن التحقّق منها بالإدراك الحسّي هراءٌ لا معنى لها، ما عدا التعبيرات الرياضيّة والمنطقيّة التي يمكن إثباتها بالدليل والبرهان.

 وكانت دائرة فيينّا تهدف من ذلك إلى تخليص العلم والفلسفة من الأقوال والأفكار التي لا يمكن التحقّق من صحّتها.  

الشكل الثاني: العلمويّة أو (فلسفة كونت):

انطلق (أوجست كونت) في فلسفته من الفلسفة التجريبيّة الشّكّيّة للفيلسوف (ديفيد هيوم) الذي قرّر أنّ المعرفة الصحيحة هي التي تحصل عن طريق الحواسّ، وأنّ كلّ شيءٍ لا تدركه الحواسّ، أو ينتمي لعالم الغيب لا يمكن أن يكون ادّعاءً صحيحاً.

وبناء على ذلك أهمل (كونت) البحث في العلل والغايات، وكلّ تفكيرٍ في الأسباب التي نتجت عنها مسبّباتها المدركة بالحسّ مباشرة، وعلّق كلَّ ثقته وإيمانه بنتائج العلوم الطبيعية الحديثة.

 

وزعم كونت أنَّ العقل البشري مرّ منذ تاريخه الأوَّل حتَّى عصر العلوم التجريبية بثلاث حالات:

الحالة الأولى: الحالة اللاهوتية: فقد كان دأْبُ العقل الإنساني فيها البحث عن كُنه الكائنات وأصلها ومصيرها، مُحاولاً إرجاع كلِّ طائفةٍ من الظواهر إلى مبدأ مشتركٍ بعلل، وأنّ هذه الحالة اللاهوتية تدرَّجت وفق ثلاث درجات:

– الدرجة الأولى:  كانت في بَدءِ التصوّرات العقلية فيه (الفَتَشِيَّة)، وهي الإيمان بالأفتاش مفردها (فَتَش) وهي الأشياء التي كانت الشعوب البدائية تعتقد أنَّ لها قدرةً سحريَّةً، أو قدرةً غيبية غيرَ مُدركةٍ بالحواسّ على حماية صاحبها، أو مساعدته.

– الدرجة الثانية: مرحلة تطوّرَ إليها العقل البشري في الحالة اللاهوتية، وهي (تعدّد الآلهة).

وقد تصوَّر العقل في هذه المرحلة أنّ التصرّفات في الظواهر الكونية آثارٌ لموجوداتٍ غير منظورة، وأنَّ هذه الموجودات ذاتُ عَالَمٍ علوي، فهناك إلهٌ للمطر وإلهٌ للشمس ونحو ذلك.

والعقل في هذه الحالة يجعل تلك الآلهة التي تصوَّرها عِللاً وأسباباً خارجةً عن الكون ومفارقًة له.

– الدرجة الثالثة التي تطوّر إليها العقل البشري في الحالة اللاهوتية هي التوحيد: أي: جمع الآلهة المتعدِّدة في إلهٍ واحدٍ مفارقٍ لكلِّ الظواهر المادية الطبيعية.

الحالة الثانية التي مرَّ بها العقل البشري في تَطَوُّره: (الحالة الميتافيزيقية).

رأى (كونت) أنّ العقل البشري في هذه الحالة قد صرف عن تصوّره العِلَلَ المتعدِّدة وكذلك العلّة الواحدة، إذا كانت مفارقةً للطبيعة، وجَعَل بدلَ ذلك عِللاً ذاتيَّة توهَّمها موجودةً في باطن الأشياء الطبيعية، من وراء المنظور منها.

وهذه العِلل ليست أكثر من معانٍ مجرَّدة جَسَّمها له الخيال، فقال العقل: (العِلّة الفاعلة- القوة الفاعلة- الجوهر- الماهية- النفس- الحرية– الغاية) ونحو ذلك.

 واندفع العقل بمقتضى هذا التصوّر إلى أن يعتقد بوجود قوى متعدّدةٍ في بواطن الأشياء هي من وراء المشهود منها، بعدد أقسام الظواهر الطبيعيّة وطوائفها، مثل: (القوّة الكيميائية – القوَّة الحيوية) ونحو ذلك.

ثمّ انتقل العقل من تعدّدية هذه القوى إلى توحيدها، في قوّةٍ كليّةٍ أوَّليَّةٍ واحدةٍ، هي (الطبيعة).

وإنَّ هذه (الحالة الميتافيزيقيّة) قد بلغت أوجَها في مذهب (وحدة الوجود) الذي يجمع في (الطبيعة) جميع قوى الميتافيزيقية.

الفرق بين الحالة اللاهوتيّة وحالة الميتافيزيقيا:

1- إنّ المعاني المجرّدة في حالة الميتافيزيقيا تحلُّ محلّ المشخّص في الحالة اللاهوتيّة، وإنَّ الاستدلال الفكريَّ في حالة الميتافيزيقيا يحلُّ محلَّ الخيال في الحالة اللاهوتيّة.

2- إنَّ العقل في حالة الميتافيزيقيا يضع (قوى) في ذات الأشياء، ثمّ يجمعها في قوّةٍ واحدةٍ وهي الطبيعة، فَيُضْعِف من سلطان القوى المفارقة للأشياء الطبيعية، أمّا في حالة اللاهوت فيعتقد العقل أنّ هناك إلهاً مفارقاً للطبيعة يتحكّم في الكون عن إرادة.

3- الفكر الميتافيزيقي: فكرٌ مطلقٌ أعمُّ من اللاهوت، ولا يعنيه الدين، وإنَّما تعلُّقُه بالظواهر الطبيعيّة والكون والحدس والخيال، أمّا الفكر اللاهوتيّ فمحصورٌ بالدين والإله.

4- يرى المفكّرون والفلاسفة الميتافيزيقيا أرقى وأكثر عقلانيّةً من اللاهوتيّة، فإذا أنكروا الميتافيزيقيا فإنكارهم للّاهوت من باب أولى. 

الحالة الثالثة التي مرّ بها العقل البشريّ في تَطَوُّره، هي: (الحالة الواقعية).

 رأى (كونت) أنَّ العقل في (الحالة الواقعيّة) يدرك أنَّ الحصول على معارفٍ مطلقةٍ أمرٌ متعذّر غير ممكن، لذلك فهو يقتصر على التعرّف على الظواهر الكونيّة، ويبحث ليكتشف قوانين هذه الظواهر، ويرتّبها من الخاص إلى العامّ.

ورأى أنَّه في هذه الحالة تحلُّ الملاحظة للظواهر الكونية محلّ الخيال الذي كان في الحالة الأولى، ومحلّ الاستِدلالِ الفكريّ الذي كان في الحالة الثانية، وتأتي التجربة فتدعم الملاحظة أو تعدّلها أو تبدّلها.

وفي هذه الحالة يجعل الفكر قوانين الطبيعة (أي: العلاقات المطّردة بين الظواهر) بدل العلل والأسباب.

والخلاصة: فإنّ اللاهوت ينجم أوَّلاً، ثمّ تظهر الميتافيزيقيا فتعارضه، وأخيراً: يولد العلم الواقعي (أي: العلم القائم على الملاحظة والتجربة) الذي هو وحده القادر على البقاء، لأنَّ الحالتين السابقتين حالتان قائمتان على الخيال، وبسبب ذلك كانتا دائماً مَبْعَثَ ظنونٍ متجدّدة، ومناقشاتٍ جديدة.

بينما يقوم العلم التجريبيّ مستنداً إلى الواقع، فيجمع العقول على وحدة الرأي، ويحلُّ محلَّهُما تِلقائيّاً، إذ تسقطان من أنفسهما.

الإلحاد وإنكار اللاهوت في هذه النظريّة:

اعترف كونت بأنّ علوم البشر قاصرةٌ عن إدراك كلِّ شيء، وأنّ العلوم التجريبيّة لا تستطيع أن تغطّي كلّ الظواهر، فقال: (إنّ التجربة ستبقى محدودةً دائماً بالنسبة إلى الظواهر الطبيعية التي لا نستطيع حصرها؛ لذلك فإنَّ كثيراً من هذه الظواهر ستبقى خارج علومنا) [كواشف زيوف (ص: 413)]، ومع هذا فقد أنكر وجود خالقٍ للكون كما تقرّر؛ لأنّ إثبات وجود الخالق خارج إطار العلوم التجريبيّة، وكلّ ما لم تثبته العلوم التجريبيّة ولم تدركه الحواسّ فهو وهم.

وبناءً على ذلك فإنّ الحداثيّين ومتبنّي هذه النظرة الفلسفيّة يرون أنّ الإنسان في عصر العلوم التجريبيّة ليس بحاجةٍ إلى إثبات إلهٍ أصلاً؛ لأنّ كلّ الحوادث العالميّة والظواهر الطبيعيّة لا بدّ أن تعود إلى سببٍ طبيعيٍّ يمكن تعليله تعليلاً علميّاً، حتَّى ولو لم نكتشفه، ومن ثمّ فلم يبق فراغٌ يسدّه الاعتقاد بوجود الله تعالى، ولا داعي يدفع للإيمان به. 

وبما أنَّ الظواهر متباينة، فمن المتعذّر علينا أن نرُدّ العلوم بعضها إلى بعض، وكذلك من المتعذّر أن نَرُدَّ القوانين إلى قانونٍ واحد، لذلك فلا يمكن أن تنتهي الحالة الواقعية إلى وحدةٍ مطلقة، مثل (الله) في الحالة اللاهوتية، ومثل (الطبيعة) في الحالة الميتافيزيقيّة. [كواشف زيوف (ص: 408- 414)].

ومن خلال الارتقاء المستمرّ في الوضعيّة أو العلمويّة سيتلاشى الدين، وتتحوّل الفلسفة والعلوم الإنسانيّة إلى مجرّد مبادئ طبيعيّة، وتصبح المعارف البشريّة هي المنتج المباشر للعلم، وأيُّ فكرةٍ خارج مجال العلم ستكون ضرباً من الخيال والخرافة والوهم. [صحيفة (المحطة) الإلكترونيّة، بقلم: إدريس امجيش، بتاريخ 14 نوفمبر 2017م]

وتقوم الإلزامية الوضعية أو العلمويّة على مبدأ أنَّ العلم هو المصدر الصادق والوحيد للمعرفة والحقائق، وتتَّخذ الوضعية موقفاً عدائياً من الدين، ولهذا فهي تنكر كلَّ جوهرٍ يذهب وراء حقائق وقوانين العلم، وترفض أيَّ نوعٍ من الميتافيزيقيا، وتستبدل بالدين المعروف ديناً وضعياً، كما وضعت أخلاقاً وسياسةً وضعيةً. [انظر: Nicola Abbagnano, Posivitism, The Encyclopedia of Philosophy Macmillan Publishing N Y Q London p 414]

توظيف العلمويّة في محاربة الدين:

وقد تبنّت المؤسّسات والسياسات الغربيّة هذه النظريّة، وأخذت تنسب فكرة التخلّف والتراجع والشؤم والشقاء إلى الدِّين، وأنّه لا يصلح للحياة العلميّة المتطوّرة، يقول علي الكنز: (… فهل يمكن لنا أن ندلي بأنَّ الوعي الدينيَّ أو التشبُّث بالدين هو مُزامنٌ للفترات التراجعية والمراحل المتقهقرة، وأنَّ الفكر العقلاني يزامن الفترات التصاعدية أو المتطورة، ونقول أن ذلك هو تطبيقٌ للقانون التاريخيّ…

وعليه؛ فإنَّ الدين هو بمثابة تعبيرٍ عن الحزن، وبالتالي فهو انعكاسٌ لبؤس العالم وشقائه، وعكس ذلك اعتبار الفكر العقلانيّ بمثابة تعبيرٍ عن حيويَّة الوعي الجماعي الذي يعكس هذه المرَّة تطوُّر العالم وازدهاره). [الإسلام والهوية، الدين في المجتمع العربي: (ص:99)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1990].

مزج العلمويّة بالآداب والفنون:

 إنّ الغرب في ترويجه لفكرة إنكار الميتافيزيقيا وإنكار الألوهيّة _وهي في نظرهم أدنى من إنكار الميتافيزيقيا_ لم يقفوا عند إدخالهما إلى الفلسفة والفكر، بل مزجوهما بالأدب والفنون لإيصالهما إلى جميع الأوساط الشعبيّة.

فأدخلوا فكرة موت الإله في الحداثة التي باح بها (نيتشه) وقد انساق وراءه عددٌ من الأدباء الحداثيّين العرب، فضلاً عن الفلاسفة والمفكِّرين.

 ومن الأدباء الذين تأثَّروا بهذه الفكرة: نجيب محفوظ الذي صرّح بالعلمويّة، فقال: (إنَّ الميتافيزيقيا تتراجع أمام الضرورات الأرضية). [الصحافة والأقلام المسمومة: (ص 189)].

 وجسّد محفوظ هذا المعنى بموت الإله الذي سمّاه (الجبلاوي) عندما قتله (عرفة) الذي يرمز به إلى العلوم الحديثة في رواية (أولاد حارتنا) التي نال بها جائزة (نوبل).

يقول الدكتور عبد العظيم المطعني عن الهدف من وضع (أولاد حارتنا): هذا الهدف -باختصارٍ شديد- هو تفشيل دور الدِّين بوجهٍ عامٍّ في حلول مشكلات الحياة، وتحقيق السعادة للنَّاس فيها، وبعد وقوع ذلك التفشيل، من خلال ما ورد في الرواية، يأذن الأستاذ محفوظ للعلم الحديث أن يطلَّ برأسه إلى الوجود، ثمَّ ينمو شيئاً فشيئاً حتَّى يُصبح عملاقاً لا يُقاوم، وقادراً لا يعجز، ثمَّ يتمكَّن من القضاء على الدِّين متمثِّلاً في قتل أو موت الجبلاوي… ويهزُّ مشاعر أولاد الحارة أو الدنيا، بمخترعاته المذهلة، فينحاز الناس أو أولاد الحارة إلى عرفة وحنش، اللذَين يمثِّلان العلم الحديث، ويفضِّلونه على الدِّين عياناً جهاراً، وينخلعون عن الإطار الدِّينيّ النَّبويّ في وَضَح النَّهار؟!)  [جوتنيات الرموز المستعارة لكبار “أولاد حارتنا” أو نقض التاريخ الدِّينيّ النّبويّ: (ص 8 – 9)].

وبهذا نجد أنّ تقديس العلم التجريبيّ (العلمويّة) كان أساساً يستند إليه الملحدون في إنكار اللاهوت، وإنكار الأديان، وقد حاولت المؤسَّسات الغربيّة التي تؤيّد هذه النظريّة نشر هذا الفكر وتعميمه في ميادين الحياة حتَّى أدخلته في الآدب والفنون.

وسنردُّ في المقال القادم إن شاء الله على النظريّة العلمويّة التي يجعلها الملحدون أساساً يعتمدون عليه في إنكار الذَّات الإلهيّة. 

نسبية الحقيقة

غلاف نسبية الحقيقة
نسبية الحقيقة

نسبية الحقيقة

Loading

نسبية الحقيقة

ما المقصود بنسبيّة الحقيقة؟

المقصود بنسبيّة الحقيقة: أنّه لا يوجد حقٌّ مطلقٌ ولا حقيقةٌ ثابتةٌ في الكون، ويصحّ إطلاق الأحكام المتناقضة على الشيء الواحد، وأنّ الحكم على الشيء يتبع الظروف ووجهات النظر، فما كان حقّاً في ظرفٍ يكون باطلاً في ظرفٍ آخر، وما كان صحيحاً برؤية بعضهم يكون بنظر غيرهم باطلاً، وكلّهم على صواب.

تحرير موضع النزاع: ليس المقصود بنسبيّة الحقيقة هنا ما يتعلّق بالرأي الخاصّ وتفضيل الأشياء لدى الأشخاص، فالآراء لا خلاف في نسبيتها، ولا إشكال في الاختلاف فيها، فلكلّ واحدٍ رأيه وذوقه وتفضيله، فقد يستحسن بعضهم لوناً معيّناً ويستقبحه غيره، ويفضّل بعضهم طعماً معيّناً ويعافه الآخر، وهذا الاختلاف متَّفقٌ عليه ولا ينكره أحد.

ولكنَّ المقصود بنسبيّة الحقيقة هنا ما يتعلّق بالحقائق الثابتة بالبرهان العقليّ أو الحسيّ، كمن ينظر إلى البحر فيقول: هذا بحر، ويقول الأخر: بل هذا صحراء.

 وهذا مذهبٌ فلسفيٌّ يسمّى (المذهب النسبي)، نشأ في القرن الخامس قبل الميلاد، وقد ظهر على يد (بروتاغوراس السوفسطائي) عندما قال: يمكن إعطاء رأيين متناقضين في الشيء الواحد، وأخذ يعمل على الإقناع بهذه النظريّة بطريقة سوفسطائيّة، ثمّ توصّل إلى استنتاج متطرّف وهو: (كلُّ شيءٍ حقيقة).

وحين أراد أن ينقد أصول المعرفة، قال: (إنَّ الإنسان هو مقياس وجود ما يوجد منها، ومقياس وجود ما لا يوجد).

 ثمَّ أخذ بهذا مذهب أهل الشكّ، فطبَّقوها على الحدود -أي التعريفات- كما طبَّقوها على نواحي العلم كلِّه، فلم تعد لديهم حقيقةٌ من حقائق العلم ثابتةً أو مستقرَّةً، بل كلُّ شيءٍ في تغيّرٍ مستمرٍّ كما يقول هرقليطس. [انظر: موسوعة المعرفة الإلكترونية].

ومن البراهين التي يذكرونها لتأييد هذه النظريّة:

أنّه لو كُتِب الرقم 9 بخطٍّ كبيرٍ على الأرض، فإنّ من وقف عند رأسه سيقرؤه 9، ومن وقف في أسفله سيقرؤه 6 وكلاهما مصيب، فبتغيّر مكان القارئ تغيّرت الحقيقة!

وهذا ينطبق على كلِّ موجودٍ في الكون، وعلى كلّ فكرةٍ يطرحها المفكّرون والعلماء، فكلّ إنسانٍ يرى الحقيقة بغير ما يراها غيره، ولا مانع أن يكون الحكم متناقضاً، وكلُّهم مصيب.

بيان معاني نظريّة (نسبيّة الحقيقة) ونقض الباطل منها:

إذا قمنا بالتقسيم الحاصر في (نسبية الحقيقة) نجد لقولهم (نسبية الحقيقة) ثلاثة معان:
الأوّل: أن يراد بها أنّ معرفة الناس للحقِّ نسبيّ.
والثاني: أنّ الشيء نسبيٌّ بالنسبة إلى غيره وليس بالنسبة إلى ذاته.
والثالث: أنَّ الشيء في نفسه نسبيٌّ، فيحمل الضدّين.
وإليك البيان:

  • المعنى الأوّل: معرفة الناس للحقِّ نسبيٌّ: وهذا معنىً صحيح؛ لأنَّ كلَّ إنسانٍ يتصوّر الحقَّ حسب علمه وإحاطته به، وعلوم الناس تختلف، ونظراتهم تتباين، فقد يصيب بعضهم الحقّ، ويخطئ بعضهم، ويقارب الآخرون، كلٌّ حسب علمه وتصوّره للحقيقة، وكلُّ واحدٍ منهم يعتقد نفسه مصيباً وغيره مخطئاً.

وهذا الاختلاف ليس تعدُّداً للحقيقة بتعدّد الأنظار، بل إنَّ الحقَّ ثابتٌ، وإدراكه مرهونٌ بتصوّره تصوّراً علميّاً سليماً دقيقاً، وأمّا من لم يدرك الحقيقة إدراكاً تامّاً فيظنّ الوهم يقيناً وحقّاً، وهو مخالفٌ للحقيقة ولا يدري. 

وإذا عدنا إلى مثال الرقم 9 نجده في الحقيقة لا يعدو مغالطةً وسفسطة؛ لأنّ الكاتب عندما كتبه قصد به الرقم 9 ولم يقصد به الرقم 6 فالحقّ موافقة ما قصده الكاتب وليس ما يظهر لكلِّ قارئ.

وإنّ الذي قرأه 6 ليس مصيباً بل هو مخطئ وإن رآه 6 يقيناً وظنّ نفسه على الصواب، وإنَّما جاء الغلط لأنّه أخلّ بشرطٍ من شروط صحّة التصوّر، وهو مخالفة الاتّجاه الذي قصده الكاتب، فوقف أسفل الرقم، ولم يحقِّق شرط صحَّة القراءة.

فإن قيل: لعلَّ الكاتب قصد به 9 و6 في آنٍ واحد، فالجواب: لا يصحّ حمل الكلمة الواحدة على معنيين مختلفين في آنٍ واحدٍ كما قرّر علماء المنطق، قال عبد العزيز البخاري الحنفي: (إنَّ اللفظ بمنزلة الكسوة للمعاني، والكسوة الواحدة لا يجوز أن يكتسيها شخصان كلُّ واحدٍ منهما بكمالها في زمانٍ واحد، فكذا لا يجوز أن يدلَّ اللفظ الواحد على أحد مفهوميه بحيث يكون هو تمام معناه، ويدلُّ على المفهوم الآخر كذلك أيضاً في ذلك الزمان). [كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (1/ 41)].

وكما يختلف إدراك الحقائق حسب تصوُّر الأشياء، كذلك يكون في المعنى السلبي بالنسبة إلى رفض الحقيقة، فكلّما ازداد الجهل بالحقّ ازداد البعد عنه؛ لذا قالوا: الإنسان عدوّ ما يجهل.

فكم من جاهلٍ ينتقد حقيقةً لأنّه يحمل صورةً مشوّهةً عنها، وهو يظنّ أنّه على الصواب المطلق، فإذا زال الوهم وظهر جهله بها غيّر رأيه، وصار يدافع عمّا كان ينتقده بالأمس.

ومن أمثلة ذلك: (أرنود فان دورن) منتج الفلم المسيء للرسول  نائب رئيس حزب (من أجل الحرّيّة) أكثر الأحزاب اليمينيّة تطرّفاً في هولندا، فقد كان يحمل حقداً شديداً على الإسلام وعلى رسول الله ﷺ بسبب جهله بالإسلام وتعاليم رسوله الكريم ، ووظّف جهوده وخبراته في الهجوم على رسول الإنسانيّة وأنتج فيلماً مسيئاً في حقّ النبي ، ولكنّه عندما اطّلع على مصادر المعرفة الأصليّة، وعرف حقيقة النَّبيِّ  أعلن إسلامه، وقال في مقابلةٍ له: (كانت نظرتي للإسلام سيّئةً، لقد انجرفت مع كلّ التصريحات السلبيّة عن الإسلام… لذلك انجرفت مع الكراهية ضد الإسلام. كنت أعتبر الإسلام في ذلك الوقت أنَّه شيءٌ غير جيِّد).

 وبعد إسلامه أدّى مناسك الحجّ والعمرة، ثمّ قصد زيارة النَّبيِّ   ووقف عند قبره معتذراً منه يبكي نادماً على ما فعله، واعتذر من المسلمين على إخراجه لهذا الفيلم، وعاهد النَّبيَّ أن ينتج فيلماً في بيان حقيقة رسول الله ﷺ وشمائله الحميدة. [انظر: شبكة بحوث وتقارير، بوابة الشروق الإلكترونيّة]

ومنهم: (دانيال سترايش) أكبر المعادين للإسلام والحاقدين عليه في سويسرا، وأشرس القائمين على حملة منع المآذن فيها، وهو الذي أشاع أنّ (الإسلام والإرهاب وجهان لعملةٍ واحدة)، كلُّ ذلك بسبب تصوّره المغلوط المخالف للواقع، وهو يظنّ أنّ الحقيقة المطلقة معه، وأراد أن يؤكّد النظرة السلبية للإسلام حسب تصوّره من كتب المسلمين، فأخذ يقرأ كتب التفسير والحديث النبوي ونحوها ليقوّي حجّته ويردّ على المسلمين من كتبهم، لكنّه عندما اطّلع على ما كتبه المسلمون وما نقلوه عن كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم   تبيّن له أنّه كان مخطئاً، وأنّ تصوّره عن الإسلام كان وهماً كلُّه، وما وسعه بعد ذلك إلاّ أنّه دخل الإسلام، وأصبح داعيةً يدافع عنه، وقال: (أجد نفسي مضطراً على أن أحاضر وأكتب الكثير من المقالات لتوضيح أهمّيّة المساجد في سويسرا، وتسليط الضوء على مكامن الخطورة في منع بناء المآذن في بلادي) [انظر: موقع قصة الإسلام بإشراف د. راغب السرجاني]، وهناك المئات من أمثالهما. 

فقبل إسلام (أرنود فان دورن) و(دانيال سترايش) عندما كانا يحكمان عن قناعةٍ تامّةٍ بأنّ محمَّداً جاء بالإرهاب، ويريان نفسيهما على الصواب، وكان المسلم يقول عن علمٍ ويقين: بل محمَّدٌ   هو نبيّ الرحمة، والإسلام دين الإنسانيّة والسلام، واختلف الفريقان في الحكم على النَّبيِّ  وعلى الإسلام، فهذا لا يعني أنّ الحقيقة نسبيّة، وحكم (أرنود فان) و(دانيال سترايش) حقٌّ لأنَّه صادرٌ عن قناعة، بل الحقيقة ثابتة، وإنَّما كان هذا الحكم حسب تصوّرهما والحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره، لذا نجدهما عند وضوح الحقيقة لديهما أخذا يدافعان عمّا كانا ينتقدانه بالأمس.

ومن خلال هذين النموذجين وأمثالهما نجد أنّ الحقيقة ثابتة، وتعدّد الأحكام على الشيء الواحد لا يعني أنّ الحقيقة نسبيّة والشيء يشتمل على الصفات المتناقضة، بل الحقيقة واحدةٌ وهي تتبع العلم الصحيح والتصوّر السليم للشيء، وأنّ الجهل المركَّب هو الذي يجعل صاحبه يرى الوهم حقيقةً والخطأ صواباً.  

– المعنى الثاني: أنّ الشيء نسبيّ بالنسبة إلى غيره وليس بالنسبة إلى ذاته: فهذا المعنى منطقيٌّ، وهناك أمورٌ نسبيةٌ بطبيعتها، والناس متَّفقون على نسبيَّتها؛ فلا ينبغي أن يختلط هذا المعنى بنسبيَّة الحقيقة في ذاتها.

فالألوان والطول والقِصَر ونحوها أعراضٌ نسبيّة، فالبياض ليس على درجةٍ واحدة، فإنَّ لون الثلج يختلف عن لون الحليب، وكلاهما أبيض، وهذا يُسمّى في علم المنطق (مشكّك).

 ومثله نسبية الطول والقصر والإبداع ونحو ذلك، فإذا قورن الطويل في شرق آسيا بالإفريقي كان قصيراً، وكذلك قدرات البشر على درجاتٍ متفاوتة، فمن يكون مبدعاً بين متوسِّطي المواهب لا يكون متميّزاً بين المتفوّقين.

فيصحّ إعطاء الشيء الواحد حكمين مختلفين، ولكن ليس بالنسبة إلى ذاته، بل حسب نسبته إلى غيره، وهذان الحكمان صحيحان ومنطقيّان لوجود حقيقتين ثابتتين:

حقيقة الشيء بالنسبة لنفسه، وحقيقته مع غيره، فعند المقارنة يظهر الفرق بين الشيئين، وهذا من باب التفضيل، وكأنّنا قلنا: حقيقة الطول بالنسبة للآسيوي ثابتة، لكنّ حقيقة الطول لدى الإفريقي أقوى، وحقيقة الإبداع عند زيد بين المتوسِّطين عالية، ولكن بمقارنتها مع المتفوّقين غير متميّزة.

  • المعنى الثالث لنسبيّة الحقيقة: أنّ الحقّ نسبيٌّ في الشيء ذاته: أي إنَّ الشيء الواحد حقٌّ وباطل، وحسنٌ وقبيحٌ في آنٍ واحد، فلا شيء ثابت، ولا معيار للحقّ، وهذا هو المعنى الذي يقصده الملحدون والحداثيون والعلمانيون من هذه النظرية.

وإنّ القول بنسبيّة الحقيقة باطلٌ باتفاق العقلاء؛ وهو تناقضٌ صريح؛ لأنَّ الحقَّ في ذاته واحدٌ لا يتغيَّر ولا يجتمع النقيضان فيه. 

وإنّ مُنشئ هذه الفكرة: (بروتاغوراس السوفسطائي) عندما قال: يمكن إعطاء رأيين متناقضين في الشيء الواحد، وأخذ ينقد أصول المعرفة، وقال: (إنَّ الإنسان هو مقياس وجود ما يوجد منها، ومقياس وجود ما لا يوجد).

رفض جميع الفلاسفة فكرته، وعارض أرسطو وأفلاطون استنتاجاته، فقال أرسطو في الخطابة: (إنّ أقوال بروتاغوراس هي وهمٌ وخداع، وتبدو أقوالاً متطرّفة، وليس لها أيّ مقامٍ في أيِّ فنٍّ من الفنون باستثناء الخطابة) [انظر: موسوعة المعرفة الإلكترونيّة] ومعنى الخطابة هنا الكلام الذي لا يستند إلى أصلٍ علميّ.

ومع وهن هذه النظريّة وتناقضها، فهي تنقض نفسها بنفسها، نقول: بما أنّ الحقيقة نسبيّةٌ ولا يوجد أمرٌ ثابتٌ، فهذه النظرية ليست ثابتةً، والحكم على صحَّتها نسبيٌّ، والحكم عليها بالبطلان من تقرير النظرية نفسها.

وإن أرادوا أن يلزموا الناس بها ويجعلوها الحقَّ المطلق فقد نقضوها وناقضوا أنفسهم؛ لأنّ النظريّة نفسها تنفي الحقَّ المطلق أصلاً.

تبنّي الغرب لنظريّة (نسبيّة الحقيقة):

 أحيا الغرب في عصر النهضة فكرة (نسبية الحقيقة) نتيجة الصراع لديهم بين رجال العلم التجريبي ورجال الدين الكهنوتي، عندما منع رجال الدين علماء الطبيعة من التجارب العلميّة، وتمسّكوا بنصوص الكتاب المقدّس التي كانوا يستبدّون بتفسيرها، يقول الأستاذ غازي التوبة: (نسبية الحقيقة إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة، ويربط المفكِّرون الغربيون بين تلك الركيزة وتغيّر الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع، ويعتقدون أنَّ تغيُّر الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة، غير أنَّ تكوّن تلك الركيزة في الثقافة الغربية يعود إلى فترةٍ أبعد من العصور الحديثة، ويرتبط بالعصور الوسطى.

  فمن المعروف أنّ الكنيسة كانت تنطلق آنذاك في حكمها لأوروبا من نصّ “الإنجيل المقدس” الذي كان ثابتاً، والذي كانت تحتكر الكنيسة تفسيره، وعندما قامت حقائق علميّةٌ وكونيّةٌ متعدّدةٌ تُناقض النصَّ الثابت وتُناقضُ تفسير رجال الكنيسة له، وقع التصادم المريع بين الدِّين والعلم، وكانت النتيجة اضطهاد رجال العلم، بحجَّة مخالفة النصِّ المقدَّس الثابت، ولكنّ الكنيسة انهزمت أمام الثورة عليها، وأمام حقائق العلم، واعتبرت الثورة رجال الدين عقبةً في طريق العلم والتقدُّم، وصار الربط منذئذٍ بين النصِّ المقدّس وثبات الحقيقة، وكذا بين العلم ونسبية الحقيقة). [مجلة الوعي الإسلامي المجلد (42) العدد (473) (ص: 39)].

توظيف نظريّة (نسبيّة الحقيقة) في التحرّر ونشر الإلحاد:

إنّ نظريّة نسبيّة الحقيقة تنسجم مع نظريّة المصلحة (البراغماتيّة) لدى الغرب؛ لذا تبنّى العلمانيّون والحداثيّون فكرة نسبيّة الحقيقة؛ لأنّها تخدم أفكارهم في هدم الثوابت، والدعوة إلى التحرّر من قيود الأخلاق والأعراف والأديان، فإذا كان كلّ شيءٍ نسبياً فما يراه المجتمع أو الدِّين ممنوعاً يراه أصحاب النزوات حقّاً، ومن ثمّ أصبح للشواذّ حقوقٌ خارج الإطار الديني والعرفي، ولهم الحقُّ بالمطالبة بحقوقهم التي انتزعها منهم الدين والمجتمع!  

وكذلك اتّخذ الملحدون فكرة (نسبيّة الحقيقة) أصلاً يبنون عليه أفكارهم، للقضاء على (الحقّ المطلق) الذي تؤمن به الأديان، وهو (الله) أو (الدين).

فتبنّى الملحدون هذه النظريّة، وقالوا لا شيء في الكون مطلقٌ وثابت، وإنّ الأمور نسبيّةٌ ومتغيّرة، فالأصلح من الأفكار والرؤى هو الحقيقة، ثمّ ما كان صالحاً وحقيقةً في الأمس قد يكون فاسداً ووهماً اليوم.

وبناءً على ذلك إذا استغنت البشريّة عن الحقيقة المطلقة التي تنادي بها الأديان، وصلحت الحياة باعتبار أنّ الحقيقة نسبيّة، ولا يؤثّر إنكار الحقّ المطلق عند الأديان على سير عجلة الحياة، فلا داعي لوجود حقيقةٍ مطلقةٍ وهي الإيمان بـ(الله) أو بـ(الدين).

وبمعنىً آخر: هناك اتجاهان يتنازعان تفسير وتسيير هذه الحياة:

 الاتجاه الأول: الدعاة إلى الدين الذين يرون (الإله حقاً مطلقاً).

والاتجاه الثاني: أصحاب النظرة المادّيّة الذين يرون أنّ هذا المطلق لا يصلح للحياة، فلا بدّ أن يكون نسبيّاً متغيّراً، وهذه النظرة هي الأصلح والأجدر بالحياة بالنسبة إليهم . [انظر: مجلة البيان (79/ 95)].

وبناء على ذلك:

 يرى الملحدون أنّ الحياة هي المادّة، ووجود الإله أو عدم وجوده ليس له تأثيرٌ في حركة الحياة، ومن ثمّ مهما جاء المسلمون بحججٍ علميّةٍ ومنطقيّةٍ في إثبات أن: (الإله هو الحقُّ المطلق) فهم يقولون بنسبيّة الحقيقة، وأنّه لا حقّ مطلقٌ في الكون البتّة، وتلك الحجج لا تعدو وجهة نظرٍ خاصّة بأصحابها، فلا وجود لثوابت قطعيّة، وأنّ ما يراه المسلمون حقَّاً يراه الملحدون وهماً، وبذلك يجعلون أفكارهم الإلحاديّة مهما كانت واهيةً تكافئ الأدلّة والبراهين القطعيّة التي يستدلّ بها العلماء.

وهكذا يحاولون أن يتجمَّلوا بمصطلحاتٍ فلسفيّةٍ ذات إيحاءات معيّنة فيقولون (نسبيّة الحقيقة) بدلاً من أن يقولوا (إنكار وجود الإله) دون أن يتغيَّر شيءٌ في المضمون. 

الإلحادُ والدروَشة، وجهان لعملةٍ واحدة

غلاف الإلحاد والدروشة
الإلحاد والدروشة

الإلحادُ والدروَشة، وجهان لعملةٍ واحدة

Loading

الإلحادُ والدروَشة، وجهان لعملةٍ واحدة

يروى أنَّ عجوزاً كانت تدعو الله في جوف الليل أن يرزقها طعاماً لأحفادها الأيتام؛ فسمع دعاءها أحدُ الملحدين المستهزئين بالأديان، فأرسل لها صباح اليوم التالي طعاماً، وقال لخادمه: إذا سألتك هذه العجوز: من الذي أرسل الطعام، فقل لها: (الشيطان).

فلما أوصل الخادم الطعام لها شكرته وأرادت أن تغلق الباب، فقال لها الغلام: مهلاً يا سيِّدة ألا تريدين أن تعرفي من الذي أرسل لك الطعام؟ فقالت: لا يهمُّ، لأنَّ الله إذا أراد أن يرزقني سخّر لي من شاء من عباده وإن كان الشيطان.

تلخِّص القصَّة السابقة جدليّةٌ قديمةٌ حديثةٌ عن العلاقة بين الدعاء والأسباب، فإن كان التاريخ الإسلاميّ قد عرف أشخاصاً ساذجين عُرفوا بلقب (الدراويش) تركوا العمل بالأسباب المادّية ظنَّاً منهم أنَّهم لا يحتاجون شيئاً من أسباب الدُّنيا لأنَّهم (متكلون على الإرادة الإلهية)، فقد عرف الحاضر اليوم أناساً تركوا الدعاء والالتجاء إلى الله، بل وربَّما تركوا الدِّين بالكلّية، ظنَّاً منهم أنَّ الأسباب المادية حلّت محلَّ الإرادة الإلهية.

 
تعارضٌ أم توافق؟

ناقشنا في المقال السابق (إله الفجوات المعرفية) إشكالية التعارض بين العلم والدّين في ذهن الملحد، فالنظرة الإلحاديَّة ترى أنَّ أيَّ سببٍ مادّي يعني الاستغناء عن قدرة الخالق؛ فمجرَّد أن يعلم الملحد السبب المادِّي وراء ظاهرةٍ كونيَّةٍ ما، صار الحديث عن القدرة الإلهية المحيطة بالظاهرة بالنسبة إليه عبثاً لا يُفهم.

والمتأمِّل في آيات القرآن الكريم يعلم أنَّ الله سبحانه لم يعطِّل الأسباب المادّية، لكنَّه بيّن أنَّها مسخَّرةٌ بأمره سبحانه، وأنَّه إذا أراد شيئاً دبَّر الأسباب الموصلة إليه. وقد استعرضنا باستفاضةٍ عدداً من تلك الآيات في مقال: (هل تنزل الأمطار برحمة الله أم بتكاثف الغيوم؟) وبيّنا الفرق بين الحكم الإلهي والأسباب المادية في مثال (القاضي والسجّان) في المقال نفسه.

لكن ما يهمُّنا في هذا المقال بيان أنَّه لا تعارض بين الإرادة الإلهية والأسباب المادية، وأنَّ قولي: (إنَّ الله أراد أن يرزقني)، لا يُنافي قولي: (رُزقت بسبب العمل)، بل إنَّ كلا القولين صحيحٌ في مجاله. لكن ظهرت الإشكالية عندما توهَّم بعض الناس أنَّ الإرادة الإلهية والأسباب المادّية يتصارعان على دائرةٍ واحدة، فنشأ التعارض في ذهن كلٍّ من (الملحد) و(الدرويش). ولو علم أحدهما أنَّ لكلٍّ مجاله لربما أعادوا النظر في عقيدتيهما! 

 
الدعاء وخوارق العادات

يحيط في أذهان العديد من البسطاء و”الدراويش” أنَّ دعائيَ بشيءٍ يعني أنَّ الله سيخرق العادات والسُّنن الكونية لكي يحقِّق لي هذا الشيء، وأنَّه إذا لم يتم هذا الأمر الخارق فإنَّ الله لم يستجب لي بعد.

ولو عاد “الدراويش” إلى البوصلة القرآنية، وتأمَّلوا سنن الله في إهلاك الأقوام السابقة، لرأوا أنَّ الله سبحانه وإن أهلك أقواماً بخوارق للعادات كفرعون وجنوده، إلَّا أنّه بيّن لنا في آياتٍ أخرى أنَّه سخَّر لإهلاك أقوامٍ آخرين سنناً كونيَّةً يراها كثيرٌ من الناس كوارث طبيعية. فقد أهلك سبحانه قوم عادٍ بالريح العاتية:

 ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ ۖ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ[سورة الأعراف : 15 – 16].

كما سخَّر سبحانه هذه السُّنَّة الكونية نفسها لينصر نبيَّه على الأحزاب:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا[سورة الأحزاب : 9].

وقد وردت في القرآن الكريم قصصٌ عن إهلاك زروع بعض الظالمين وفقاً لسننٍ كونية لا تحتاج إلى ما يخرق العادة، كقصَّة صاحب الجنَّتين في سورة الكهف، وأصحاب الجنَّة في سورة القلم.

فقال تعالى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَٰلَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّىٓ أَحَدًا[سورة الكهف : 42].

 ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ[سورة القلم : 19 – 20].

 
متى يعتبر الملحد؟

تفصل العقلية الإلحادية -كما أشرنا- بين الإرادة الإلهية والسنن الكونية، فلا يعتبر الملحد بما يراه من نُذرٍ كونيةٍ لأنَّه يعزوها إلى أسبابها المادّية دون أن يتبصّر أو يذّكر. فعندما يرى الملحد إهلاك قومٍ بسنَّةٍ طبيعيةٍ كالزلازل والبراكين والفيضانات، نجده يعلِّل الأمر بحركاتٍ طبيعيةٍ في القشرة الأرضية في عودةٍ إلى السجال الذي أشرنا إليه في المقال السابق: (إله الفجوات المعرفية) تحت عنوان: (معرفة الكيفية، والاستغناء عن الموجِد).

تكمن المشكلة في هذه العقلية في أنَّها عصيَّةٌ على الاعتبار، ففي قصَّة أصحاب الجنَّة التي أشرنا إليها، نجد أنَّ أصحاب الجنَّة قد تابوا بعد أن رأوا جنَّتهم قد احترقت، إذ علموا أنَّ ما أصابهم ليس إلَّا عقوبةً من الله سبحانه. فكان ما أصابهم نذيراً لهم بين يدي عذابٍ شديد، ولم يُرجعوا بلاءهم إلى الصدفة المحضة أو الحتمية المادية في مصير المزروعات التي كانت ستحترق بسبب (كذا وكذا) من جملة الأسباب المادية.

فلا فرق عند الملحد بين الجنَّة التي تصدَّق أصحابها، والجنَّة التي منع أصحابها زكاة أموالهم، فالأمر يرجع إلى الأسباب المادّية وحدها، لذلك يَسخَر الملحدون من المؤمنين عندما يردِّدون أذكار الصباح والمساء ويستعيذون بالله من شرِّ كلِّ يومٍ وليلة، ولا يفهمون معنى: (داووا مرضاكم بالصدقة، وحصِّنوا أموالكم بالزكاة) وما ذلك إلَّا لأنَّ العقلية الإلحادية لا تستطيع أن ترى ما كانت تراه العجوز في القصَّة التي ذكرناها في بداية المقال.

ربَّما يعتبر الملحد بحالةٍ وحيدة، وهي عندما يرى هلاك قومٍ بخارقٍ للعادة، مثل فرعون وجنوده، عندها فقط يرى الملحد أنَّ هذه العقوبة هي عقوبةٌ إلهيَّة، فإذا خرقت العادة فهذا دليلٌ على عقاب الله وإلَّا فإنَّ الله لم يعاقب، حاله كحال (الدرويش) الذي ينتظر خارقاً للعادة كي يعلم أنَّ الله قد استجاب له، فالحياة الدنيا وسننها لا علاقة لها بالله.

 مرَّةً أخرى نرى أنَّ كلَّاً من الملحد والدرويش يتشاركان الأفكار ذاتها! 

الشذوذ الجنسي من الناحية الشرعية

غلاف الشذوذ الجنسي من الناحية الشرعية
الشذوذ الجنسي من الناحية الشرعية

الشذوذ الجنسي من الناحية الشرعية

Loading

الشذوذ الجنسي من الناحية الشرعية

نعم إنّ انتشار المثلية يساهم في انقراض البشريّة… ليس في ذلك مبالغةٌ ولا تهويل…

وبدأ الحوار معه بعد أن عاد من أوروبّا، وقد خلبَه بريق المدنيّة، وأعمته غشاوة الأهواء الدّنيّة، فقال لي: أين نحن من الدول الغربية، دول التقدّم والحرّيّة، يعيش فيها الإنسان كما يريد، ويفعل ما يشاء، دون عائقٍ أو معارض، ويشعر هناك بالحياة الحقيقيَّة والسَّعادة والارتياح.

أمّا بلادنا فبلاد التَّخلُّف والقمع، يرزح فيها الإنسان في قيود المحرّمات والممنوعات… حتّى إذا مارس حقّه الشخصيّ يُعدّ مجرماً…

فقلت له: وماذا تقصد بالحقِّ الشَّخصيّ الذي يحرمونك منه ويجرّمونك فيه؟

إذا كنت محقّاً فأنّا أوّل من يدافع عن هذا الحقّ.

فقال: قد لا تتقبّل ما أريد أن أقوله.

فقلت له: هات ما عندك فأنت في حوار, ولستَ في قضاء.

فقال: مثلاً الممارسة المثليّة تعدّ هنا جريمةً كبرى، مخالفة للدين والقانون والأخلاق والأعراف، أمّا في الدول الغربية فهناك منظّمات تدافع عن هذا الحقّ.

فقلت له: إذا كان تفكيرك هكذا فلا جدوى من الحوار الدّيني؛ لذا سيكون حوارنا علميّاً واقعيّاً توصيفيّاً.

فقال: هذا هو المراد.

فقلت له: هل تسمح أن أوجّه إليك سؤالاً؟

قال: نعم تفضّل.

فقلت له: لماذا تجعل المثليّة حقّاً من الحقوق؟ 

فقال: هي حقٌّ لمن كانت ميوله مثليّة، والأمر ليس بإرادته، إنَّما هو حالةٌ فطريّةٌ وراثيّة، والجينات لديه لا تقبل الجنس الآخر، وتدفعه إلى المثليّة. 

فقلت له: ومن قال لك إنّ المثليّة أمرٌ فطريٌّ وراثيٌّ، وإنّ الميول الجنسيّة والجينات هي التي تسوقه إلى هذا السلوك دون إرادةٍ منه؟

فقال: هذا ثابتٌ علميّاً، ولذلك أقرّ الغرب قانوناً لحماية حقوق المثليّين.

فقلت له:

أولاً- كلامك هذا لا يقرّه علماء الجينات والبيولوجيا، وإنَّما هي معلوماتٌ مغلوطةٌ ومضلّلة ومُبالَغٌ فيها حسب ما تذكره المصادر العلميّة، وإنّ أثر الجينات في ذلك ضئيلٌ جدَّاً وغير مباشر، ولا يتجاوز تأثير الجينات على المثليين عن 10% فقط  [انظر: كتاب المثليّة والدليل العلمي: (ص:18) وما بعدها (ص:162) وما بعدها]…

 ثانياً- ليس من شأن السياسيّ ولا الحقوقيّ، ولا المعلّم ولا الاستشاريّ، ولا الجماعة التي لديها نزعةٌ مثليّة، أن تقرّر أمراً علميّاً لا يتعلّق باختصاصهم وعلومهم، وإنما أقرّت دول أوروبا وأمريكا المثليّة لغاياتٍ ومصالح أرادت أن تكسبها.

فقال: وكيف لا يقرّ العلم دور الجينات في هذا الموضوع الذي لا يخفى على أحد، وهذا الأمر واقعيٌّ ملموسٌ لا يقبل النقاش، فتجد المثليّين يميلون إلى أجناسهم ميلاً قويّاً، فهل تنكر هذه الحقيقة والواقع الذي لا يختلف فيه اثنان؟

فقلت له: أمّا قولك: إنّ المثليّين يميلون إلى أجناسهم ميلاً قويّاً، فهذا صحيح، وهو واقع لا يُنكَر، ولكنّ هذا الشذوذ ليس دافعاً فطريّاً ولا بفعل الجينات، بل بسبب تنشئتهم الخاطئة، وسلوكهم المخالف للأسوياء.

فقال: كيف ذلك؟

فقلت له: إنّ حالة توقان المثليين إلى جنسهم، كحالة مدمني الحشيشة والمخدّرات ونحوها، فإنّهم لم يُولَدوا حشّاشين أو مدمنين، لكنّهم عندما تعاطوا المخدّرات تعلّقوا بها، فكان لسلوكهم المنحرف وللبيئة والتربية دورٌ في تنامي حالة الإدمان.

 فنجد أغلب القوانين تجرّم بيع المخدرات وتعاطيها، وتحجر على المدمنين، وتعاملهم معاملة المرضى، ولم يقل أحدٌ من أهل الوعي والإنصاف إنّ هذا السلوك الذي تسلكه الدول والمؤسَّسات تجاه المدمنين تعدّياً على الحرّيّة الشَّخصيّة، وكذلك الشذوذ فإنَّه مثل ذلك تماماً، فهو مرضٌ نفسيٌّ أو اجتماعيٌّ ينبغي معالجته، وليس حالةً سويّةً كي ندافع عنها.

فقال: كيف تسمّيه شذوذاً وإنّ نسبة المثليين تكاد تقارب نسبة غَيْرِيي الجنس، وكيف تجعله مرضاً وهو حالةٌ طبيعيّةٌ باعتراف المنظَّمات الصحّيّة؟ 

 فقلت له:

 أمّا قولك: إنّ نسبة المثليّين تقارب نصف المجتمع فهذا غير صحيح، فقد لعب الإعلام دوراً كبيراً في تضخيم أعداد المثليّين لترويج المثلية، ونقلها من حالة الشذوذ إلى حالة الطبيعة، فالمثليّون هم القلَّة النادرة مقابل الأسوياء، وإنّ نسبة المثليين الحقيقيّة حسب الإحصاءات العلمية لا يتجاوز 2,5 % وهذه النسبة تشتمل على مزدوجي الميل الجنسي أيضاً. [انظر: كتاب المثليّة والدليل العلمي: (ص:4)].

 وأمّا كونه مرضاً نفسيّاً: فالشواذّ مخالفون للفطرة والأصل الذي عليه الناس، وهذا معروفٌ منذ فجر التَّاريخ، وكان الشذوذ مصنّفاً لدى الدوائر العلمية والطبّيّة في الغرب مع الأمراض النفسيّة والاجتماعيّة أو العضويّة، حتى عام 1967م عندما طالَب الشواذّ في بريطانيا بتغيير اسم الشذوذ وإطلاق اسم (المثليَّة) عليه.

ثمّ بعد عامٍ من تاريخه انعقد اجتماعٌ في فندق (ستون دول) في نيويورك بأمريكا أعقبه أعمال شغبٍ دامت ثلاثة أيّام، نادى فيها الشّواذّ بسقوط المرجعيّة الجنسيّة التقليديّة، حتى أطلَقوا على الشُّذوذ اسم (الحبّ الخالص).

وفي عام 1973م طالبَ المثليّون بإلغاء تصنيف المثليّة من الأمراض النّفسيّة، ووقع جدلٌ كبيرٌ بين أخذٍ وردّ بين الأطبّاء؛ إذ أنّ كثيراً منهم لم يوافقوا على ذلك، لكنّ الأمر انتهى لصالح المثليّين؛ فألغت الجمعيّة الأمريكيّة للأطبّاء النفسيّين تصنيف المثليّة الجنسيّة من قائمة الأمراض النفسيّة، وتبعهم مجلس ممثّلي جمعية علم النَّفس الأمريكيّة عام 1975م.

وبهذا نجد أنّ تغيير تصنيف المثليّة من مرضٍ نفسيٍّ أو اجتماعيٍّ إلى حالةٍ سويّة، لم يكن بناءً على الدِّراسات المعرفيّة والأبحاث العلميّة، وإنّما جاء تلبيةً لمطالب المثليين الذين أقاموا المظاهرات والتجمّعات الميدانيّة لتحقيق مآربهم.

 وإنّ الحقائق العلمية أو التصنيفات المرضيّة أو الصحّية لا تُبنى على أعمال الشغب والتجمّعات والمظاهرات والجمعيّات والترويج الإعلامي…

فقال: دعني من ذلك كلّه، أنا أريد أن أتمتّع في حياتي وأعيش سعيداً.

فقلت له: هل تعلم أنّك إذا سلكت طريق المثليّة سينعكس ذلك عليك تعاسةً وليس سعادة.

فقال: اتّفقنا في بدء الحوار على عدم التعرّض إلى الناحية الدينيّة، فأنا أريد الحياة الواقعيَّة وليس حكم الدِّين.

فقلت له: وأنا أكلّمك عن الحياة الواقعيّة، وليس عن حكم الدين.

فقال: وكيف ذلك؟

فقلت له: إنّ المثليّين والمثليّات يشعرون بفراغٍ لا يستطيعون مِلْأَه، ولديهم اضطراباتٌ نفسيّةٌ وسلوكيّةٌ، وإنّ ما يسعى إليه المثليون من المتعة الآنيّة لا يحقِّق لهم السعادة، بل يعود عليهم بالاكتئاب والأمراض النَّفسيّة؛ لأنّ التركيب البشريَّ مبنيٌّ على التكامل بين الذكر والأنثى، قال الأستاذ عدنان السّبيعي: (مهما قيل في المرأة والرجل، ووظيفة كلٍّ منهما وأهمّيّته في الحياة، فإنّ الأمر الثابت الذي لا يقبل الجدل: إنّ المرأة تكمّل حياة الرجل، وإنّ الرجل يكمّل حياة المرأة) [سيكولوجيّة الأمومة ومسؤوليّة الحمل: (1/69)]

وممّا يساهم في توازن حياة المرأة تحقيق دافع الأمومة، فهو دافعٌ فطريٌّ، وإذا فقدته لا تستقيم حياتها النفسيّة، فهي تحتاج إلى الحبّ وإلى الأمومة في آنٍ واحد؛ لأنّ المبيض يفرز نوعين من الهرمونات، الأول يُسمّى (الفوليكولين) والثاني يُسمّى (اللوتيين) ولكلٍّ من هذين النوعين أثره الذي يتجاوز العضويّة لكي يؤثّر في مزاج الفتاة، حتّى إنّ بعضهم أطلق على الهرمون الأول (هرمون الحبّ) والثاني هرمون (الأمومة) [سيكولوجيّة الأمومة: (1/72)].

والمثليّات لا يحقّقن دافع الأمومة الذي فُطِرنَ عليه.

والمثليّون بشكل عامّ يخالفون نظام الكون، ويسيرون منفردين عن النهج السليم الذي يسلكه الأسوياء، فقد ذكرت مجلة (عالم المعرفة) دراسةً شملت جماعاتٍ بشريّةً متنوّعة: أنّ العائلة هي الوحدة الاجتماعيّة عند البشر، وأنّ ما يميّز الأنواع الراقية عن غيرها-ومن ضمنها الإنسان- كونها تعيش في زمرٍ اجتماعيّة مؤلّفة من الجنسين، من أعمارٍ متفاوتة، ومن النادر مصادفة الأنثى بلا ذكر، ويندر كذلك وجود الذكور في حالة واحدة. [انظر: مجلة عالم المعرفة (الأمومة نموّ العلاقة بين الطفل والأمّ) د. فايز قنطار العدد-166- (ص: 22)].

فلا تتحقَّق السعادة إلا من خلال التَّوازن النَّفسيّ، وإشباع دافع الأمومة لدى المرأة، والشّعور بالكمال عند الرجل، حين تنتقل حياة الرجل والمرأة من مرحلةٍ إلى أخرى، حيث يشعران بالتطوّر والتغيير، فيصبحان زوجين، ثمّ ينجبان طفلاً يملأ حياتهما بالبهجة والسرور، و يجتمع قلباهما على محبّته، ويكوّنان أسرة، ويصبح الزَّوج أباً والزَّوجة أمّاً، ويُشبِعان هذا الدَّافع الفطري الذي جُبلا عليه، ويجدان حياتهما في تطوّرٍ مستمرٍّ من أوّل مرحلةٍ من زواجهما حتى يكبر أبناؤهما، ثم يتزوَّج الأبناء وينجبون، فتتلوّن لديهما الحياة، ويشعران أنّ أبناءهما وأحفادهما امتدادٌ لحياتهما، وتخليدٌ لذكراهما، وهذه سنّة الله في الكون التي تصبُّ في مصلحة الإنسان، والحفاظ على النسل واستمرار البشرية، وبقاء النوع الإنسانيّ.     

ولا يمكن أن تتطوَّر الحياة وتتغيّر لدى المثليّين؛ لأنّهم لا يريدون سوى المتعة العاجلة فحسب، فيندفعون نحوها، وبعد مدّةٍ من الزمن يشعرون بفراغٍ وركود في الحياة، ثمّ مللٍ وسآمة، ثمّ يتحوّل الملل إلى اكتئاب، ثمّ اضطرابات، ثم أمراض نفسيّة، لذا فقد كشفت دراسةٌ أمريكيّةٌ أنّ المثليّين والمثليّات جنسيّاً أكثر عرضةً للمشاكل النَّفسيَّة والصحّيّة، وأكثر إفراطاً في تعاطي المخدّرات والتَّبغ [انظر: موقع إذاعة (مونت كارلو الدوليّة) بتاريخ 28/6/ 2016م] وغالباً ما يتحوّل الاكتئاب والاضطرابات إلى عُقَد نفسيّة، وقد تقودهم هذه العقد النفسيَّة إلى الانتحار.

 لذا أشارت الإحصائيّات أنّ نسبة المنتحرين من المثليّين في أمريكاً أعلى بثلاث مرّاتٍ من الأسوياء [انظر: صحيفة الدستور مقال تحت عنوان (ارتفاع نسبة الانتحار بين الشواذّ في أمريكا) يوم الأربعاء 12 فبراير 2020م].

وإضافةً إلى ذلك تعرّضهم للأمراض الخطيرة والمعدية بسبب ممارسة الشذوذ،  وقد ذكرت المصادر أنّ نسبة إصابة المثليّين بالأمراض الجنسية كمرض الإيدز ونحوه أكثر من إصابة الأسوياء من غَيرِيي الجنس [انظر: موقع إذاعة DW مقال تحت عنوان: ارتفاع نسبة المصابين بالإيدز بين المثليّين جنسيّاً 20/7/2012م] كما أنّ انتشار مرض الزهري لدى المثليّين في أمريكاً بلغ نسبة 75% وفقاً لموقع (هيلث داي الطبي).وأكَّدت منظمة الصّحّة العالمية مؤخراً أنَّ غالبية الإصابات بمرض جدري القردة رصدت بين الرِّجال الذين يمارسون الجنس مع الرِّجال.

وإذا أوصلت الممارسات المثليّة مع مرور الزمان إلى الاكتئاب والأمراض النفسيّة التي قد تقود إلى الانتحار، وأدّت إلى الأمراض الجنسية المعدية والخطيرة، فإنَّ المثليّ يعيش حياته قلقاً كئيباً، فأين السَّعادة المتوخّاة من ممارسة الشُّذوذ؟

وما هذه الحرّيّة التي ينادي بها المثليّون؟

ومن جانبٍ آخر على المستوى العامّ، فإنّ حفظ النسل وبقاء النوع الإنساني من مقاصد الدّين لتبقى الحياة مستمرّة، فإذا اكتفى الرِّجال بالرِّجال والنِّساء بالنِّساء فسينقطع النسل، وينقرض الإنسان مع مرور الزمن، وتتوقّف الحياة بأسرها.

 وإنّ الذين يدعون إلى المثليّة ويروّجون لها، ويدَّعون أنّها من الحرّيّات المشروعة لا تقلّ دعوتهم خطورةً عمّا يفعله مجرمو الحروب في إبادة الشعوب؛ لأنّ الدعوة إلى المثليّة تعني إبادة مستقبل الحياة، والقضاء على النوع الإنساني قاطبةً من وجه الأرض!

وبعد بيان مخاطر المثليّة وآثارها الوخيمة على الفرد وعلى المجتمع، بل على الإنسانيّة بأسرها، نستطيع أن نتحدّث في الجانب الدِّينيّ، ونقول:

 جاء الدِّين لجلب المصالح ودرء المفاسد، وإنّ تحريم الشذوذ في الشريعة الإسلامية وسائر الشرائع السماويّة ليس عبثاً، ولا محاصرةً للنُّفوس كما يدّعي أصحاب التَّحرر والأهواء، وليس تشديداً دون غايةٍ أو مقصد، بل بلغت الشريعة شأواً عظيماً من الحكمة في تحريم الشذوذ، ورمت بذلك إلى أعظم المصالح ووقاية الإنسان من المفاسد والمهالك ذات الآثار الخطيرة المترتّبة عليه، والأخذ بيده إلى سُبل النجاة.

ومع قبح الشذوذ وعظيم خطره، إلّا أنّ هناك شيءٌ أعظم من هذا الفعل القبيح ذاته، أتدرون ما هو؟

إنّه ما يقع اليوم في الإعلام من إظهار هذا الشذوذ والمجاهرة به، والدعوة إليه، والترويج له، وتبريره، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «كلُّ أمَّتي معافى إلَّا المجاهرين، وإنَّ من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» [متفق عليه], وإنّ ما ينشره الإعلام يتجاوز حدّ الإظهار والمجاهرة، إلى الجرأة والوقاحة وتجاوز الخطوط الحُمر في الدعوة إلى الرذيلة، فهذه هي الطَّامة الكبرى والمصيبة العظمى…

وعندما تُذاع الفاحشة ويُعلن عنها ينزل غضب الله تعالى، وتقع الأمراض والأوباء، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «كيف أنتم إذا وقعت فيكم خمس، وأعوذ بالله أن تكون فيكم أو تدركوهنّ: ما ظهرت الفاحشة في قومٍ قط يعمل بها فيهم علانية، إلَّا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم…» [شعب الإيمان: (3043)] وهذا ما نراه اليوم.

ولا مزيد ملامة على من يغرق وحده، وإنَّما المجرم من يدعو المجتمع إلى الهلاك في مستنقعات الرذائل، وينادي بتشريعها والاعتراف بها، ويدّعي أنّها من الحقوق البشريّة، فإنّه بذلك يتحمّل أوزار كلّ من تأثّر به وانحرف عن الصراط السويّ.

الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية _ الجزء الثاني

الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية -الجزء الثاني-
الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية -الجزء الثاني-

الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية _ الجزء الثاني
بقلم: م. إحسان هلالة

Loading

الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية

ناقشنا في الجزء الأوَّل من هذه المقالة عنوانين رئيسيين هما:

  • تعريف الشذوذ الجنسيّ.
  • هل نحدِّث أبناءنا عن الشذوذ الجنسيّ؟ ومتى؟

ونفصِّل الحديث اليوم عن:

  1. أسباب الشذوذ الجنسيّ؟
  2. كيف نحمي أبناءنا من الشذوذ الجنسيّ؟
ثالثاً: أسباب الشذوذ الجنسيّ:

يقوم الخطاب الدَّاعم للمثليَّة الجنسيَّة بنشر فكرة “طبيعية” الشذوذ الجنسيّ معتمداً على ثلاثة محاور:

المحور الأول: هو مقارنة السلوك البشري بالسلوك الحيواني.

المحور الثاني: هو الزعم بوجود كود جيني معيَّن مسؤولٍ عن الشذوذ الجنسيّ والسلوك الجنسيّ بشكلٍ عامٍّ في الحمض النووي البشري.

المحور الثالث: فيدور حول أنَّ المتغيرات البيئية، والعوامل الاجتماعية لا علاقة لها بتحديد التوجُّه الجنسيّ والهويَّة الجنسيَّة. وقد دُحِضَت كلُّ هذه المزاعم ورُفضت بشكلٍ علميٍّ في كثيرٍ من الأبحاث . وهذا إن دلّ على شيءٍ فإنَّما يدلُّ على كذب المروِّجين لهذه الظاهرة الشاذَّة، وأنَّها أمرٌ منافٍ للفطرة البشريَّة التي فطر الله الناس عليها.

وفيما يلي أهمُّ أسباب ظاهرة الشذوذ الجنسيّ:

أوَّلاً- أسبابٌ دينيَّة:

    • ضعف الإيمان، وهو السبب الرئيسيُّ في انتشار الفواحش عامَّةً، والشذوذ الجنسيّ خاصَّةً.

ثانياً: أسبابٌ اجتماعيَّة: وهي كثيرةٌ من أهمِّها:

    • التربية الخاطئة.
    • تقليد النماذج المغلوطة سواءً في البيت أو المجتمع أو على شبكات التواصل الاجتماعيّ.
    • الفقر والحاجة.
    • الشعور بفقدان الحقوق الذاتيَّة، والشرف والمكانة في المجتمع.
    • غياب المُشرف أو وليِّ الأمر، ممَّا يجعل الشخص عرضةً لكلِّ من أراد الاعتداء عليه.
    • فقدان قنوات الاتِّصال والتفاهم بين الأب والأم من جهة، وبين الأبناء من جهةٍ أخرى.
    • القسوة في معاملة الأبناء.
    • التفكُّك الأسريُّ كالطلاق، أو الهجر، أو غياب أحد الزوجين، أو انشغال أحدهما، وعدم قيامه بواجباته الأسريَّة.
    • قلَّة الأمن، وشيوع الفوضى، وانتشار الرُّعب، وكثرة الاضطرابات في المجتمع.
    • رفاق السوء، حيث يُسيطر مبدأ التقليد الأعمى والمحاكاة.

ثالثاً: أسبابٌ اقتصادية: تعقيد أمر الزواج في بعض المجتمعات.

رابعاً: أسبابٌ نفسيَّة: ومنها ما يلي:

    • عدم الارتياح الجنسيّ مع الطرف الآخر في العلاقة الزوجية.
    • تجمعات الأجناس المتماثلة في مكانٍ معيَّنٍ لفترةٍ طويلةٍ كالسجون والمدارس الداخلية.

خامساً: أسبابٌ إعلاميَّة ومنها:

    • المواد الإعلاميَّة المُفسدة بجميع أنواعها.
    • الانفتاح الثقافي، وتيسير سبل التواصل الاجتماعيّ مع عدم وجود محاذير أخلاقيَّة تحكم هذا التواصل، وما يترتَّب على ذلك من إدمان الشبان والفتيات على مشاهدة المواقع والأفلام (الإباحيَّة) وبعضها يعرض لمثل تلك الممارسات ويدعو لها ويزينها.

سادساً: أسبابٌ قانونيَّة: عدم تفعيل القوانين الوضعية، والتساهل مع الجناة.

سابعاً: أسبابٌ عضويَّة: فقد يكون الشذوذ ناتجاً عن نقصٍ في الهرمونات أو جيناتٍ داخليَّةٍ معيَّنةٍ تجعل الشخص جسمانياً (ذكراً) لكنَّ المخَّ والتفكير والأسلوب أنثى، كمرض (العنة) أو مرض (الجَب) أو (الخصاء) أو يكون ناتجاً عن (الخنوثة).

ثامناً – أسبابٌ أخرى: هناك أسبابٌ إضافيَّةٌ ساعدت في نشأة هذه الظاهرة، ومنها:

    • بعض الأفكار الغربية المناهضة للفطرة الإنسانية السَّليمة مثل نظرية (فرويد والسلوك الجنسي).
    • مناداة الدول الغربيَّة بالحريَّة الجنسيَّة، إلى جانب الضغوطات الممارسة من قبل الجمعيات والمنظَّمات المدافعة عن حقوق الشواذّ جنسياً.
    • الدعم الدولي للشذوذ الجنسيّ في العالم الغربي ومنظَّمات الأمم المتَّحدة.
    • الدعم من قبل الدول والحكومات الغربية التي تقدِّم التسهيلات للشاذِّين جنسياً ومن ذلك: منحهم حقَّ اللجوء السياسي.
    • دعوى الوراثة الجينية.
    • الاغتراب: فالشخص الذي يبتعد عن أهله وقومه إلى بلادٍ غربيةٍ لا يعرفه فيها أحدٌ، وربَّما لا يجد فيها زواجاً، قد يجد ضالَّته في الشذوذ مع الغلمان وغيرهم، خصوصاً إذا كانت تلك الهجرة إلى بلدٍ لا يُنكر مجتمعه هذه الممارسات الشاذَّة.
    • يُعتبر تعاطي المخدِّرات، وإدمان الخمر من أقوى الأسباب التي تؤدِّي إلى اضطراب الوعي والميزان القيميّ والأخلاقيّ إلى درجةٍ يسهل معها انتهاك كلِّ الحُرمات ممَّا يُساعد على وقوع الشذوذ الجنسيّ.
    • نظرية دارون.
    • الاختلاط المحرَّم بين الأجانب ذكوراً وإناثاً.
رابعاً –كيف نحمي أبناءنا من الشذوذ الجنسيّ:

من خلال عرضنا لأهمِّ أسباب الشذوذ الجنسيّ نجد تأكيداً على أنَّ هذه الظاهرة إنَّما هي خروجٌ عن الفطرة البشرية التي فطر الله الناس عليها. ومن هذا المنطلق؛ إذا أردنا الحديث عن حماية أبنائنا من الشذوذ الجنسي فإنَّما هو حماية فطرتهم السليمة. قال الإمام القرطبيُّ رحمه الله: ” إنَّ الله خلق قلوب بني آدم مؤهَّلةً لقبول الحقّ، كما خلق أعيُنهم وأسماعهم قابلةً للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقيةً على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية أدركت الحقّ، ودين الإسلام هو الدين الحقّ، وقد جاء ذلك صريحاً في الصحيح، جبل الله الخلق على معرفته، فاجتالتهم الشياطين“. وقد دلَّ بذلك على الحديث الصحيح، فقد روى البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ قال: “مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ“، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ]8[

أمَّا عن كيفية حماية أبنائنا من الشذوذ الجنسيّ فهو المبدأ العام في حمايتهم من انحراف الأخلاق والمبادئ.

ونضع بين أيديكم شرحاً لما يُسمَّى (معادلة التربية – كيف تسقط القيم عند الأبناء)]3[

المرحلة الأولى من المعادلة التربوية:

عادةً عندما يكون الأهل –أباء وأمَّهات– أسرةً ملتزمةً قائمةً على مبادئ الشرع الحنيف، فإنَّهم ومِن دافع محبَّتهم الشديدة لأبنائهم يسعون إلى تربية أبنائهم على شرع الله عزَّ وجلَّ، وبالتالي تكون ملاحظاتهم دقيقةً جدَّاً فيما يخصُّ أيَّ خطأ يقوم به الابن منذ نعومة أظفاره، لكنَّ المشكلة تكمن في طريقة تقويمهم وتأديبهم لابنهم، ففي الغالب تكون طريقةً شديدةً تتراوح حسب العائلة بين السلوكيَّات التالية: (الضرب– كثرة الصراخ– كثرة الانتقاد واللوم– الأحكام الانتقاديَّة القاسية– السبُّ والشتم- المقارنة السلبية– المحاضرات المملَّة– التهديد والوعيد– التشهير– السخرية والتهكُّم…). ومع الأسف، فإن كلَّ هذه السلوكيَّات التي يقوم به الآباء من دافع محبَّتهم لأبنائهم وغيرتهم عليهم إنَّما يُرافقها –في الغالب– حالةٌ من التوتُّر والغضب والانفعال، ولعلَّ هذه الحالة هي شبه دائمةٍ عند الأهل وفي معظم الوقت.

المرحلة الثانية من المعادلة التربوية:

تكمن المشكلة في سلوكيَّات الأهل من خلال ثلاث نقاط:

  • تعتبر هذه السلوكياتٌ سلوكيَّاتٍ فظّةٌ بعيدةً كلَّ البعد عن سلوك النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام والذي خاطبه الله عزَّ وجلَّ بقوله: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[البقرة 44]، وبالتالي؛ وعند استمرار هذه السلوكيَّات فإنَّها ستُسبِّب نفور الأبناء من آبائهم وأمهاتهم، وهذا ما يُسمَّى (الفجوة بين الآباء والأبناء).
  • إنَّ هذه السلوكيَّات تُسبِّب عند الأبناء حالةً من انعدام الثقة بالنفس وتقدير الذات، لأنَّها تُشوِّه نظرتهم لأنفسهم بسبب ممارستها عليهم منذ نعومة أظفارهم من قبل الأهل، حيث يُشكل كلامهم وتقريرهم مرجعيةً لأبنائهم في تصوُّرهم عن ذواتهم.
  • إنَّ حالة التوتُّر والانفعال –شبه الدائمين عند الأهل– تحرم الأبناء من أحد أهمِّ احتياجاتهم النفسية ألا وهي العاطفة والأمان، لأنَّ الإنسان المنفعل والمتوتِّر لا تصدر منه عاطفة.

المرحلة الثالثة من المعادلة التربوية:

  • إنَّ حالة الحرمان والنقص العاطفي تجعل الابن مُنجذباً إلى أصدقائه الذين يعطونه العاطفة بطريقةٍ غير مباشرةٍ من خلال تقبُّلهم له، وحوارهم وتعاطفهم معه بكلِّ أحواله الإيمانيَّة والسلوكيَّة والأخلاقيَّة دون قيدٍ أو شرط -وهذا ما يُسمَّى “الحبَّ غيرَ المشروط-
  • وأمام حالَتي انعدام تقدير الذات، والنفور من الأهل يُصبح الأبناء غير مؤمنين بقيم أسرتهم ومبادئها، بل لا يشعرون بالفخر من الانتماء إلى أسرتهم بسبب نفورهم من آبائهم وأمهاتهم، ولا يؤمنون بالمنهج الأخلاقيّ لهذه الأسرة. وبالتالي يُصبح الأبناء عُرضةً لكلِّ أنواع الاقتراحات الفاسدة التي تقولها لهم جماعة الأصدقاء التي ينتمون إليها. وهنا يبدأ سقوط القيم وتهاويها شيئاً فشيئاً.
  • وفي معرض حديثنا عن أسباب الشذوذ الجنسي نجد أنَّ الأبناء قد يُصبحون عرضةً للانحلال الأخلاقيّ شيئاً فشيئاً، وقد نستغرب أنَّهم يسقطون في مهاوي الخمر والمخدرات ثمَّ في الإباحيَّة بكلِّ ما فيها.

نسأل الله عز وجل أن يعصم أبناء المسلمين من مكائد شياطين الإنس والجنّ.

والحمد لله ربِّ العالمين.

المراجع:

[1] المثلية الجنسية.. سلوك مكتسب أم جينات لا نتحكم بها؟ مقال للدكتور إبراهيم السيد نُشر على شبكة الإنترنت موثق بالمراجع والأبحاث.

[2] التدابير الواقية والعلاجية للمجتمع من الشذوذ الجنسي في ضوء القرآن الكريم – د. حنان شبانة إبراهيم عبد الواحد (بتصرف).

[3]  الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.

[4] معادلة التربية – برنامج صناعة الأبناء العظماء 2013 – إحسان هلالة

الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية _ الجزء الأول

الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية -الجزء الأول-
الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية -الجزء الأول-

الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية _ الجزء الأول
بقلم: م. إحسان هلالة

Loading

فساد الأمم

الشذوذ الجنسيّ من الموضوعات التي تثير جدلاً وتساؤلاتٍ في أذهاننا، ولدى أبنائنا خاصَّةً، ولكن ليست كلُّ الأُسَر متفهِّمةً للأمر أو واعيةً له، وربَّما لا تملك إجاباتٍ شافيةً وعلميَّةً تُشبع فضول الأبناء وتحترم عقولهم، وفي الوقت نفسه تُجيبهم بحرصٍ ودقَّةٍ مع تفهُّمٍ دون نظرة اتِّهامٍ بعدم الأدب، أو التفاهة أو غيرها.

وقد وضع المروِّجون للشذوذ الجنسيّ كلمة (المثلية) بديلاً عن مصطلح الشذوذ الجنسي للتَّرويج له بأنَّه ميلٌ طبيعيٌّ في البشر وليس فيه مخالفةٌ للفطرة.

وفي حديثنا عن الشذوذ الجنسي من الناحية التربوية نتناول أربع فقرات:

الجزء الأول:

  • تعريف الشذوذ الجنسيّ.
  • هل نحدِّث أبناءنا عن الشذوذ الجنسيّ؟ ومتى؟

الجزء الثاني ويتناول:

1- أسباب الشذوذ الجنسيّ.

2- كيف نحمي أبناءنا من الشذوذ الجنسيّ.

أولاً – تعريف الشذوذ الجنسيّ:

الشذوذ الجنسيّ: مصطلحٌ مُستحدثٌ يُطلق على كافَّة الممارسات الجنسيَّة غير الطبيعية المخالفة للفطرة الإنسانية التي فطر اللهُ عَزَّ و جَلَّ الناسَ عليها . [1]

وما نقصده  في مقالتنا هنا هو الشذوذ الجنسيُّ المثلي (المثلية الجنسية) وهو أحد أشكال الشذوذ الجنسيّ، والذي يتضمَّن وجود المشاعر الرومانسيّة والانجذاب الجنسيَّ لأفرادٍ من نفس الجنس والرغبة بممارسة الجنس معهم.

ثانياً – هل نحدِّث أبناءنا عن الشذوذ الجنسيّ؟ ومتى؟

قبل الحديث عن فكرة التَّحدُّث مع أبنائنا عن الشذوذ الجنسيّ نحتاج إلى الحديث عن فكرة الثقافة الجنسيَّة مع أبنائنا. “ولعلّ تحفُّظ الأهل عن الخوض فيما يُسمى بالثقافة الجنسيَّة مع أبنائهم نابعٌ أوَّلاً من نوع التربية التي تلقّاها الآباء أنفسهم، هذه التربية التي تعتبر السؤال والبحث في هذا الموضوع شيئاً محظوراً خارجاً عن إطار التربية السليمة، وثانياً من تخوُّف الأهل أن يعرف أبناؤهم هذه الأمور فيفتحوا أذهانهم على أشياء لم تكن تخطر ببالهم. إلَّا أنَّ تغيُّرات العصر، ومتطلَّبات الواقع أصبحت تفرض تغيير هذا الأسلوب مع أبنائنا، والتحدُّث معهم حول المواضيع التي تفرضها عليهم المراحل العمرية، وموضوع الثقافة الجنسية خاصَّةً. “]2[

والمقصود بالثقافة الجنسية: الإطار العلميَّ والشرعيَّ والأخلاقيَّ الذي يحيط بموضوع الجنس، والذي يؤثِّر في التكوين الشخصيّ للفرد في حياته. ]3[

وبشكلٍ عمليٍّ، من المفيد أن نذكر أنَّ “التثقيف الجنسيَّ للأبناء يبدأ منذ مرحلة الطفولة بعد سنِّ الثالثة، ولكن ليس أكثر من معرفة أعضائه التناسلية. ثمَّ يتطوَّر الأمر إلى التساؤل عن الفرق بين الذكر والأنثى، ثمَّ يتطوَّر إلى التساؤل عن الخلق والولادة في سنِّ السادسة.

ويستمرُّ التساؤل في التطوُّر إلى أن يصل إلى سنِّ المراهقة التي تستدعي من الأهل أن يُعرِّفوا أبناءهم على  الأمور الجنسيَّة والأجهزة الجنسيَّة معرفةً شاملةً ومفصَّلة، ولعلَّ كثيراً من الناس يستهجنون هذا الأمر، لكن لا بدَّ من معرفة أنَّ أبناءنا ليسوا منفصلين عن المجتمع، وإذا لم يثقَّفوا جنسياً في الوقت المناسب ضمن الإطار العلميِّ والشرعيِّ والأخلاقيِّ، فإنَّهم سيعرفون ذلك من اصدقائهم ولكن بطريقةٍ مغلوطةٍ، أو بطريقةٍ تحرِّك الشهوة، بعيدة كلَّ البعد عن الإطار الشرعيِّ والأخلاقيّ.”]4[

“والتثقيف الجنسيُّ الصحيح للأبناء ينضبط بالشروط التالية: ]5[

  1. وضع الأمر ضمن نطاق العلميَّات الحيوية العاديَّة للإنسان، وإدخاله تحت بند النظافة البدنيَّة، والطهارة الجسمية، والطهارة الحُكميَّة.
  2. استخدام مصطلحاتٍ شرعيَّة، بل ونظيفة لما يتعلَّق بالأجزاء الجنسيَّة والعمليات المتعلِّقة بها، فيزول بذلك كثيرٌ من الحرج.
  3. طرح الموضوع شرعيَّاً طرحاً لا يُخرج الموضوع عن جدِّيَّته، ويجعله قريباً إلى المتعلِّم من خلال حافز الثواب.
  4. احترام الموضوع، وعدم تقذيره أو جعله تحت أبواب الخطيئة، فيُلقي ذلك في روع الشاب أو الفتاة الاطمئنان، ويزيل كثيراً من مشاكل المراهقة بعد ذلك.”

بعد ذلك يأتي دور الحديث مع الأبناء عن الشذوذ الجنسيّ –موضع بحثنا– وطريقة الحديث، ووقته، وعمقه معهم في هذا الشأن هو أمرٌ نسبيٌّ، فالأهل الذي يعيشون في مجتمعٍ غربيٍّ يعترف بالشذوذ الجنسيّ تُنظَّم له فيه الحفلات لا يستطيعون تجاهل تساؤل أبنائهم حول هذه التظاهرات التي ترفع فيها أعلامهم، وتنتشر في الشوارع، بل لا يستطيعون إلَّا المصارحة.

أمَّا من يعيش في بلدٍ إسلاميٍّ فلا بأس أن يطرح الموضوع على الأبناء بعد دخولهم سنَّ البلوغ، وربطه بمنافاة الفطرة البشرية التي خلق الله عزَّ وجلَّ الناس عليها، وإلَّا سمع بها الأبناء من خلال الإنترنت، أو الأصدقاء، أو من خلال رؤيتِهم للعلَم الذي اتَّخذه هؤلاء شعاراً لهم، ثمَّ إذا سألوا آباءهم عن هذا المصطلح فلا بأس من إعلامهم به ضمن الشروط والضوابط التي ذكرناها.

وعند التحدُّث مع الأبناء حول موضوع الشذوذ الجنسيِّ، يجب مواكبة جميع الأبحاث العلميَّة، ليكون حديثاً ذا سندٍ علميٍّ؛ كعدم وجود أدلَّةٍ علميَّةٍ قاطعةٍ تدلُّ على ارتباط الجينات الوراثيَّة بالمثلية.

يقودنا هذا إلى التفصيل في:

أولاً: أسباب الشذوذ الجنسي.

ثانياً: كيف نحمي أبناءنا من الشذوذ الجنسيّ.

وهو موضوع بحثنا في الجزء الثاني من مقالتنا إن شاء الله.

المراجع:

[1] التدابير الواقية والعلاجية للمجتمع من الشذوذ الجنسي في ضوء القرآن الكريم – د. حنان شبانة إبراهيم عبد الواحد (بتصرف).
[2] التربية الجنسية للأطفال، كلام في الممنوع –الدكتور ياسر نصر– 2015.
[3] المصدر السابق نفسه.
[4]  المصدر السابق نفسه (بتصرف).
[5] بلوغ بلا خجل، الدكتور أكرم رضا- دار التوزيع والنشر الإسلامية، ط الثالثة 2000. 

الشذوذ الجنسية من وجهة نظر نفسية

الشذوذ الجنسي من الناحية النفسية
الشذوذ الجنسي من الناحية النفسية

الشذوذ الجنسي من وجهة نظر نفسية
بقلم: أ. رهف قره حمودة

Loading

لا يخفى بين الحين والآخر ظهور آراء فرديّةٍ وجماعيّةٍ حول ظاهرةٍ معيَّنةٍ بشكلٍ مُختلفٍ عن التّعاطي السابق لها، ولعلَّ ذلك مرتبطٌ بشبكةٍ من الأجندات والمسوِّغات، وعلى الرَّغم من أنَّنا لا نُقحم نظريّة المؤامرة هنا إلَّا أنّ الأمثلة التي تدعم الفكرة السابقة كثيرة.

في بداية القرن العشرين نظر علم النفس كأوَّل التَّخصُّصات العلميّة إلى الشُّذوذ الجنسيّ على أنَّه اضطرابٌ نفسيٌّ متضمِّناً المثليّة، والفيتشيّة، والبيدوفيليا، والسَّاديّة، والمازوشية، وغيرها، وذلك استناداً إلى الافتراضات التي جرى اختبارها وإلى ما كان يعتبر معياراً اجتماعياً، وعلى انطباعاتٍ سريريّة تألّفت من مرضى طلبوا العلاج بسبب سلوكهم الشّاذ جنسياً، حتى إنَّ القانون كان له إسهامٌ في معالجة ذلك.

وفي سبعينيَّات القرن العشرين، أصبح هناك إجماعٌ في مجال العلوم السلوكيّة والاجتماعيّة والمهنيّة الصِّحّيّة والنفسيّة على أنَّ أحد أنواع الشذوذ الجنسيّ أو ما أصبح يسمَّى لاحقا “المثليّة الجنسيَّة” هو شكلٌ صحِّيٌّ من أشكال التّوجُّه الجنسيّ عند البشر.

وعلى الرّغم من أنَّ معظم العاملين في هذا المجال مازالوا يرون في ذلك اضطراباً نفسياً إلَّا أنَّه ومع الأسف تَّمت إزالته من قبل مؤسَّسات الصِّحَّة النّفسيّة الكبرى مثل:DSM  (دليل التَّشخيص الإحصائي النَّفسيّ الأمريكيّ للاضطرابات النّفسية) من قائمتها باعتباره أحد الاضطرابات النفسيّة.

لا بُدّ أن نقف عند بعض التعاريف النفسيّة الخاصَّة بالاضطرابات الجنسيّة لنفهم تماماً في فوضى المصطلحات القائمة ما هو السواء والشذوذ الجنسيّ:

  • الهويّة الجنسيّة sexual identity:

وهي الخصائص الجنسيَّة البيولوجيّة للشّخص (الصبغيات- الأعضاء التناسلية الخارجية والداخلية– الهرمونات– الغدد التناسلية- الصفات الجنسية الثانوية).

  • هويَّة الدّور الجنسيّgender identity:

هو إحساس الشَّخص بكونه ذكراً أو أنثى (وقد يرتبط هذا الإحساس بمفاهيم نشأ عليها الفرد أو تأثَّر بها تباعاً؛ بغضِّ النظر عن هويته الجنسيّة).

  • الدّور الجنسيّ gender role:

وهو السُّلوك والدور الذي يمارسه الشخص ليُظهر نفسه ذكراً أو أنثى، وهذا لا يكون موجوداً عند الولادة، ولكنَّه يتشكَّل تدريجياً من خلال خبراتٍ تراكميّةٍ تعليمية.

  • التوجُّه الجنسيّ sexual orientation:

وهو ما يصف الأمور التي تثير الدّوافع الجنسيّة، ولعلّ اختلافها من خلال ما سبق يوضح أنَّ الصفات الجنسيّة البيولوجية للذّكر مختلفةٌ حتماً عن الصِّفات الجنسيّة البيولوجيّة للأنثى بما في ذلك الصبغيّات، والهرمونات، والغدد، والأعضاء الجنسيّة…

وأنَّ الإشباع الجنسيّ السّويّ هو العلاقة الجنسيّة المشروعة بينهما والْمُهيَّأة بيولوجياً لهذا الغرض، أمَّا غير ذلك من أشكال الإشباع الجنسيّ: كالاستمناء، والمثليَّة، والفيتشية (العلاقة مع الأشياء)، والبيدوفيليا (العلاقة مع الأطفال)، والمازوشية (الإشباع عند التَّعرُّض للأذى والعنف)، والسَّاديَّة (الإشباع عند التَّسبُّب بالأذى والعنف) وغيرها… هي أشكالٌ مُنحرفةٌ غيرُ سويّةٍ للإشباع الجنسيّ.

وبعيداً عن الدِّراسات التي يتمُّ التّرويج لها إعلاميّاً، أجرى فريقٌ من الباحثين بجامعة (نورث ويسترن) الأمريكيَّة دراسةً علميَّةً عام 2014 شملت فحص الحمض النووي لـ 400 ذكر من “المثليين الجنسيين” ولم يتمكَّن الباحثون من العثور على جينٍ واحدٍ مسؤولٍ عن توجُّههم الجنسيّ، وقالوا بأنَّ الجينات كانت إمَّا غير كافية، أو غير ضروريّة لجعل أيٍّ من الرِّجال شاذَّاً جنسيّاً.

وعلّق أستاذ علم الجينات الأمريكيّ (آلان ساندرز) على هذه الدِّراسة قائلاً:

الجينات ليست هي القصَّة الكاملة، إنَّها ليست كذلك“.

هذه الإشكاليَّة التي طرحها أستاذ الدِّراسات العائليَّة بجامعة (نبراسكا دوغلاس آبوت) تقول بأنَّ كثيراً من الناس يعتقدون أنَّ الجينات تؤثِّر في سلوكٍ نفسيٍّ مركب، والأمر ليس كذلك في أغلب الحالات، حيث ينتج السُّلوك من تأثيرٍ جينيٍّ مُتفاعلٍ مع العوامل البيئية.

لذلك فإنَّ الدّور الجنسيَّ والتوجُّه الجنسيّ يتأثَّران بآليَّات البرمجة الفكريّة، والاكتساب من المحيط ليشكِّلا فيما بعد أحد أشكال السُّلوكيّات الجنسيّة.

وبالتالي فإنَّ أيَّ أخطاء في التربية الجنسيّة كتعامُل الأهل الأُنثويّ مع أطفالهم الذُّكور أو العكس، أو التّعرُّض للتَّحرُّش الجنسيّ يمكن أن يُفعِّل مساراتٍ عصبيّةً للَّذّة أو ألماً في دماغ الطفل، وهذه المسارات غير السويّة تحرِّض فيما بعد قهريَّاً أو بإرادة الفرد سلوكيَّاتٍ جنسيَّةً شاذَّة.

ختاماً نقول:

إنَّ تغيُّر نسبة التَّقبُّل، والاعتراف بالإشباع الجنسيّ غير السّويّ وما ينطوي عليه من دعواتٍ لحريَّة الهويَّة الجنسيّة، أو وجود علاقةٍ بين الجينات والسُّلوك الجنسيّ وغير ذلك لابدَّ وأن يُنظر إليها نظرة استبصارٍ موضوعية.

ومن وجهة نظرٍ نفسيَّةٍ:

فإنَّ أيَّ انحرافٍ جنسيٍّ سواء كانت أسبابه تحليليَّةً أو نفسيَّةً معرفيَّةً يمكن أن يخضع للعلاج الدَّوائيّ والنّفسيّ التّحليليّ والمعرفيّ والسُّلوكيّ، من خلال جلساتٍ لا يَسعُنا ذكرها هنا، مع التَّأكيد على نجاحها في حال رغب المستفيد بالعلاج ونظر إلى الأمر على أنَّه مشكلةٌ يلزمها العلاج المناسب.

أمَّا مع وجود هذا التَّعنُّت والفكر الذي يقول: إنَّ هذا الإشباع الشاذّ هو ليس انحرافاً بل طريقةً من طرق الإشباع الجنسيّ، وعلاقةً عاطفيَّةً، وزواجاً مشروعاً استجابةً لأجنداتٍ لا دينيَّةٍ وماديَّةٍ وتسويقيّة… فإنَّ الكلام عن الفطرة والسواء النفسيّ والجنسيّ لن يُنظر  إليه إلَّا من منظار التَّعصُّب والجهل والتّخلُّف.

وفي النهاية مهما اختلفت الآراء تبقى الحقيقة واحدة.

المراجع بتصرف:
  • الشذوذ الجنسيّ حقيقته وأشكاله، محيي الدّين محمّد عطيّة، دار المنهل 2015.
  • مذكَّرة إعداد استشاريّ نفسيّ معتمد، تأليف الدكتور: حكم دياب، اختصاصيّ الطّبّ النّفسيّ.
  • Diagnostic and statistical manual of mental disorder (DSM2)
  • American psychological association Appropriate therapeutic responses to sexual orientation 2018
  • Homosexuality and American psychiatry the politics diagnosis Bayer Ronald 1987
  • Shuvo Ghosh MD gender identity from emedicine.medscspe.com 2020
  • John M Grohol transvestic disorder symptom from psychcentral .com 2020