فتعرضوا لها

فتعرضوا لها-مربع
فتعرضوا لها-تويتر

ما أكثر العطايا والهِبات والنفحات الإيمانية التي يمنُّ الله بها علينا؛ والمسلم الفطِن هو من يقتنص الفرصة، ويسارع ويسابق ويعمل؛ لينال النصيب الأوفى من النفحات والبركات.

ولقد حثَّنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على اغتنام تلك الأوقات الفاضلة على مدار العام فقال: (إنّ لله في أيَّام الدَّهر نفحات فتعرّضوا لها فلعلَّ أحدكم أن تصيبه نفحةٌ فلا يشقى بعدها أبداً) [رواه الطبراني].
ونحن الآن في منتصف مواسم الخير والنفحات الإيمانيّة: شعبان ما بين رجب ورمضان. ورجب شهرٌ محرَّم ورمضان شهرٌ مكرَّم. فشهر شعبان هو مقدِّمةٌ لرمضان، نشعر فيه بروحانيَّات رمضان. قال أنس رضي الله عنه متحدِّثاً عن حال الصحابة في شهر شعبان:
((كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبُّوا على المصاحف فقرؤها, وأخرجوا زكاة أموالهم تقويةً للضَّعيف والمسكين على صيام رمضان)). [لطائف المعارف: 135].
كيف لا وهم يهيِّئون أنفسهم لشهر رمضان، ويجتهدون في شهرٍ ترفع فيه الأعمال إلى الله!
 جاء في الحديث الشريف عن سيِّدنا أسامة رضي الله عنهما أنَّه قال: قلتُ –أي لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم-:
لم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (ذاك شهرٌ يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهرٌ تُرفع الأعمال فيه إلى ربِّ العالمين فأحبُّ أن يرفع عملي وأنا صائم). [رواه أحمد والنسائي].

-ليلة النصف من شعبان:
إنَّ في هذا الشهر ليلةً لها أهميةٌ خاصَّةٌ، ومنزلةٌ كبيرةٌ عند المسلمين: إنَّها ليلة النِّصف من شعبان، ليلة البراءة. قال فيها بعض المفسرين: إنَّ ليلة النصف من شعبان هي المقصودة بالآية الكريمة: ((فيها يُفرق كلُّ أمرٍ حكيم[سورة الدخان:4]. [انظر: تفسير الطبري:21/9، تفسير القرطبي:16/126].

ليلة المغفرة:
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
((يطَّلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)) [رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه]. وفي مسند الإمام أحمد: (إلا لاثنين: مشاحن وقاتل نفس).

وفي حديثٍ آخر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
((إنَّ الله تبارك وتعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب)). [رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد في مسنده].

وفي قيام ليلها وصيام نهارها:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
((إذا كان ليلة نصف شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها, فإنّ الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا فيقول: ألا مستغفر فأغفر له, ألا مسترزق فأرزقه, ألا مبتلٍ فأعافيه, ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر)). [رواه ابن ماجه].

حال التابعين في بلاد الشام ليلة النصف من شعبان:
كان التّابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظِّمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها.
فكانوا يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخَّرون ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك. ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال: في قيامها في المساجد جماعةً ليس ذلك ببدعة.
وكره بعضهم الاجتماع فيها في المساجد، ولم يكره أن يصلّي الرجل فيها لخاصّة نفسه، وهو قول الإمام الأوزاعي.

 أقوال الفقهاء والعلماء في ليلة النصف من شعبان:
روي عن سيّدنا عمر بن عبد العزيز أنّه كتب إلى عامله إلى البصرة: عليك بأربع ليالٍ من السَّنة فإنَّ الله يُفرغ فيهنَّ الرحمة إفراغاً، أوَّل ليلةٍ من رجب, وليلة النصف من شعبان, وليلة الفطر, وليلة الأضحى.
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: بلغَنا أنَّ الدعاء يستجاب في خمس ليالٍ، ليلة الجمعة والعيدين وأوَّل رجب ونصف شعبان. قال: وأستحبّ كلُّ ما حكيت في هذه الليالي.
وقال عطاء بن يسار: ما من ليلةٍ بعد ليلة القدر أفضل من ليلة النصف من شعبان, ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيغفر لعباده كلِّهم إلا لمشركٍ أو مشاحنٍ أو قاطع رحم.

ذهب جمهور الفقهاء (من المذاهب الأربعة) إلى ندب إحياء ليلة النصف من شعبان. [انظر: البحر الرائق (فقه حنفي): 2/5، حاشية ابن عابدين (فقه حنفي): 1/460، شرح الإحياء للزبيدي: 3/425، مواهب الجليل (فقه مالكي): 1/74، الخرشي (فقه مالكي): 1/366، الفروع (فقه حنبلي): 1/440، مراقي الفلاح (فقه حنفي): 219، لطائف المعارف: 162].
فينبغي للمؤمن أن يتفرَّغ في تلك الليلة لذكر الله تعالى، ودعائه بغفران الذنوب، وستر العيوب، وتفريج الكروب، وأن يقدِّم على ذلك النِّيَّة, فإنَّ الله يتوب فيها على من يتوب.

اعتراضٌ ونقدٌ أو ربَّما فتور همّة:
يعترض بعض الناس على تعظيم ليلة النصف من شعبان وقيام ليلها وصيام نهارها، وحجّتهم في ذلك أنَّ الأحاديث الواردة في فضلها هي أحاديث ضعيفة لا يُعمل بها.
إذاً لنرى ماذا قال العلماء في حكم العمل بالحديث الضعيف!
يقول الإمام النووي رحمه الله: (وقد قدَّمنا اتّفاق العلماء على العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال دون الحلال والحرام) [المجموع شرح المهذب:3/248].

ويقول العلامة ابن مفلح الحنبلي رحمه الله: (والذي قطع به غير واحدٍ ممن صنَّف في علوم الحديث حكايةً عن العلماء أنَّه يُعمل بالحديث الضَّعيف فيما ليس فيه تحليلٌ ولا تحريمٌ كالفضائل، وعن الإمام أحمد ما يوافق هذا) [الآداب الشرعية والمنح المرعية:1/301].
فالحديث الضعيف يُحتجُّ به في فضائل الأعمال في الترغيب والترهيب، وفيما كان بابه الاحتياط، ويستأنس بها في المناقب، وفضائل الأشخاص وفضائل الزمان والمكان.
إنَّ الإنسان الذي ينشد الخلاص من نفسه، ويريد الدخول في الرحمة الإلهية؛ كالغريق الذي يجد نفسه معرّضاً للهلاك، فيبحث عمَّا ينجيه ولو كان بسيطاً.
فمن شاء فليتعرَّض لنفحات الله، ويقوم ليلها، ويصوم نهارها -الذي هو من الأيام البيض- ويدعو الله من خيري الدنيا والآخرة ويستغفر ويقرأ القرآن, ومن شاء فليبقَ في رُقاده وفراشه إلى طلوع الفجر. وشتَّان بين الحالين.

يقول داود الطائي: (إنَّما الليل والنهار مراحلٌ ينزلها الناس مرحلةً مرحلة حتّى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدِّم في كلِّ مرحلةٍ زاداً لما بين يديها فافعل، فإنَّ انقطاع السفر عن قريبٍ ما هو والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك). [لطائف المعارف:10].

تحويل القبلة

تحويل القبلة-مربع
تحويل القبلة-تويتر

يطرح بعضهم إشكالاً فيقول: لماذا يحول النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، أليس هذا تردّداً، فكلا الاتجاهين سواء، وإن قلتم: هناك حكمة في تحويل القبلة، فأين تظهر هذه الحكمة؛ لأنّه لا فرق بين الاتجاه إلى بيت المقدس والاتجاه إلى الكعبة.

الأصل في القبلة التي يتّجه إليها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته هي الكعبة؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل، وعلى ملّة إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، والكعبة قبلة آبائه في شريعتهم الحنيفية التي جاء بها صلى الله عليه وسلم، وأمّا اتّجاه النبيّ صلى الله عليه وسلّم في بادئ الأمر إلى بيت المقدس فهو الحكم الاستثنائي الذي يخرج عن الأصل، والحكمة من ذلك هي ما يلي:

1- إنّ اتّجاه النبيّ صلى الله عليه وسلم أولاً إلى بيت المقدس هو من الأدلة على نبوته صلى الله عليه وسلم، وأنّه لم يأت بشيء من الدين من عنده، إنما هو وحي من عند الله تعالى، لأنّه صلى الله عليه نشأ في مكة، وهو من أهل الحرم، وكان جميع العرب يعظّمون مكة ويقدّسونها، وكانت قريش شديدة التعصّب للحرم، وكانوا يُسَمَّون الحُمس، (حتى كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحُمس يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلا من الحرم) [متفق عليه]

قال سفيان: ((والأحمس هو الشديد على دينه، وكانت قريش تسمى الحُمس، وكان الشيطان قد استهواهم، فقال لهم: إنكم إن عظّمتم غير حرمكم استخفّ الناس بحرمكم، فكانوا لا يخرجون من الحرم)) [مسند الحميدي: (569)].

وبناء على هذا التفكير والعقيدة: لو كان محمد صلى الله عليه وسلّم جاء بالدين من عنده لما خطر بباله أن يتّجه إلى غير الكعبة التي نشأ بجوارها، ونال قومه بها الحرمة والشرف والتعظيم، وقالوا: نحن قطين الله، أي سكّان حرم الله.

فكان اتّجاهه صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس في بداية الأمر يخالف المألوف والمتوقَّع، ولو كان يبحث عن جاه أو شرف أو إرضاء قومه لاتّجه إلى البيت الحرام دون تردّد، فالكعبة أقدم القبلتين وأدعى  لإيمان العرب بنبوته، مع أنّه صلى الله عليه وسلم كان يحبّ أن يتوجّه إلى الكعبة، ويتشّوف إلى أن تكون هي القبلة التي يرضاها الله له ولأمته، قال ابن كثير: ((وذلك أن رسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة-وكان أهلها اليهود- أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ قبلة إبراهيم عليه السلام، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله: ((قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ ))[البقرة144] [تفسير ابن كثير: (1/ 391)]، وهذا من الأدلّةِ الدامغةِ على نبوّتهِ صلى الله عليه وسلّم وأنّه مأمور، وأنّ الأحكام التي يأتي بها وحيٌ من الله تعالى وليست من اختياره.

2- وللدلالة على أنّ شريعة الإسلام شاملةٌ جميع الأديان السماوية، وأنّها كاملةٌ ومكمّلةٌ لها، فقد كان بيت المقدس قبلة أنبياء بني إسرائيل، والكعبة قبلة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فجمعت شريعة الإسلام بكمالها وتصديقها للشرائع السابقة بين القبلتين، قال تعالى: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عليه))[المائدة: 48] 

3- كان من حِكَمِ توجّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس هي أن ينال عنايةً وتعظيماً عند المسلمين، فهو أوّل القبلتين، وبذلك يثبت حقّ المسلمين به وأنّه من مقدّساتهم؛ ولأنّ شريعة الإسلام خاتمة الشرائع وأنّ إرث الأنبياء لا بد أن يعود إلى الشريعة الخاتمة، ويؤكّد هذا المعنى أنّ إسراء النبي صلى الله عليه وسلم كان إلى المسجد الأقصى، ومعراجَه منه، وأنّ أحداث المسلمين آخر الزمان ستكون حول المسجد الأقصى كذلك.     

 4- في اتّجاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس تقريبٌ وتأليفٌ لأهل الكتاب إلى الإسلام؛ لأنّ اليهود كانوا من سكّان المدينة المنوّرة آنذاك، فإذا رأوا المسلمين يتّجهون إلى قبلتهم علموا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيِّدٌ لأنبيائهم، فيأنسون بذلك ويكونون أقرب إلى اتّباعه.

4- كانت القبلة في بادئ الأمر إلى بيت المقدس ثمّ نُسخَ الحكم وتحوّلت إلى الكعبة ؛ لأنّ الكعبة هي القبلة التي أرادها الله تعالى للمسلمين على مرّ الأزمان، والحكم الناسخ أدوم من الحكم المنسوخ. (نسخ الحكم الشرعي هو رفعه وإزالته بحكمٍ آخر، وذلك بأمرٍ من الله تعالى)

5- ليعلم الناس أنّ العبادة لله تعالى وليست للكعبة ((فليعبدوا ربّ هذا البيت))[قريش-4]، فالمسلم يتّجه حيث أمره الله تعالى، وإنّ شرف المكان ليس ذاتيّاً إنّما باختيار الله تعالى وتفضيله.  

النبي الأمي

النبي الامي-مربع
السنة النبوية-تويتر

كيف يمكن لنبيٍّ أُمّيٍّ أن يكون معلّماً للبشريّة؟!

  مثلُ هذا الإشكال يطرحه من لديه فهمٌ مغلوطٌ، فلا يفرّق بين الأمي والجاهل، ولا بين النبي وسائر الناس، ولا بدّ من بيان هذه الفروق لنتفق معاً على المقدّمات:

أولاً- ليس كلّ أمّيّ جاهلاً، فالأمّيّ هو من لا يقرأ ولا يكتب، ولا يعني ذلك بالضرورة أنَّه جاهل، فكم من عبقريٍّ لا يحسن القراءة  والكتابة، وهناك عباقرةٌ لم يدرسوا أبداً، منهم: (مايكل فاراداي) الذي لم يتلقّ أي نوعٍ من التعليم الرسمي، غير أنَّه يعدّ من أكثر العلماء تأثيراً على مرِّ التاريخ في مجال المغنطة والكهرباء المغناطيسيّة.
[انظر مقال: تَعرَّف على عباقرة لم يدرسوا أبداً، صحيفة البورصة المصرية، الثلاثاء/ 7 أكتوبر/ 2014م]

كما أنَّ  كفّ البصر منذ الولادة من ضرورات الأمية؛ لأنّ البصر من شروط التمكّن من القراءة والكتابة، وكم في التاريخ من عبقريّ ٍكفيف، نذكر منهم: (أبا العلاء المعرّي): فقد كان وافر الأدب، عالماً باللغة، حسن الشعر، جزل الكلام، رغم أنّه كان ضريراً أعمى، وصنّف تصانيف كثيرةً، وأشعاراً جمَّةً؛ (كسقط الزند)، و(لزوم ما لا يلزم)، كان موسوعيّاً وفاق أقرانه من أهل زمانه وغيرهم. [انظر: نزهة الألباء في طبقات الأدباء (ص: 258) يتيمة الدهر (5/ 16)].

ومنهم أيضاً: الإنكليزية (هيلين كيلر) التي لم تكن كفيفةً فحسب، بل ولدت صمّاء كذلك، أي لا ترى ولا تسمع، وكانت من عباقرة التاريخ، وإحدى الرموز المهمَّة للإرادة الإنسانية، حصلت على الدكتوراه في العلوم والدكتوراه في الفلسفة، ومن مؤلفاتها كتاب: (أضواء من ظلامي[انظر: ملاحق صحيفة الخليج، تحت عنوان: مكفوفون لكنّهم عباقرة، 17 أغسطس، 2011م] وغيرهما كثير.

 وهؤلاء عندما يؤلفون لا يكتبون بأيديهم، وإنّما يملون الكلام ويوكلون من يكتب عنهم.

فهذه ثلاثة نماذج من مئات العباقرة الذين لم يقرؤوا كلمةً واحدة ومع ذلك أصبحوا مبدعين، وخلّد التاريخ أسماءهم، وهم أناسٌ عاديّون وليسوا بأنبياء.

ثانياً- الأنبياء يفوقون البشر بما خصّتهم العناية الإلهيّة من الكمال؛ لأنّهم قدوة البشريّة، 

فإذا استطاع بعض الأمّيين والكفيفين أن يتعلّموا بموهبةٍ من الله في الفهم والإدراك، وينالوا أعلى درجات الاختصاص، فكيف بالأنبياء الذين تولّاهم الله تعالى بعنايته، وخصّهم بالعلوم، وكمّلهم على سائر البشرية، وإنّ ما يعلمه عباقرة البشر لا يشكّل قطرةً من بحار علوم الأنبياء.

 وقد خصَّ الله محمّداً صلى الله عليه وسلم  بمزيدٍ من العلوم التي لم تُعطَ لغيره من الأنبياء، وكانت عناية الله تعالى بتعليمه أبلغ من غيره؛ لأنّه خاتم الأنبياء، ورسالته خالدةٌ، فلم يجعل معجزته الأصليّة مادّيّة -مع أنّه قد ثبتت له عشرات المعجزات المادّيّة- وإنّما جعل معجزته الخالدة هي القرآن الكريم، والقرآن كتاب علمٍ، وقوانين، وتوجيهٍ، بدأ بكلمة (اقرأ) للدلالة على أنّ العلم بشتّى معانيه ينبثق من أميّة النبي صلى الله عليه وسلم، إضافةً إلى تعاليمه وهديه في السُّنَّة النبويّة.

 وقد تولى الله تعليم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تعليماً مباشراً دون قراءة أو كتابة، وخاطبه مبيّناً فضلَه عليه بهذا العلم فقال له: ((وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)) [النساء: 113].   

– وقال صلى الله عليه وسلم فيما أوحى إليه ربّه: «..يا محمد، قلت: لبيك ربي وسعديك، قال: فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: ربّ لا أدري، فوضع يده بين كتفيّ فوجدت بردها بين ثديي، فعَلِمتُ ما بين المشرق والمغرب»، وفي رواية أخرى: «فعلمت ما في السماوات والأرض». [ مسند أحمد: (3484) الترمذي: (3234)]، أي علّمه الله علوماً من لدنه لم يطّلع عليها أحد فعلم كلّ شيء.

وقد شهد بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم وكماله ونجاحه وتفوّقه كبار العلماء في كل المجالات، والمفكّرون، والسياسيّون، ومنهم: 

 د. مايكل هارت الذين صنّف كتاب المئة الأوائل، فجعل محمداً صلى الله عليه وسلم الرجلَ الأول في التاريخ، وقال عنه: (إنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي) [المئة الأوائل: ص: 21]

 واعترفت الكاتبة البريطانية الدكتورة كارين آرمسترونغ بفضل النبي صلى الله عليه وسلم على الغرب وليس على المسلمين فحسب، فقالت: (لقد قدَّم مُحمدٌ صلى الله عليه وسلم كونه شخصيةً نموذجية، قدَّم دُروسًا مُهمَّةً للبشرية، ليس للمسلمين فحسْب، بل ولأهل الغرب أيضًا) [في مقدمة كتابها “محمد، نبيٌّ لهذا الزمان” طبعة دار Harper Collins عام: 2006م].

كما أنّ هناك مئات الآلاف من العلماء والمفكّرين دخلوا الإسلام بناءً على ما رأوا من حقائق علمية معاصرة تتفق مع ما جاء في القرآن الكريم، أو ما وجدوه في الشريعة الإسلامية من تفوّق وتفرّد وإحكام لا يوجد في غيرها من دساتير وقوانين العالم، ومن أشهر المعاصرين الذين أسلموا: 
العالم والطبيب الفرنسي: موريس بوكاي، والمفكر العالمي: روجيه غارودي، وعالم الرياضيات الأمريكي: جيفري لانغ، والدبلوماسي الكاتب الألماني: مراد هوفمان، والسياسي الفرنسي: ماكسنس بوتي، والبروفيسور الياباني: يوشيدي كوزاي، والبروفيسور الأمريكي: بالمر، والعالم التايلاندي: تاجاس، والعالم الألماني: فيلي بوتولو، وعالم البحار: جاك كوستو … وغيرهم مئات الآلاف، وإسلام هؤلاء الأساطين وغيرهم شهادةٌ صريحةٌ منهم بكمال علم النبي صلى الله عليه وسلم وتفوّقه على البشريّة. 

فإن قال قائل: فلماذا جعل الله الرسولَ محمداً أمّيّاً، ولم يرسل نبيّاً قارئاً؟
فالجواب: إنّ إثبات حقيقة النبوّة تكمن في أمّيته صلى الله عليه وسلم، ولا يصحّ أن يكون قارئاً؛ لأنّ القراءة تفتح باباً إلى إنكار نبوَّته؛ ويحتجّ المنكرون بأنّه اطّلع على علوم الحضارات السابقة، وألّف هذا القرآن وادّعى النبوّة، فكان لا بدّ أن يكون أمّيّاً للدلالة على أنّ هذا العلم الذي جاء به من عند الله تعالى وليس من قراءته واطّلاعه؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم تحدّى العرب بمعجزة القرآن المليء بالعلوم التي لا تنتهي إلى يوم القيامة، وجاء بشريعةٍ محكمةٍ عظيمة مما أذهل كثيراً من العلماء والمفكرين، فقد وجدوا الإسلام مطابقاً للحقائق، وشهد جميعهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالعلم والحكمة وسبقه بالعلوم والمعارف التي لم يتوقّعوا أن تصدر من غيرهم، بل يستحيل أن يعلمها رجلٌ أمّيٌّ في القرن السابع الميلادي، فلا بد أن يكون هذا الكتاب وهذا الدين  وحياً من خالق السموات والأرض.

لذا عندما رأى بعض المتربّصين بالإسلام هذه الحقائق الدامغة، وشهادة العباقرة والمفكّرين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بالعلم والتفوّق أخذوا منحىً آخر في النيل منه، وهو إنكارهم لأُمّيّته، فقالوا: إنَّه كان قارئاً مفكراً، ووصفوه بالعبقرية، فظنّ بعض الناس أنّ نفي الأمّية عنه صلى الله عليه وسلم وإعطاءه صفةَ العبقرية والعلم هي من صفات الكمال التي يضفونها للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يدروا أنّ غايتها الكيد ومحاولة للانتقاص من علوِّ مقامه وقدره، ومقدّمة لإنكار نبوّته، وليصنّفوه مع الرجال العظماء في التاريخ فيسلبوا بذلك عنه صفة النبوّة، ويقطعوا الصلة بينه وبين الله تعالى، وأنّ الرجل مهما بلغ في  مراتب العلوم والعبقرية  فلن يصل إلى مرتبة النبوة. 

 إنَّ أمّيّة النبي صلى الله عليه وسلم صفة كمالٍ، وإنَّ علمه قد فاق الأولين والآخرين؛ لأنّ العلوم التي يمنحها الله لأنبيائه أعظم من علم القراءة والكتابة الذي يكون محدوداً بقدرات الشخص واجتهاده، وعلم الله لا حدود له، لذلك أذهل النبي صلى الله عليه وسلم كبار علماء العالم ومفكريه، الذين شهدوا له بالسّبق والتفوّق.

المعراج معجزة أم خرافة؟

المعراج-مربع
المعراج-تويتر

بعدما تقرّر في المقال السابق أنّ الإيمان بالمعجزات من أصول الدين، وأنّ إنكارها يتعارض مع الإيمان بالله تعالى، وأنّ المعجزات وإن خالفت القوانين الكونيّة فإنّها من الممكنات وليست من المستحيلات العقليّة…

يأتي بعضهم ليدّعي بأنّ لديه أدلّةً تؤيّد رأيه في إنكار الإسراء والمعراج، وإليك أهمّ تلك الأدلّة مع الردّ عليها

أهمّ أدلَّة منكري الإسراء والمعراج:    

منهم من يقول: إنّ المعراج يعارض القرآن ذاته؛ لأنَّه أنكر صعود النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى السماء في قوله تعالى: ((أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا)) [الإسراء: 93].

والجواب: هذا الاستدلال يقودنا إلى ما هو أدهى وأمرّ، إذ يجعلون كتاب الله عُرضةً للآراء الخاصَّة، فيفسِّره كلُّ واردٍ وصادرٍ بما يحلو له، وهذا ليس علماً يا أخي، فقد سئل الصِّدِّيق رضي الله عنه عن تفسير آيةٍ من القرآن, فقال: (أيُّ أرضٍ تُقلّني، وأيُّ سماءٍ تُظلّني، إذا قلت في كتاب الله برأيي) [الفصول في الأصول (4/ 60)], ويأتي اليوم من يدَّعي أموراً تناقض الدِّين, ويلوي عُنُقَ الآيات ليخضعها لرأيه ثمَّ يستدلّ بها، وما أُنزل القرآن لهذا، بل أنزل لنتّبعه لا ليتَّبعنا.

فلا علاقة لهذه الآية بحادثة الإسراء والمعراج لا من قريبٍ ولا من بعيد، وإنَّما ذكر الله هذه الآية في بيان تعنُّت الكفّار، ومطالبهم العبثيّة، وكفرهم برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان ذلك في بداية الدعوة، قبل حادثة الإسراء والمعراج، وسياق الآيات: ((وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا))[الإسراء: 90 – 93], فالاستدلال بهذه الآية على إنكار المعراج يضاعف الغلَط والخلْط والخبْط.

ومنهم من يقول: لم يثبت المعراج في القرآن، وإنَّما ذكره المحدِّثون بعد وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أحاديث مكذوبة.

والجواب: قد ورد المعراج في القرآن الكريم بدلالةٍ ظنّيّةٍ، وهو قوله تعالى: ((ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)) [النجم: 6 – 18], وقد جاءت أحاديث صحيحةٌ تفسِّر هذه الآيات بمعجزة المعراج على أحد الوجهين.

وأمّا قولهم: إنّ أحاديث المعراج مكذوبة: فإنّ تكذيب الأحاديث الصحيحة دعوى عريضة، بعيدةٌ عن النقد العلميِّ، وإذا أحسنَّا الظنّ بالطَّاعنين، نقول: إنّها تدلّ على جهلهم المطبق بالمنهجيَّة العلميّة الدَّقيقة التي راعاها علماء السُّنَّة، ومن الإسفاف أن يؤخذ العلم من أمثال هؤلاء، فقد وردت أحاديث المعراج في أصحّ الرِّوايات المشهورة من طرقٍ عديدةٍ، ولا يمكن لأحدٍ شمَّ رائحة العلم أن يُنكرها لقوّتها وكثرة طرقها. 
وإنّ الطَّعن في السُّنَّة النَّبويّة طامّةٌ أشدُّ من إنكار المعراج، وهي من صنيع المستشرقين وأتباعهم.

ومنهم من يقول: إنَّ حادثة الإسراء والمعراج مقتبسةٌ من الأساطير والقصص التي وردت في الديانات الأخرى:

والجواب: إنَّ أوَّل من اختلق هذه الشبهة هو المستشرق (وليام سنت كلير تسديل) في كتابه مصادر القرآن: (5/65), فادَّعى أنَّ الإسراء والمعراج مذكورٌ في كتاب (إرتاويراف نامك) وهذا تدليسٌ منه، فإنّ كتاب الزرادشتية كان مفتوحاً، يكتب فيه كهنتهم ما يشاؤون، ويضيفون إليه كلَّ جديدٍ على مرّ القرون، وينقِّحون فيه ما يريدون، ولم يأخذ شكله النهائيَّ إلا في القرن التاسع أو العاشر الميلاديِّ، أي بعد الإسلام بقرنين أو ثلاثة، وتبيّن أنّ قصَّة الإسراء والمعراج أضيفت إلى هذا الكتاب بعد الإسلام، أي أنّ هذا الكتاب هو الذي أخذ من المسلمين قصَّة الإسراء والمعراج، وليس القرآن والسُّنَّة هما اللذان استندا إلى أساطيره.

وقد اعترف الزرادشتيون أنفسهم بأنَّهم أخذوا من كتب المسلمين بعد فتح بلاد فارس ونقلوها إلى كتبهم.
[مختارات من الفتاوى الإسلامية المعاصرة، مقال بعنوان: (شبهة الإسلام أخذ من الزرادشتية عدة أمور والرد عليها)].  

وإن (إرتاويراف نامك) صاحب المعراج الموهوم، كاهنٌ مجوسيٌّ عاش سنة (400 ق.م) وتقول الأسطورة بأنّه عرج إلى السماء ودام عروجه سبعة أيَّامٍ بتفاصيل تختلف عن الإسراء والمعراج الثابت لدى المسلمين.

إلا أنّ الكتاب المقدَّس الحقيقيَّ لدى الزرادشتية والمسمى: (الأبستاق) أُتلِفَ كاملاً عام (330ق.م)، وفُقِدَت جميع نسخه بعد غزو الإسكندر لبلاد فارس.

وفي القرن التاسع الميلادي دوِّن عددٌ من كتب الزرادشتية، واستمرّت الإضافة على ما بقي منها، ودُمّرت مرةً أخرى على يد التركمان والمغول. [كتاب المعتقدات الدينية لدى الشعوب (ص: 117) وما بعدها], فمدوّنات الزرادشتيَّة القديمة كلّها أُتلفت، ولم يسلم من بقاياها إلا ما دُوّن بعد الإسلام.

على أنَّ هذا الاعتقاد يُعيدنا إلى الدائرة الأولى، وهي الشَّكُّ في القرآن الكريم، وهذا يُناقض أصل الإيمان، فالمُستدلُّ بهذا على إنكار الإسراء والمعراج يقع في ظلماتٍ بعضها فوق بعض، فيستدلّ في عتمات الإنكار بظلمات الكفر والتشكيك.

فإن قال قائل: ألم تذهب عائشة وبعض التابعين وبعض العلماء إلى أنّ الإسراء والمعراج كان بروحه صلَّى الله عليه وسلَّم وليس بجسده؟ فلماذا تشنّعون على من ينكر هذه الحادثة ويقول هي رؤيا منام؟!

فالجواب: إن صحّ أنّ بعض السلف قالوا كان الإسراء والمعراج بروحه صلَّى الله عليه وسلَّم وليس بجسده، فهم لم يبنوا هذا الرأي على الفكر الإلحاديِّ أو الطَّعن في الدين أو الكتاب والسُّنَّة، ولا على إنكار المعجزات ولا على تحجيم قدرة الله تعالى وعدم الإيمان به، ولا على تشكيك المسلمين بعقيدتهم، بل كان لهم تأويلٌ في هذه المسألة، مع اعتقادهم بكمال قدرة الله، وصدق نبيّه صلَّى الله عليه وسلَّم، والإيمان بالمعجزات وبكلِّ ما جاء في القرآن الكريم، فالأمر عندهم مبنيٌّ على التأويل وليس على الإنكار.

على أنّ جمهور المسلمين ردّوا على الذين قالوا: إنَّ الإسراء والمعراج كان بروحه دون جسده. ولكن لمّا عُلِم حالهم من صحَّة الإيمان، وأنّ مخالفتهم للجمهور ليست إنكاراً لثوابت الدين، بل فهماً  خاصّاً بهم، عذرهم العلماء في اجتهادهم وتأويلهم.

وخلاصة القول: إنّ منكري الإسراء والمعراج اليوم لم يسلكوا منهج علماء المسلمين، ولم يقصدوا من ذلك تحرّي الدِّقة العلميَّة، بل يخفون وراء ذلك مآرب وغاياتٍ، وهي زعزعة الإيمان في قلوب المسلمين شيئاً فشيئاً بمزيجٍ من الطعون في الدين، كالتَّشكيك في ثبوت القرآن الكريم، وادّعائهم أنّه من تأليف النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وليس من عند الله، وتفسيره بالأهواء والآراء المخالفة، وإنكار أحاديث النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والقيام بالمهمّة التي قام بها المستشرقون من قبل، فقد أراد بعض المستغربين اليوم أن يسيروا على خطاهم ويُتمّوا مسيرتهم.

مع الصِّدّيق أم مع أبي جهل؟

ومن وحي ما تقدَّم نستطيع أن نُبرز صورةً جليّةً لحادثة الإسراء والمعراج من السِّيرة النَّبويّة، تمثّل كلا الفريقين:      

الفريق الأول وهُم المشركون: فعندما أخبر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قومه بأنَّه أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثمَّ عُرج به إلى السماء في ليلةٍ واحدةٍ، استعظم المشركون ذلك، ورأوا أنّ هذا مستحيلٌ لا تصدّقه العقول، فازدادوا تكذيباً له، وفرحوا بهذا الخبر؛ ليشكّكوا المسلمين بنبوّته؛ لأنّهم يرون ذلك طعناً في صدقه.

الفريق الثاني: أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه: فقد أسرع المشركون إلى الصِّدِّيق رضي الله عنه ليخبروه بذلك؛ أملاً منهم أن يُكذِّب النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وقَالُوا لَهُ: هَذَا صَاحِبُكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ رَجَعَ مِنْ لَيْلَتِهِ.

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَوَ قَالَ ذَاكَ؟

قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: فَأَنَا أَشْهَدُ إِنْ كَانَ قَالَ ذَاكَ لَقَدْ صَدَقَ.

قَالُوا: تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ الشَّامَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَرَجَعَ قِبَلَ أَنْ يُصْبِحَ؟

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: نَعَمْ، أَنَا أُصَدِّقُهُ بِأَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً.
[الشريعة للآجري (3/ 1539) ، المستدرك للحاكم: (3/ 65)]

فقد جاء جواب الصِّدّيق رضي الله عنه عن قوَّة إيمانٍ ورسوخ يقين.

فَلِلَّٰه دَرُّك يا صِدِّيق هذه الأمّة… أصبت بذلك كبد الحقيقة، إنّ إيمانك الرَّاسخ أنار عقلك، وسدّد فكرك، ووسّع فهمك.

لقد أشار إلى أصل القضيّة، فإنّ من آمَن بالله تعالى، وصدّق بخبر السماء، لا يُنكر ما هو أدنى من ذلك.

إنّ حادثة الصِّدِّيق رضي الله عنه مع المشركين تشبه ما عليه بعض الناس اليوم تماماً، فإنّ منطق الإيمان الذي بيّنه الصدّيق يقرّر أنّ هذا أمرٌ جائزٌ ولا غرابة فيه، ما دام أنّه تيقّن صدق نبوّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنّ الوحي يأتيه من خالق الأكوان صباحاً ومساءً، فهل يُعجزه أن يسري بنبيِّه في ليلةٍ واحدةٍ، أو جزءٍ من ساعات الليلة؟

ويلزم من الإيمان بالله ورسوله اعتماد الخبر الصادق، الذي أنزله الله تعالى في القرآن، أو نطق به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في السُّنَّة، أمّا المنكرون فيضعون أنفسهم فوق كلام الله وفوق حديث رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا يمكنهم أن يتصوّروا المعجزات والغيبيّات؛ لأنّ مسالك المعرفة لديهم ناقصةٌ ومقتصرةٌ على المحسوسات فحسب، فهم لا يؤمنون بما وراء المادة.
لذا فالخلاف بيننا وبينهم ليس في حادثة الإسراء والمعراج فقط، وإنَّما في منهجيَّة التَّفكير.

ولكنّ العجب العجاب من أولئك الذين ينبذون تفكير الصِّدِّيق، ويتبنّون تفكير أبي جهل وهم ينتمون إلى الإسلام!

الأَسانِيدُ إِبداعٌ ومَنهَجٌ فَريدٌ في التَّوثِيق

الاسانيد
الأسانيد-تويتر

تُعدُّ الأسانيد مفخرةً من مفاخر علماء الإسلام عموماً، وعلماء الحديث على الخصوص، وإبداعٌ حاز قدم السَّبق على كلِّ الأمم قاطبةً في توثيق النصوص المنقولة إلينا تاريخياً.

ويعدُّ اعتماده منهجاً في أعلى درجات التَّوثيق ضمن ضوابط وقواعد ألَّفها علماء الأمة، واتَّفقوا عليها جيلاً بعد جيل, تكميلاً وتتميماً إلى عصرنا الحالي، سمِّيت: (علوم الحديث) حيث صُنِّفتْ لها مؤلَّفاتها الخاصَّة، وتذخر مكتبات العالم بها.

وعندما يقول علماء الحديث: (هذا حديثٌ) فإنّهم يعنون بلا شكٍّ: (السَّنَّد والمتن معاً)، فهما كُلٌّ لا يتجزَّأ في مصطلحهم المعروف، كما أنَّ اهتمامهم بالحديث بجزئيه ظاهرٌ واضحٌ من صنيعهم وعباراتهم في كتبهم، وتظهر آثاره في القواعد التي وضعوها لحماية الحديث من أن تناله يد عابثٍ أو كاذبٍ أو جاهلٍ.

ولذلك دأب بعض المستشرقين والمشكِّكين على انتقاد الأسانيد وصنيع المحدّثين: 

  • تارةً باستغرابهم الاهتمام الشديد بالأسانيد، لدرجة أنّهم وصفوا أهل الحديث بـ: عبيد الأسانيد، وأسرى الأسانيد. 
  • وتارةً بتسخيف شأن الأسانيد توهيةً وتضعيفاً لها؛ لكونها من صنع المسلمين، وكونها لم تحظ بأدنى اهتمامٍ لدرجة أنَّ أيَّ إنسانٍ بإمكانه تركيب إسنادٍ ما وتأليفه واختراعه، ثُمَّ يوضع له متنٌ بسهولةٍ وبساطةٍ.
  • وتارةً كان نقدهم لأهل الحديث بأنَّهم اهتمُّوا بالإسناد، وتركوا العناية بالمتن، وما يحمله من دلالاتٍ ومعانٍ؛ فجُلُّ العناية والاهتمام كان بالسَّند فقط.

والحقيقة: فإنَّ الغرض من كلِّ هذه الضوضاء الطَّعن في الحديث، وبالتالي الطَّعن في الإسلام، وقطع صلة المسلم وتشكيكه برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

ويمكننا الردُّ على كلام هؤلاء المشكِّكين بالآتي:

إنَّ عناية علماء الحديث بالإسناد حفاظاً على سنُّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أن تنالها يد العابثين، أدَّت لنشوء قواعد وأصول الرواية، وعُدّت هذه القواعد من أصحِّ قواعد البحث العلميِّ المتعلّق بتوثيق الأخبار والنصوص، وهي ميزةٌ لا توجد في تراث أيِّ أمّةٍ من أمم الأرض كلّها، ممّا يُعدُّ بحقٍّ مفخرةً من مفاخرها من جهة السّبق أولاً، ومن جهة الشُّموليَّة والموضوعية ودقّة النتائج ثانياً.

“ولمَّا أرادت الأمم الأخرى من غير المسلمين أن تجمع في أطوار نهضتها أقوال رجالها ورواياتهم، كان قد فات عليهم زمنٌ طويلٌ، وانقضى بينها وبينهم عهدٌ بعيد، وحاولوا كتابة تاريخ أمّةٍ قد خلت، فلم يميِّزوا بين سيِّء ما نُقل من ذلك الماضي وجيّده، أو صحيحه وسقيمه، بل لم يعلموا أحوال رواة تلك الأخبار، ولا أسماءهم، ولا تواريخ ولادتهم، فاكتفوا بأن اختاروا من أخبار هؤلاء الرواة المجهولين ورواياتهم ما يوافق هواهم -في غالب الأحوال-، ويلائم بيئتهم، وينطبق على مقاييسهم، ثمّ لم يمض غير زمنٍ يسيرٍ حتَّى صارت تلك الخرافات معدودةً كالحقائق التاريخيَّة المدوَّنة في الكتب، وعلى هذا المنهاج السقيم صُنّفت أكثر الكتب الأوروبيَّة، ممَّا يتعلَّق بالأمم الخوالي وشؤونها، والأقوام القديمة وأخبارها، والأديان السّالفة ومذاهبها ورجالها.

أمّا المسلمون فقد جعلوا لرواية الأخبار قواعد محكمةً يرجعون إليها، وأصولاً متقنةً يتمسّكون بها؛ فلا تُروى واقعةٌ من الوقائع إلا عن الذي شهدها، وكلّما بَعُد العهد عنها كان من الواجب تسمية من نقل خبرها عن الذي شهدها، ثمَّ تسمية من نقل ذلك الخبر عن الذي نقله عمَّن شهدها، وهكذا بالتسلسل من وقت الاستشهاد بالواقعة والتحدّث عنها إلى زمن وقوعها، والتثبّت من أمانة هؤلاء الرواة وفقههم وعدالتهم، وحسن تحمُّلهم للخبر الذي يروونه.

وهذه المهمَّة من أشقِّ الأمور، ومع ذلك فإنّ مئاتٍ من المحَدِّثين تفرّغوا لها، ووقفوا أعمارهم على تحرِّي ذلك واستقصائه وتدوينه”. [السُّنَّة النبوية: حجيةً وتدويناً، محمد صالح الغرسي، بتصرف].

ولقد بدأ إسناد الحديث في حياة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، حين كان الصحابة يتناوبون حضورَ مجلسه عليه الصَّلاة والسلام، فيبلِّغ الشاهدُ منهم الغائبَ، وينقل كلٌّ منهم لغيره ما سمعَه وشاهدَه.

ثمّ استمرّ الحال على ذلك مدّةً من الزمن؛ حتى وقعت الفتن واستشهد الخليفتان الراشدان عثمان بن عفّان، وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقد رافق ذلك اختلاف الأمّة وتفرُّقَها، ونشوء الفرق والطّوائف، حيث حاول كلُّ فريقٍ التمسُّك بما يؤيّد موقفه وما ذهب إليه، مما استدعى زيادة الحيطة والحذر، كما لزم التثبّت في قبول الروايات، فأصبح السؤال عن السّند، وإلزام الرواة به أمراً ضرورياً اقتضاه واقع الحال.

وإنَّنا لنلمس اهتمام الأمَّة الإسلاميَّة بهذا الأمر منذ القرن الأول.

(عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: جَاءَ بُشَيْرٌ الْعَدَوِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ يَأْذَنُ لِحَدِيثِهِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! مَالِي لاَ أَرَاكَ تَسْمَعُ لِحَدِيثِي؟! أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ؟ وَلاَ تَسْمَعُ؟! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا كُنَّا مَرَّةً إِذَا سَمِعْنَا رَجُلاً يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا، وَأَصْغَيْنَا إِلَيْهِ بِآذَانِنَا، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ، لَمْ نَأْخُذْ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ مَا نَعْرِفُ).[صحيح مسلم]

[الصعب والذلول: أصله في الإبل؛ فالصَّعب: العَسِر المرغوب عنه، والذلول: السهل الطيب المحبوب المرغوب فيه، فالمعنى: سلك الناس كلَّ مسلكٍ ممَّا يحمد ويذمُّ]. 

لذلك فإنّ سند الحديث النبويِّ كان ولا يزال من أهمّ الوسائل التي حفظ الله تعالى بها المصدر التشريعيَّ الثاني، وصانه من الوضع والكذب والافتراء، كما أنّه الميزان الذي تُقيَّم به الروايات، وتدقَّق به الأخبار، لمعرفة صحيحها من سقيمها، وقويّها من ضعيفها.

قال محمّد بن سيرين (ت110هـ): (لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإسْنَادِ، فَلمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ قَالُوا: سَمُّوا لَناَ رِجَاَلكُمْ: فَيُنْظَرُ إِلى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنُظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلاَ يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ). [صحيح مسلم]

ويقول عبد الله بن المبارك: (الإسْنَادُ مِنَ الدِّينِ، وَلَوْلاَ الإسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ. وَقَالَ: بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْقَوَائِمُ، يَعْني: الإِسْنَادَ). [صحيح مسلم].

لقد درس المحدِّثون هذه الأسانيد دراسةً مستوفيةً من حيث الاتّصال والانقطاع؛ فمن حيث الاتّصال، وضعوا القواعد التي تتناول سائر أنواعه، فنظروا إليه من حيث مبدئه ومنتهاه، ودرسوا صيغه، ووضَّحوا شروطها، ونظروا إلى مسافة السند من حيث الطول والقصر، وإلى حال الرواة عند الأداء، ونقدوا الأسانيد في الحديث الواحد وما فيها من زيادةٍ ونقصٍ.

ومن حيث الانقطاع، درسوا أيضاً أنواعه، فبحثوا عن مواضعه من أوّله أو وسطه أو آخره، كما بحثوا فيه من حيث طبيعته في الظهور والخفاء، ونظروا في مواضع واعتباراتٍ كثيرةٍ لبيان وجود ما يقدح في سند الحديث.

فاستوفوا بذلك جميع أوجه الاحتمالات في اتّصال الحديث وانقطاعه، مما جعل حكمهم على أسانيد الأحاديث في غاية الدّقة والسَّداد.

كما عُرف عن أئمَّة الحديث الإكثارُ من الرِّحلة والتَّنقل في طلب الأسانيد، للوقوف على أحوال الرواة وسِيَرِهم عن قرب، وحرصاً منهم على علوِّ الأسانيد وقلّة الناقلين له، وإنَّ نظرةً سريعةً في تراجم الرواة تدلّنا على مدى الصعوبات التي لقيها هؤلاء الأئمّة في سبيل حفظ السُّنَّة، وسماع أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من منابعها الصحيحة.

(قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَرَكِبَ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ إِلَى مِصْرَ، فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ أَمْرٍ لَمْ يَبْقَ مِمَّنْ حَضَرَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَا وَأَنْتَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي سَتْرِ الْمُؤْمِنِ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا عَلَى عَوْرَةٍ سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَا حَلَّ رَحْلَهُ يُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ). [أخرجه أحمد في مسنده].

ومن بعد الصحابة سار التابعون ومَن بعدَهم على هذا المنوال، فكان أحدُهم يخرج من بلده لا يُخْرجه إلا حديثٌ عن صحابيٍّ يريد أن يسمعه منه مباشرةً بدون واسطة.

إنَّ الأسانيد لم تكن أمراً اعتباطيَّاً بحيث يتسنَّى لمن شاء أن يختلق إسناداً وينسبه إلى من يريد، من غير أن يميِّز ذلك أئمّة هذا الشأن الذين خصّهم الله لحفظ دينه وحراسة سُنَّة نبيه صلّى الله عليه وسلّم.

كما أنَّها كانت محطَّ عنايةٍ, ومتابعةٍ, واهتمامٍ دائمٍ, تتناول ضمان وصول المتن إلينا في غاية الدِّقة في التوثيق, والأمانة العلمية, بل تتعدَّى ذلك لتعتني بالمتن من فهمٍ خاطئٍ, أو علَّةٍ خفيَّةٍ تعكِّر صفو الحديث.

لذلك وُجد في كتب علوم الحديث التعليلُ بوجود علَّةٍ قادحة في المتن، وكذلك وُجد القلب والإدراج, وهي عللٌ في متن الحديث كما هي في سنده، وغير ذلك مما تجدونه مبسوطاً في مظانِّه من كتب علل الحديث ومصطلحه.

والذي نريد أن نخلص إليه في هذه المقالة: 

أنَّ الأسانيد إبداعٌ فريدٌ, ومنهجٌ قويمٌ في توثيق النقول الحديثيَّة، استطاع علماء الحديث إبداعها وصنعها، حفاظاً على الدِّين من التحريف والتَّبديل، وعليها سار العلماء في حفظ سُنَّة نبيِّهم صلَّى الله عليه وسلَّم، بل واعتمدها أئمَّة الحفَّاظ لكتاب الله تعالى في تلقين القرآن الكريم وإجازته للحَفَظَة جيلاً بعد جيل، وستبقى هذه الطريقة ضماناً للأمَّة من أيِّ شائبةٍ أو أيِّ تشكيكٍ يطال دينها، وإنَّنا نلمس أهميَّتها في عصرنا الحالي حيث تنتشر المعلومات بسهولةٍ وسرعةٍ عبر وسائل التواصل الالكترونيَّة المتنوِّعة، فيستطيع أيُّ إنسانٍ وضع ما يريده وجعله حقيقة، فإذا اعتمدنا منهج التوثيق بالسُّؤال عن مصدر هذه المعلومة، ومن أين أتت؟ ومن سمعها؟ وعمَّن؟ وهكذا …  وصلنا لقبولها أو رفضها. 

جزى الله تعالى علماء الأمَّة خيراً, ووفَّقنا للسَّير على نهجهم. والحمد لله ربِّ العالمين.

ضياعُ الأحاديثِ حتَّى زمنِ التدوين!

ضياع الاحاديث-مربع
ضياع الاحاديث-تويتر

يُعرَّف الحديث النبوي بأنَّه كلُّ ما صدرَ عن النبيِّ صلّى الله عليه و سلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو صفةٍ, وهذا هو المفهوم العام للفظ الحديث عند إطلاقه ونسبته للنبي صلّى الله عليه و سلم, فالرجل الوحيد في العالم الذي حُفظت أقواله وأفعاله بل حتى حركاته وابتساماته هو سيِّد الخلق محمَّد صلّى الله عليه و سلم,  وذلك هو المصدر الثاني من مصادر الشريعة الإسلامية التي تقرِّر أفعال المسلمين وأقوالهم, ولأجل هذا نال هذا المصدر العناية الربَّانية, والعون منه سبحانه على حفظه ونقله إلى القرون التالية لزمن بعثة النبي صلّى الله عليه و سلم.

تناقلَ الصحابة الكرام رضوان الله عليهم الأحاديث والأفعال النبوية مشافهةً بكامل الحرص والدِّقة بينهم وبين التابعين من بعدهم, وكذلك التابعين إلى تابعيهم, وهكذا الأمر دواليك, إلى أن ظهرَ زمن التدوين والتصنيف, وكان من أشهر ما كُتب في جمع الاحاديث هو صحيح الإمام البخاري, المُسمَّى:

“الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلّى الله عليه و سلم وسننه وأيَّامه”

ولد الإمام البخاريُّ في سنة 194 هجرية, أي بعد وفاة النبي صلّى الله عليه و سلم بما يزيد عن 180 سنة, فظنَّ بعضهم أنَّ هذه الفترة كانت فترة ضياع الحديث النبوي لعدم وجود ضبطٍ للنقل، أو كتابٍ معتمدٍ يُرجع إليه, فهم يعتبرون أنَّ زمن التدوين بدأ في عهد الإمام البخاري.

العصر الأول للكتابة:

لو بحثنا عن الحقيقة بعينها لوجدنا أنَّ كلام النبي صلّى الله عليه و سلم كُتِبَ في حياته قبل موته, وإلَّا كيف أُرسلت الرسائل والكتب من النبي صلّى الله عليه و سلم إلى ملوك الأرض! 

فنجد  كتبه عليه الصلاة والسلام إلى الملوك أمثال هرقل وكسرى والنجاشي والمقوقس وغيرهم كلّها موجودة مخطوطة مدونة في كتب السيرة كما هي نقلاً عن أصلها.

لكن هل نهى رسول الله صلّى الله عليه و سلم عن تدوين الحديث في زمانه حقَّاً؟

نقلت بعض المرويات عن الصحابة رضوان الله عليهم عن النبي صلّى الله عليه و سلم أنَّه نهى عن كتابة كلامه وحديثه في عدَّة مواضع, وذلك خشية أن يختلط القرآن بالسُّنَّة على النَّاس، وهم ما زالوا حديثي عهدٍ بالإسلام, وكلام الله أرقى منزلةً وأعلى مكانةً، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يرسِّخ القرآن في ذهن الصحابة والمسلمين آنذاك، ويُحفظ على أتمِّ وجهٍ من غير تداخلاتٍ ثانية, وكان ذلك زمن قوّة اللغة العربية وأهلها, وكان الصحابة ومن معهم أكثر الناس حفظًا وتطبيقاً لكلام النبي صلّى الله عليه و سلم فلم تستدعِ الحاجة إلى تدوين الحديث.

وكما ثبتت أحاديث كثيرةٌ في منع كتابة كلام النبيِّ ثبتت أحاديث أخرى دالَّة على جواز الكتابة والتدوين عنه, وجمعاً بين الروايات فإنَّ المنع كان في بداية الرسالة، وعندما اتَّضحت الرؤية, ورسخ مفهوم القرآن الكريم لدى المسلمين جازت الكتابة عنه صلّى الله عليه و سلم .

هل البخاري أوَّل من دوَّنَ الحديث؟

لو نظرنا نظرةً سريعةً إلى العهد الذي سبق الإمام البخاري لوجدنا أكثر من ثلاثين شيخاً ألَّفَ كتباً في الحديث عن النَّبي صلّى الله عليه و سلم, نذكر عدداً منها على سبيل البيان لا الحصر مُرفقاً بتاريخ الوفاة.

الإمام البخاريُّ (265هـ) قد سبقه الإمام همام بن منبّه (101هـ), وبعده الإمام مالك بن أنس (179هـ) بمؤلفه الموطَّأ، وعاصَرَه الإمام عبد الله بن المبارك (181هـ), ومِن بعدهم عبد الله بن وهب (197هـ), و أبو داود الطيالسيّ (204هـ) بما جمعه في مسنده, وعبد الرزاق الصنعاني (211هـ) في مصنَّفه, وعبد الله ابن أبي شيبة (235هـ) في المصنَّف, وإسحاق بن راهويه (238هـ), وأحمد ابن حنبل (241ه) بمسنده الضخم, بعد ذلك جاء الإمام البخاري رضي الله عنه وعنهم أجمعين فألَّفَ صحيحه.

وفي رأس المئة هجرياً كتبَ خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز (101هـ) إلى أمرائه بأن يحملوا العلماء على تدوين السُّنَّة, فكتب إلى واليه في المدينة أبي محمد بن عمرو بن حزم (120هـ): “انظر ما كانَ من حديث رسول الله صلّى الله عليه و سلم فاكتبه, فإنّي خفت دروسَ العلم وذهاب العلماء, ولا تقبَل إلا حديث رسول الله “, وكان ممن كتب محمَّد بن مسلم الزهري (124هـ).

الفرق بين الكتابة والتدوين والتَّصنيف:

الكتابة: هي مُطلقُ خطِّ الشيء, فتتضمن نقل الكتاب وتقييده في ورقةٍ أو صحيفةٍ أو مقالةٍ, والتدوين: هو تقييد المُشتَّت وجمعه في كتاب تُجمع فيه الصحف, أما التَّصنيف: فهو ترتيب ما دُوِّنَ في فصولٍ محدودةٍ وأبوابٍ مميَّزةٍ.

ولو أردنا تطبيق هذا الكلام على السلسلة الطيِّبة من الأسماء السابقة لوجدنا أنَّ الكتابة كانت في زمن النبي صلّى الله عليه و سلم وصحابته في كتاباتٍ متفرِّقةٍ بين الأوراق والصحف وغيرها, وفي صدر عهد التابعين بدأت رحلات التدوين بمجرَّد جمع الأحاديث من غير النظر إلى صحتها أو ضعفها أو تصنيفها حسب موضوعها, ثمَّ ازدهر العصر بالتصانيف والتقسيمات والتبويبات، وهذا ما زاد الكتب رونقاً, وكان الإمام البخاري من أوائل المصنِّفين وليس المدوِّنين, فقد ضمَّ في كتابه ما جمعه من تلك الكتب وغيرها، فاختار أصحَّ الصحيح منها، ووضعه في ترتيبٍ معيَّنٍ, فكان تصنيفًا وليس مجرَّد تدوين.

 طرق حفظ الأحاديث النبوية:

كان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون كلَّ الحرص على تبليغ السُّنَّة والأقوال النبوية والأفعال المحمدية كما أتت من غير تحريفٍ ولا تبديلٍ, وكان دافعهم إلى ذلك الأجر الكبير والثواب الجزيل في التبليغ, ومن ذلك ما ورد في سنن أبي داود عنه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: “نضَّرَ الله امرأً سمع منَّا حديثاً فحفظه حتى يُبلِّغه, فَرُبَّ حاملِ فقه إلى مَن هو أفقه منه, ورُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيه”, واهتمَّ الصحابة بذلك فنقلوا الكلام بأدقِّ المناهج وأفضل القواعد حتى أصبحت الأمَّة الإسلامية تتفاخر بالأسانيد.

كانت البداية بالحفظ في الصدور والتبليغ من الحافظة القوية والذاكرة الرصينة, وكانت تُعقد لذلك مجالس الحديث روايةً ودرايةً في مسجد النبي صلّى الله عليه و سلم, وهكذا نُقل الحديث إلى التابعين بعدَ الصحابة, وبقي الأمر ذاته مع بداية مرحلة التدوين على رأس المئة هجريّاً, وبعد هذه المرحلة انقسمت رواية أحاديث النبي صلّى الله عليه و سلم إلى ضبط الصدور والكتب, فمنهم من بقي يُحدِّثُ كلام النبي عليه الصلاة والسلام من ذاكرته كما يرويه عمّن قبله, ومِنهم من اعتمدَ الكتب وجمع بها الأحاديث يروي منها لا من ذاكرته.

فكانت كل تلك العوامل لحفظ السُّنَّة النبوية كما أتت من غير تحريفٍ ولا تبديلٍ, وقد اهتمَّ بها المسلمون منذ فجر الرسالة السماوية إلى فترة اعتماد الأحاديث بالكتب, ورحل رجالٌ كثيرون مسيرة أسابيع وأشهر ليسمعوا حديثاً واحداً من راويه الأوَّل حرصاً على حفظ الحديث كما هو.

تتلخّصُ مراحل كتابة الحديث في مراحل أربع:

  1. مرحلة وجود الأحاديث في الصدور.
  2. بداية زمن التدوين عند رأس المئة هجريّاً.
  3. مرحلة التجريد, التفريق بين قول النبي صلّى الله عليه و سلم وقول الصحابة وقول التابعين.
  4. مرحلة التهذيب والترتيب, في مؤلفَّات تناسب أذواق أهل العصر.

ولعلَّ الخلط بين المفردات والمصطلحات, وعدم إدراكها بمعانيها الحقيقيَّة والعمليَّة, هو ما دفع بعضهم للقول: إنَّ الأحاديث ضاعت من زمن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم  إلى زمن التدوين عند الإمام البخاري, فالحديث النبويُّ في هذَين القرنين كان محفوظاً بسلسلةٍ من أفضل رجال الدنيا وأكثرهم إتقاناً.

وبذلك نجد أنَّ علم الحديث كان من أكثر العلوم التي خُدمت على مرِّ البشرية, فاعتني بتوثيقه على أتمِّ وجهٍ, وأكمل اهتمامٍ وحرصٍ, ممَّا دفع  غير المسلمين وبعض المستشرقين لمدح هذا العلم والإعجاب به إيماناً منهم بعظمة الجهود التي بُذلت لحفظه ونقله, حتَّى إنَّ القسَّ الإنكليزي (دافيد صموئيل مرجليوث) قال: (لِيفتخر المسلمون ما شاؤوا بعلم حديثهم).

سلاسل من الذهب بداية جوهرها النبيُّ صلّى الله عليه و سلم خير خلق الله تعالى, والسعيد كل السعادة من نال من حظِّ الارتباط بهذه السلسلة روايةً ودرايةً ومحبَّةً.

بقلم: محمد زريع

المُعجزاتُ وقَالبُ القَوانينِ الكَونيَّة

الاسراء-مربع
الاسراء-تويتر

من المستحيل أن نُفرغ البحر في فنجان…

نعم من المستحيل أن يحيط الإنسان بهذا الكون الشاسع المترامي الذي لا حدود له، أو أن يدرك عقله تلك الأعداد الهائلة من الكواكب والنجوم والمجرّات الدَّالة على قدرة الله تعالى، مهما وظّف علومه ومعارفه الناتجة عن حضاراته المتراكمة…

أجل إنّه مع تسخير كلّ علومه ومعارفه، استطاع أن يرصدها في مَسابره، ويطّلع في أبحاثه على نزرٍ يسير منها،  بما يعادل ذرّةً من مجرّة.

ولنقترب أكثر فأكثر حتى نلتصق بالإنسان ذاته… فهل يستطيع أن يتحكَّم بنبضات قلبه، ووظائف أعضائه وسيّالات دماغه؟ أو أن يمنع الفيروسات من اختراق جسمه، وهي أصغر البُنى؟

ومن جهة أخرى:

أين قوة ذلك الصنديد الذي أقعده الفالج فلم يستطع حراكاً، أو طرحه فيروسٌ فلم يستطع منه فكاكاً، وربَّما لقي بسببه حتفه؟

 وأين ذكاء العالِم العبقري والداهية الألمعيِّ، الذي أصيب عقله، فصار يهذي ويتصرَّف بما لا يرضى أن يفعله الصبيان؟

تجتمع هذه المقدمات والتساؤلات لتقرِّر حقيقةً مسلَّمةً، وهي: أنّ الإنسان مهما اتَّسعت مداركه، وغزر علمه، وعظُم تفكيره، واتسق منطقه، ودهى عقلُه، لا يستطيع أن يتجاوز قدرته المحدودة، ولا يدرك من مخلوقات الله إلا بمقدار قطرة من بحر …

وأنّ الإنسان مهما بلغ من القوة والعظمة فهو عاجزٌ عن أن يتحكّم بنفسه، فذكاؤه وقوَّته وفهمه ليست من عنده، بل محض هبةٍ من الله له، ولا يستطيع أن يمدّ جسده بالحركة والحياة إلا بإمداد الله له، وأنّ أصغر المخلوقات ترديه طريحاً هالكاً.

ثمّ يخرج بعضهم ليقيس قدرة الله العظيمة على قدراتهم الكليلة، وعقولهم المحدودة، ويحجّمون أفعال الله في قالب القوانين الفيزيائية، فإذا أخبر الله ورسوله في الكتاب والسُّنَّة عن معجزةٍ ثابتةٍ، وجدوها كبيرةً على مقاس تفكيرهم، ولا تستوعبها عقولهم، فينكرونها ويقولون: هذا مستحيلٌ يخالف العقول.

أجل مستحيلٌ يخالف العقول؛ لأنّ العقول صغيرةٌ أمام قدرة الله المطلقة، ومهما اتَّسعت مداركها فلن تتجاوز مقدار كوبٍ من بحر تصريف الله للأكوان؛ وأنّى للعقول أن تستوعب ذلك، فهل يمكن أن نفرغ بحراً في فنجان؟

وقد وصف الله تعالى أمثال هؤلاء المنكرين للمعجزات والذين لا يؤمنون إلا بما تدركه حواسّهم بقوله: ((فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)) [النجم: 29، 30], فمن أعرض عن الإيمان فإنّ أقصى ما يصل إليه علمه لا يتجاوز حدود هذه الحياة الدنيا وهذا الكون المحسوس، فهذا مبلغه من العلم.

وينعكس تكذيب المعجزات على مذهب المنكرين بالإبطال والتناقض، فكيف ينكرون المعجزات ويدّعون أنَّها تخالف العقول، ولا ينكرون على أنفسهم عدم الإيمان بخالق هذا الكون أصلاً؛ أليس إنكار وجود الله يناقض العقول، فهل يمكن أن يوجد شيءٌ ما صدفةً من غير موجد؟

إنهم يتخبّطون في تفكيرهم، فيؤمنون بالمستحيل الحقيقي، وهو أنّ هذا الكون المنظَّم البديع موجودٌ دون خالقٍ له، ويكفرون بواجب الوجود الذي لا يستقيم المنطق والتفكير إلا بالإيمان به.

على أنّ المعجزات والخوارق التي أخبرنا عنها القرآن الكريم هي من الممكنات وليست من المستحيلات العقلية… نعم هي تخالف قانون الكون، وتعجز عنها قدرة البشر، وتقع دون أسبابٍ طبيعيَّة، لكنّها لا تناقض المنطق والعقل، بل تتَّسق معه اتِّساقاً تامّاً، ما دامت متلازمةً مع الإيمان بوجود إلهٍ قادر.

وليس من شأن المؤمن أن يصغي إلى المشكّكين بآيات الله ومعجزاته؛ لأنّ منهجهم يختلف عن منهج أهل الإيمان اختلافاً جذرياً، فالمشكّكون لا يؤمنون إلا بما تدركه حواسّهم، ويقع تحت التجربة والاختبار، ويكفرون بالغيبيات.

فإن قيل: إنّ كثيراً ممن ينكر الإسراء والمعراج وغيرها من المعجزات هم مسلمون وليسوا ملحدين:

فالجواب: إن كانوا مسلمين فإنَّهم يتناقضون مع أنفسهم؛ لأنّهم في إنكارهم هذا يتَّبعون طريقة تفكير الملحدين لا يخرجون عنها قيد شعرة، ولا يجتمع الإيمان والكفر في آنٍ واحد، ولا يستقيم إنكار المعجزات الثابتة في تفكير المؤمنين أبداً.

فالمسلم الحقيقيُّ اتسع عقله، ونظر بنور الإيمان إلى مسيّر الأكوان، وشعر بعظمته وقدرته، واستصغر تلك الخوارق أمام قدرة الله العظيمة، فآمن بها وصدّق بخالقها؛ لأنّه يؤمن بأنّ الذي أبدع هذا الكون ونظّمه بالنواميس والقوانين، قادرٌ على أن يخرق هذه القوانين في أيِّ لحظة، ويجعلها معجزةً يُكرم بها رسله وأنبياءه، فيسلب خاصيّة الإحراق لإبراهيم عليه السلام، ويفلق البحر ويجعله يبساً ويحوّل العصا إلى ثعبان تأييداً لموسى عليه السلام، ويتجاوز بمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم حدود المكان والزمان في معجزة الإسراء والمعراج إكراماً له.

وقد جعل الله تعالى المعجزات خوارق للعادات، تفوق طاقة البشر وعلومهم وتفكيرهم، ليؤيّد بها أنبياءه، ويظهر قدرته لخَلقه.

فالإيمان بالمعجزات لا ينفكُّ عن الإيمان بالله تعالى، ولا ينكرها إلا من يُجانب جادّة الإيمان، ويسير في مهاوي الكفر والضلال.

هل الأنبياء قادرون على الإتيان بالمعجزات؟

إنّ الأنبياء بشرٌ تحكمهم الطبيعة البشريَّة، ويسيرون ضمن قوانين الكون كسائر الناس، وليس بأيديهم أن يتجاوزوها إلّا بإذن الله تعالى.

والمعجزات من أفعال الله التي يُجريها على أيدي أنبيائه، وليست من فعل الأنبياء أنفسهم، قال تعالى: ((قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)) [إبراهيم: 11]

أي (ليس لنا أن نأتيكم ببرهانٍ وحجَّةٍ ومعجزةٍ إلا أن يشاء الله ذلك، أي: ليس لنا ذلك من قِبَل أنفسنا) [التفسير الوسيط للواحدي (3/ 25)].

لذا نجده سبحانه وتعالى ينسب الإسراء لفعله وليس لفعل النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وما محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم إلّا عبدٌ تسيّره قدرة الله تعالى وعنايته في تلك المعجزة، قال تعالى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الإسراء: 1]

 

لماذا  تثار الشُبَه حول السنّة النبويّة؟

السنة النبوية-مربع
السنة النبوية-تويتر

الجواب على هذا السؤال يتألّف من شقّين: 

شقٌّ يتعلّق بطبيعة السُّنّة المطهّرة خصوصاً، والدين الإسلاميّ عموماً.

وشقٌّ يتعلّق بمن يثير هذه الشبهات.

أمّا الجواب على الشقّ الأوّل:

 فإنّ الشُّبَه تثار حول السُّنَّة النبويّة لسببين عامّين:

السبب الأوّل: لأنّ السنّة النبويّة أعظم أصلٍ في الدين بعد القرآن الكريم، فإذا طعنوا بهذا الأصل هان عليهم هدم الدين من أصله، واستطاعوا تغيير معاني القرآن الكريم.

فالأحاديث النبويّة هي السياج الذي يصون تفسير القرآن الكريم من التغيير والتزوير، حيث تقف هذه الأحاديث حجر عثرة أمام الذين يحاولون تغيير الدين وتزويره باسم القراءة المعاصرة ونحوها؛ لأنّ المعاني الشرعيّة والأحكام التكليفيّة التي ترد في القرآن الكريم لا يمكن تفسيرها إلاّ عن طريق السنّة النبويّة كما أجمع العلماء على ذلك، فألفاظ الكتاب والسُّنَّة تحمل ثلاثة أنواع من المعاني، وهي: المعاني الشرعيّة، والمعاني العرفيّة، والمعاني اللغوّية، وإنّ تفسير الأحكام التكليفيّة في القرآن الكريم على مراد الله تعالى يُحمَل على المعاني الشرعيّة حصراً، وإنّ المصدر الوحيد الذي يحدّد المعاني الشرعيّة التي جاء بها القرآن الكريم هو السنّة النبويّة؛ فهي التي توضّح نصوص الشريعة وتبّين مُجمَلَها، وتفصّل أحكامها بدقّة.

وكذلك فإنّ السُّنَّة النبويّة تستقلّ في كثيرٍ من الأحكام الشرعيّة، وهي أيضاً منهجٌ علميٌّ وعمليٌّ عظيمٌ في الإصلاح والرقيِّ بالمجتمع، وقد شهد المستشرقون أنفسهم بذلك. 

قال المستشرق الفرنسي د. وايل في كتابه (تاريخ الخلفاء): «إنّ محمّداً يستحقّ كلّ إعجابنا وتقديرنا كمصلحٍ عظيمٍ، بل ويستحقّ أن يُطلَق عليه لقب (نبيّ) ولا نصغي إلى أقوال المغرضين وآراء المتعصّبين، فإنّ محمّداً عظيمٌ في دينه وفي شخصيّته». 

وقالت الباحثة البريطانيّة المتخصّصة في الأديان كارين أرمسترونج في مقدّمة كتابها (سيرة النبيّ محمّد):

«تُكوّن الأحاديث النبويّة مع القرآن أصول الشريعة الإسلاميّة، كما أصبحت أيضاً أساساً للحياة اليوميّة والروحيّة لكلّ مسلم، فقد علّمت السُّنَّة المسلمين محاكاة أسلوب محمّد في الكلام والأكل والحبّ والاغتسال والعبادة، لدرجة يعيدون معها إنتاج حياة محمّد على الأرض في أدقّ تفاصيل حياتهم اليوميّة بأسلوب واقعيّ».

السبب الثاني: لأنّ الإسلام دينٌ عظيمٌ في تشريعه وتأثيره: فالإسلام رسالة الله في الأرض، وله تأثيرٌ كبيرٌ في النفوس، وهو أكثر الأديان جاذبيةً واستقطاباً للأتباع، لذا فزع الغرب منه، لأنّه إذا ظهرت حقيقته للعالم فسيعارض مصالحهم، ويبطل مخطَّطاتهم التي رسموها في استعباد الأمم والشعوب، ونَهبِ خيراتها، ويقضي على الرأسماليّة، ويحرّم عليهم صناعة الموت والتجارة بالأسلحة والدماء، لأنّه دين العدالة والحقّ والأخلاق.

قال المستشرق البريطاني هاملتون جب في كتابه: (دراسات في حضارة الإسلام): «إنّ التعاليم الاجتماعيّة التي جاء بها محمّد في أساسها إعادةٌ لإحقاق المبادئ الأخلاقيّة التي تشترك فيها ديانات التوحيد، فازداد ترسيخ معنى الأخوّة، ممّا جعل الجميع سواسيةً من حيث القيمة الشخصيّة الفطريّة، دون النظر إلى مكانتهم الدنيويّة ووظائفهم وثرواتهم». 

لذا فقد حاولوا تشويهه والطَّعن فيه بشتّى الأساليب، ومن أعظم مفاصل هذا الدين وأصوله السُّنَّة النبويّة، فكانت الأحاديث النبويّة غرضاً يصوّبون سهام الحقد نحوه.

 فما الذي يُرعِب الغرب من هذا الدّين ويجعلهم يبذلون الأموال الطائلة في محاربته وتشويهه، ويعقدون المؤتمرات ويعدّون المخطّطات في تقويضه لولا عظمتُه وكماله.

يقول عالم الأديان السويسري هانزوكونغ: «إنّ ما يمكن أن يسمعه المرء أو يقرأه عن الإسلام في وسائل الإعلام الغربيّة، وما يقوله المثقّفون عنه أمرٌ مزعجٌ ومخيفٌ بمعنىً مزدوج، أوّلاً: بسبب الاعوجاج والأحكام المغلوطة التي تتكشّف في هذه العقول، وثانياً: بسبب الطَّريقة المخيفة والخبيثة التي تُلقى بها الأحكام عن الإسلام وعن رسوله الكريم».

فقد أقام الغرب مؤسّساتٍ متخصّصةً بدراسة الإسلام والطعن فيه، مع أنّ المسلمين اليوم أهون الأمم وأضعفها على وجه الأرض، فلماذا يهدر الغربيُّون طاقاتهم وأموالهم في محاربة هؤلاء المسلمين الذين لا يقيمون لهم وزناً لولا عظمة الدين الذي يدينون به؟

الشقّ الثاني: وهو يتعلّق بمن يثير الشبهات:

يكفي لمعرفة حقيقة الطاعنين بالسنّة النبويّة بأنّ أوّل من تناول الطعن بالحديث النبويّ هو المستشرق اليهودي: (جولد تسهير) في كتابه (دراسات إسلاميّة) وجاء بحججٍ واهيةٍ، وتناقضاتٍ علميّةٍ بيّنةٍ في الطعن بالقرآن والسُّنَّة والتشريع الإسلاميّ، ثمّ جاء المستشرقون والكُتّاب الذين أرادوا أن يطعنوا في السُّنَّة النبويّة فأخذوا منه هذه المغالطات، ورصفوها بعباراتٍ رنّانةٍ، خاطبوا فيها العواطف، واستغلّوا سطحيّة بعض المتلقّين لنشر أفكارهم، وتلقّي كتاباتهم بالقبول .

ولا عجب أن نجد مستشرقاً يهوديّاً قد كُلّف بمهمّة الطعن في الدين الإسلامي عامّة والسُّنَّة النبويّة خاصّة، وقد أُوكِلَت إليه هذه الوظيفة مقابل امتيازاتٍ يتلقّاها من ساسة الغرب، فهذا من أنواع الإفساد الممزوج بدماء الحاقدين من اليهود منذ القِدَم.

فالطعن في السُّنَّة النبويّة عند هؤلاء غير قائمٍ على الأدلّة والبراهين العلميّة، وإنّما هو نوعٌ من أنواع الحروب الفكريّة والكيد للإسلام؛ وإذا قارنّا تلك الدراسات والطعون بالمنهج العلميِّ الدقيق الذي سلكه المحدّثون نجد التخبّط العلمي والمغالطات المنهجيّة عند هؤلاء الطاعنين، حيث لا يوجد وجهٌ للمقارنة بين دراسة المستشرقين والطاعنين، والمنهجيّة العلميّة التي سار عليها علماء الحديث حتّى إنّ بعض المستشرقين المنصفين أعجبوا بمنهجيّة العلماء في دراسة الحديث وعلم الرجال، وأقرّوا بأنّ هذا المنهج الدقيق في علم الحديث قد تفرّد به علماء المسلمين دون غيرهم.

قال المستشرق الإنكليزي برنارد لويس في كتابه (الإسلام في التاريخ): «في وقتٍ مبكّرٍ أدرك علماء الإسلام خطر الشهادات الكاذبة والمذاهب الفاسدة، فوضعوا علماً لانتقاد الأحاديث والتراث وهو علم الحديث كما كان يُدعى…ففي حين أثبتت الدراسات الحديثة اختلافاً دائماً في تقييم صحّة ودقّة السرد القديمة، نجد أن الفحص الدقيق له (أي لعلم الحديث) باعتنائه بسلاسل السند والنقل وجمعها وحفظها الدقيق من المتغيّرات في السرد المنقول تعطي التاريخ العربي في القرون الوسطى احترافاً وتطوّراً لم يسبق له مثيلٌ في العصور القديمة، ودون حتّى أن نجد له مثيلاً في الغرب في عصوره الوسطى في ذلك الوقت».

كما أشاد بطريقة المسلمين في علم الحديث والإسناد عددٌ من الغربيين، منهم: باسورث سميث عضو كلّيّة التثليث في أكسفورد وكاليل، و برنارد شو، وسبرنجر كان. ]المستشرقون والحديث النبوي للأستاذ محمد بهاء الدين[

  والمستشرق الإنكليزي دافيد صموئيل مرجليوث رغم عدائه الشهير للإسلام فقد قال: «ليفتخر المسلمون ما شاؤوا بعلم حديثهم» ]المقالات العلميّة (234) وما بعدها[.قال ذلك معترفاً بقيمة هذا العلم دون مكابرة.

ومن كان مبهوراً بأقوال المستشرقين فقد عرضنا آراء بعض المنصفين منهم لعلم الحديث، وما أعجبوا به إلّا لأنّهم وجدوا المنهجيّة العلميّة لدى المسلمين في دراستهم للحديث. 

ولنختصر الطريق على القارئ الكريم، فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما:

إنّنا نتناول بحثاً يتعلّق بالدين، لا بأفكار وفلسفات، ومن ثمّ:

 فإمّا أن نكون مؤمنين حقّاً، ونسعى إلى مرضاة الله تعالى، وحينئذٍ لا بدّ أنّ نتّبع سبيل المسلمين منذ بعثة رسول الله ﷺ إلى يومنا هذا، فنأخذ ديننا من علماء الأمّة الراسخين، و هم أعلم الناس بالحديث النبويّ، فقد درسوه دراسةً دقيقةً أبهرت  بمنهجيَّتها وطريقتها علماءَ الغرب.

وإمّا أن نتّبع فكر المستشرقين والطاعنين والحاقدين، ونحن ندّعي تنقيح السُّنَّة النبويّة، وهيهات هيهات أن تؤخذ الحقيقة من هؤلاء الحاقدين الكائدين الذين ظهروا آخر الزمان ممن  يُعادون الإسلام، ويدرسونه لمآرب أخرى، وقد حالت القرون بينهم وبين لقاء أهل هذا الفنّ والمشتغلين فيه، إضافةً إلى أن هؤلاء المستشرقين بدراستهم لعلم الحديث إنّما ينفذُّون المخططات الاستعماريّة، ويتعمّدون المغالطات العلميّة، لحرفِ النظر عن الحقِّ أو للتشويش على الطريق إليه.

فبماذا يحكم العقل السليم إذاً؟ وأيَّ الخيارين يختار؟

لماذا خَلَقنا الله 3

لماذا خلقنا الله -3مربع
لماذا خلقنا الله-3 -تويتر

يتابع هذا الجزء المحطة الأخيرة من تساؤل الوجود والغاية من الخلق، فقد تمّت مناقشة التساؤلات الثلاث الأولى في المقالين السابقين، وهي:

  1. هل الله بحاجة لعبادتنا؟
  2. لماذا كلَّفنا بالأوامر الشرعية؟
  3. فماذا عن العبادات النُسُكية؟

وبقي لدينا السؤال الأبرز من هذه التساؤلات، وهو السؤال الرابع

فإذا كانت العبودية الخالصة حقاً لله على العباد فلماذا يخلقهم  ابتداءً؟

ذكرنا في معرض الإجابة عن التساؤل الأوّل استغناءَ الله عن عبادةِ خلقه، وبطلانَ اعتقاد من يربط بين إرادة الله لشيءٍ وحاجته له، وتبيّن أنَّه لا حاجة لله في خلقه ولا يضرُّه شيءٌ منهم ولا ينفعهم، وهنا يبرز تساؤلٌ ملحٌّ في أذهان الكثيرين:

 ما الحكمة من الخَلْقِ إذن؟ 

وقبل الإجابة التفصيلية عن ذلك يجب التوقف عند ثلاث نقاط مركزية:

النقطة الأولى:

لا يغيبنَّ عن أذهان الباحث عن الحكمة من الخلق مقامُه الأصليّ أوّلاً، وهو مقام العبودية والتسليم،  ليقف السائل برجاءٍ وخشوعٍ. فالأصل أنَّ الله سبحانه لا يُسأل عن شيءٍ من فِعله، بل إنَّ العبيد هم الذين يُسألون، وهذا من تمام سلطانه على خلقه:

((سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)) [سورة الأنبياء : 22 – 23]

النقطة الثانية:

قبل الشُّروع في تلمُّس الحكمة من الخلق، على السائل أن يطرد من قلبه الوساوس والأوهام التي تتعلّق بهذا السؤال، حيث يعلم يقيناً أنَّ خلق السماوات والأرض حقٌّ لا لعبَ فيه ولا لهوَ ولا عبث، وقد بيّن القرآن الكريم ذلك في آياتٍ عديدةٍ منه، نقف على أبرزها،

 حيث يقول جلَّ ذكرُه:

– ((وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17))) [سورة الأنبياء : 16 – 17].

– ((وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39))) [سورة الدخان : 38 – 39]

– ((تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّىۚ وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ(3)[سورة الأحقاف : 2 – 3))

– ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116))) [سورة المؤمنون : 115 – 116]

يبيَّن الله سبحانه أنَّ خلق السماوات والأرض لم يكن عبَثاً بل ما كان إلا حقاً، وهذه الآيات يؤمن بها المسلم ويسلّم بما فيها إذا ما آمن بالقرآن وحياً من عند الله تعالى. ولمن أراد استئناساً عقلياً يعضد الأدلة القرآنية؛ فليطلق بصره تدبُّراً في خلق الله، ليعلم أنَّ خالقاً أحسنَ كلَّ شيءٍ خلقَهُ يستحيل في حقِّه أن يبدأ خلقَه لهواً أو يتركه عبثاً؛ ومن آمن بالله خالقاً حكيماً نزّهه عن كلِّ وصفٍ لا يليق. وهذا هو عين الأدب مع الله سبحانه.

النقطة الثالثة:

هناك علاقةٌ وطيدةٌ بين نُقصان العلم الإنساني والإشكالات التي تطرأ في أذهان الناس، فإذا توقَّفنا قليلاً عند سورة البقرة حيث ذُكرت قصّةُ الخلق الإنساني للمرَّة الأولى؛ نجد أنَّ القصّة بدأت بقول الله للملائكة: ((اني جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً))[ البقرة30]، ليتبعه السؤال الملائكي الأشهر: ((قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيْهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)) [البقرة30]

، فيُعقِّب الله على تساؤلهم بقوله: ((إِنِّيْ أَعْلَمُ مَا لَاْ تَعْلَمُوْنَ))[ البقرة30].

يقف المتسائل باحثاً عن العلاقة بين علم الله (الذي يعلم ما لا تعلمه الملائكة) وسؤال الملائكة نفسه!

والحقيقة أنَّ نقصان العلم لدى السائل يؤدي إلى نقصانٍ في إدراكه لبعض الأمور، وبالتالي يستشكل عليه فهم جزئياتٍ معيَّنةٍ لانعدام رؤية الصورة الكليّة. وهذا الأمر مقرّرٌ ومعروف بين المعلّمين والمربّين، فتداولت ألسنةُ الكثير منهم المقولة المشهورة: (من قلَّ علمُه كثُرَ اعتراضُه).

فلذلك على السائل أن يعيَ حقيقة نفسه ونقصان علمه قبل أن يسأل، وبذلك يمكن أن يردّ أي استشكال يجده في نفسه إلى نقصانه وقلّة إدراكه مقابل كمال الله وعلمه. [انظر تفصيل الحديث حول هذه المسألة في مقال “سؤال الملائكة” للمؤلف].

وبعد استعراض النقاط السابقة، يبرز التساؤل مجدداً:

نعم لقد سلّمنا أنَّه يجب على الإنسان أن يسأل بأدبٍ وخشوعٍ فالأصل: أنَّ الله لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، وكذلك نزّهنا اللهَ سبحانه عن اللهو والعبث وذلك مقرَّرٌ في الشواهد القرآنية والقرائن العقلية، واتّضح لنا أنَّ أصل الاستشكال ناشئٌ عن قصور علمنا ونقصانه نحن البشر، ولكن يبدو إلى هذه اللحظة أنَّ تلكم الإجابات لم تروِ ظمأ السائل المتلهِّف، لماذا كان الخلقُ ابتداءً؟ 

وهنا يجدر التّوقف عند بعض الصفات الإلهية كي يتمكّن القارئ من إدراك تتمَّة المقال:

القدرة الصلوحية والقدرة التنجيزية:

يتَّصف الله سبحانه بصفاتٍ جليلةٍ كثيرةٍ، ومنها صفتا القدرة والإرادة؛ فالله سبحانه قادرٌ على كلِّ شيءٍ وهذا لا خلاف عليه بين المسلمين، وقد فصّلَ بعضُ علماء العقيدة في مراتب القدرة الإلهية فقالوا:

إنَّ الله قادرٌ على كلِّ شيءٍ وإنَّ الأحداث كلَّها تتمُّ بقدرة الله؛ فإذا وقع أيُّ حدثٍ سُمِّيت القدرة حينئذ بـ “القدرة التنجيزية” لأنَّ الفعل قد أُنجزَ وحدث، أمَّا إذا بقي معلَّقاً بإرادة الله سميت بـ “القدرة الصلوحية” والأمر صالحٌ لأن يحدث إذا أراد الله سبحانه.

فالقدرة الصلوحية: هي قدرة الله على فعل الأمر سواءً فعله أم لم يفعل، أمَّا القدرة التنجيزية: فهي إنجاز الله لقدرته وفقاً لإرادته. [للاستزادة انظر معنى الصلوحية والتنجيزية في متون عقيدة أهل السنة والجماعة]

تجدر الإشارة إلى أنَّ التصنيف السابق لمراتب القدرة الإلهية هو اصطلاحٌ تعارف عليه علماء أهل الكلام، وقد يعترض بعض القارئين على هذه الاصطلاحات ويظنُّها بدعةً في الدين لا أصل لها، والحقيقة أنَّ المعاني التي تقرُّها هذه المصطلحات معروفةٌ لدى جميع الناس، وما فعله هؤلاء العلماء هو إطلاق مصطلحٍ على كلِّ معنىً من هذه المعاني، ولا خلاف على المصطلحات إذ أنَّ المعنى معروفٌ بداهةً.

وبالعودة إلى سؤال الخلق، فمعلومٌ أنَّ خلق المخلوقات كان بقدرة الله تعالى، وأنَّ القدرة التنجيزية قد تمّت بخلق المخلوقات، فهو سبحانه قادرٌ على كلِّ شيءٍ، وتمَّت هذه القدرة بخلق كلِّ شيءٍ (تنجيزاً) كما أراد سبحانه، وذلك من تمام قدرة الله، وما الخلق إلا ثمرةٌ من ثمرات قدرته، وتجلياً من تجلِّيات عظمته. 

والمتأمِّل في عالم المخلوقات من نجومٍ وأفلاكٍ ودوابٍّ وطيرٍ وحشراتٍ يجد هذه المسألة حاضرةً بجلاء، فيتأمّل الناظر كيف جعل الله سبحانه أنواعاً كثيرةً وألواناً شتّى وما ذلك إلا لعظيم قدرته، فخلق كلَّ شيء وقدَّره تقديراً.

 جدير بالذكر أنَّ هناك من يقول بارتباط الله بمخلوقاته ارتباطاً للعلّةٍ بالمعلول دون إرادةٍ منه سبحانه، أي أنَّه يلزم على الله أن يخلق الخلقَ لأنَّه سببٌ والخلق نتيجتُه، لا يستطيع أن ينفكّ أحدهم عن الآخر؛ وهذا قول الفلاسفة الدهريين الذين ظهرت بدعتُهم في بداية العصر العباسيّ؛ حتى تصدَّى لهم فلاسفة المسلمين وأكّدوا الإرادة الإلهية، وأبطلوا قول الفلاسفة الذين يزعمون الخلق بلا إرادة.

أمَّا عن خلق الجنِّ والإنس فإنَّه سبحانه قد خَلَقَ كلَّ شيءٍ، وكان من هذه الأشياء خلقٌ مختارٌ ذو قدرةٍ على كسب أفعالٍ باختياره؛ فكان الجنُّ والإنس.

والأصل في هذا المخلوق أن يعترفَ بصفاته الأصيلة وضعفه الملازم فيتّبعَ الحقَّ ويعبُدَ اللهَ. ومن هنا يُفهم قول الله سبحانه: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [سورة الذاريات : 56] وأنَّ العبادة هي الأصل في المخلوق شاء ذلك أم أبى، (كما بيَّنا في إجابتنا على التساؤل الثالث “فماذا عن العبادات النُسُكية”).

وعليه فإنَّ “اللام” في قوله “ليعبدون” هي لأنَّ العبودية مرتبطةٌ بهم، ومتحصّلة من صفتهم الأصيلة “صفة المخلوقيّة”، ولا يُفهم من الآية أنَّ الله محتاجٌ لعبادة هؤلاء المخلوقات بل هو الغنيُّ الحميد.

فإذا ما أقام الجنّ والإنس العبودية لله كانوا منسجمين مع الكون المسخّر بأمر الله، وإلّا كانوا متمرِّدين على حقيقتهم حتى يعودوا إلى فطرتهم التي تستوجب منهم عبادة ربهم والاستجابة لأمره، حالُهم حالُ غيرهم من المخلوقات الذين خلقهم الله بقدرته الكاملة. 

واللافت أنَّ لفظة “العبادة” المشار إليها في الآية السابقة تختلف عن “النُّسُك” الذي يظنُّ كثيرٌ من الناس أنَّ العبادة مقتصرةٌ عليه، فمفهوم العبادة أوسع من مفهوم “النُّسُك” بكثير؛ وهو بالمجمل الإذعان والانقياد لأوامر الله.

 وعليه يُخطَّأ من يفهم من قوله: (إلا ليعبدون) أنَّ الله خلق الجنَّ والإنس للتَّنسُّك بين يديه سبحانه دون أداء حقوق الله في الدنيا، ويزداد الخطأ إن لم يُدرك السياق السابق، والذي يفهم على ضوئه المعنى المراد من الآية؛ فيُتوهم أنَّ الله أراد أن يمجِّده الناس لحاجةٍ فيه –سبحانه– فخلقهم وأمرهم بذلك، جلَّ وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. وقد بيّنّا تفصيل هذه المسألة في معرض الإجابة عن التساؤل الثالث (فماذا عن العبادات النُسُكية) في مثال المعلم الحكيم.

ومن هنا نعي أنَّ الله ما خلقنا لنقصٍ ولا لحاجةٍ يريدها سبحانه، وأنَّ الأصل في الإنسان أن يسبّح مع المخلوقات جميعاً مسلِّماً أمره لله سبحانه، فأمرَه بالعبادة إحقاقاً لهذا الأصل المرتبط ارتباطاً جوهرياً بمعنى المخلوقية، فلا مخلوق بلا افتقارٍ وعبادةٍ ولا خالقَ بلا غنىً وتمجيد.

ولذلك فإنَّ عبادة الله تعالى والخضوع له هي النظام الأصلي في الكون والفطرة السوية التي جبلت عليها الخليقة، أمّا الخروج عن عبادته وطاعته فذلك شذوذٌ عن الفطرة. وقد خلق الله سبحانه صنفين من الخَلْق؛ صنفاً جعلهم يسيرون مفطورين لا يخرجون عن فطرتهم وهم جميع المخلوقات عدا الإنس والجن، وصنفاً آخر أعطاهم الاختيار، وهم الجنّ والإنس، فمنهم من اختار عبادة الله وطاعته، ومنهم من خرج عن هذا القانون. 

قال تعالى:

﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩[سورة الحج : ١٨].

فمن خرج عن الطاعة فقد أهان نفسه لأنَّه شذَّ عن مخلوقات الله، لذا قال تعالى: ((وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَالَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)) بعد ذكر إعراض الناس عن عبادته سبحانه.

يبيّن هذا المعنى د. سامي عامري بكلماتٍ بليغةٍ نختم بها هذه السلسلة، إذ يوضّح عبودية الإنسان وعلاقتها بالكون المحيط: 

(إنَّ هذا الكون بأكملهِ ساجدٌ في محراب الطاعة خاضعٌ في محراب الناموس، فلا يخرج عن أمر الله القدري، قال تعالى: ((وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ)) [سورة الروم:26]، وقال سبحانه: ((أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)) [سورة آل عمران : 83]، وسجود الإنسان في محراب الطاعة الاختيارية يحقّق له التناغم مع هذا الكون السائر قهراً في طريق الخضوع للأمر الإلهي ويقيه الصدام مع الكون المتحرِّك معه)[د. سامي عامري – لماذا يطلب الله من البشر عبادته – صفحة 38]

 

لقد صَدَق

لقد صدق-مربع
لقد صدق-مربع

أسرع بعض المشركين إلى أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه يحدِّثونه بما يقوله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، رجاء أن يستعظمه فلا يصدِّقه. فقال أبو بكر: لئن كان قال ذلك، لقد صدق.

حدث هذا عقب رحلة الإسراء والمعراج التي منَّ الله بها على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ وقصَّة الرِّحلة رواها البخاري ومسلم بطولها في صحيحيهما.

– ما معنى الإسراء والمعراج؟

يقصد بالإسراء: الرِّحلة التي أكرم الله بها نبيَّه عليه الصَّلاة والسَّلام من المسجد الحرام بمكَّة المكرَّمة إلى المسجد الأقصى في القدس الشَّريف.

أمَّا المعراج: فهو ما أعقب ذلك من العروج به إلى طبقات السماوات العُلا، ثمَّ الوصول به إلى حدٍّ انقطعت عنده علوم الخلائق من ملائكةٍ وأنسٍ وجنّ، كلُّ ذلك في ليلةٍ واحدة.

– هل كان الإسراء والمعراج بالرُّوح فقط؟

كان الإسراء والمعراج بالجسد والروح معاً، وجمهور المسلمين على هذا. قال ابن حجرٍ في شرحه على البخاري: (إنَّ الإسراء والمعراج وقعا في ليلةٍ واحدةٍ، في اليقظة بجسده وروحه، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدِّثين والفقهاء والمتكلِّمين. وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك، إذ ليس في العقل ما يحيله حتَّى يحتاج إلى تأويل). [فتح الباري: 7/136-137]. لذلك فهي من معجزاته الباهرة صلَّى الله عليه وسلَّم التي أكرمه الله بها.

ومن الأدلَّة القاطعة على أنَّ الإسراء والمعراج كانا بالجسد والروح معاً:

استعظام مشركي قريش لهذا الأمر، وتعجُّبهم وتكذيبهم له صلّى الله عليه وسلَّم؛ فلو كان الإسراء والمعراج رؤيا مناميَّةً لما استدعى الأمر منهم أيَّ استعظامٍ أو تعجُّب؛ لأنَّ المرئيات في المنام لا حدود لها، ولا مُنكِر عليها، ولما سألوه عن صفات بيت المقدس وتفاصيله بقصد الالزام والتحدِّي.

– ليس كلُّ عجيبٍ مُنكَراً:

لا شكَّ بأنَّ قصَّة الإسراء والمعراج عجيبةٌ؛ لكن ليس كلُّ عجيبٍ مُنكراً، وليس من الصَّواب أن يشكِّك بعض الباحثين في كلِّ ما هو خارجٌ عن دائرة علمهم ومعرفتهم؛ فنراهم ينكرون الإسراء والمعراج قائلين بعدم إمكانية حدوثهما؛ لأنَّ الذهاب من مكَّة إلى بيت المقدس، ثمَّ الصعود إلى السماوات العُلا، ثمَّ الرجوع  في جزءٍ من الليل أمرٌ محال.

وهذا الادِّعاء لا قيمة له أمام البحث العلمي الصَّحيح:

فالإسراء والمعراج أمران ممكنان عقلاً، أخبر بهما القرآن الكريم المتواتر، كما أخبر بهما رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الأحاديث الصَّحيحة المشهورة الواردة في أصحِّ كتابين بعد القرآن الكريم (صحيح البخاري، وصحيح مسلم)، فوجب التَّصديق بحصولهما، ومن ادَّعى استحالتهما فعليه البيان.

لقد استطاع الإنسان في العصر الحديث أن يغزو الفضاء بإمكانيَّاته وقدراته المحدودة، واستطاع التنقُّل بين الأجواء، والصعود إلى القمر، ودراسة الشَّمس والكواكب، وإرسال الأقمار الصناعيَّة والمركبات الفضائية في أنحاء الفضاء الواسع، وكان هذا ضرباً من الخيال في القرون الماضية، وما يزال التقدُّم في العلم مستمرَّاً ويزداد يوماً بعد يوم، ممَّا يدحض زعم المنكرين أنَّ الإسراء والمعراج غير ممكنين عقلاً؛ فكيف يُستبعد عن الخالق مبدع الأكوان جلَّ جلاله أن يسري بنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وأن يعرج به إلى السماوات العلا، وهو القادر على كلِّ شيءٍ.

– نقص الأوكسجين:

وممَّا ينكره بعضهم في هذه المعجزة العظيمة: أنَّ الهواء ينعدم عند الخروج من الغلاف الجوي، فكيف عرج صلَّى الله عليه وسلَّم إلى السماوات في ظلِّ انعدام الهواء؟

إنَّ الهواء ينعدم تحت الماء أيضاً، ومع ذلك نرى الغوَّاصين يمكثون ساعاتٍ طويلةً تحت الماء بما معهم من إسطوانات الهواء، ونجد رواد الفضاء يخزِّنون هواءً يكفيهم لساعاتٍ وأيَّامٍ وشهور؛ فإذا استطاع المخلوق التغلُّب على هذه المشكلة، أفيعجز عنها ربُّ العالمين وهو خالق السَّماوات والأرض.

إنَّ معجزة الإسراء والمعراج حقيقةٌ ثابتةٌ في القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة المطهَّرة، وقد أثبت حصولها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم, وأفحم المشركين حينما وصف المسجد الأقصى وصفاً دقيقاً، وأجابهم حينما سألوه عن قافلةٍ لهم قادمةٍ من الشَّام، سألوه عن مكانها ومتى تقدم عليهم، فأخبرهم عنها وعن وقت وصولها، وقدَّم لهم دليلاً؛ حيث أخبرهم أنَّ هذه القافلة يتقدَّمها جملٌ أورق (و هو ما امتزج بياضه بسواد أو كان رمادياً) فكان هذا الوصف دليلاً آخراً على صدقه.