القبر وما وراءه

القبر وما وراءه
القبر وما وراءه

القبر وما وراءه

Loading

إنَّ التخلُّف الذى يعاني منه المسلمون اليوم ليس سببه الإسلام، وإنَّما هو عقوبةٌ مستحقّةٌ من الإسلام على المسلمين لتخلِّيهم عنه لا لتمسُّكهم به كما يظنُّ بعض الجاهلين

يطرح بعضهم هذا الإشكال: كيف نؤمن بعذاب القبر ولم يذكره القرآن الكريم، ونحن نرى الموتى ولا نرى أثر العذاب عليهم؟! وللإجابة على هذا الإشكال لا بدّ من الاتفاق على المسلّمات التي لا بدّ منها للوصول إلى الجواب:
وأوّلها: هل المعترض يؤمن بالغيب والآخرة أم لا؟ فإن لم يكن يؤمن بالغيب وعوالم الآخرة فإشكاله ليس في عذاب القبر، وإنما في أصل الإيمان، لذا فلا يعنيه هذا المقال.
وثاني المسلّمات: هل المعترض يبحث عن العلم الراسخ الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم، واتّبعه الصحابة، واتفق عليه علماء الأمّة على مرّ العصور، وهو الأخذ بالكتاب والسنّة والإجماع، أو يتّبع بعض الأفكار والتيارات السطحيّة المعاصرة التي تنكر السنّة النبوية؟
فإن كان ينكر السنّة النبويّة فإنّ إنكار السنّة أعظم من إنكار عذاب القبر، وإذا كان يبحث عن الحقيقة المجرّدة فعليه أوّلاً أن يعرف ما هي السنّة، وما هو الحديث النبوي قبل أن يسأل عن عذاب القبر، وعليه أن يدرس علم الحديث الذي أبهر عباقرة المستشرقين بمنهجيّته الدقيقة، فاعترفوا بالسبق فيه للمسلمين على الغرب، وإذا تعلّم مصطلح الحديث وأصول الرواية فسيعلم مدى الجهل والسطحية التي عليها منكرو السنّة النبوية.
فإن أبى إلّا إنكار الأحاديث النبوية والاعتراض على إثبات عذاب القبر، فإنّ هذا المقال لا يخصّه أيضاً.
وثالث المسلّمات: هل المعترض يريد أن يفهم القرآن الكريم فهماً حقيقيّاً ضمن منهجيّة علميّة، أو يريد أن يتلاعب بالتفسير والمعاني دون ضوابط، فإن كان يبحث عن الحقيقة فمرحباً به، وليعرض ما يشاء من أسئلة وإشكالات، أمّا إذا كان يعترض لمجرد الاعتراض فننصحه بأن يستغل وقته فيما ينفع الأمة، ولا يغامر بدينه.
ولمن يتفق معنا على هذه المسلّمات نقول: اتفق الصحابة الكرام على وجود عذاب القبر، فلا خلاف فيه عندهم البتّة، وبه قال جماهير المسلمين من التابعين والعلماء من بعدهم، وقالوا بثبوت عذاب القبر؛ لورود الأدلة المستفيضة الصحيحة والصريحة فيه، وما شذّ عنهم إلاّ قلّة قليلة من بعض المعتزلة أنكرت عذاب القبر دون دليل، وإليك بعض الأدلّة على ثبوت عذاب القبر:
أولا: أدلة عذاب القبر من القرآن الكريم:
وردت آيات كثيرة في القرآن تشير إلى عذاب القبر ونعيمه، وسنقف عند بعض منها خشية الإطالة:
1- يقول الله عز وجل عن آل فرعون: (﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 46]، فقد فسّرها علماء الصحابة والسلف بأنّ هذا العرض لآل فرعون على النار هو عذاب القبر الذي يلاقونه ما دامت السماوات والأرض، وعن عبد الله بن مسعود في تفسير هذه الآية: (أرواح آل فرعون في أجواف طير سود، يعرضون على النار كل يوم مرّتين يقال لهم: هذه داركم فذلك في قوله تعالى: {يعرضون عليها غدواً وعشياً}) [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: (6/ 1222)]، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أحدكم إذا مات عُرِض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» [متفق عليه].
وممّن ذهب إلى هذا من علماء التابعين: مجاهد وعكرمة ومقاتل ومحمد بن كعب، فقالوا: هذه الآية تدل على عذاب القبر في الدنيا، ألا تراه يقول عن عذاب الآخرة في قوله تعالى: ﴿ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب[تفسير القرطبي: (15/ 319)].
2- قال الله سبحانه عن الظالمين: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ[الأنعام: 93].
فقد ذكر الإمام البخاري بعض الآيات ومنها هذه الآية والتي قبلها في باب: (عذاب القبر) ليدلّ على ثبوت عذاب القبر في القرآن الكريم، قال ابن حجر: (وكأن المصنف [أي البخاري] قدّم ذكر هذه الآيات لينبّه على ثبوت ذكره في القرآن) أي عذاب القبر وفي قوله تعالى: ﴿ولو ترى إذ الظالمون في غمراتِ الموتِ والملائكةُ باسطو أيديهم[الأنعام93]، قال ابن حجر أيضاً: هذا عند الموت، والبسط هو الضرب، أي يضربون وجوههم وأدبارهم.
ويشهد له قوله تعالى في سورة القتال: ﴿فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم[الأنفال50]، وهذا وإن كان قبل دفن الميت فهو من جملة العذاب الواقع قبل يوم القيامة، وإنما أضيف العذاب إلى القبر لكون معظمه يقع فيه)[ فتح الباري: (3/ 233)].
3- قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ[آل عمران: 169 – 171].
فإذا كان الله تعالى يحيي الشهداء الحياة البرزخية ليرزقهم، فيجوز أن يحيي الكفار ليعذبهم في قوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ ويكون فيه دليل على عذاب القبر ونعيمه [انظر: تفسير القرطبي (2/ 173)].
4- قوله تعالى:﴿وإن للذين ظلموا عذابًا دون ذلك﴾  [الطور: 47]، أي أنّ الكفار لهم عذاب دون عذاب الآخرة، قال ابن عباس عنه: (عذاب القبر قبل عذاب يوم القيامة) [إثبات عذاب القبر للبيهقي: (ص: 63)]
وهناك آيات أخرى وردت في هذا الصدد، ولكن نكتفي بما ذُكر.
ثانياً: الأدلّة من السنّة النبويّة:
كثرت الأحاديث النبوية التي تثبت عذاب القبر، وإليك بعضاً منها:
1- عن البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ﴿ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ نزلت في عذاب القبر» [البخاري (1369) مسلم: (2871)].
2- عن عائشة رضي الله عنها: «أن اليهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر، فقال: نعم، عذاب القبر. قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلّى إلا تعوذ من عذاب القبر» [أخرجه البخاري (1372)].
3- عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: قالت: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فذكر فتنة القبر التي يُفتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة» [البخاري (1373)].
4- عن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجلٍ من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يُلحَد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه، فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» مرتين، أو ثلاثا، وقال: «وإنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له: يا هذا، من ربك وما دينك ومن نبيك؟ … «ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ قال: فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، قال: فينادي مناد من السماء: أن قد صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، وألبسوه من الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها قال: ويفتح له فيها مد بصره.
قال: وإن الكافر فذكر موته، قال: وتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه هاه، لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب، فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، قال: فيأتيه من حرّها وسمومها، قال: ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه» [أبو داود: (4753) ]
5- عن عائشة، وأبي هريرة رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا، وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم» [البخاري: (832) مسلم: (589)].
6- ورد في آخِر حديث صلاة الكسوف الطويل: «ثم رفع [أي رسول الله صلى الله عليه وسلم] فسجد وانصرف، فقال ما شاء الله أن يقول، ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر» [البخاري: (1050) مسلم: (903)].
7- عن عوف بن مالك قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فحفظت من دعائه وهو يقول: «اللهم، اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقّه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة وأَعِذْه من عذاب القبر -أو من عذاب النار-» قال: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت [مسلم (963)]
8- عن عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أمسى قال: «أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، اللهم إني أسألك من خير هذه الليلة، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، اللهم إني أعوذ بك من الكسل، والهرم، وسوء الكبر، وفتنة الدنيا وعذاب القبر» [مسلم: (2723)].
9- عن ابن عباس رضي الله عنهما، مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: «إنهما ليُعَذَّبان وما يعذبان من كبير»، ثم قال: «بلى أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما أحدهما فكان لا يستتر من بوله» قال: ثم أخذ عودًا رطبًا، فكسره باثنتين، ثم غرز كل واحد منهما على قبر، ثم قال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» [البخاري: (1378)].
10- عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار، على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أَقبُر ستة أو خمسة أو أربعة .. فقال: «من يعرف أصحاب هذه الأَقْبُر؟» فقال رجل: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوتُ الله أن يُسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه» ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: «تعوّذوا بالله من عذاب النار» قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال: «تعوذوا بالله من عذاب القبر» قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر..» [مسلم: (2867)].
– فإن قال قائل: لو كان عذاب القبر حقاً لرأينا آثاره على الأموات.
فالجواب:
1- إنّ الله تعالى أخفى عذاب القبر ونعيمه وجعله من عالم الغيب، كالإيمان بالله وملائكته واليوم الآخر..، لتتحقّق الحكمة، ويتبيّن المؤمن من الكافر، ولو رأينا العذاب بأعيننا لما ظهرت الحكمة من الإيمان به.
2- إنّ عذاب القبر ونعيمه جائز عقلاً وعادةً، بل تقع صورة مصغّرة عنه مع كلّ إنسان في المنام، فكما أنّ النائم قد يشعر بألم أو سعادة في أحلامه، والذين حوله لا يشعرون بما يحصل معه، كذلك الميت يُعَذّب أو يُنَعّم ولا يشعر به الأحياء.
3- صرّح عدد كبير من الناس فقدوا وعيهم ثمّ عادت إليهم الحياة، بأنّهم في حالة فراقهم للحياة رأوا نعيماً أو عذاباً، حتّى ذكر أحدهم، وهو مسؤول عربي، توقّف قلبه لمدّة دقائق وشعر بأنّه في عالم آخر من الوحشة، ثمّ رأى أشخاصاً كان يُحسن إليهم، وبشّروه، ثمّ عادت إليه نبضات قلبه ورجع إلى الحياة، وقد ذكر ما رآه أمام الملأ [انظر إحدى هذه المقاطع] عبر الرابط: (تجربة الموت، صائب عريقات):
https://www.youtube.com/watch?v=vSkDpFDgL-w

الأضحية نقداً أم قتلاً

الأضحية نقداً أم قتلاً
الأضحية نقداً أم قتلاً

الأضحية نقداً أم قتلاً!

Loading

الأُضحية منسكٌ شرعيٌّ, وتفقّدٌ الفقراء والمحتاجين واجبٌ أيضاً، ولكن لا يجوز أن نلغي أحدهما على حساب الآخر، بل يجب الجمع بينهما

يقول بعضهم: لماذا يقوم المسلمون بذبح ملايين الأضاحي، وهناك فقراء محتاجون إلى الأموال، عاجزون عن تدبير حياتهم المعاشيّة؛ لا سيّما في الدُّول المنكوبة، فهلّا وزّعنا لهم ثمن الأضاحي, وذلك أولى وأنفع من توزيع اللحوم؟

ويتلقّى كثيرٌ من النَّاس هذه الفكرة بالقبول والتأييد، ويجدونها منطقيّةً وواقعيّةً حقّاً، فتقديم ثمن أجرة البيت الذي أنهك الفقراء، ومساعدتُهم في شراء الأدوية التي لا يستغنون عنها أولى من تقديم اللحوم…

وفي الحقيقة, إنّ هذه الفكرة لا صحّة لها البتّة، وهي تصادم أحكام الشريعة، وليست مبنيّةً على تفكيرٍ علميٍّ، ويسمّى هذا في علم أصول الفقه: (المناسب الإقناعيّ), أي أنَّه إذا عُرض على العقول اقتنعت به، ولكن إذا دقّقت النَّظر ضمن قواعد التَّفكير الشرعيّ وجدته بعيداً عن الصواب.

فتقديم المال بدل ذبح الأُضحية يعود عليها بالإبطال؛ لأنّ ذبح الأضاحي مقصودٌ بذاته، فإذا استبدلناه بتوزيع المال بطل حكم الأُضحية في الأصل، وأُلغِيَ هذا المنسك من الشريعة، وهذا مصادمٌ للدِّين. 

فأمر الأُضحية ليس بهذه النَّظرة السَّطحية، ولا يقتصر على توزيع اللحوم كما يظنّ بعضهم، بل إنَّ الأمر أعمق من ذلك، فهو مُتعلّق بالإيمان والعبادة، أمّا إطعام اللحم فليس من المقاصد الأصليّة للأُضحية، بل من المقاصد التَّبعيّة التي تأتي في الدَّرجة الثَّانية، والمقاصد التَّبعيّة لا تصلح للتَّعليل الاجتهاديّ بالإجماع.

إنّ المقصد الأصليَّ للأُضحية بعد التعبّد والانقياد لله تعالى، هو إحياء المسلمين لحادثة الفداء التي وقعت لسيِّدنا إسماعيل مع أبيه إبراهيم عليهما السلام، والشُّعور بانتمائهم الإيمانيّ إليهما، والمشاركة في تقديم الأضاحي التي كانت رمزاً لهذه الحادثة، والإذعان والاستسلام لأوامر الله تعالى، كما استسلم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لله تعالى، ممّا يزيد الإيمان والتمسّك بدين الله, والتزام أوامره.   

فالأُضحيّة مبناها على التَّعبّد، وما كان مبنيّاً على التَّعبّد فهو من حقوق الله, ولا يصحّ تغييره البتّة؛ ولذا وردت أحكامها مقيّدةً بصفاتٍ وشروطٍ، فلا يصحّ أن تكون دون السّنّ التي حدّدها الشَّرع، ولا مخالفةً للأوصاف الشَّرعيَّة، وألّا تخرج عن الوقت المعيَّن للذَّبح. وكلُّ حُكمٍ حدّد الشَّرع شروطه وصفته فهو مبنيٌّ على التَّعبّد، ويجب أداؤه على الوجه الذي وردت فيه الصِّفة والشُّروط الشَّرعيّة، وهو غير قابلٍ للاجتهاد والتَّغيير، فضلاً عن الإبطال.

وأكّدت نصوص الكتاب والسّنَّة معنى التعبّد, وحقّ الله تعالى في الأضاحي، فجعلها القرآن من شعائر الله، قال تعالى: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ[الحج: 36] والبُدن تشمل الهدي والأضاحي.

كما فهم الصحابة أنّ الأضاحي من شعائر الله من قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32] فكانوا يهتمّون بها ويعلفونها ويسمّنونها، وقال أبو أمامة بن سهل: (كنا نسمّن الأُضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمّنون) [أخرجه البخاري، وانظر: تفسير ابن كثير (5/ 421)].

وقد أكّدت السنّة النبويّة معنى التعبُّد في الأضحية أيضاً، فجعلها النَّبيّ أفضل القربات إلى الله يوم النَّحر، فعن عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله قال: (ما عَمِلَ ابن آدم يوم النَّحر عملاً أحبّ إلى الله من هراقة دمٍ، وإنَّه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإنّ الدَّم ليقع من الله بمكانٍ، قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً) [الترمذي وابن ماجه].

ولأصالة التعبّد في الأُضحية فإنّها تشترك مع الصَّلاة بصيغة الدُّعاء والتوجّه، فقد روى جابر, قال: ((ضحّى رسول الله بكبشين في يوم عيد، فقال حين وجههما: (وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أوَّل المسلمين، اللهمَّ منك ولك، وعن محمد وأمته) ثم سمَّى الله وكبّر)) [ابن ماجه والدارمي].

فالأُضحية منسكٌ شرعيٌّ, وحكمٌ ثابتٌ من أحكام الدين، وتفقّدٌ الفقراء والمحتاجين وكفايتُهم واجبٌ أيضاً، ولكن لا يجوز أن نلغي أحدهما على حساب الآخر، بل يجب الجمع بينهما.

وإنّ توزيع لحوم الأضاحي يُدخل السرور على قلوب النَّاس، ويزوّدهم بالغذاء، ويقوّي الصِّلات الاجتماعيّة، فيتفقّد المضحّي الفقراء والمحتاجين، ويوزّع اللحوم على الأرحام والأقارب والأصدقاء، فتعمُّ البهجة في المجتمع، وفي كلّ ذلك نفعٌ وخيرٌ وبرٌّ وإحسان.  

فكم نسمع أصواتاً تدّعي الإنسانيّة، وتُنَظّر على أحكام الإسلام السَّامية، ولم نسمع أحداً ينتقد الأموال الهائلة التي تُهدَر في الفساد والضرر والإسراف، كالخمور، والليالي الحمراء، والرَّذائل، والتدخين، والدِّببة، والقلوب، والورود، ونحوها.

ولم نسمع أحداً ينتقد من يسرف في شراء الملابس الفاخرة، والمراكب الفارهة، ويقول له: لو أنفقت شيئاً من ذلك على الفقراء!

ولم نسمع أحداً ينتقد من يتوسّع في ألوان الطعام والشراب والحلوى والنزهات وغيرها، ويقول له هلّا تفقّدت الفقراء!

على أنّ من يدعو إلى فكرة دفع الصدقات بدل ذبح الأضاحي، ويستعطف مشاعر المسلمين تجاه الفقراء ليس مقصده من ذلك الرَّحمة والشفقة، بل غايته تعطيل أحكام الله شيئاً فشيئاً، ومنهم من حاول ذلك صراحةً، فقد قام النائب اليمينيّ المتطرّف وزعيم الحريّة في هولندا (خيرت فيلدرز) بمحاولاتٍ عديدةٍ لمحاربة ذبح الأضاحي. [TRT عربي 3 يناير 2022م]  وما الغاية من هذه الأفكار إلّا القضاء على أحكام الشريعة بالتدرّج شيئاً فشيئاً.

وإنّ الإسلام ذو نظرةٍ عامّةٍ شاملة، فقد عالج جميع نواحي الحياة، ولم يُهمل أمر الفقراء، وقد أوجب الله تعالى الزَّكاة المفروضة، وحثّ على الصدقات بأنواعها؛ رعايةً لحقوق المحتاجين، ونهى عن التبذير والإسراف، وعن البخل والشحّ، وذلك لتحقيق التوازن الاقتصاديِّ في المجتمع.

 وقصدت أحكام الشريعة أن تجعل المسلم جامعاً للخيرات، متّزناً في التصرّفات، يؤدّي حقوق الله وعباداته ومناسكه، ويتفقّد الفقراء ويحسن إليهم، وقد وصف الله عباد الرَّحمن بقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً[الفرقان: 67].

فلو أدّى الأغنياء زكاة أموالهم حقَّ الأداء، ولم يقع الإسراف والتبذير، لما وجدنا فقيراً أبداً.

 وإنّ أعظم أسباب الفقر هي الحروب والأزمات التي يخطِّط لها أعداء الإنسانيّة، ليمتصّوا خيرات البلدان والشُّعوب، ثمّ إنّهم بعد أن يقوموا بتلك الجرائم، يرسلون أبواقهم لينتقدوا الإسلام وأحكامه, ويهدموه عروةً عروة، ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32].

عبادة إجرامية

عبادة إجرامية

عبادة إجرامية

Loading

 هل يدعو الإسلام إلى تعنيف الحيوانات وتعذيبها، وبالتالي يكون ذبح الأُضحية منطلقاً من هذه النَّظرة الوحشية؟

يكثر الحديث في هذه الأيَّام عن الرِّفق بالحيوان, وعن وجوب الاعتناء به والابتعاد عن تعذيبه، ويتساءل كثيرٌ من النَّاس عن الحكمة من ذبح الأضاحي وأكلها، فتجد من يقول: لماذا لا نُنهي حياة الحيوانات بطريقةٍ أقلَّ وحشيةً، وتجد آخرين يرفضون أكل لحوم الحيوانات بالمطلق، إذ يعتبرون هذه الأفعال دمويةً, ولا تليق بالإنسان المعاصر.

الإسلام والرِّفق بالحيوان

قبل الحديث عن الأضاحي, لا بدَّ من إلقاء نظرةٍ شاملةٍ على تعامل الإسلام مع الحيوانات، لنرى؛ هل يدعو الإسلام إلى تعنيف الحيوانات وتعذيبها، وبالتالي يكون ذبح الأُضحية منطلقاً من هذه النَّظرة الوحشية؟

أم إنَّه دعا إلى الرِّفق بها, والابتعاد عن إيذائها؟

وفي سبيل ذلك سنستعرض الأحاديث التالية:

أوّلاً- عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أنَّه قال:

((أردَفَني رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ خَلفَهُ ذاتَ يومٍ, فدخَلَ حائِطاً مِن حيطانِ الأَنصارِ، فإذا جَملٌ قدِ أتاهُ فجَرجرَ، وذَرفَت عيناهُ فلمَّا رَأى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حَنَّ وذرفَت عيناهُ -فمَسحَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ سراتَهُ وذِفراهُ، فسَكَنَ، فقالَ: مَن صاحبُ الجمَلِ؟ فجاءَ فتىً منَ الأَنصارِ، فقالَ: هوَ لي يا رسولَ اللَّهِ، فقالَ: أما تتَّقي اللَّهَ في هذِهِ البَهيمةِ الَّتي ملَّكَكَها اللَّهُ، إنَّهُ شَكا إليَّ أنَّكَ تجيعُهُ وتُدئِبُهُ)).

[رواه أحمد وأبو داود] (السَّراة: الظَّهر والسّنام- الذفرى: خلف الأذن- تجيعه: لا تُطْعِمُهُ حتَّى يُؤْذِيَه الجُوعُ- تُدئِبُه: تُكِدُّهُ وتُتْعِبُهُ في العَمَلِ الكثير)

ثانياً- عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال: ((كنَّا معَ رسولِ اللَّهِ في سفَرٍ فانطلقَ لحاجتِهِ فرأَينا حُمَّرةً (طائرٌ صغيرٌ يُشْبِه العُصفورَ) معَها فرخانِ, فأخَذنا فرخَيها فجاءت تعرِشُ (تَطيرُ وتُرفْرِفُ فزعاً) فجاءَ النَّبيُّ فقالَ: مَن فَجعَ هذِهِ بولدِها؟ ردُّوا ولدَها إليها)). [رواه أبو داوود]

ثالثا- تحريم تعذيب الحيوانات بالمطلق وقتلها من غير حاجة

  – عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم, قال: «من قتل عصفوراً عبثاً جاء يوم القيامة وله جؤار (الجؤار: رفع الصوت) إلى الله يقول: يا رب, سل هذا فيم قتلني» [رواه أحمد]

–  عن ابن عمر رضي الله عنهما -أيضاً- أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم, قال: «عُذِّبت امرأةٌ في هِرَّة سَجَنَتْها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سَقتها، إذ حبستها، ولا هي تَركتْها تأكل مِن خَشَاشِ الأرض». [رواه البخاري ومسلم]

الحيوان والتسخير لحياة الإنسان

بعد معرفة نظرة الإسلام الرَّحيمة للحيوانات، يجدر بالبعض أن يسأل: ولماذا نأكل الحيوان أصلاً، طالما أنَّ الإسلام دعا إلى الرِّفق بالحيوان فلماذا لا نكون رفقاء به, ونتركه حيَّاً, ولا نعتدي على حياته؟

وهذا السائل إمَّا أن يكون مسلماً أو غير مسلم؛

فإن كان مسلماً فإنَّه يعرف أنَّ الله سبحانه سخَّر السَّماوات والأرض والجبال والأنهار والبحار والشمس والقمر والنجوم وجميع المخلوقات لحياة الإنسان (المخلوق الذي حمل أمانة خلافة الأرض)، وجعل الإنسان مُستأمَناً عليها, فهل يعتدي عليها ظلماً وتكبُّراً أم يستخدمها فيما شرع الله، ووفقاً لمراد الله.

إنَّ الله سبحانه الذي خلق هذه الحيوانات هو نفسه من أذن للإنسان أن يستخدمها (في الأكل والشّرب والكساء والركوب) وفقاً لشروطٍ وضوابط تمنعه عن الظُّلم والطُّغيان؛ فلا يجوز لإنسانٍ أن يقترب من خلقٍ من مخلوقات الله إلَّا بإذنٍ منه سبحانه، فالمسلم حين يذكر اسم الله على البهيمة فإنَّه يذكّر نفسه أنَّه ما كان له أن يأكل لحمها لولا أن أذن الله له بأكلها، فينزع من قلبه التكبّر والغرور الذي أنتجته النَّظرة المادّيّة التي تُؤَلِّهُ الإنسان بتفوُّقه على المخلوقات الأخرى، فلا ينظر لنفسه إلّا أنَّه خَلقٌ من مخلوقات الله يعمل وفقاً لما أذن به الله سبحانه.

أمَّا عن طريقة إنهاء حياة الحيوانات ففي ذلك أبحاثٌ ودراساتٌ كثيرةٌ يطول بها المقام، ولكن يكفي المسلمَ أن يعرف أنَّ هذه الوسيلة هي التي شرعها الله سبحانه من بين الوسائل الأخرى التي حرَّمها (والله يعلم وأنتم لا تعلمون)

ماذا عن غير المسلمين؟

أمَّا إن كان السَّائل غير مسلمٍ، فإنَّ أكل لحوم الحيوانات ليس محرَّماً عند أهل الدِّيانات، ولكنَّ بعض الملحدين المؤمنين بالطبيعة حرَّموا ذلك على أنفسهم، وقالوا إنَّ ذلك فعلٌ دمويٌّ لا يليق بالإنسان المعاصر.

وسنَحتَكِمُ مع من يؤمن بالطبيعة إلى ما يؤمن به:

فالمؤمن بالطبيعة يعتقد أنَّ الإنسان قد خاض معركةً طويلة المدى حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم، فقد قاتل من أجل البقاء جميعَ أصناف المخلوقات الأخرى قتالاً دمويّاً لا مكان فيه لمعاني الرَّحمة والشّفقة التي تدعونا إليها فطرتنا الإنسانية (التي لا يجد المادّيون تبريراً لها).

فندعو الملحد الذي يؤمن بالطّبيعة أن ينقذ بقايا الفطرة الإنسانية في قلبه التي تدعوه إلى الرَّحمة والشفقة باحثاً عن مصدر هذه الرحمة. وإلَّا فإنّه سيكمل انتكاسته ليصل إلى ما وصل إليه المادّيون الذين كانوا صادقين في إيمانهم بالطبيعة فلم يجدوا في قلوبهم أيَّ معنىً للشَّفقة أو الرحمة أو معنىً لقيمة الحياة (سواءً حياة الإنسان أو حياة المخلوقات الأخرى) فنتج عن ذلك ما رأيناه في التَّاريخ من نماذج مثل (هتلر)، أو (ماو تسي تونغ)، أو جزار كمبوديا (بول بوت) وغيرهم…

فهل يريد الملحد أن يكون رحيماً أم أن يكون ملحداً حقيقياً؟

الحج عبادة وثنية!

الحج عبادة وثنية
الحج عبادة وثنية

الحج عبادة وثنية!

Loading

الحج عبادة وثنية المشركون هم الذين أخذوا أفعال الحجِّ من بقايا الأنبياء، وليس الإسلام هو الذي قلّد الوثنيّة في مناسك الحجّ.                       

يدّعي بعضُهم من خلال النَّظرة السطحيَّة أنّ مناسك الحجّ عند المسلمين مستَمَدّةٌ من طقوس الحجِّ عند المشركين، وقالوا: إنَّ الحجَّ في الإسلام يحتوي على طقوسٍ وثنيّة!

وإنّ سبب هذا التَّشابه الظَّاهريّ أنّ الحجَّ عند المسلمين هو ذاته ما كان في عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما الصَّلاة والسَّلام، وقد كان لدى الجاهلية بقايا من الشريعة الحنيفيّة، فقلّدوا في ظاهر الحجِّ شريعة إبراهيم عليه السلام، لكنّهم أدخلوا الأصنام وعظّموا الأحجار، فكانوا يعبدون الكعبة لذاتها ويتقرّبون من الأوثان التي جعلوها في موضع المناسك، ويعتقدون أنّها تضرّ وتنفع.

والمشركون هم الذين أخذوا أفعال الحجِّ من بقايا الأنبياء، وليس الإسلام هو الذي قلّد الوثنيّة في مناسك الحجّ.

فالطُّقوس الوثنيَّة هي عبادة الأحجار والأوثان والتقرُّب إليها، والاعتقاد بأنَّها تضرُّ وتنفع، أو أنّها تقرِّب إلى الله زلفى، فيشركونها بالله في العبادة.     

أمّا الحجّ في الإسلام فيختلف عن طقوس الجاهليّة اختلافاً جذريّاً، فكلُّ منسكٍ يقوم به المسلم يتجلَّى فيه الانقياد لأوامر الله وعبادته وتعظيمه، ولا اعتبار للحجارة التي تقام حولها المناسك، وإنَّما هي رسومٌ أمرَ الشَّرع أن تؤدّى المناسك في موضعها، تعظيماً لربّها وليس تعظيماً لها، فالطَّواف حول الكعبة ليس عبادةً للكعبة، والسَّعي بين الصفا والمروة ليس عبادةً لهما، بل عبادة الله الذي أمر بهذه المناسك؛ لذا نجد استحباب تقبيل الحجر الأسود واستلام الرُّكن اليمانيّ، لأنّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمر بذلك، وكراهية تقبيل أو استلام الرُّكن الشَّامي؛ لأنّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يأمر بتقبيله، وهذه المواضع كلُّها من الكعبة، ولو كانت العبادة للكعبة ذاتها لما فرّقوا بين الرُّكن اليمانيّ والرُّكن الشَّامي وقبّلوا كلّ موضعٍ في الكعبة، ولكن لمّا كانت أفعال الحجّ طاعةً لله وامتثالاً لأوامره شُرِع تقبيل واستلام ما أمر به الشرع، ومُنِع من تقبيل أو استلام ما لم يرد فيه دليلٌ شرعيٌّ، لذا فالعبادة لربِّ البيت وليست لذات البيت، قال تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ[قريش3].

ولتحقّق فهم المسلمين لهذا المعنى واتّضاحه لهم  نجد سيدنا عمر رضي الله عنه عندما جاء إلى الحجر الأسود وقبّله، قال: (إنِّي أعلم أنَّك حجرٌ، لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أنِّي رأيت النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقبِّلك ما قبّلتُك) [البخاري: (1597)] فالحجر الأسود حجارةٌ لا تضرُّ ولا تنفع في اعتقاد المسلمين، وإنّ تعظيمها من تعظيم الله لأنَّه هو الذي شرع الأحكام، وما تقبيله إلا امتثالٌ للشَّرع وطاعةٌ لله تعالى.

وكذلك السَّعي بين الصَّفا والمروة، فقد تحرّج المسلمون في بداية الأمر من السَّعي بينهما، لمَّا رأوا أنَّ الأنصار كانوا يهلّون (أي يحجُّون) في الجاهلية لصنمين على شطّ البحر، يقال لهما إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة، ثمّ يحلقون، فلمّا جاء الإسلام كره المسلمون أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية، خشية التشبّه بأعمال المشركين، فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَاْ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة 158] [انظر صحيح مسلم: (1277)] أي إنّ الصّفا والمروة من شعائر الله التي جعل الطّواف حولها من مناسك الحجّ، ولا عبادة في الإسلام إلّا لله وحده، وإنّ وثنيّة الجاهلية وشركها لا تؤثّران على شعائر الله تعالى وأحكامه وإخلاص العبادة له. 

وهكذا تتَّسق العبادات كلُّها تحت مقصد توحيد الله تعالى، فإنّ من أهمّ الأصول الثابتة في الدِّين: 

ترسيخ الإيمان والتوحيد، والقضاء على الشِّرك والوثنيَّة: فبعد أن قال الله تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ[الحج: 27] قال في تتمَّة الآيات: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور، حُنَفَاءَ لِلهِ غَيْرَ مُشْرِكِيْنَ بهِ[الحج: 30]

ونجد أنّ التلبية التي هي شعار الحجِّ تحتوي على معاني التوحيد الخالص: (لبَّيك اللهمّ لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).

ومن ثمّ فالمسلم ينوي في كلّ عباداته وطاعاته امتثال أوامر الله تعالى وتنفيذ أوامره، والعبوديّة له وحده، والعبادات في الإسلام مبنيّةٌ على النيّات، ولا قبول للأعمال ما لم تكن النيّة فيها خالصةً لله تعالى، وأمّا المظاهر والأفعال فقوالب أمر الله تعالى بها، وجعل لها شروطاً وأركاناً وأوقاتٍ وصفاتٍ، وأضاف لشعيرة الحجّ الأماكن المقدسة، ولا بدّ من مراعاة ذلك كلِّه؛ للحفاظ على الأحكام الشرعيّة.

وبهذا نجد أنّ الحجّ هو توجّه القلب إلى الله وحده بالتعظيم والعبادة، وامتثال أوامره في المناسك كما أمر من طوافٍ وسعيٍ ووقوفٍ بعرفة، وأنّ تعظيم الشعائر ليس عبادة لها، بل تعظيمٌ لله وامتثالٌ لأوامره، وأنّ نيّة العبادة لله وحده لا للكعبة ولا لغيرها من الأماكن.

العقوبات في الإسلام.. عدل أم قسوة

العقوبات في الإسلام عدل أم قسوة -مربع-
العقوبات في الإسلام عدل أم قسوة -مستطيل-

للإسلام قولٌ وحُكمٌ في كل شيء، ولم يُغفل الحاجة التشريعية للإنسان حتى لا يتركه عبداً لمصالحه وتقلُّباته وفهمه المتأثر القاصر للحياة. 

أولاً: التمهيد:  

يُعتبر الإسلام النظام الوحيد في الفكر الإنساني الذي استطاع أن يشمل جميع نواحي الحياة، فهو ليس نظاماً روحياً فقط يُحبس داخل جدران المعابد وفي العلاقة بين العبد وربِّه، دون أن تكون له انعكاسات في الحياة والسلوك والمجتمع، وليس نظاماً قلبياً فقط، يشتمل على أعمال القلوب وأمراضها ويُنظّر فلسفات في الأخلاق والقيم، وليس نظاماً مادياً بحتاً غير متصل بحاجات النفس الإنسانية للصلة بالخالق والالتجاء إليه بالعبودية، بل هو نظامٌ روحيٌ وقلبيٌ ومادي شامل جميع نواحي الحياة وما يحيط بالإنسان. 

فللإسلام قولٌ وحُكمٌ في كل شيء، ولم يُغفل الحاجة التشريعية للإنسان حتى لا يتركه عبداً لمصالحه وتقلُّباته وفهمه المتأثر القاصر للحياة. 

وهو مع كل هذا يحمل ميزةً عجيبة، وهي ميزة المرونة في التعامل مع التشريعات والأحكام، مرونة أعطته أحد صفات التشريع المناسب لكل زمان ولكل مكان ولكل إنسان. 

ولمَّا اتصف الإسلام بالشمولية والمرونة فقد ضمَّ في طيات تشريعه الأحكام التي تتعلق بضبط سلوك الإنسان وحمايته من الجرائم، ونحن لا نبالغ إذ نقول:  إنَّ الإسلام هو الدين الأشمل، والأكثر وضوحاً بين أديان وتشريعات البشرية في فقه الجنايات والعقوبات، كجزء من شريعته. 

لكن هذا الفقه فقه الجنايات- لم يسلم من النقد أحياناً، ومن التشكيك أحياناً، ومن الهجوم الاتهامي أحياناً أخرى، وستحاول هذه المقالة نقاش تشريع الحدود والعقوبات والقصاص في الإسلام وفهمها بشكلٍ مختصر.    

العقوبات في الإسلام نوعان: نوعٌ محدَّدٌ بالنص الشرعي، ونوعٌ أُوكلَ إلى المشرِّعين ليختاروا الأنسب. 

أعطى التشريع الإسلامي السلطة التشريعية في الدولة الحقَّ في تقدير العقوبات المناسبة فيما لم ينصّ عليه الشرع نصّاً واضحاً، وهذا الحق يُسمى ((التعزير))، أما الأحكام الجنائية المحددة بالنص الشرعي الواضح والتي تُسمى ((الحدود)): فهي أحكامٌ غير قابلة للتغيير، ولا يحقّ للسلطة التشريعية رفضها، إلا أنّها قد تختار عدم تطبيقها في حالات معينة.  

منطلق الحدود والعقوبات في الإسلام هو تحقيق مقاصد الشريعة، وهذه ميزةٌ عظيمةٌ في التشريع الإسلامي. 

يقصد التشريع الإسلامي في أحكامه تحقيق مقاصد معينة، وهذا يُفهمنا أنّ الإسلام ليس ديناً ذا تشريعات عشوائية ارتجالية غير مترابطةٍ بل هو تشريعٌ له غايات يسعى لتحقيقها، منها: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، إضافةً إلى غيرها من المقاصد، وقد ضمن الإسلام للإنسان الذي يعيش في مجتمع تحكمه الشريعة الإسلامية أن يكون محفوظاً في هذه الأمور التي تشمل في مجموعها حفظ إنسانية الإنسان، وإنسانية المجتمع. 

إقامة الحدود جزءٌ من مسؤوليات الدولة تجاه المجتمع وذلك من منحيين؛ الأول: تهيئة البيئة المناسبة للتشريع، والثاني: تهيئة الظروف المناسبة لإقامة الحدود. 

فالإسلام دينٌ واقعي، لا يطلب تكاليف، ولا يُشرّع تشريعاتٍ إلا بمناسبة للواقع الذي يعيشه المُكلَّف، ونلحظ ذلك في الحدود والعقوبات التي شرعها، فتشريع الحدود لم يُفرض إلا عندما أصبح المجتمع المسلم جاهزاً من حيث القابلية والإمكانية في الفترة المدنية من التشريع، إضافةً إلى ما تعلّمناه من سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووافقه عليه الصحابة الكرام من إيقافِ تطبيقِ حدِّ السرقة في عام المجاعة، وذلك مردّه إلى الفهم العُمَري الصحيح لغايات الأحكام ومقاصدها، والتي لم تكن مُتحققةً في ظلِّ ظروف المجاعة. 

وتأتي هذه الفكرة لتؤكد أن فقه الجنايات ليس مقصوداً بذاته في الإسلام بل هو وسيلةٌ من الوسائل التشريعية لتحقيق مجتمعٍ آمنٍ مطمئن، والوسيلة تُستخدم عند إمكانية استخدامها وتحقُّقِ الحاجة إليها. 

ثانياً: مفاهيم: 

تقول لنا القاعدة الفقهية العظيمة: “الحكم على الشَّيء فرعٌ عن تصوّره” وعليه فإن الكثير من الأحكام والانطباعات عن الحدود والعقوبات في الإسلام ناتجةٌ عن فهمٍ مشوّه أو مغلوط، مما أدّى إلى تشويه صورة هذا التشريع في العقول والأذهان. 

لذلك وجب بيان بعض المفاهيم في محاولة لتصحيح صورة هذا التشريع أو جزء منها. 

1-إقامة الحدود والعقوبات في المجتمع ليست الغاية من الدعوة الإسلامية 

فكثير من التنظيمات والمدارس الفكرية تسوّق فكرةً مفادها أنّ المجتمع المسلم هو الذي تطبّق فيه الحدود والعقوبات، أمَّا الحقيقةُ فإن المجتمع المسلم هو الذي تتحقق فيه المعايير الأخلاقية والقيمية والعقائدية والحضارية للإسلام، ولو لم يكن في مرحلة من مراحله يقيم الحدود والعقوبات، فهو مجتمعٌ يحقق ثلاثية العلاقات السوية للإنسان؛ العلاقة السوية بين الإنسان وخالقه، وبين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، ثم يتبع هذا المرحلة وجود فقه الجنايات كقانون يحفظ للناس حياتهم واستقرارهم فيها. 

وليس المقصود من هذه الكلمات التقليل من دور الحدود والعقوبات في المجتمع المسلم بل المقصود منها ألا نحصر صورة هذا المجتمع في الحدود والعقوبات فقط دون ما هو أولى وأهمُّ منها. 

ويُستدل على هذه الفكرة بفعل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإسلام الحقيقي في فهمه الصحيح وتطبيقه الصائب الحكيم، وهو القرآن سلوكاً و عملاً، وقد قامت دعوته أولاً على تحقيق البناء العقائدي والأخلاقي والقيمي بل والعاطفي الوجداني في المجتمع المسلم، واعتبر القرآن أبناء هذه المرحلة “المهاجرين” خير الأمة وأفضلها على الرغم من أنهم لم يطبقوا الحدود والعقوبات فيما بينهم، إلا لمّا تكامل هذا البناء وتهيأت البيئة المناسبة ففرض الله على الجميع تطبيق الحدود والعقوبات وغيرها من التشريعات للحفاظ على هذا المجتمع. 

2- الحدود والعقوبات والقصاص في الإسلام يحقق معنى الردع عن الجريمة. 

 يذكر الله تعالى  معنيين مهمَّين  أثناء بيانه لحد القتل: ((ذلكَ تخفيفٌ مِنْ ربِّكم ورحمةٌ)) [البقرة178]، ويقول أيضاً: ((ولكم في القِصاصِ حياةٌ يا أولي الألبابِ لعلَّكم تتَّقون)) [البقرة179]. 

فكيف يكون في القصاص من القاتل حياةً؟ وكيف يكون فيه تخفيف من الله على العباد؟ 

الحياة في أحد معانيها المقصودة في هذه الآية تكونُ في الحفاظ على حياة أكبرِ عددٍ ممكنٍ من الناس، وإنَّ إقامة حدِّ القصاص في القتل أو غيره على قاتلٍ واحدٍ سيردع مئات القتلة عن القيام بجرائمهم وبالتالي سيحفظ حياة الناس من أن يشيع فيهم القتل، وكذلك الحال في بقية الحدود، فالمجتمعات الإنسانية بطبيعتها يوجد فيها القاتل والسارق والمجرم والخائن والشهواني، وهذه الأصناف من الناس سيقتلون ويسرقون ويخونون ويجرمون إن لم تكن العقوبات رادعةً لهم، فقسوة العقوبة متناسبةٌ مع قسوة أثر الجريمة في المجتمع، وقد أثبتت الوقائع وأحوال المجتمعات اليوم حاجتها إلى عقوبات رادعة لإيقاف مسلسل القتل والظلم والتسلط المستمر فيها.   

3- الحدود والقصاص في الإسلام  ليست مطلباً بل إن الإسلام يدعو ويشجع ألّا تطبق 

ويأتي هذا المفهوم استكمالاً للمفهوم السابق حيث إنَّ وجود الحدود والعقوبات بحدِّ ذاته كافٍ لتحقيق الردع عن ارتكاب الجريمة وبالتالي انقاذ الأرواح والأموال والأعراض بشكل أكبر، وإذا كان وجود التشريع وحده كافياً للردع فإن الإسلام يميل إلى عدم تطبيق الحد والعقوبة قدر الإمكان، فعمل بذلك على جعل العقوبة في ظاهرها قاسية لكنها في شروط القيام بها صعبة، وجعل تطبيق العقوبة متوقفاً على قرار من أولياء المجني عليه أو من المجني عليه نفسه، بأن يعفوا عن المجرم حتى لا يُطبق عليه حدٌّ، وشجَّعهم على العفو فقال لهم: ((وأنْ تعفوا أقربُ للتقوى)) [البقرة237]، أو أن يقبلوا بالعوض المادي في مقابل العفو عن المجرم، إلى غير ذلك من الأساليب والشروط التي تجعل تطبيق الحد غير مطلوب بذاته بل بمظهره الرادع فقط. 

ثالثاً: تساؤلات: 

1-تشريعات العقوبات في الإسلام تخالف شرعة حقوق الإنسان العالمية. 

2-منظومة العقوبات الحديثة أكثر إنسانية وتحقيقاً للعدالة. 

3-الإسلام دين الرحمة وعقوباته عقوبات قاسية عنيفة تخالف مفهوم الرحمة. 

تُعتبر شرعةُ حقوق الإنسان النصَّ التشريعي المفروض من هيئة الأمم المتحدة _الــسيئة الصيت_على البشرية، كما تُعتبر الدولُ الليبرالية الاحتلالية الراعيَ الأبرز لهذه الوثيقة التشريعية، والمُعدَّ لبنودها وصياغتها، حيث استخدمتها كغطاء للهيمنة والمصادرة الإقصائية الفكرية والعقائدية. 

وليس المقال بصدد تقييم دور الأمم المتحدة وميثاقها، وشرعة حقوق الإنسان المنبثقة عنها، وما يمارس من ظلم وهيمنة بذريعتها، بل في الرد على من يرون في تشريعات الحدود والقصاص في الإسلام مخالفة لهذه الوثيقة، وتأتي هذه المخالفة في أن وثيقة حقوق الإنسان قد قررت مبدأ (أنّ لكل فرد الحق في الحياة حراً كريماً)،  لكن الإسلام يسلب حق الحياة من إنسان في تطبيقه لعقوبة القصاص. 

والسؤال المطروح: هل يوجد تشريع عقوبات في دولة من دول العالم موافق لهذا المبدأ؟ 

الوهم المفترض في الأذهان أن العقوبات في الدول الليبرالية الغربية موافقة لهذا المبدأ الذي يخالفه التشريع الإسلامي حين يسلب حق الحياة من إنسان في عقوبة القصاص منه إذا قتل، لكن من يعيش في هذا الوهم يأخذ شطراً من المبدأ ويترك الآخر، فلكل فرد الحق في الحياة حراً كريماً، ومنظومة العقوبات في الدول الليبرالية تترك القاتل حياً لكن ليس حراً كريماً بل تفرض عليه سلب حريته في أكثر سنوات عمره، وهذا مخالفٌ لمبدأ حقوق الإنسان الأساسي مثله مثل مخالفة تشريع القصاص له، مع اختلافهما في الشكل والغاية. 

بل إن التشريع الإسلامي أكثر قرباً لهذا المبدأ من التطبيق الليبرالي له، فالقصاص يحقق معنى حق الحياة والحفاظ عليها من خلال ردع المجرمين عن الاستمرار في سلب هذا الحق من الناس، بينما أثبتت المنظومة الليبرالية  فشلها في ردع الجريمة والحفاظ على الحياة الآمنة المستقرة للمجتمع. 

وهذا يدعونا لنقاش التساؤل القائل بأن منظومة العقوبات الحديثة أكثر إنسانية وتحقيقاً للعدالة. 

تنتشر في أمريكا العديد من جرائم إطلاق النار التي يقضي فيها عشرات الأشخاص يومياً، وتحدث مثل هذه الجرائم أحياناً في أوربا، فقد يقتل إنسان واحد من المتأثرين بأفلام التحريض على العنف الكثير من الأشخاص في دقائق، فماذا يحدث له حين تقبض عليه الشرطة، وما العقوبة التي ينالها وفق منظومة العقوبات الحديثة التي ترتضيها منظمة العفو الدولية وميثاق حقوق الإنسان . . . إلخ. 

العقوبة هي السجن، وكلما كانت الجريمة أكبر وأشنع زادت سنوات السجن، على تباين في عددها بين الدول، وهذا يعني أن القاتل المجرم سوف يجلس في زنزانة فيها كل المقومات التي يحتاجها للراحة، وسوف يكون له الحق في االقيام بالنشاطات الرياضية والترفيهية داخل سجنه، وله إن شاء أن يتدارك ما فاته من تعليم فيحصل على الشهادات الجامعية، وكل هذا على حساب دافعي الضرائب، ومنهم أمُّ أو ابنةُ أو زوجةُ أو أبُ المقتول، وإذا كان القاتل سجيناً جيداً فسوف يخرج من السجن بعدد سنوات أقل نظراً لحسن سلوكه، فهل هذه العقوبة متناسبة مع فعل المجرم، ومع حق المقتول وأهله؟ 

وأما السارق فعقوبة السجن لا تخلو من ظلم له ولعائلته وللمجتمع أيضاً، فالسارق سوف يؤخذ من عائلته لسنوات ويُبعد عنهم وكأنَّ أولاده بلا أب وزوجته بلا زوج وأمه بلا ابن، وذهابه إلى السجن يعني تدمير كل ما بناه في حياته العملية، وسيخرج منه عالة على المجتمع وعلى أهله، لا يستطيع أن يعمل عملاً جيداً، ولا يرضى أغلب أصحاب الأموال توظيفه خوفاً من سابقته الإجرامية، وسيضطر إلى الجريمة من جديد لتحقيق ذاته ورفاهية حياته. 

ثم إنّ الإنسان بحقيقته هو بنيةٌ فيزيولوجية عُمْرية يعني أنه جسد مادي في وقت زمني-  وقطع شيء من  بنيته الفيزيولوجية – كقطع يده- ليس أمراً أسوأ من قطع شيء من البُنية العمرية بسجنه لعدة سنوات.  

ربما يقول قائل بأنّ قتلنا للقاتل هو  إزهاقٌ لروح أخرى إضافة للروح التي  أزهقها، وبالتالي نكون قد زدنا في  الدماء المسفوكة.  

لم يدرِك صاحب هذا القول أن القصاص من القاتل بعقوبة رادعة سيؤدي إلى الحفاظ على أرواح عشرات الناس الآخرين وذلك عندما نردع غيره عن التفكير بالقتل، فقد أثبتت عقوبة السجن بأنها لم تستطع أن تشكل رادعاً للمجرمين عن الجرائم. 

من ناحية أخرى فإن فكرة السجون بحد ذاتها فكرة خطيرة على المجتمع، فالسجن مركز تجميع للمجرمين، على اختلاف جرائمهم، واجتماع هؤلاء المجرمين سوف يسهم في تبادل الخبرات الإجرامية وتلاقي العقليات العنيفة، وسوف يحول السجن إلى مركز لتجنيدهم وتعليمهم، ولو كان السجن يقوم بدوره الموهوم في التهذيب والردع لرأينا الخارجين من السجن أبعد الناس عن ارتكاب الجرائم والجنايات، بينما نرى عكس ذلك تماماً فأغلب الخارجين من السجون يعودون إليها بجرائم جديدة أكبر وأخطر، وقد تعلموا حروفها الأولى في لقائهم مع المجرمين الآخرين في السجن. 

وعليه فإن منظومة العقوبات الحديثة تسهم في زيادة الجريمة في المجتمع، وتعزز فكرة المجتمع غير الآمن، بينما يُشكل تشريع الحدود والعقوبات في الإسلام نظاماً رادعاً للمجرمين ومانعاً للجريمة، وحامياً لاستقرار المجتمع وأمانه، والواقع والتاريخ شاهد عدل على هذا. 

ومما سبق نستطيع أن ندرك أنَّ القسوة المنضبطة في حقيقتها رحمةٌ للفرد والمجتمع، وأنَّ على الإنسانية الوثوق بهذا التشريع العظيم إما عبوديةً لخالق الإنسان، وإما تحقيقاً للمصلحة، أو لكليهما معاً. 

موت الأطفال

موت الأطفال حكمة واختبار -مربع-

موت الأطفال

Loading

يطرح بعضهم هذا السؤال ويعدّه إشكالاً.
فإن كان السائل مؤمناً بالله تعالى، فالجواب:

 إنّ من معاني العبوديّة لله أن نثبت له جميع صفات الكمال، وأنَّه تعالى لم يفعل شيئاً عبثاً، وقد تغيب عنّا الحكمة لكنّ عَجْزَنا عن إدراكها لا يعني عدم وجودها، فمن القواعد المنطقيّة: (إنّ عدم الوجدان لا يلزم منه عدم الوجود).
وليس من نهج المسلم عدم التسليم لقضاء الله إلّا أن يتبيّن الدّليل، فالله تعالى خالق الأكوان، ويتصرّف في ملكه ما يشاء، ولا يسأله أحدٌ عن أفعاله، قال تعالى: ((لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)) [الأنبياء: 23]
بل إنَّ هذا القانون قائمٌ عند قادة البشر وسلاطينهم، فهل يحقّ لرجلٍ من الرعايا أن يسأل مَلِكاً عن تصرّفاته؟
وإذا أصدر قائد جيشٍ أمراً عسكريّاً، فهل يحقّ لجنديٍّ من جنوده أن يسأله عن الغاية والحكمة؟
فإذا كان نظام البشر قد اتّفق على قبح مثل هذا السؤال للسلاطين والأمراء والقوّاد، وأنّ السائل يستحقّ بذلك العقوبة؛ لأنّه يخلُّ بمقام ذوي المناصب والجاه، وهم بشر لم يمتازوا عن الناس بشيءٍ من حيث الجوهر والذات والقدرة، فلم يخلقوا رعاياهم، ولا يستطيعون أن يردّوا الضرّ عن أنفسهم، ولا أن يجلبوا لها النفع، فكيف يصدر مثل هذا السؤال من المخلوق الضعيف إلى خالق السموات والأرض الملك العظيم الذي تخضع له رقاب الجبابرة، وتخشاه الملائكة المقربون!
ومع هذا فإنَّ نصوص الشريعة وقواعدها تبيّن لنا وجهاً من الحكمة في موت الطفل قبل التكليف، وذلك من جهتين، جهة آباء الأطفال، وجهة الأطفال أنفسهم.
أمّا آباء الأطفال: فموت أولادهم نوعٌ من أنواع الاختبار على البلاء في هذه الدنيا، لإظهار حقائق إيمانهم، ودرجة الصبر والرضا والإيمان بقضاء الله وقدره لديهم، قال تعالى: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)) [البقرة: 155 – 157]
ومن معاني الابتلاء بالثمرات: (موت الأولاد؛ لأنَّ ولد الرجل ثمرة قلبه) [الكشف والبيان عن تفسير القرآن للثعالبي: (2/ 22)]
فإذا صبروا واحتسبوا نالوا أرفع الدرجات وأعظم الرحمات وكانوا من المهتدين، وبنى الله لهم قصوراً في الجنان كما جاء عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسمّوه بيت الحمد)) [الترمذي وأحمد، واللفظ للترمذي].
وإذا لم يصبروا فيكون قد مرّ عليهم نوعٌ من أنواع الاختبار والابتلاء الذي خُلِقَت الدنيا لأجله، قال تعالى: ((الذِيْ خَلَقَ الموتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُم أَحْسَنُ عَمَلَاً)) [الملك: 2]
وقد فاتهم فضل الصبر، وظهرت حقائقهم.
أمَّا من جهة الطفل: فإنّ الله إذا برأ نسمةً وجعل فيها الحياة فإنّ روحه لا تموت أبداً، بل يبعث الله هذا الطفل يوم القيامة، ويدخل الجنّة دون حساب؛ لأنَّه مات قبل سنّ التكليف، فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: ((أنّه عليه الصلاة والسلام رأى مع إبراهيم عليه السلام أولادَ المسلمين وأولاد المشركين)) [أخرجه البخاري] أي رآهم في الجنة.
وفي كلتا الجهتين فإنّ موت الطفل قبل سنّ التكليف يكون لصالحه وصالح أبويه إذا صبروا.
أمّا إذا كان المعترض غير مؤمنٍ بالله تعالى، ونسب تصاريف الكون إلى الطبيعة، فنقول له: إنّ هذه جزئيّة صغيرةٌ لا تصلح موضعاً للنقاش مع إنكار الكلّيّات الكبرى، وهي الإيمان بالله تعالى، وإنَّ إنكار وجود خالقٍ للكون، وإدخال النفس في دوّامة الصُّدَف والعبثيّة ليس أمراً منطقيّاً، ولا تزول هذه الأسئلة والإشكالات إلّا بالإيمان بخالقٍ عظيمٍ بيده تصاريف الأكوان، وأنَّه يسيِّرُها بمنتهى الحكمة.

 مسير أم مخير؟

مسير ام مخير -مربع-
مسير ام مخير -مستطيل-

كثيراً ما يُطرَح سؤال: ( هل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر) على الأفعال الاختياريّة، ويتحوَّل السؤال إلى إشكال، ثمّ يأخذ حيّزاً من النقاشات

بداية لعلّ القارئ الكريم يُفاجَأ إذا قلنا له: إنّ هذا السؤال مجرّد وهم، وليس من طرح الإسلام في شيء، وإنّما دخل إلى تراثنا الإسلامي من اتجاه الرواقيّين في الفلسفة اليونانيّة، عندما تُرجِمَت كتبهم إلى اللغة العربيّة ودخلت إلى العلوم الإسلاميّة.
فقد عُرِضت النظريّة الجبريّة التي تقول إنّ الإنسان مسيَّر لا خيار له، وهو مجبر في جميع سلوكه وأفعاله، ولا يملك فعلاً بإرادته، ومَثله كالريشة في مهبّ الريح، وبعد أن انتشرت هذه الفلسفة اليونانيّة، وأقحمت في مسألة القضاء والقدر، وأُلبِسَت ثوب الإسلام الذي هو منها براء، انبرت في وجهها فرقة أخرى بردّة فعل عكسيّة، وهي القدريّة، فأنكرت القضاء والقدر من أصله.

إنّ ظهور القدرية-بغضّ النظر عن خطئها- سلوك طبيعيّ يشير إلى أنّ الجبر فكرة دخيلة إلى الإسلام لا عهد له بها.

وقد استساغ بعضهم النظريّة الجبريّة، وتوهّموا بأنّ الإنسان مسيَّر في جميع أفعاله، وأخذوا يبرّرون المعاصي بأنّها من تقدير الله، ويحتجّون لفشلهم وتقصيرهم بأنّ الله قد كتب عليهم الإخفاق ولا يريد لهم النجاح.

والأمر ليس كذلك، والقضاء والقدر ليس بهذا المسلك البتّة.

وينبغي في دراسة مثل هذا الموضوع ألّا نغفل المسلّمات الآتية:

– إنّ الله خلق قانون السببيّة، وهو قانون ثابت.

– إنّ عِلمَ الله تعالى كاملٌ، ومشيئته نافذة.

– إنّ الله خصّ الإنسان بالعقل والاختيار.

فمن خلال قانون السببيّة ربط الله تعالى المسبَّبات بالأسباب، فجعل التعلّم سبباً للعلم، وجعل السعي سبباً للكسب، وجعل إصابة الـمَقتل سبباً للموت، وهكذا.

فمن اختار طريق العلم والتعلُّم وأخذ بالأسباب وجدّ واجتهد، وقرأ ودرس وبحث يصبح عالماً، ومن اختار طريق الصنائع وأخذ بأسبابها فتعلّم حرفة ما، وكدّ وكدح، وبذل جهده وأتقن عمله سيكون ماهراً في حرفته هذه.

ومن قصد طاعة الله تعالى وأخذ بأسبابها يسّر له سبيلها.

وثمّة رجل آخر لم يتعلّم ولم يبذل وقتاً ولا جهداً، ولم يأخذ بأسباب التفوّق، وباء بالإخفاق، فقال: إنّ الله أراد لي هذا الحال، وأراد لزيد أن يكون عالماً وأراد لعمرٍ أن يكون محترفاً ماهراً.

ورجل آخر يسلك سبل المعاصي ويخطّط لها ويتّخذ أسبابها ويقول: إنّ الله اختار لي المعصية ولا يريد لي أن أكون من الطائعين.

والجواب: نعم عَلِم الله ذلك، وأراد الله لزيد أن يكون عالماً لأنّه يعلم أنّه سيختار طريق العلم، فقدّر له ذلك وأراده له، وأراد لعمرٍ أن يكون محترفاً ماهراً، وأراد للطائع أن يكون طائعاً، وأراد لهذا العاطل أن يكون مخفقاً، وأراد للعاصي أن يكون عاصياً، وقدّر الله تعالى ذلك قبل أن يخلق الخلائق.

فعِلم الله تعالى يتّصف بالكمال، يعلم كلّ ما كان وما يكون وما لم يكن، وعلم منذ الأزل أنّ زيداً سيختار طريق العلم ويجدّ ويجتهد، فأراد الله له ذلك وقدّره له، وقد أراد له هذا الطريق قبل أن يريده زيد، وعَلم منذ الأزل أنّ عمراً يريد أن يكون صانعاً ماهراً، ويسلك هذا الطريق ويكدّ ويكدح فيه، فقدّر له وشاء له ذلك قبل أن يشاء عمرو، وعلم أنّ المطيع سيختار الطاعة فقدّرها له وشاء له ذلك.

وعلم منذ الأزل أنّ رجلاً سيختار الكسل والتقاعس فكتب عليه الإخفاق، وعلم أنّ الآخر سيختار المعصية فقدّر له المعصية وأرادها له.

هذا الأمر لا خلاف فيه، لكنّ الخلل في التفكير يأتي من إعطاء بعض صفات الله تأثيراً غير متعلّق بها، فيظنّ الظانّ أنّ علم الله تعالى له تأثير على أفعال العباد وتصرّفاتهم، فيسلب عنهم الاختيار، وهذا الربط غير صحيح وليس منطقيّاً.

بمعنى: أنّه لا تعلّق بين علم الله وتقاعسي وكسلي، ولا علاقة بين علم الله تعالى ومعصيتي له، فالعلم صفة كاشفة وليست مؤثّرة، وعِلمُ الله تعالى لا يؤثّر على أفعال المكلّفين.

ومثال ذلك-ولله المثل، الأعلى مع الفارق بين علم الله وعلم البشر- لو أراد أستاذ اختبار طلاّبه، وهو يعلم قبل أن يختبرهم أنّ زيداً سيتفوّق، وعمراً سينجح، وبكراً سيرسب، بناء على معرفته وخبرته باجتهادهم وتحصيلهم العلمي، وقد أمرهم بالدراسة والاجتهاد، ومع هذا فقد أراد لمن توقّع له التفوّق أن يتفوّق، وأراد لمن توقّع نجاحه أن ينجح، وأراد لمن توقّع رسوبه أن يرسب.

 فالأستاذ لم يأمر الكسول بالكسل، بل أمره بالاجتهاد، لكنّ بكراً اختار الكسل بإرادته، وقد علم الأستاذ أنّه سيرسب، وأراد له ذلك؛ لإظهار جهد واجتهاد كلّ واحد من هؤلاء.

فهل عِلمُ الأستاذ بأنّ بكراً سيرسب وإرادته له الرسوب أثّرَ في رسوبه؟!

 لا، فلا تأثير لعلم الأستاذ وإرادته برسوب هذا ونجاح ذاك، لأنّ العلم صفة كاشفة وليست مؤثّرة.   

وكذلك أراد الله تعالى للمطيع أن يكون مطيعاً وللعاصي أن يكون عاصياً؛ لأنّه علم منذ الأزل أنّ كلّ واحد منهما سيختار هذا الطريق، ويستحيل أن يقع شيء في الكون دون مشيئة الله تعالى وإرادته، ولو وقع شيء في الكون دون إرادة الله تعالى لكان مقهوراً، ويستحيل ذلك في حقّ الله تعالى.

فإن قال قائل: إنّ الإنسان يفعل المعاصي أو يقع في الفشل بسبب ما قدّره الله له، فأين اختيار العبد؟

فالجواب: لو اختلفت إرادة الله مع إرادة العبد في الأمور التي خيّره الله فيها لكان الإنسان مسيَّراً ومجبراً لا مُخَيّراً،  و يظهر هنا تناقضٌ واضح، فكيف تطلبون أن يخالف اختيار الله للعبد ما يختاره العبد لنفسه؟ وهل تريدون أن يختار المكلّف شيئاً ويتوجّه إليه بكلّيّته ثمّ يسيّره الله إلى شيء آخر؟ فهذا هو عين الإجبار!

فالتخيير هو أن يكتب الله تعالى للإنسان ما يختاره من أفعال، ولا يختلف اختياره عن مشيئة الله وإرادته فيما خيّره الله فيه، والإجبار أن يريد الإنسان شيئاً ويكتب الله له غير ما يريد ويختار.

إنّ مسألة الإجبار والتسيير المطلق لم يكن لها وجود في عصر النبوّة والصدر الأوّل، عهد الصفاء الفكري وسلامة المعتقَد، وهذا ما قرّره سيّدنا عليّ t عندما سأله الشيخ الشامي عن مسيره إلى الشام، أكان بقضاء من الله وقدره؟ وكان يظنّ أنّ الإنسان مسيّر، فقال له الإمام عليّ t (لعلك ظننت قضاءً لازماً، وقدراً حتماً، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والأمر والنهي من الله، ولما كانت تأتي من الله مَحْمَدة لمحسن ولا مَذمَّة لمسيء، ولما كان المحسن بثواب الإحسان أولى من المسيء، والمسيء بعقوبة الذنب أولى من المحسن، تلك مقالة عبَدَة الأوثان وجنود الشيطان وخصماء الرحمن، إن الله أمر تخييراً، ونهى تحذيراً)[2].

فإن قال قائل: كثيراً ما يختار الإنسان شيئاً ويكتب الله له غير ما يريد.

فالجواب: نعم هذا واقع لا محالة، وإليك بعض التفصيل:

أ- إن وقع ذلك في الأمور التكليفيّة، أي الأحكام التي يحاسب الله عليها عباده: فإنّ الله تعالى لا يؤاخذ على الأمور التكليفيّة إلاّ ما كان باختيار المكلّف وإرادته.

  ومثال ذلك: أن يقود سيّارته وفجأة ودون قصد يدهس رجلاً فيرديه قتيلاً، فقد كتب الله أجل ذلك الرجل على يدي هذا السائق، وهو لا يريد دهسه ولا قتله.

ففي هذه الحالة يجري قانون السببيّة الذي جعله الله في الكون، بأنّ مَن دهسته سيّارة غالباً يلقى حتفه.

فإن كان المدهوس قد ألقى بنفسه أمام السيّارة لينتحر، فقد اتّخذ سبب الانتحار باختياره، فيؤاخذه الله على فعلته هذه، وإن كان غافلاً شارداً لا يؤاخذه الله على شروده.

وأمّا السائق: فإن لم يصدر منه تقصير فلا يؤاخذه الله بالدهس والقتل؛ لعدم التقصير وعدم اختيار الدهس.

أمّا إذا كان مقصّراً: بانشغاله عن الطريق، فإنّ الله يؤاخذه على تقصيره لا على موت المدهوس.

أمّا وجوب الكفارة والدية فهذا أمر تعبّديّ إظهاراً لحرمة الإنسان عند الله، وليكون ذلك مدعاة لعدم التساهل والتقصير في ما يؤدّي إلى إزهاق النفوس.

وكذلك لو أكل أو شرب في رمضان ناسياً فإنّه لا يفطر، ويبقى صيامه صحيحاً؛ لأنّه أكل أو شرب دون قصد ولا اختيار.

وهكذا ففي الأمور التي يترتّب عليها ثواب وعقاب لا يؤاخذ الله إنساناً على فعل دون اختيار وقصد، بل يعامل الله عباده في هذه الأمور بالفضل والامتنان لا بالعدل فحسب.

ب- أمّا إذا خالف اختيار الإنسان ما قُدّر له بأمور المعاش والدنيا: مثل أن يجدّ ويجتهد في الدراسة ولم يكتب له التوفيق والنجاح، ففي هذه الحالة تجري الأمور بقدر الله وتنفذ مشيئته، ولكنّ المطلوب من المكلّف أن يأخذ بالأسباب، وأمّا تحقيق النتائج فليست عليه، وإنّما على الله تعالى، وهذا أمر مسلّم به.

ومن المعروف عن المبدعين والمشاهير أنّهم فشلوا مئات المرّات ثمّ حقّقوا إنجازاتهم بعد الصبر والمثابرة، مثل أديسون وآينشتاين، وهنري فورد، وغيرهم كثير، فكانت سنّة الله في الكون أنّه لا يُنال المراد دون جهد وبذل وتعب، ولكن إذا أخفق في المرة الأولى والثانية والثالثة فليست هناك قوّة تمنعه من إعادة المحاولة، والصبر والمتابعة حتّى يصل إلى مقصوده.

ونجد هذه الصورة-وإن لم يتحقّق المقصود إلاّ بعد محاولات عديدة- أنها بمجملها تمثّل قانون الأسباب والمسبّبات في الكون.

 أمّا إذا أخذ بأسباب النجاح ولم يُكتَب له التوفيق فلا يُلام، وهنا يأتي اختيار الله للعبد، فقد يصرف الله عنه شيئاً يظنّه خيراً وهو شرّ له، وقد يحجب عنه الخير تكفيراً لذنوب استحقّ بها عقوبة الله.

 وهنا تظهر عبوديّة الإنسان وربوبيّة الله تعالى، فالقدر والمستقبل بيد الله تعالى وليس بيد الإنسان، لذلك كان من لوازم الإيمان (التوكّل على الله) أي أن يأخذ الإنسان بالأسباب ويعتمد على الله في تحصيل النتائج، فيدرس الطالب ويجدّ ويجتهد، ثمّ يتبرّأ من حوله وقوّته ويلجأ إلى حول الله وقوّته ويطلب منه الفتح والتوفيق، ويغرس الفلاح البذر ويطلب من الله أن ينبت الحقل، ويأخذ المريض العلاج ويطلب من الله الشفاء؛ لأنّ الفاعل الحقيقي في الكون هو الله تعالى، وهنا موضع الدعاء الذي حثّت عليه الشريعة، وأنّه ينفع وله تأثير وأنّه سبب التوفيق.

ففي هذه الجزئيّة قد يختار الله للإنسان غير ما يختاره لنفسه، ومن ثمّ يكون مسيّراً، ولكن لا مؤاخذة عليه.

فإن قيل: إذا بذل أحدهم جهده فكُتب له النجاح في الدنيا، وبذل الآخر جهده فلم يتحقّق له ما يريد ألا يتنافى هذا مع عدل الله تعالى؟

فالجواب: إن كان السائل مسلماً سيدرك أنّ من مسلّمات الإيمان أنّ الحياة لا تقتصر على الدنيا فحسب، وإنّما هناك آخرة، والله تعالى يجزي ويعوّض من رضي بما كتبه الله له أضعافاً كثيرة لا تقارَن بما فاته من حظّ الدنيا، بل أعظم مما يناله أعظم الملوك.

أمّا إذا كان المعترض غير مؤمن بالله فليَلُم الطبيعة على تصرّفها هذا!

والخلاصة:

إنّ توهُّم الإجبار وتسيير الله للإنسان في الأفعال الاختياريّة أمر ينكره العقل والواقع، فهل سمع أحد أنّ رجلاً اختار أن يذهب إلى المسجد فساقته قدمه إلى الخمّارة دون إرادة منه؟!

وهل سمع أحد بأنّ مجرماً ذهب إلى بيت فسرق المتاع وقتل الأولاد ولم يقدّم المجني عليه أيّ شكوى بل عذره؛ لأنّ ذلك المجرم كان مسيّراً لا اختيار له، وقد فعل جريمته دون إرادته؟!

 

[1] انظر مسألة القضاء والقدر: (101) عبد الحليم قنبس.

[2] نهج البلاغة: (4/17).

تحت المجهر

تحت المجهر -مربع-
تحت المجهر -مستطيل-

يقول مونتسيكيو (وهو قاضٍ وأديبٌ وفيلسوفٌ سياسيٌّ فرنسيّ): (في العقل ثقبٌ لا يملؤه إلا الله).
[مقال بعنوان: في الفلسفة والدين، جريدة الأنباء].

ربَّما تفسِّر لنا هذه العبارة سرَّ انشغال البشر بالأسئلة الوجوديَّة الكبرى، كالغاية من الوجود والمصير، حتَّى إنَّ الملحدين انشغلوا بقضيّة وجود الإله، ولو كانت الحياة عدميَّةً لا معنى لها كما يعتقدون فلماذا يناقش كثيرٌ منهم المؤمنين محاولين صدَّهم عن إيمانهم؟ مبتعدين عن الحياة المادية بأسئلةٍ فلسفيَّةٍ وجوديَّة؟

كتب الأديب الإنكليزي ولسون: (في الساعة الثالثة فجراً أنهيت كتابة مقالةٍ أنكرتُ فيها وجود الله، وحين ذهبت لأنام، لم أستطع أن أطفئ النور خوفاً ممَّا سيفعله الله بي). [مقال بعنوان: في الفلسفة والدين، جريدة الأنباء].
وهذا ما يصيب كلَّ البشر في حالات الضعف وعند مواجهة الموت، فكبير الملحدين مثلاً وهو: الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر حين حضره الموت طلب القسِّيس, وراح يبكي بين يديه. [إنك على الحق المبين، محسن العواجي، ص64 – 65].
والأمثلة على ذلك عديدةٌ، فالإنسان يلجأ إلى الله بفطرته، وقد تتشوَّه هذه الفطرة أحياناً، فيصحِّحها الدَّليل العقليُّ الذي يثبّت فيها وجود الله. والأدلَّة العقليَّة على وجود الله كثيرةٌ نذكر منها دليل الخلق.
دليل الخلق:
وخلاصته: أنَّ هذا الخلق بكلِّ ما فيه شاهدٌ على وجود خالقه العليِّ القدير، فإنَّ وجودنا حقيقةٌ لا ننكرها، وكذلك وجود السَّموات والأرض، وقد تقرَّر في العقول بداهةً أنَّ الحادث لا بدَّ من سببٍ لوجوده، وهذا يدركه راعي إبلٍ، فيقول: البعرة تدلُّ على البعير، والأثر يدلُّ على المسير، فسماءٌ ذات أبراجٍ، وأرضٌ ذات فجاجٍ، أفلا يدلُّ ذلك على العليم الخبير!
وهذا ما يدركه أيُّ عالمٍ من العلماء التجريبيّين عند رصده لأيِّ أثرٍ في مختبره العلميِّ، فيبحث جاهداً عن السَّبب المؤدِّي إلى هذا الحادث!
لذلك لا عجب أن يدرك هذه الحقيقة كبار العلماء الباحثين في الحياة والأحياء،
يقول لينيه (عالم فيزيولوجي فرنسي) كما نقل عنه كاميل فلامريون الفرنسي في كتابه المسمَّى [الله والطبيعة]:
إنَّ الله الأزليَّ الأبديَّ العالم بكلِّ شيءٍ، والمقتدر على كلِّ شيءٍ قد تجلَّى لي ببدائع صنعه، حتَّى صرت مندهشاً مبهوتاً، فأيُّ قدرةٍ وأيُّ حكمةٍ، وأيُّ إبداعٍ أبدعه في مصنوعاته؟ سواءً في ذلك أصغر الأشياء وأكبرها! إنَّ المنافع التي نستمدُّها من هذه الكائنات، تشهد بعظمة رحمة الله الذي سخَّرها لنا، كما أنَّ كمالها وتناسقها ينبئ بواسع حكمته، وكذلك حفظها من التلاشي وتجدُّدها، يقرُّ بجلالته وعظمته.

كما يقول إسحاق نيوتن العالم الإنكليزي الشهير, ومكتشف قانون الجاذبية: لا تشكُّوا في الخالق، فإنَّ مما لا يعقل أن تكون المصادفات وحدها هي قائدة هذا الوجود. [العقائد، الشيخ أحمد أبو العز البيانوني، ص35]

وقد تعرَّض بعض الزَّنادقة المنكرين للخالق للإمام أبي حنيفة، فقال لهم:
ما تقولون في رجلٍ يقولُ لكم: رأيتُ سفينةً مشحونةً بالأحمالِ، مملوءةً من الأنفال، قد احتوشتها في لُجَّةِ البحرِ أمواجٌ متلاطمة، ورياحٌ مختلفة، وهي مِنْ بينها تجري مستويةً، ليس لها ملَّاحٌ يُجريها، ولا متعهِّدٌ يدفعُها، هل يجوزُ ذلك في العقل؟ قالوا: هـذا شيءٌ لا يقبلُه العقلُ, فقال أبو حنيفة: يا سبحان الله ! إذا لم يجزْ في العقلِ سفينةٌ تجري في البحرِ مستوية من غيرِ متعهِّدٍ ولا مُجْرٍ، فكيف يجوزُ قيامُ هـذه الدنيا على اختلافِ أحوالها، وتغيُّرِ أعمالها، وسَعَةِ أطرافها، وتباين أكنافها، من غير صانعٍ ولا حافظٍ! فقالوا: صدقتَ وتابوا. [مع الله، حسن أيوب، ص68].

هذا القانون الذي سلّمت به العقول، وانقادت له، هو الذي تشير إليه الآية الكريمة: ((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ)) [الطور:35]. وأهاب القرآن الكريم بالعقل أن يستيقظ من سباته، ليتفكَّر في ملكوت السموات والأرض، وما أودع فيها من الآيات، ليرى هذا الإنسان ويسمع في آفاق الكون ما يقوده إلى الإيمان بخالقه سبحانه وتعالى، ويعلم أنَّ هذا الكون من صنع الله الخالق المدبِّر.
هذا ولوجود الله سبحانه أدلَّةٌ عقليَّةٌ أخرى غير دليل الخلق، كدليل الإتقان والنَّظم، ودليل العناية، ودليل التوافقيَّة (بين المخلوقات)، وغيرها من أدلَّة نرجئ شرحها إلى مقالٍ آخر بإذن الله تعالى.

العقول والشرائع…. تتفق أم تختلف؟!

عقول و شرائح
عقول و شرائح

الإسلام يلغي العقل، ويخضعه للنُّصوص الدِّينيَّة الواردة في القرآن والسُّنَّة التي تُخالف هذا العقل بأحكامها وأوامرها ونواهيها… 

هذه دعوةٌ بعيدةٌ كلَّ البعد عن الحقِّ والواقع، ولا تمسُّه أدنى مساسٍ, فلم يلغِ الإسلام العقل؛ وإنَّما أمر بإعماله. وكيف يلغيه وهو مناط التكليف في الشريعة الإسلامية! وحِفظُهُ ضرورةٌ لا غنى عنها؛ بل إنَّ الحفاظ عليه مقصدٌ من مقاصد الشريعة قائمٌ بذاته، فحرَّمت كلَّ ما من شأنه إفساد العقل، وإدخال الخلل عليه؛ كالخمور والمخدِّرات وما شابهها.
 وانتقدت السلوكيَّات المؤدِّية إلى تعطيل وظائف العقل، أو التشويش عليه، كاتِّباع الهوى، والتَّقليد الأعمى، والجدال والعناد والمكابرة، مما يتنافى مع التفكير العلميِّ, فالإسلام يحرِّر العقل من قيوده، ويحثُّ المسلم على إعماله.
 ولقد وصف القرآن المعطِّلين لعقولهم بالأنعام بل هم أضلّ، ولو كان الإسلام بكلِّ تعاليمه ضعيفاً، أو مهزوزاً، أو ضعيف الثقة بنفسه؛ لتهرَّب من العقل –كما صنعت عقائد أخرى- ولرفض التفكير، ولكنَّه يحترم العقل ويقدِّره, ويطلب منه أن يقوم بدوره.
ومن أروع ما يُؤثِّر في هذا الباب حادثة كسوف الشمس في زمن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم مات ولده إبراهيم، وظنَّ الناس أنَّها كُسفت لأجله، فأنكر رسول الله ذلك عليهم حتَّى لا يقع الناس في رقِّ الخرافات والأوهام.
 ولتحقيق هذا المعنى أيضاً؛ حرّمت الشريعة تصديق العرافة, والكهانة, والتَّنجيم, والأبراج, وقراءة الفنجان, ونحوها من العادات التي تقيِّد العقول، وتشلّها بالأوهام والخرافات.
وحين كان الأمر على هذا النَّحو, فإنَّ  من غير المنطقيِّ أن يخاطب الإسلام الإنسان بما يتناقض مع عقله أو يصادمه؛ إذ لو أراد الإسلام ذلك لما اشترط العقل في تكليف الإنسان ابتداءً، ولاكتفى بتكليف غير العاقلين أو قليلي الفهم.
 ولمَّا اشترط الإسلام العقل في المكلَّف فإنَّه فرض على نفسه فرضاً ذاتيَّاً احترام ذلك المكلَّف, ومخاطبته خطاباً منطقيَّاً سليماً يتقبَّله العقل ويرتضيه.
وبناء على هذا, لا يمكن أن نجد في الإسلام نصَّاً صحيحاً صريحاً يتناقض مع صحيح العقل أو يتصادم معه؛ لأنَّ العقل هو خلق الله وتكوينه, والنَّصُّ الدِّينيُّ كلام الله وخطابه، ومن المستحيل أن يتناقض خطاب الله مع خلقه، أو أن يتعارض تصرُّفه في الوجود تكويناً مع تصرُّفه فيه تشريعاً.
فإذا ما حصل شيءٌ من ذلك, ووجدنا أنفسنا أمام نصٍّ دينيٍّ يتعارض مع صحيح العقل الثَّابت ثبوتاً صحيحاً، عندها نكون أمام أحد أمرين:
– إمَّا أن يكون النصُّ الدِّينيُّ غير صحيحٍ -وهذا الأمر خاصٌّ بالسُّنَّة النَّبويَّة- وعندها ينتفي التعارض لعدم ثبوت النَّصِّ.
– أو أن يكون النَّصُّ صحيحاً وثابتاً, ولكنَّه غير صريحٍ في دلالته على المعنى الذي فهم منه مصادمته للعقل، فيظهر أنَّه مخالفٌ للعقل, وهو في الحقيقة على خلاف ذلك.
نقول هذا كلَّه بافتراض وجود نصوصٍ دينيَّة تتعارض مع بداهات العقول (كأن يأتي نصٌّ دينيٌّ بقول: إنَّ الكلَّ أصغر من الجزء, أو إنَّ الواحد أكبر من الاثنين, أو إنَّ النَّقيضين متساويان).
أمَّا الاجتهادات العقليَّة التي لا حصر لها فلا تندرج تحت هذا الباب، بل إنَّ الإسلام حرص على هذه الاجتهادات وجعل عليها ثواباً عظيماً (ثواب الاجتهاد في الدِّين) وذلك بعد أن نظّمها وقننّها وفق الصراط المستقيم, وجعل لها ضوابطَ, وأصولاَ, ومقاصدَ كبرى تندرج تحتها، حتى لا تزيغ مع الأهواء والأفكار المضطربة.
ومن أمثلة الاجتهادات العقلية التي ترى بعض العقول السَّقيمة صحَّتها ورفضها الإسلام رفضاً مطلقاً:
(القتل الرحيم– الإجهاض– إبادة المعاقين والمتخلفين عقلياً) وغيرها من التشريعات الليبرالية التي انتشرت في العالم “المتحضِّر”.
وما زالت المجتمعات المحافظةُ في تلك الدول تجاهد لإعادة العقل الضالِّ إلى جادَّة الصواب وإلى صراط الله المستقيم, فطرةَ الله التي فَطَرَ النَّاسَ عليها.

ومن هذا نجد أنَّ العقول متفاوتةٌ في هذه التشريعات، وعليه يكون النَّقل الصريح هو المرشد للعقول التَّائهة, ومن ذلك قالوا: (لا اجتهاد في مورد النص), وكانت عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة: النقل يأتي قبل العقل، بمعنى أنَّه يدلُّه ويهديه, ولا يتركه يضلُّ في بحارٍ لا شواطئ لها؛ فمنَّ الله على البشر بأن أنزل عليهم كتاباً يهديهم:
((الحَمْدُ للهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً)) [الكهف:1].
لذلك فإنَّ الشرائع لا تخالف العقول، بل إنَّها مبينةٌ أصلاً على مخاطبتها, وتكريمها, مع الحرص على ألَّا تشطَّ هذه العقول مع الأهواء الشيطانية نحو أفكارٍ بعيدةٍ عن الأصول الثابتة, والمقاصد الكبرى للدِّين.
ولقد أنزل الله الكتاب ليهدي الناس إلى الطريق القويم المسدَّدِ بالعقل السليم, والحكمة التي جعلها الله منّةً يؤتيها من يشاء من عباده، وبهذا حافظ الدِّين على العقل, ووضعه في مكانته السَّليمة دون إفراطٍ أو تفريط. 

هل يجوزُ دفعُ صدقة الفطرِ أموالاً نقديَّةً؟

زكاة الفطر

سنتناول في هذا المقال موضوعاً يُثار كثيراً في هذه الأيّام، ويقع فيه الخلاف والتشويش على المسلمين، وهو ادّعاء بعضهم عدم صحّة دفع صدقة الفطر من النقود الماليّة

أنّ الواجب في صدقة الفطر أن تكون من غالب قوت البلد فحسب، وأنّ دفع النقود في صدقة الفطر ليس من الشريعة في شيء، وفيه مخالفةٌ صريحةٌ للحديث الذي ورد في تحديدها، وهو ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ((فرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم  زكاةَ الفطر صاعاً من تمرٍ، أو صاعاً من شعيرٍ على العبد والحرِّ، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة)) [متفق عليه].

وفي الحقيقة إنّ الأمر أهون من هذا التَّضييق والتشدّد، وهذا الحديث لا يدلّ على الاقتصار على التَّمر والشعير أو غالب قوت البلد، وليس فيه دلالةٌ على المنع من دفع النقود لا منطوقاً ولا مفهوماً، ولا يحقّ لمن لا يعرف طرق الاستنباط والاستدلال، ولم يقرأ الأدلّة كاملةً، ولم يتصوّر عصر النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم، أن يصدر الفتاوى ويخطِّئ المسلمين.

فإن قالوا: إنّ النقود كانت موجودةً في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم ولم يذكرها، ولو جاز دفع النقود لأرشد إليها، فدلّ ذلك على أنّ الأمر تعبّديٌّ لا يجوز تغييره.

فالجواب: ليست كلُّ تفاصيل أحكام الشريعة تعبّديّةً، وليست كلّها على قانونٍ واحدٍ ثابتٍ، بل تتفاوت ضمن منظومةٍ من الدَّرجات حسب طبيعة الحكم وتعلّقه، فمنها ما هو ثابتٌ، ومنها ما يقبل الاجتهاد والتعليل.

وإنّ صدقة الفطر تجمع بين التعبُّد والتعليل، أي إنّ مقاصدها واضحةٌ، فالمقصد التعبّدي: أن تكون طُهرَةً للصَّائم، والمقصد التعليليُّ: إغناء الفقراء والمساكين، كما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: ((فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم زكاة الفطر طُهْرَةً للصَّائم من اللغو والرَّفث، وطُعْمَةً للمساكين)) [أبو داود وابن ماجه].

وإنّ دفع القيمة يحقّق هذين المقصدين، بل إنّ المال يحقّق إغناء الفقراء, ويسدّ حوائجهم, ويحقِّق مصالحهم اليوم أكثر من الطعام والقوت.

وأمّا عدم ورود دفع صدقة الفطر مالاً في الحديث النبوي؛ فلأنّ النقود الماليّة آنذاك لم تكن متداولةً بكثرة، وهي في أيدي عددٍ قليلٍ من الناس، وكانت الدراهم والدنانير للمعاوضة في السلع الكبيرة كالدّوابّ والدُّور والبساتين، وليست لتبادل الأغراض اليوميّة، أمَّا شراء الحاجيَّات فكانت بالمقايضة، ومبادلة السلع ببعضها، فمن أراد أن يشتري زيتاً مثلاً يأخذ تمراً أو نحوه إلى السوق ويبادله به، فيدفع التمر ويشتري به الزيت، فكان التمر والشعير ونحوهما يقومان مقام القوت ومقام النقود في آنٍ واحدٍ.

وعندما يخاطب النَّبيُّ صلى الله عليه و سلم الناس فإنَّه يذكر لهم ما هو رائجٌ وقريبٌ من متناول الأيدي، ولم يخاطبهم بالأشياء القليلة المحصورة في أيدي الأغنياء. 

وإنّ الخلاف الفقهي الذي يدور بين صحّة دفع القيمة وعدمه مبنيٌّ على طريقة تفكير واجتهاد كلّ فريقٍ من الفريقين، فذهب الجمهور إلى وجوب دفع صدقة الفطر من غالب قوت البلد، وذهب الحنفيّة ومن وافقهم إلى جواز دفع القيمة في صدقة الفطر، وكلا الفريقين من الأئمّة الكبار، ولكلّ منهما حجّته وأدلّته النقليّة والعقليّة المستفيضة.

وهذان الرأيان في الحقيقة هما من باب اختلاف التنوّع وليس التعارض، ووجود أكثر من رأيٍ في المسائل الفرعيّة من طبيعة هذه الشريعة؛ لأنّ أحكامها صالحةٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ وحال، فقد يكون دفع القوت في بعض الأزمنة والظروف هو الأنفع، كما كان في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم وفي أيام القحط والجوع التي مرّت على النَّاس عبر العصور، وفي بعض الأوقات يكون دفع القيمة هو الأوفق, والأنفع, والأقرب إلى تحقيق المصلحة والمقصد، كما في عصرنا.

فإنّ الحاجيّات آنذاك كانت محصورةً في الطعام والكساء، ومن كان لديه فائض قوتٍ يستطيع شراء الثياب به، فيحقِّق به جميع متطلّباته.

أمّا اليوم فقد كثرت الحاجيّات، وتعقّدت الحياة، وأصبحت النقود هي التي تحقّق مقصد الإغناء للفقراء الذي ذُكر في الحديث: ((أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ)) [نصب الراية (2/ 432) أَخْرَجَهُ الدَّارَ قُطْنِيُّ: عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم زَكَاةَ الْفِطْرِ، وَقَالَ: ((أَغْنُوهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ))، والبيهقي في سننه، وابن وهب في موطَّئه بألفاظٍ مختلفة].

فالشريعة الإسلاميَّة أوسع من نظر بعض المتسرّعين الذين يحصرون الحقّ بما يرونه، وليس لمبتدئٍ أو قارئٍ أن يضعّف رأياً من الرأيين، فقد أفنى العلماء حياتهم بتتبّع أحكام الشريعة, ولم يدَعوا شاردةً ولا واردة إلّا بحثوا فيها.       

وسنذكر في هذه المقالة طرفاً من الأدلَّة العامّة في جواز دفع القيمة في صدقة الفطر، ومن أراد الاستزادة فليقرأ البحث على الرابط هذا 

فإنّ دفع القيمة ليس بدعاً من القول، بل فعله الصحابة رضى الله عنهم، كما قال التابعيُّ أبو إسحاق السبيعي رحمه الله: ( أدركتُهم [أي الصحابة] وهم يُعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام) [مصنف ابن أبي شيبة: (10371)].

وكذلك فإنَّ الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قد أجاز أخذ القيمة في زكاة الفطر، وهو أشدّ الناس تحرّيّاً لأحكام الشريعة، وكان لا يصدر أمراً إلا بمشاورة كبار العلماء، فقد حدّث وكيعٌ عن قرّة قال: (جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز في صدقة الفطر: نصف صاعٍ عن كلِّ إنسانٍ, أو قيمته نصف درهم) [مصنف ابن أبي شيبة: (10369)].

وقال الحسن البصري رحمه الله، وهو سيِّد التابعين: (لا بأس أن تُعطى الدَّراهم في صدقة الفطر) [مصنف ابن أبي شيبة: (10370)], وهو رأي عطاء بن أبي رباح أيضاً, وغيره من علماء التابعين.

فإذا كان الصحابة, والتابعون, وكبار العلماء من سلف الأمّة, وأكبر المذاهب الفقهية يجيزون دفع النقود المالية في صدقة الفطر، فكيف يسوّغ لبعضهم اليوم أن يخطّئوا من يدفع المال، ويعدّونه مبتدعاً؟

ومن يدّعي أنّه بإنكاره دفع القيمة في صدقة الفطر متمسّكٌ بالحديث النَّبويِّ، فنقول له: إنّ البخاري إمام المحدّثين وأعلمهم وأشدّهم تمسُّكاً بالسُّنَّة وافقَ السادة الحنفيَّة في جواز دفع القيمة في صدقة الفطر وغيرها. قال ابن رشيد: (وافق البخاري في هذه المسألة الحنفيَّة، مع كثرة مخالفته لهم، لكن قاده إلى ذلك الدليل) [فتح الباري شرح صحيح البخاري: (3/312)].