حاجة الله إلى المخلوقات

يطرح بعضهم إشكالاً يقول: إنّ الإله لا يستطيع أن يعيش دون مخلوقاته، ولا معنى لألوهيّته دون مخلوقاتٍ تعبده، فهو بحاجةٍ إلى عباده؛ ليفرض عليهم أحكامه، ويحقِّقوا له ألوهيّته.

والجواب:
إنّ هذا الكلام متناقضٌ؛ لأنّ مجرّد طرحه ينقض الإشكال كما سيتبيّن خلال البحث.
 فإنّ من يظنّ ذلك لا يعلم شيئاً من صفات الإله وكماله، وغاية تصوّره له أنه يشبّهه بالملوك والسلاطين الذين يحتاجون إلى رعايا يحكمونهم، ولا يدري أنّ الإله الذي يحتاج إلى غيره فهو لا يستحقّ الألوهيّة أصلاً.
كما أنّ التعبير في قولهم: (لا يستطيع أن يعيش دون مخلوقاته) فيه خطأ من جهتين:
 جهة اللفظ والصياغة، وجهة المعنى والقصد:
أمَّا من حيث اللفظ والصياغة: فلا يصحُّ وصف الإله بأنَّه (يعيش) لأنّ الذي يعيش سوف يموت، وهذه صفة المخلوقات، أمّا الله تعالى فلا يوصف بالعيش، وإنَّما يوصف بالحياة.
فالسائل لا يفرّق بين حياة الإله الواجب الوجود، وبين حياة المخلوق الذي يتوقَّف وجوده على إيجاد الله تعالى له، ومآله في الدنيا إلى الموت.
وأمّا من حيث المعنى: فعندما يقصد بقوله: (لا يستطيع أن يعيش دون مخلوقاته) أي أنّه لا يهنأ بالحياة التي يشعر فيها بعظمته وسلطانه وألوهيّته إلّا بوجود مخلوقاتٍ يعبدونه، فهذا المعنى من صفات البشر المجبولين على الحاجة والافتقار إلى الآخرين، من أجل أن يتمّموا نقصهم بغيرهم، وهذا الوصف يناقض صفات الألوهيَّة المبنيّة على الكمال المطلق، والتي وصف بها نفسه.
فالله تعالى يتصف بالصمديّة، قال تعالى: ((الله الصمد)) [الإخلاص2], (والصَّمد: هو الذي يحتاج إليه كلُّ شيءٍ، ولا يحتاج إلى شيء، ولا يؤثِّر فيه غيره) [لوامع الأنوار البهية (1/ 264) للسفاريني الحنبلي], فالخلائق كلُّهم يحتاجون إلى الله تعالى في كلِّ لحظة، أمّا الله تعالى فلا يؤثّر عليه شيءٌ، ولا يتوقَّف عزّه ولا عظمته على أحدٍ من خلقه، فيستحيل في حقِّ الله أن يحتاج إلى أحدٍ لتحقيق سلطانه وألوهيّته.
ويتَّصف كذلك بالغنى، فالله غنيٌّ عن كلِّ شيءٍ، وعباده هم الفقراء إليه، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)) [فاطر: 15].
(والغنيُّ: هو الذي لا تَعَلُّقَ له بغيره لا في ذاته ولا في صفات ذاته، بل يكون منزّهاً عن العلاقة مع الأغيار) [المقصد الأسنى (ص: 144) للإمام الغزالي], أي إنَّ صفة (الغنى) التي يتَّصف بها الله تعالى هي عدم الحاجة إلى غيره البتّة، لا إلى من يوجده ولا إلى من يمدّه بصفةٍ ما، كالهيبة والعظمة ونحو ذلك، فلا تتوقَّف ألوهيّته ولا عزّته على أحدٍ من خلقه أبداً، بل عظمته وعزّته ومحامده وسلطانه وألوهيّته وربوبيّته كلُّها ذاتيّة، فهو يتَّصف بها منذ الأزل، ولا تتخلّف عنه لا بوجود الخلق ولا بعدمهم، فلا تتعلّق صفات عظمته وألوهيّته بشيءٍ من مخلوقاته؛ ولو كفر كلُّ من في الأرض فلا ينقص ذلك من ألوهيّة الله وسلطانه، قال تعالى: ((وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)) [إبراهيم: 8].
وقال في الحديث القدسيّ فيما يرويه عن ربّه: ((يا عبادي إنَّكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً… يا عبادي إنَّما هي أعمالكم أُحصِيها لكم، ثم أوفّيكم إيَّاها، فمن وجد خيراً، فليحمد الله ومن وجد غير ذلك، فلا يلومَنّ إلّا نفسه) [صحيح مسلم: (2577)].
بل إنّ عالم الملائكة والإنس والجنّ وغيرهم لو تفرّغوا جميعاً لعبادة الله تعالى منذ أن خلق الله السماوات والأرض إلى يوم القيامة، فهم عاجزون عن أداء أدنى ما يستحقّه الله تعالى من الثناء والمحامد التي تجب له؛ لأنّ العباد ضعفاء، ومهما اجتهدوا في عبادتهم فمن المستحيل أن يؤدّوا حقّ الله تعالى، فعباداتهم هي بمقدار ضعفهم، أمّا الإله فهو متَّصفٌ بكمال العظمة التي لا يصل إلى محامدها أحد، ولا يؤدّي حقّ الثناء على الله إلّا ذاته العليَّة؛ وقد أدرك هذا المعنى رسول الله سيِّد الخلق وأتقاهم, فاعترف بعجزه عن أداء حقّ الله تعالى في الثناء عليه، وكان ممَّا يقوله في دعائه وثنائه: (لا أحصي ثناءً عليك, أنت كما أثنيت على نفسك) [صحيح مسلم (486)], وفي روايةٍ أخرى: (اللهمَّ لا أستطيع ثناءً عليك ولو حرصتُ، ولكن أنت كما أثنيت على نفسك) [السنن الكبرى للنسائي (9/ 328)].
قال الإمام النووي في هذا الكلام: (اعترافٌ بالعجز عن تفصيل الثناء، وأنَّه لا يقدر على بلوغ حقيقته، وردٌّ للثناء إلى الجملة دون التفصيل والإحصار والتعيين، فوكّل ذلك إلى الله سبحانه وتعالى المحيط بكلِّ شيءٍ جملةً وتفصيلاً، وكما أنَّه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثَّناء عليه؛ لأنَّ الثَّناء تابعٌ للمُثنى عليه، وكلُّ ثناءٍ أثنى به عليه وإن كثر وطال وبولغ فيه فقدر الله أعظم، وسلطانه أعزّ، وصفاته أكبر وأكثر، وفضله وإحسانه أوسع وأسبغ) [شرح النووي على مسلم (4/ 204)]
فلا يثني على الله حقّ الثناء إلّا ذاته؛ لأنّه متّصفٌ بالكمال، وثناؤه على نفسه ثناء كمال، أمّا العباد فهم ضعفاء عاجزون, وثناؤهم عليه ثناء نقصٍ، فلا يبلغون في عبادتهم وثنائهم ما يليق بكماله وعظمته تعالى، ومن ثمّ فلا حاجة لله تعالى لعباده، بل هم المحتاجون والمفتقرون إليه.

وإضافةً إلى ما ورد في الشرع فإنّ العقل ينقض احتياج الله تعالى إلى عباده: وذلك بوجود كفّار وفجّار وعصاة، فإذا كانت عبادة الخاشعين والناسكين والملائكة المقرَّبين لا تؤدّي ما يجب لله تعالى من الثناء، ولو لم يخلقهم أصلاً ما نقص شيءٌ من ألوهيّته وعظمته وسلطانه، فما بالك بوجود العصاة المذنبين؟ وما بالك بالكفرة الجاحدين؟
فهل يُعقَل أن يحتاج الخالق إلى من يحقِّق به معنى الألوهية، ويخلقه كافراً، وهو يعلم أنّه سيختار طريق الضلال والكفر والجحود!
بل إنّ أكثر أهل الأرض في كلِّ زمانٍ هم الكفرة وليسوا المؤمنين، قال تعالى: ((وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)) [يوسف: 103], والشاكرون هم القلّة قال تعالى: ((وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)) [سبأ: 13]
ولو كان الله بحاجةٍ لعبادةِ خَلْقِه لجعلهم مسيّرين للعبادة، لا مُخَيّرين بين الإيمان والكفر والطاعة والمعصية، قال تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)) [يونس: 99]. وقد اختار أكثرهم طريق الكفر والمعصية، وترك لهم الاختيار لغناه عنهم.
وهذا يقودنا إلى إجابةٍ عن سؤالٍ يطرحه كثيرٌ من النَّاس, يقول: لماذا لا يعجّل الله العذاب لمن يتجاوز في فجوره ومحاربته لدين الله والمجاهرة بانتهاك حرماته؟
والجواب كما تقدّم: فإنّ الله تعالى لا يعجّل بالعقوبة للكفّار والفجّار؛ لأنّ كفرهم وفجورهم لا يضرّه، كما أنّه لا تنفعه طاعة المطيع، فهو الغنيُّ الذي لا يحتاج إلى طاعة، ولا يؤثّر على عظمته وألوهيَّته معصية، وإنّ ما يظنّه العصاة والفجّار من محاربتهم لله تعالى، فهم في الحقيقة يحاربون أنفسهم، ويعرّضونها لغضب الله وعقوبته يوم القيامة.
على أنّ غضب الله ليس كغضب البشر من الانفعال والتأثّر، فالانفعال من صفات البشر المجبولين على الضعف، والله تعالى يتنزّه عن ذلك.
وعندما ترد كلمة ((غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ)) في القرآن الكريم، فالمقصود بها أنَّهم استحقّوا العذاب والعقوبة يوم القيامة، لا أنّه تأثّر وانفعل بما يفعله أولئك، فإنّ البشر إذا غضبوا لا يملكون أنفسهم ويسرعون بالانتقام والبطش، وهذا من مظاهر الضعف والخروج عن السيطرة، والله تعالى يتنزّه عن هذا الوصف؛ لذا نجده لا يُعاجل العباد بالعقوبة، وإذا غضب على قوم أخّر عذابهم، وفتح لهم الدنيا، وأمدّهم فيها, قال تعالى: ((قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا)) [مريم: 75]
بل قد يكون غضب الله على المعرضين والجاحدين بأن يفتح عليهم الخيرات والرزق، كما قال تعالى: ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)) [الأنعام: 44], أي: عندما أعرضوا بدَّلنا مكان البأساء الرَّخاءَ والسَّعة في العيش، ومكان الضرّاءِ الصحَّةَ والسلامةَ في الأبدان والأجسام، استدراجاً منّا لهم. [انظر: تفسير جامع البيان: (11/ 358)].
ومن ثمّ نجد أنّ الله غنيٌّ عن عباده، ولا تنفعه طاعةٌ ولا تضرّه معصية، وأنّ عظمته وألوهيّته من الصفات التي يستحيل أن تتخلَّف عنه أو تتعلّق بمخلوقاته، فهو حميدٌ مجيدٌ منذ الأزل قبل خلق المخلوقات وبعد فنائها، وأنَّه لا يؤثّر عليه شيء.   

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *