نقد العلموية

نقد العلموية

Loading

نقد العملوية

يظنّ الذين تبنّوا العلمويّة أو الفلسفة الوضعيّة التجريبيّة أنّهم وقعوا على الحقيقة المطلقة، ووصلوا إلى نهاية العلم وغايته، وأنّ كلّ منهجٍ يخالف منهجهم باطلٌ قطعاً، وخاصّةً ما يتعلّق بالميتافيزيقيا واللاهوت، فكلُّ ذلك يعدّونه خرافاتٍ وأوهاماً؛ لأنّها لا تخضع للبحث التجريبيّ، وأنّ القول بالإلحاد وإنكار الإله هو المنهج العلميّ السليم.

وقد شطّ أصحاب هذه النظرة القاصرة وتناقضوا مع أنفسهم ومع المناهج العلميّة، ووقعوا في مغالطاتٍ وأخطاء، أهمّها:

1- توهّموا أنّ الدِّين يُناقض العلم:

وُلِدت أطروحة الوضعيّة التجريبيّة في أفياء الصراع الكنسيّ العلميّ، وكانت هذه النظريّة ردّة فعلٍ من رجال العلم الكوني عندما وقف في وجوههم رجال الدِّين في أوروبّا آنذاك وحرّموا عليهم البحث العلميّ، وفرضوا عليهم الأفكار اللاهوتيّة، ومنعوهم من العلوم الكونيّة، وكان تصرّفهم بناءً على رأيٍ خاطئٍ منهم، وليس هذا رأي الدِّين الذي ارتضاه الله لعباده وأنزله على أنبيائه، فظنّ أصحاب العلم التجريبي أنّ الدِّين يناقض العلم مطلقاً، وقالوا بإنكار الدِّين لأنّه يؤدّي إلى الجهل والتخلّف، ويعيق البحث العلمي، ويفرض على الناس الإيمان بغيبيّاتٍ لا يمكن التحقّق من صدقها، ويؤمن بالخرافة، وعمّموا ذلك على جميع الأديان بما في ذلك الإسلام، ووقعوا في الخطأ المنطقيّ وهو (التعميم).

 وفي الحقيقة، إنّ تصوّرهم فاسدٌ مغلوط، والأمر على عكس ما يظنّون تماماً، فالدِّين الإسلاميّ هو الذي حارب الجهل وحثّ على العلم، فحرّم الشعوذة والكهانة والاعتقادات الفاسدة التي تشلّ العقول، ونهى عن الخرافات والتقليد الأعمى، وأمر بالعلم، وحثّ على التفكّر والتدبّر والتعقّل والنظر، وكانت أوّل كلمةٍ أُنزلت في القرآن الكريم (اقرأ) ممَّا جعل المسلمين يدرسون علوم الحضارات السابقة وفلسفاتها، فأسّسوا المناهج العلميّة المختلفة، وأنشؤوا وطوّروا أهمّ مصادر العلوم، كالكيمياء، والجبر، والتفاضل والتكامل، والجراحة، والبصريّات، وعلم الصحّة، وعلم الاجتماع، وغيرها كثير، وقد اعترف علماء الغرب بأنّ قصب السبق والتطوير لهذه العلوم يعود إلى المسلمين.

قال ماكس مايرهوف: “يمكن إرجاع تطوُّر الكيمياء في أوروبّا إلى جابر بن حيّان بصورةٍ مباشرة، وأكبر دليلٍ على ذلك أنّ كثيراً من المصطلحات التي ابتكرها ما زالت مستعملةً في مختلف اللغات الأوروبّيّة”.

 وقد تُرجمت كتب ابن حيّان وبقيت المرجع الأوَّل على مدى ألف عام، وكانت مؤلّفاته موضع اهتمام ودراسة مشاهير علماء الغرب، مثل (كوب هولميارد)، (سارتون) وغيرهم). [انظر: موسوعة المعرفة على الشبكة الإلكترونيّة، صحيفة الخليج 28ديسمبر 2012هـ]

أمّا الرياضيّات: فممّن أبدع فيها العالم العربي أبو بكر بن الحسن الكرخي: فقدّم أهمّ وأكمل نظريةٍ في الجبر، وبقيت نظريّاته تُدَرَّس حتّى القرن التاسع عشر الميلادي. قال أ. هور إيفز في كتابه (تاريخ الرياضيات): “إنّ الكرخي يعدّ من بين العلماء الرياضيين المبتكرين من نظريات جبريّةٍ جديدةٍ تدلّ على عمقٍ وأصالةٍ في التفكير“. [العلوم البحتة في الحضارة الإسلامية، د. علي عبد الله الدفّاع (210)].

وكذلك (الخوارزميّ): فقد أبدع في علم الجبر، وابتكر الخوارزميّات التي قامت على أساسها اليوم التكنولوجية الرقميّة، قال الأستاذ جورج سارتون: “وإذا أخذنا جميع المجالات بعين الاعتبار، فإنّ الخوارزمي أحد أعظم الرياضيّين في كلّ العصور[العلوم البحتة: (149)].

 وفي عصر الازدهار العلميّ والمعرفيّ للمسلمين كانت أوروبّا ترقد في ظلمات الجهل والتخلّف والخرافات، فانتشلها علم العرب والمسلمين من جهلها وتخلّفها، حتَّى وصلت أوروبا وأمريكا اليوم إلى ما وصلت إليه.

فقد كان الفضل للعلماء المسلمين في تخريج الأساتذة الأُوَل في جامعة (أوكسفورد) الذين درسوا مباشرةً على أيدي العلماء المسلمين في الأندلس، ثمّ بنى الغرب علومه وتقنيّاته وإنتاجه المعرفيّ على جهودهم. [يُنظر: موقع نبراس تحت عنوان (المسلمون هم واضعو أسس العلم التجريبي الحديث)].

 ومن المعلوم أنّ التقدّم العلميّ والحضاريّ تراكميّ، وأنّ اللَبِنات الأولى والأساسيّة في تاريخ الحضارة القائمة اليوم هي من إبداع المسلمين، ثمَّ تطوّرت المعارف وتسلسلت بفضلهم، قال مسيو ليبري: “لو لم يظهر المسلمون على مسرح التاريخ لتأخّرت نهضة أوروبا الحديثة عدَّة قرون“. [ينظر: الحضارة الإسلامية، عبد السلام كمال: (62)].

وإنّ المنهج الذي يتبجّح به العلمويّة وأصحاب الوضعية التجريبيّة ويتّخذونه وسيلةً لإنكار الميتافيزيقيا واللاهوت إنَّما هو من إبداع المسلمين، فهم الذين وضعوا أسس المنهج التجريبيّ والعلم الحديث.

قال هينولد: “إنّ ما قام على التجربة والترصّد هو أرفع درجةٍ في العلوم، وإنّ المسلمين ارتقوا في علومهم إلى هذه الدرجة التي كان يجهلها القدماء… وكانوا أوَّل من أدرك أهمّية المنهاج في العالم، وظلّوا عاملين به وحدهم زمناً طويلاً“. [الحضارة الإسلامية ثقافة وفن وعمران، عبد السلام كمال: (61)].

وقال (بريفولت) في كتابه (صناعة الإنسانية): “ليس (لفرانسيس بيكون) ولا لسميّه من قبله -يقصد (روجر بيكون)- أن يدّعيا اكتشاف المنهج التجريبيّ، إذ إنّ كلّ ما قدّماه في ذلك إنّما هو العلم المسروق من العرب، فقد استطاع علماء المسلمين بجهودهم أمثال ثابت بن قرّة، والحسن بن الهيثم، وابن سينا، وجابر بن حيّان الربط بين العلم والتجريب، والاهتداء إلى المنهج العلميّ التجريبيّ، ومن ثمّ إرساء قواعد العلوم الطبيعيّة، وذلك قبل أن يفطن إليها الأوروبيّون بمئات السنين“. [ من كتاب: دراسات في المنطق ومناهج البحث (ص:6)].

مع (أنّ روجر بيكون) حتّى لو ادّعى الأسبقيّة كذباً، فقد درس اللغة العربيّة والعلم العربي في مدرسة (أكسفورد) على يد تلامذة العلماء المسلمين في إسبانيا، فالفضل في منهجيّته العلميّة تعود إلى المسلمين الذين درّسوا أساتذته، واستمدّ معارفه منهم.

 ولم نجد تناقضاً بين العلم والدِّين في تلك النهضة والحضارة الإسلاميّة كما يدّعي العلمويّة، بل كان الدِّين هو الذي يدعو إلى العلم والإبداع ويشجِّع عليهما.

 

2- حصروا مناهج البحث للعلوم المختلفة بمنهجٍ واحدٍ وهو المنهج التجريبي:

يظنّ متبنّو العلمويّة أنّ العلم التجريبيّ قادرٌ على الإحاطة بكلّ الحقائق الكونيّة، وأنّ البشر ليسوا بحاجةٍ إلى مصدرٍ آخر للمعرفة أو الأنظمة مع وجود هذا المنهج؛ لأنَّه أغناهم عن جميع المصادر الفلسفيّة والدينيّة وغيرها، وحاولوا إخضاع كلّ الظواهر الإنسانيّة للمنهج العلميّ التجريبيّ، وقالوا بأنّه لا بدَّ لها أن تعود إلى سببٍ طبيعيٍّ يكشفه العلم.

وقد حصروا بذلك جميع المعارف والعلوم بمنهجيّةٍ واحدة، ونظروا إلى الظواهر الكونية والعلميّة نظرةً ضيّقةً قاصرة، ولم يفرّقوا بين الطبيعة الصمّاء والإنسان الذي يتميّز بالإدراك والتفكير والمشاعر والأحاسيس، قال (دركايم): “ينبغي التعامل مع الظواهر الاجتماعيّة كما لو كانت أشياء“. [محدوديّة العلم بو عزّة منتدى التوحيد]، فقاموا (بتشييء) الإنسان وعاملوه معاملة الجماد، ووقعوا في أخطاء منهجيّة جسيمة.

وقد انتقد نظرتَهم القاصرة العالمُ الفيزيائي (إروين شرودنجر) الذي نال جائزة نوبل في الفيزياء، فقال: “الصورة التي يقدّمها العلم الطبيعي-أي العلمويّة- عن الواقع من حولي صورةٌ ناقصةٌ جدّاً… لا يتكلّم ببنت شفةٍ عن الأحمر والأزرق، والمرّ والحلو، والألم واللّذة، إنّه لا يعرف شيئاً عن الجميل والقبيح، الحسن والسيّء، الله والخلود، يتظاهر العلم أحياناً بأنّه يجيب عن أسئلةٍ في هذه المجالات، ولكن غالباً ما تكون إجاباته سخيفةً للغاية، إلى درجة أنَّنا لا نميل إلى أخذها على محمل الجدّ“. [وهم الشيطان: الإلحاد ومزاعمه العلمية ديفيد بيرلسنكي، هامش (ص:22)].

وقال أ. عبد الإله بلقزيز: “والحقّ إنّ فشوّ الروح الوضعانيّة في النظر إلى الظواهر الاجتماعيّة والإنسانيّة بمقدار ما أهدر الحدود بين الظواهر الصمّاء (الطبيعة) والظواهر المقترنة بفعل الإرادة الإنسانيّة، قاد إلى الإخفاق في إخضاع المجتمع والإنسان للدَّرس العلميّ المطابق… لقد كان تغييب عوامل الإرادة والوعي والخيال والإيمان من الدّرس الاجتماعيّ الوضعيّ، والإخضاع القسريّ للظواهر الإنسانيّة للمناهج الفيزيائيّة وبالاً على علوم المجتمع والإنسان“. [صحيفة سكاي نيوز عربيّة، بقلم أ. عبد الإله بلقزيز- 30 ديسمبر 2020م].   

فلكلِّ علمٍ مجاله ومصادره وأدواته، وإنّ طبيعة العلوم تختلف من حيث المنهج وطريقة البحث والاستدلال، فالعلوم الإنسانيّة كعلم الاجتماع والموارد البشرية والتاريخ والاقتصاد والسياسة والعلوم والآداب والفنون المختلفة لها مناهجها وطرقها البحثيّة والإبداعيّة.

وكذلك العلوم التجريديّة كالمنطق والرياضيّات والهندسة لها طرقها وقوانينها أيضاً.

وإنّ حصر العلوم كلّها بمنهجيّةٍ واحدةٍ يؤدّي حتماً إلى خلل ٍكبيرٍ في النظر والاستدلال، يقول الفيلسوف التحليلي (ألفين بلانتنغا): “إنّ معادلة جميع المعارف بالعلوم الطبيعيّة هي معادلةٌ في موضعٍ غير مترابطٍ منطقيّاً؛ لأنّ العلم نفسه لا يستطيع أن يقدّم لنا أيّ سبب للاعتقاد بأنّ هذا العلم صحيح“. [New Atlantis -2012 مقال بعنوان: حماقة العولمة بقلم أ. أوستن هيونز_ ترجمة ليان الفارس]. 

3- الربط غير المنطقيّ بين الإلحاد وتبنّي المنهج التجريبي:

وقع أصحاب النظرية الوضعيّة التجريبيّة أو العلمويّة في مغالطاتٍ منطقيّةٍ وأخطاء علميّة عندما أنكروا ما وراء المحسوس ونفَوا وجود خالقٍ للكون إنكاراً جازماً، وقد وصف الله تعالى أمثال هؤلاء الذين تكون غاية علمهم ما يتعلّق بالموجودات والمدركات الحسيّة بقوله: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ[النجم: 29]، فلا يتجاوز علمهم حدود ما يدركونه بحواسّهم القاصرة في الحياة المادّيّة، وإنّ نظرتهم تتنافى مع الحقيقة، فمن المسلّمات العلميّة والمنطقيّة أنّ (عدم الوجدان لا يقتضي عدم الوجود) فلا يصحُّ عقلاً الجزم بإنكار ما لا ندركه، فكيف إذا كانت هناك أدلّةٌ عقليّةٌ جازمةٌ تدلّ على وجوده؟ وقد خالفوا هذه القاعدة وجزموا بإنكار وجود الإله، دون أساسٍ علميٍّ.

ثمّ إنّهم وقعوا في مطبٍّ آخر، وهو خروجهم عن القاعدة المنطقيّة المسلّمة (قانون السببيّة)، فما من مُسَبَّب إلّا له سبب، ولا بدّ لهذا الكون من خالقٍ أبدعه، ومن المستحيل أن ينشأ شيءٌ من العدم.

وعند هذه النقطة أخذوا يتهرّبون بالسفسطة، ويفصّلون شروطاً للمسبّب مع السبب على مقاس رأيهم، فيدورون ضمن قوقعتهم، ويضيّقون ساحة تفكيرهم، ويحصرونها بالمدركات الحسيّة، فقالوا: يشترط للمسبِّب أن يُدرَك عند تأثيره على المُسَبَّب، والخالق الذي تدْعون إليه هو ضمن فكر اللاهوت الذي لا يُدرك، فيستحيل وجوده.

وهم بذلك يكابرون ويتمسَّكون بنظريّة (ديفيد هيوم) التي لا يخفى بطلانها وفسادها، فينكرون مبدأ السببيّة من أصله، ويدّعون أنّ الأسباب مجرّد اقترانٍ عاديٍّ وليس مبدأً عقليّاً، فحوّلوا السببيّة من مبدأٍ عقليٍّ إلى إدراكٍ حسّيّ،

ووقعوا في التناقضات المنطقيّة، ومن المعلوم أنّ (العقل: غريزةٌ فطريةٌ خلقها الله في الإنسان، تنطوي على مبادئ ضرورية الصدق أعظمها مبدأ عدم التناقض، ومبدأ السببية). [مجلة البيان (221/ 2) مبحث: الوحي الإلهي، العقل الوضعي لعبد الله بن نافع الدعجاني]، وهم خالفوا هذين المبدأين.

قال بو عزّة: “والموقف الإلحاديّ الذي تنطّعت لإعلانه الفلسفة الوضعيّة لو درسناه بتجرّدٍ ومن داخل معايير النزعة العلمويّة ذاتها، سنلاحظ أنّه موقفٌ غير علميّ؛ لأنّه يبتّ في شأنٍ ليس له عنه أيّ معلومة، فالقول بالموقف الإلحاديّ قولٌ غير علميّ، بل يجاوز إمكانات العلم ويتخطّى حدوده، فليس في إمكان العلم ونظرته المحدودة أن ينفي في شأن ما يجاوز نطاق مقاييسه في الملاحظة“. [مقال بعنوان: محدوديّة العلم- منتدى التوحيد].

فإن قالوا: إنَّ الإمام أبا حامد الغزاليّ جعل الأسباب عاديّةً وليست عقليّة، واعتبر العلاقة بين المُسبِّب والمسبَّب اقترانيّة وليست عقليّة، وهو بذلك يتّفق مع (ديفيد هيوم).

   فالجواب: لا مقارنة بين نظريّة (ديفيد هيوم) ونظرة الإمام الغزاليّ إلى الأسباب، فإنّ (هيوم) ينكر مبدأ السببيّة من أصله، ويجيز وقوع الأشياء دون أسباب، وهذا محال.

 أمّا الغزاليّ فلا ينكر مبدأ السببيّة، نعم هو يقول: العلاقة بين الأسباب ومسبَّباتها عاديّة وليست عقليّة، ولكنّه يحتّم أن يكون هناك مسبّبٌ حقيقيٌّ للأسباب، وهو الله تعالى، فينسب المسبَّبات إلى الله خالق الأسباب كلّها، وهذا هو عين الصواب.  

لذا نجد بعض الملحدين اضطروا إلى الاعتراف بوجود قوّةٍ منظّمةٍ للكون وإن لم يعلنوا إيمانهم، فقد سئل كبير الملحدين الفيزيائي (ستيفن هوكينغ) إن كان يؤمن بوجود إله، فأجاب “بأنّه يؤمن بوجود الإله، لكنّ هذه القوّة الإلهيّة أسّست قوانين الطبيعة والفيزياء، وبعد ذلك لم يتدخّل للتحكّم في العالم“. [كتاب: هناك إله: كيف غيّر أشرس ملاحدة العالم أفكاره- مركز براهين: (ص: 25)].

وكذلك (لابلاس) المعروف بالإلحاد، فقد شرح دليل الحركة الكونية وبيّن أنّها أقوى ثغرةٍ في جسم الإلحاد، وقال: (أمَّا القدرة الفاطرة-أي الخالقة- التي عيّنت جسامة الأجرام الموجودة في المجموعة الشمسية وكثافتها، وثبّتت أقطار مداراتها، ونظّمت حركاتها بقوانين بسيطة، ولكنَّها حكيمة، وعيّنت مدّة دوران السيارات حول الشمس، والتوابع حول السيارات بأدقّ حساب، بحيث إنَّ النظام المستمرّ إلى ما شاء الله لا يعروه خلل… هذا النظام المستند إلى حسابٍ يقصر عقل البشر عن إدراكه، والذي يضمن استمرار واستقرار المجموعة إزاء ما لا يعدّ ولا يحصى من المخاطر المحتملة، لا يمكن أن يحمل على المصادفة إلَّا باحتمالٍ واحدٍ من أربعة تريوليونات، وما أدراك ما أربعة تريوليونات؟

إنَّه عددٌ من كلمتين، ولكن لا يمكن أن يحصيه المحصي إلَّا إذا لبث خمسين ألف عامٍ يعدُّ الأرقام ليلاً ونهاراً، على أن يعدَّ في كلِّ دقيقةٍ (150) عدداً). [صراع مع الملاحدة حتى العظم (ص: 132)].

 أي إنّ الملحد بمكابرته يبني اعتقاده وتصديقه على احتمال وقوع واحدٍ من أربعة تريليونات، ويكذّب الأدلة والبراهين العقليّة والعلميّة الساطعة.

وأمَّا من يسمّى بـ(حارس مرمى الإلحاد) الفيلسوف البريطاني (أنتوني فلو) فإّنه بعد أن قضى حياته في الدفاع عن الإلحاد ونصرته، وألّفَ زهاء ثلاثين كتاباً في الأدلّة والفلسفات الإلحاديّة، لم يستطع أن يدوم على مكابرته ومناقضاته المنطقيّة، فأعلن إسلامه وألّف كتاباً باسم (هناك إله)، وقال: “يستحيل ألّا يكون لهذا الكون ربٌّ حكيمٌ قديرٌ يدبّر أمره“.  [ينظر: كتاب: (هناك إله) كيف غيّر أشهر ملحد رأيه- مركز براهين: (ص:173)، صحيفة المصري اليوم، مقال بعنوان: هناك إله: كيف أدرك الملحد الأكبر أنتوني فلو وجود الله، بقلم مختار محمود- الثلاثاء 25/ 5/2021م].

على أنّه لا تناقض بين الإيمان بالله والبحث العلمي، ولا تلازم بين الإلحاد والعلم إلّا في وهم الملحدين، بل الأمر على العكس من ذلك، فالمنهج العلميّ السليم يدعو إلى الإيمان، وإنَّما وقع التناقض عند العلمويّة بسبب فساد منهجهم الضيّق، ومخالفتهم لطرائق البحث المختلفة فيما يتعلّق مع كلِّ علم، وجمودهم على المنهج التجريبي، فشذّوا عن الطرق العلميّة المتّبعة في العلوم الإنسانيّة والدينيّة والأخلاقيّة ونحو ذلك، فكان الإلحاد مظهراً لفساد مسلكهم.

4- التهوين من أهمّيّة الأسئلة المتعلّقة ببدء الخلق والحياة وما بعد الموت:

إنّ الأسئلة المتعلّقة بخالق الكون وبداية الخلق، والحياة، والمصير فيما بعد الموت ليست ترفاً فكريّاً، بل حاجةً فطريّةً مُلِحّةً، يبحث عن إجابتها كلُّ عاقل، ولا يمكن تجاهلها، وإنّ كَبْتَها يؤثّر سلباً على النفس، فيؤدّي إلى اضطراباتٍ نفسيّة، وقد تتأزّم إلى عُقَدٍ مما يدفع إلى الانتحار، لذا نجد أنَّ أكثر من يتعرّض للأمراض النفسيّة هم الملحدون، وأنّ نسبة الانتحار لديهم أكبر نسبةٍ على الإطلاق، وفي المقابل فإنّ أقلّ نسبةٍ للأمراض النفسيّة والانتحار هي عند المسلمين، وقد تصل إلى صفر. [صوت العراق، مقال بعنوان: دراسة بحثيّة لنسبة الانتحار مقارنة بالأديان].

فالإيمان بوجود إلهٍ خالقٍ للكون أمرٌ فطريٌّ مركوز في جميع البشر بلا استثناء، بغضِّ النظر عن كون المعبود حقّاً أو لا، وقد أكّدت ذلك الآثار التاريخيّة منذ القِدَم، قال المؤرخ اليوناني بلوتارك: “من الممكن أن نجد مدناً بلا أسوار ولا ملوك ولا ثروة ولا آداب ولا مسارح، ولكن لم يُرَ قطّ مدينة بلا معبدٍ أو لا يمارس أهلها عبادة“. [صحيفة الخليج الإلكترونية، ملحق الصائم، مقال تحت عنوان: الدين حاجة فطرية- 8 سبتمبر/ 2008م].

 ومع هذا فقد خالف العلموية الفطرة، وأخذوا يتهرّبون من الإجابة عن الأسئلة المتعلّقة بخالق الكون ونشأة الحياة، ويهوّنون من قيمتها، ويحقّرون من يسألها، ويصفونه بأنّه سطحيٌّ بدائيّ التفكير، ويحاولون تفسير كلّ شيء فيزيائيّاً وكيميائيّاً لأنّ منهجهم ضيّقٌ لا يستوعب الإجابة عن مثل هذه الأسئلة التي تُبدي عوار منطقهم المادّي الإلحاديّ وفساده، لذا يبذلون كلّ جهدهم لتحويل الإنسان من روحٍ وحياةٍ إلى آلةٍ ومادّة.

قال الفيلسوف الطيب بو عزّة: “ليس صحيحاً أنّ تجاهل أسئلة البدء والماهيّة المتعلّقة بالوجود الفيزيائي نتاج زهدٍ عن التفكير فيها، بل إنّ السبب هو العجز عن الإجابة، بسبب طبيعة أدوات الإدراك الاستقرائيّة التي يتوسّلها العلم… وبمراجعة صيرورة تطوّر علم الأحياء في تاريخ الثقافة الأوروبّيّة سنلاحظ أنّه ابتداء من عصر الحداثة سيتمّ العلم على اختزال ظاهرة الحياة في جملةٍ من العلاقات الآليّة“. [صحيفة التجديد الإلكترونيّة، مقال للطيّب بو عزّة بعنوان: (الحياة بين العلم والدين) بتاريخ 26/2/ 2008م].  

ومن ثمّ نجد العلمويّة ضخّموا المنهج التجريبي وتوهّموا بأنّه قادرٌ على إدراك جميع المعارف والحقائق والعلوم، ومنحوه من الثقة فوق إمكانيّاته، ففشلوا وتخبّطوا وشذّوا، وخالفوا الفطرة والمنطق والعقل والبحث العلمي المُتَّبَع في العلوم الأخرى عندما اقتصروا عليه.

Recommended Posts

1 Comment

  1. جزاكم الله خيراً، مقال رائع ونافع، البشارة آتية لا محالة، وهذه الآية خير دليل: { إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ⁠لَهُمۡ لِیَصُدُّوا۟ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ فَسَیُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَیۡهِمۡ حَسۡرَةࣰ ثُمَّ یُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِلَىٰ جَهَنَّمَ یُحۡشَرُونَ }
    من الناحية الطبية ترى هذا رأي العين والله، تجدهم يقومون بأبحاث تكلفهم المليارات لاكتشاف الأدوية، ثم يكتشفون أن هذه الأدوية مضرّة فيعيدون إنفاق المليارات لاكتشاف السبب، ثم يكتشفون أنها مسرطنة، ثم ينفقون المليارات والمليارات… ولو علموا أن طريقة البدء خاطئة لوفّروا عليهم ولأسلموا لله، لكنهم {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} وحسبنا الله ونعم الوكيل.


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *