من أنا

تعتري كثيراً منّا تساؤلاتٌ وجوديَّةٌ تشغل تفكيره وتؤرِّق راحته، وتُحيل معيشته جحيماً لا يطيق العيش فيه، ولربَّما يسكتُها من حينٍ لآخر ثمَّ لا تلبث أن تطرق باب حياته بعنفٍ أشدّ مع أول هزّةٍ نفسيةٍ أو سلوكيةٍ أو إنسانيَّةٍ يتعرَّض لها.

هذا ما تعلّمناه دائماً…وفي رحلة بحثٍ عن الإجابة، أقول:  

انظر حولك

 فهل رأيت نظام الكون اختلَّ يوماً لمعصيةٍ ارتكبتها؟ وهل اطَّلَعتَ على خزائنه الملآى وقد جفّت لإعراضِكَ عنه؟

 أنتَ نفسُك بكلِّ ما تملكه من غطرسةٍ واعتدادٍ بالعلم أو بالتّطور الذي تظنُّ نفسَكَ صَنعتَهُ، بكلِّ كبريائك الذي تتبجَّحُ به، بكلِّ طُغيانِكَ الواهي وعَظمتِكَ المُهلهلة …..هل استطعتَ يوماً أن تخرجَ عن سُلطان دولتِه لحَظةً أو ربَّما ساعةً؟ هل غيّرتَ مسار الأرض؟ هل استطعتَ أن تُلوِّن النجومَ بلونكَ المفضَّل؟ وهل تصرّفت يوماً بأنفاسِكَ الصاعدةِ والهابطة وقلبكَ النَّابضِ ولو لثانيةٍ واحدة؟ هل استطعت أن تخلق كوناً؟ هل أنشأت قمراً؟ هل أَجرَيتَ سُحُبَاً؟ 

هل وهبت لنفسكَ عقلاً؟ هل نفيت عنها جنوناً؟ هل دفعت عنها موتاً؟ هل استرجعتَ حبيباً؟ 

هل أرجعت لعينك نورها إذا انطفأت؟ هل خلقتَ لِنفسِكَ ولداً حين حُرِمتْ؟ وهل أرجعت لعجزك شباباً حين هرمت؟

 ألا يدلُّ كلُّ ذلك على منتهى عَجزِك، ومنتهى فقرِك وذُلِّك، انظر من حولك مرةً أخرى، انظر بعينين من نور، بقلبٍ باحثٍ عن لبِّ الحقيقة التي فيك، انظر بعقل متحرّرٍ من قيود الأنانية وغِشاوة المادَّة. انظر أخي في نفسك لتعرف حقيقةَ نفسك، وتعال ننظِّف سبيل المعرفة من أدران الكِبر.

 لقد أَضعنا الطَّريق إلى الحقيقة حين أَضَعنا الطريق إلى الله، وعبدَ المرء ذاتَه بعد أن تاه في صحراء شهوته، ونسي في غمرة ذلك كلّه ربَّه ومالِكَهُ وغاية خلقِه، فعاش جحيم البحث لاهثاً وراء سراب راحته، وفي الحقيقة:

     دَواؤُكَ فيكَ وَمَا تُبصرودَاؤكَ مِنكَ وما تشعر

ومتى عرف المرء نفسَه بضعفها ونقصها وأنّه ليس بشيءٍ، عرف ربَّه بعظمته وكماله وأنَّه مالك كلِّ شيء، وعرف مراد الله منه.

ثُمَّ ارجع البصر كرَّتين وتأمَّل أخي الإنسان في الكون ودقائق صنعه وعجيب خلقه، فإنّك إن استخدمت وسيلةً من وسائل الحياة المعاصرة ولاحظت فيها إتقانَ صنعتِها حكمتَ -لابدّ- على إتقان صانِعها وإبداعه، فمالك لا ترى إتقان صَنعتك: أعصابك، شرايينك، خلايا دماغك وإدراكك، نبض قلبك وإحساسك، وكمال خلقك، لترى من نافذة ذلك الصنع البديع إتقان وإبداع وكمالَ خالقك: ((الذي أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسانِ مِن طِين))[السجدة7]

((ثُمَّ خَلَقنَا النُّطفةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضغَةً فَخَلَقنا المُضغَةَ عِظَاماً فَكَسَونَا العِظَامَ لحمَاً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقَاً آخَرْ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحسَنُ الخَالِقين))[المؤمنون14].

 ألم تُحدِّثكَ مرةً زهرةٌ بعبيرها وسحرها عن لُطفه وحُبِّه؟

 ألم تُظلَّك يوماً شجرةٌ وتحدِّثك عن جميلِ ستره؟

 ألم تأكلْ مِنْ لَذيذِ ثمرِه ليحدِّثكَ عن لطيفِ بِرِّه؟

 ألم تُقلِّبْ بَصركَ في أفلاكِ السَّماءِ لِتُحدِّثَكَ عن جلالهِ وهيبتِه؟ 

 ألم تُبصرْ عظيمَ صُنعه فدلَّك على عظمته؟

 ألقِ سَمعَكَ…وأَدِرْ في هذا الكون بَصرَكَ…وأوقِدْ مِصباحَ بَصيرَتكَ تجد:

وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيةٌ    تدلُّ على أنَّـهُ واحــدُ

فيا عجباً كيف يعصي الإلهَ   أم كيفَ يجحدهُ الجاحد 

بقلم: غالية القصّار بني المرجة

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *