"مكانة العلم في الإسلام"
بقلم: ماري الأصبحي

مكانة العلم في الإسلام

إنَّ ممَّا يُميِّز الأُمَّة الإسلامية عن الغرب أنَّها لم تعرف أبداً الفصلَ بين الدّيني والدنيوي؛ لأنَّ الإسلام دينُ الله الحقِّ، الذي لا يتصادمُ مع العقل والفِطرة، ولا يُلغي جانباً من جوانب الحياة على حساب الآخر، ولا يُلغي جانباً من جوانب الحياة على حسابه هو نفسِه بما في ذلك العِلم؛ فإذا كان الغربُ مُضطراً لأن يُضحي بجانبٍ من جوانب الحياة ليُنقِذ جانباً آخر، وهو لم يتقدّم في العِلم إلَّا بعد أن اتّخذ دينهُ المُحرَّف وراءهُ ظِهرياً، فإنَّ الأُمَّة الإسلامية لا تترُك شيئاً وراءها لِتتقدَّم بشيءٍ آخر، فقد مضت تَصنعُ مجدها، وتبني حضارتها، وتُضيءُ دربها، وهي تحملُ المُصحف في يدٍ والقلمَ في اليدِ الأخرى!

فالإسلامُ هو الدّين الوحيد الذي فيه مكانُ العِلم هو نفسهُ مكان العِبادة، ويجتمعُ فيه طلَبةُ العِلم وطلَبةُ الدِّين تحت سقفٍ واحد، والمواعِظ الدينيّة تُلقى مع المُحاضراتِ العلميّة جنباً إلى جنب؛ فأوَّل جامعات العالَم والثانية والثالثة و…كانت المساجد، وكتبت أوَّلُ إجازةٍ في الطِبِّ في العالَم باللُغة العربية، لُغةِ القرآن، بل مُنِحت في مسجد.

كان حفظُ القُرآن شرطاً للالتحاق بمراكز التعليم العالي، وكان النظامُ التعليميُّ في المساجد يفوقُ نظامَ أرقى الجامعات اليوم، لأنَّ الإسلامُ هو الدِّين الذي كانت أوَّل كلمةٍ نزَلت في كتابهِ المُقدّس القرآن هي: ﴿اقرَأ﴾.

وهو الدِّين الذي أوصى بطلبِ العِلم أكثر من أيِّ دينٍ آخر على وجهِ الأرض، ولم يُفرِّق بين العِلم الديني والعلم الدنيوي؛ فلم تُقيّد نصوص الشرع كلمة العِلم بمادةٍ مُعيَّنة، لذا فهي عامَّةٌ ولم يُستثن منها إلَّا ما استعاذَ منه النَّبيُّ وهو العِلم الذي لا يَنفع، وبالتالي فكُلُّ علمٍ نافعٍ في الإسلام فرضُ كفايةٍ إذا لم يوجد من يقوم به أثِمت الأُمّة جميعاً.

ولأنَّ الإسلام حثَّ على استخدام العقل والتفكُّر والتّبصُّر والتدبُّر:

﴿لَعَلَّكُم تَعقِلونَ[البقرة: ٢٤٢]، ﴿وَما يَعقِلُها إِلَّا العالِمونَ[العنكبوت: ٤٣]، ﴿قُل هَل يَستَوِي الأَعمى وَالبَصيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرونَ[الأنعام: ٥٠]، ﴿أَوَلَم يَتَفَكَّروا[الروم: ٨]، ﴿وَيَتَفَكَّرونَ في خَلقِ السَّماواتِ وَالأَرضِ[آل عمران: ١٩١]، ﴿وَفي أَنفُسِكُم أَفَلا تُبصِرونَ [الذاريات: ٢١]، ﴿لَعَلَّهُم يَفقَهونَ[الأنعام: ٦٥].

وامتنَّ اللهُ في الإسلامِ على الناس بأن منحهُم أدوات المعرفة:

﴿قُل هُوَ الَّذي أَنشَأَكُم وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصارَ وَالأَفئِدَةَ قَليلًا ما تَشكُرونَ[الملك: ٢٣].

ونهى نهياً قاطعاً عن القولِ أو العملِ بغير علمٍ أو دليل: ﴿قُل هاتوا بُرهانَكُم إِن كُنتُم صادِقينَ [النمل: ٦٤]، ﴿وَلا تَقفُ ما لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ[الإسراء: ٣٦].

ونهى عن اتّباعِ الظن: ﴿وَما لَهُم بِهِ مِن عِلمٍ إِن يَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغني مِنَ الحَقِّ شَيئًا[النجم: ٢٨]، ﴿وَإِن تُطِع أَكثَرَ مَن فِي الأَرضِ يُضِلّوكَ عَن سَبيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن هُم إِلّا يَخرُصونَ [الأنعام: ١١٦].

وبقدرِ ما رفعَ الإسلام من شأنِ العِلم فقد حطّ من شأن الجهل، ولم يعتبر العِلم مُجرَّد فضيلةٍ يملكها الإنسان ليتميّز بها عن غيره، أو مجرَّد أمرٍ يُمكن فعلهُ أو تركهُ حسب الظروف أو الحاجة أو الرغبة، ولكنَّه اعتبرَ من يُعرض عنه، ويقنعُ بالجهل، ومن لا يستخدم أدواتِ المعرفة التي وهبها اللهُ إيَّاهُ كالبهيمةِ بل أضلّ: 

﴿لَهُم قُلوبٌ لا يَفقَهونَ بِها وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرونَ بِها وَلَهُم آذانٌ لا يَسمَعونَ بِها أُولئِكَ كَالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الغافِلونَ[الأعراف: ١٧٩]، ﴿وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ الَّذي آتَيناهُ آياتِنا فَانسَلَخَ مِنها فَأَتبَعَهُ الشَّيطانُ فَكانَ مِنَ الغاوينَ۝ وَلَو شِئنا لَرَفَعناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخلَدَ إِلَى الأَرضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلبِ إِن تَحمِل عَلَيهِ يَلهَث أَو تَترُكهُ يَلهَث ذلِكَ مَثَلُ القَومِ الَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِنا فَاقصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرونَ[الأعراف: ١٧٥-١٧٦]، ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكمُ الَّذينَ لا يَعقِلونَ [الأنفال: ٢٢]، ﴿أَفَلَم يَسيروا فِي الأَرضِ فَتَكونَ لَهُم قُلوبٌ يَعقِلونَ بِها أَو آذانٌ يَسمَعونَ بِها فَإِنَّها لا تَعمَى الأَبصارُ وَلكِن تَعمَى القُلوبُ الَّتي فِي الصُّدورِ[الحج: ٤٦]، ﴿مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلُوا التَّوراةَ ثُمَّ لَم يَحمِلوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحمِلُ أَسفارًا[الجمعة: ٥]. بل جاءت كلمةُ العِلم في القرآن في مواطِن كثيرةٍ للدلالة على الدِّين الذي أنزله الله على أنبيائه، والوحي الذي أوحاهُ إليهم:

﴿وَلَئِنِ اتَّبَعتَ أَهواءَهُم مِن بَعدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظّالِمينَ[البقرة: ١٤٥]، ﴿فَمَن حاجَّكَ فيهِ مِن بَعدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلمِ[آل عمران: ٦١]، ﴿وَلَقَد جِئناهُم بِكِتابٍ فَصَّلناهُ عَلى عِلمٍ هُدًى وَرَحمَةً لِقَومٍ يُؤمِنونَ [الأعراف: ٥٢]، ﴿وَإِنَّهُ لَذو عِلمٍ لِما عَلَّمناهُ وَلكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمونَ[يوسف: ٦٨]، ﴿نَرفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وَفَوقَ كُلِّ ذي عِلمٍ عَليمٌ [يوسف: ٧٦]، ﴿إِنَّ الَّذينَ أوتُوا العِلمَ مِن قَبلِهِ إِذا يُتلى عَلَيهِم يَخِرّونَ لِلأَذقانِ سُجَّدًا[الإسراء: ١٠٧]، ﴿يا أَبَتِ إِنّي قَد جاءَني مِنَ العِلمِ ما لَم يَأتِكَ[مريم: ٤٣]، ﴿وَلا تَعجَل بِالقُرآنِ مِن قَبلِ أَن يُقضى إِلَيكَ وَحيُهُ وَقُل رَبِّ زِدني عِلمًا[طه-144]، ﴿آتَيناهُ رَحمَةً مِن عِندِنا وَعَلَّمناهُ مِن لَدُنّا عِلمًا[الكهف: ٦٥]، ﴿وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيناهُ حُكمًا وَعِلمًا وَكَذلِكَ نَجزِي المُحسِنينَ[يوسف22]، ﴿وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاستَوى آتَيناهُ حُكمًا وَعِلمًا وَكَذلِكَ نَجزِي المُحسِنينَ[القصص: ١٤]، ﴿وَلوطًا آتَيناهُ حُكمًا وَعِلمًا[الأنبياء: ٧٤]، ﴿فَفَهَّمناها سُلَيمانَ وَكُلًّا آتَينا حُكمًا وَعِلمًا [الأنبياء: ٧٩]، ﴿وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيكَ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَم تَكُن تَعلَمُ وَكانَ فَضلُ اللَّهِ عَلَيكَ عَظيمًا[النساء: ١١٣].

وبهذا يكونُ العِلم والدِّين في منظورِ الإسلام وجهين لعُملةٍ واحدة! ويكفي لنُدرِك عِظَم مكانةَ العِلم في الإسلام أن نذكر بأنَّ مادة “عِلم” وردت في القرآن أكثر من سبعمئة مرَّة، أمَّا في السُنّة النبوية فإحصاء هذه الكلمة فيها يَكادُ يكون مُستحيلاً.

*مراجع للتوسُّع:

1- (مدخلٌ إلى موقف القرآن الكريم من العلم): عماد الدين خليل.

2- (الإسلام والعلم التجريبي): يوسف السويدي. 

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *