مسير ام مخير -مستطيل-

كثيراً ما يُطرَح سؤال: ( هل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر) على الأفعال الاختياريّة، ويتحوَّل السؤال إلى إشكال، ثمّ يأخذ حيّزاً من النقاشات

بداية لعلّ القارئ الكريم يُفاجَأ إذا قلنا له: إنّ هذا السؤال مجرّد وهم، وليس من طرح الإسلام في شيء، وإنّما دخل إلى تراثنا الإسلامي من اتجاه الرواقيّين في الفلسفة اليونانيّة، عندما تُرجِمَت كتبهم إلى اللغة العربيّة ودخلت إلى العلوم الإسلاميّة.
فقد عُرِضت النظريّة الجبريّة التي تقول إنّ الإنسان مسيَّر لا خيار له، وهو مجبر في جميع سلوكه وأفعاله، ولا يملك فعلاً بإرادته، ومَثله كالريشة في مهبّ الريح، وبعد أن انتشرت هذه الفلسفة اليونانيّة، وأقحمت في مسألة القضاء والقدر، وأُلبِسَت ثوب الإسلام الذي هو منها براء، انبرت في وجهها فرقة أخرى بردّة فعل عكسيّة، وهي القدريّة، فأنكرت القضاء والقدر من أصله.

إنّ ظهور القدرية-بغضّ النظر عن خطئها- سلوك طبيعيّ يشير إلى أنّ الجبر فكرة دخيلة إلى الإسلام لا عهد له بها.

وقد استساغ بعضهم النظريّة الجبريّة، وتوهّموا بأنّ الإنسان مسيَّر في جميع أفعاله، وأخذوا يبرّرون المعاصي بأنّها من تقدير الله، ويحتجّون لفشلهم وتقصيرهم بأنّ الله قد كتب عليهم الإخفاق ولا يريد لهم النجاح.

والأمر ليس كذلك، والقضاء والقدر ليس بهذا المسلك البتّة.

وينبغي في دراسة مثل هذا الموضوع ألّا نغفل المسلّمات الآتية:

– إنّ الله خلق قانون السببيّة، وهو قانون ثابت.

– إنّ عِلمَ الله تعالى كاملٌ، ومشيئته نافذة.

– إنّ الله خصّ الإنسان بالعقل والاختيار.

فمن خلال قانون السببيّة ربط الله تعالى المسبَّبات بالأسباب، فجعل التعلّم سبباً للعلم، وجعل السعي سبباً للكسب، وجعل إصابة الـمَقتل سبباً للموت، وهكذا.

فمن اختار طريق العلم والتعلُّم وأخذ بالأسباب وجدّ واجتهد، وقرأ ودرس وبحث يصبح عالماً، ومن اختار طريق الصنائع وأخذ بأسبابها فتعلّم حرفة ما، وكدّ وكدح، وبذل جهده وأتقن عمله سيكون ماهراً في حرفته هذه.

ومن قصد طاعة الله تعالى وأخذ بأسبابها يسّر له سبيلها.

وثمّة رجل آخر لم يتعلّم ولم يبذل وقتاً ولا جهداً، ولم يأخذ بأسباب التفوّق، وباء بالإخفاق، فقال: إنّ الله أراد لي هذا الحال، وأراد لزيد أن يكون عالماً وأراد لعمرٍ أن يكون محترفاً ماهراً.

ورجل آخر يسلك سبل المعاصي ويخطّط لها ويتّخذ أسبابها ويقول: إنّ الله اختار لي المعصية ولا يريد لي أن أكون من الطائعين.

والجواب: نعم عَلِم الله ذلك، وأراد الله لزيد أن يكون عالماً لأنّه يعلم أنّه سيختار طريق العلم، فقدّر له ذلك وأراده له، وأراد لعمرٍ أن يكون محترفاً ماهراً، وأراد للطائع أن يكون طائعاً، وأراد لهذا العاطل أن يكون مخفقاً، وأراد للعاصي أن يكون عاصياً، وقدّر الله تعالى ذلك قبل أن يخلق الخلائق.

فعِلم الله تعالى يتّصف بالكمال، يعلم كلّ ما كان وما يكون وما لم يكن، وعلم منذ الأزل أنّ زيداً سيختار طريق العلم ويجدّ ويجتهد، فأراد الله له ذلك وقدّره له، وقد أراد له هذا الطريق قبل أن يريده زيد، وعَلم منذ الأزل أنّ عمراً يريد أن يكون صانعاً ماهراً، ويسلك هذا الطريق ويكدّ ويكدح فيه، فقدّر له وشاء له ذلك قبل أن يشاء عمرو، وعلم أنّ المطيع سيختار الطاعة فقدّرها له وشاء له ذلك.

وعلم منذ الأزل أنّ رجلاً سيختار الكسل والتقاعس فكتب عليه الإخفاق، وعلم أنّ الآخر سيختار المعصية فقدّر له المعصية وأرادها له.

هذا الأمر لا خلاف فيه، لكنّ الخلل في التفكير يأتي من إعطاء بعض صفات الله تأثيراً غير متعلّق بها، فيظنّ الظانّ أنّ علم الله تعالى له تأثير على أفعال العباد وتصرّفاتهم، فيسلب عنهم الاختيار، وهذا الربط غير صحيح وليس منطقيّاً.

بمعنى: أنّه لا تعلّق بين علم الله وتقاعسي وكسلي، ولا علاقة بين علم الله تعالى ومعصيتي له، فالعلم صفة كاشفة وليست مؤثّرة، وعِلمُ الله تعالى لا يؤثّر على أفعال المكلّفين.

ومثال ذلك-ولله المثل، الأعلى مع الفارق بين علم الله وعلم البشر- لو أراد أستاذ اختبار طلاّبه، وهو يعلم قبل أن يختبرهم أنّ زيداً سيتفوّق، وعمراً سينجح، وبكراً سيرسب، بناء على معرفته وخبرته باجتهادهم وتحصيلهم العلمي، وقد أمرهم بالدراسة والاجتهاد، ومع هذا فقد أراد لمن توقّع له التفوّق أن يتفوّق، وأراد لمن توقّع نجاحه أن ينجح، وأراد لمن توقّع رسوبه أن يرسب.

 فالأستاذ لم يأمر الكسول بالكسل، بل أمره بالاجتهاد، لكنّ بكراً اختار الكسل بإرادته، وقد علم الأستاذ أنّه سيرسب، وأراد له ذلك؛ لإظهار جهد واجتهاد كلّ واحد من هؤلاء.

فهل عِلمُ الأستاذ بأنّ بكراً سيرسب وإرادته له الرسوب أثّرَ في رسوبه؟!

 لا، فلا تأثير لعلم الأستاذ وإرادته برسوب هذا ونجاح ذاك، لأنّ العلم صفة كاشفة وليست مؤثّرة.   

وكذلك أراد الله تعالى للمطيع أن يكون مطيعاً وللعاصي أن يكون عاصياً؛ لأنّه علم منذ الأزل أنّ كلّ واحد منهما سيختار هذا الطريق، ويستحيل أن يقع شيء في الكون دون مشيئة الله تعالى وإرادته، ولو وقع شيء في الكون دون إرادة الله تعالى لكان مقهوراً، ويستحيل ذلك في حقّ الله تعالى.

فإن قال قائل: إنّ الإنسان يفعل المعاصي أو يقع في الفشل بسبب ما قدّره الله له، فأين اختيار العبد؟

فالجواب: لو اختلفت إرادة الله مع إرادة العبد في الأمور التي خيّره الله فيها لكان الإنسان مسيَّراً ومجبراً لا مُخَيّراً،  و يظهر هنا تناقضٌ واضح، فكيف تطلبون أن يخالف اختيار الله للعبد ما يختاره العبد لنفسه؟ وهل تريدون أن يختار المكلّف شيئاً ويتوجّه إليه بكلّيّته ثمّ يسيّره الله إلى شيء آخر؟ فهذا هو عين الإجبار!

فالتخيير هو أن يكتب الله تعالى للإنسان ما يختاره من أفعال، ولا يختلف اختياره عن مشيئة الله وإرادته فيما خيّره الله فيه، والإجبار أن يريد الإنسان شيئاً ويكتب الله له غير ما يريد ويختار.

إنّ مسألة الإجبار والتسيير المطلق لم يكن لها وجود في عصر النبوّة والصدر الأوّل، عهد الصفاء الفكري وسلامة المعتقَد، وهذا ما قرّره سيّدنا عليّ t عندما سأله الشيخ الشامي عن مسيره إلى الشام، أكان بقضاء من الله وقدره؟ وكان يظنّ أنّ الإنسان مسيّر، فقال له الإمام عليّ t (لعلك ظننت قضاءً لازماً، وقدراً حتماً، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والأمر والنهي من الله، ولما كانت تأتي من الله مَحْمَدة لمحسن ولا مَذمَّة لمسيء، ولما كان المحسن بثواب الإحسان أولى من المسيء، والمسيء بعقوبة الذنب أولى من المحسن، تلك مقالة عبَدَة الأوثان وجنود الشيطان وخصماء الرحمن، إن الله أمر تخييراً، ونهى تحذيراً)[2].

فإن قال قائل: كثيراً ما يختار الإنسان شيئاً ويكتب الله له غير ما يريد.

فالجواب: نعم هذا واقع لا محالة، وإليك بعض التفصيل:

أ- إن وقع ذلك في الأمور التكليفيّة، أي الأحكام التي يحاسب الله عليها عباده: فإنّ الله تعالى لا يؤاخذ على الأمور التكليفيّة إلاّ ما كان باختيار المكلّف وإرادته.

  ومثال ذلك: أن يقود سيّارته وفجأة ودون قصد يدهس رجلاً فيرديه قتيلاً، فقد كتب الله أجل ذلك الرجل على يدي هذا السائق، وهو لا يريد دهسه ولا قتله.

ففي هذه الحالة يجري قانون السببيّة الذي جعله الله في الكون، بأنّ مَن دهسته سيّارة غالباً يلقى حتفه.

فإن كان المدهوس قد ألقى بنفسه أمام السيّارة لينتحر، فقد اتّخذ سبب الانتحار باختياره، فيؤاخذه الله على فعلته هذه، وإن كان غافلاً شارداً لا يؤاخذه الله على شروده.

وأمّا السائق: فإن لم يصدر منه تقصير فلا يؤاخذه الله بالدهس والقتل؛ لعدم التقصير وعدم اختيار الدهس.

أمّا إذا كان مقصّراً: بانشغاله عن الطريق، فإنّ الله يؤاخذه على تقصيره لا على موت المدهوس.

أمّا وجوب الكفارة والدية فهذا أمر تعبّديّ إظهاراً لحرمة الإنسان عند الله، وليكون ذلك مدعاة لعدم التساهل والتقصير في ما يؤدّي إلى إزهاق النفوس.

وكذلك لو أكل أو شرب في رمضان ناسياً فإنّه لا يفطر، ويبقى صيامه صحيحاً؛ لأنّه أكل أو شرب دون قصد ولا اختيار.

وهكذا ففي الأمور التي يترتّب عليها ثواب وعقاب لا يؤاخذ الله إنساناً على فعل دون اختيار وقصد، بل يعامل الله عباده في هذه الأمور بالفضل والامتنان لا بالعدل فحسب.

ب- أمّا إذا خالف اختيار الإنسان ما قُدّر له بأمور المعاش والدنيا: مثل أن يجدّ ويجتهد في الدراسة ولم يكتب له التوفيق والنجاح، ففي هذه الحالة تجري الأمور بقدر الله وتنفذ مشيئته، ولكنّ المطلوب من المكلّف أن يأخذ بالأسباب، وأمّا تحقيق النتائج فليست عليه، وإنّما على الله تعالى، وهذا أمر مسلّم به.

ومن المعروف عن المبدعين والمشاهير أنّهم فشلوا مئات المرّات ثمّ حقّقوا إنجازاتهم بعد الصبر والمثابرة، مثل أديسون وآينشتاين، وهنري فورد، وغيرهم كثير، فكانت سنّة الله في الكون أنّه لا يُنال المراد دون جهد وبذل وتعب، ولكن إذا أخفق في المرة الأولى والثانية والثالثة فليست هناك قوّة تمنعه من إعادة المحاولة، والصبر والمتابعة حتّى يصل إلى مقصوده.

ونجد هذه الصورة-وإن لم يتحقّق المقصود إلاّ بعد محاولات عديدة- أنها بمجملها تمثّل قانون الأسباب والمسبّبات في الكون.

 أمّا إذا أخذ بأسباب النجاح ولم يُكتَب له التوفيق فلا يُلام، وهنا يأتي اختيار الله للعبد، فقد يصرف الله عنه شيئاً يظنّه خيراً وهو شرّ له، وقد يحجب عنه الخير تكفيراً لذنوب استحقّ بها عقوبة الله.

 وهنا تظهر عبوديّة الإنسان وربوبيّة الله تعالى، فالقدر والمستقبل بيد الله تعالى وليس بيد الإنسان، لذلك كان من لوازم الإيمان (التوكّل على الله) أي أن يأخذ الإنسان بالأسباب ويعتمد على الله في تحصيل النتائج، فيدرس الطالب ويجدّ ويجتهد، ثمّ يتبرّأ من حوله وقوّته ويلجأ إلى حول الله وقوّته ويطلب منه الفتح والتوفيق، ويغرس الفلاح البذر ويطلب من الله أن ينبت الحقل، ويأخذ المريض العلاج ويطلب من الله الشفاء؛ لأنّ الفاعل الحقيقي في الكون هو الله تعالى، وهنا موضع الدعاء الذي حثّت عليه الشريعة، وأنّه ينفع وله تأثير وأنّه سبب التوفيق.

ففي هذه الجزئيّة قد يختار الله للإنسان غير ما يختاره لنفسه، ومن ثمّ يكون مسيّراً، ولكن لا مؤاخذة عليه.

فإن قيل: إذا بذل أحدهم جهده فكُتب له النجاح في الدنيا، وبذل الآخر جهده فلم يتحقّق له ما يريد ألا يتنافى هذا مع عدل الله تعالى؟

فالجواب: إن كان السائل مسلماً سيدرك أنّ من مسلّمات الإيمان أنّ الحياة لا تقتصر على الدنيا فحسب، وإنّما هناك آخرة، والله تعالى يجزي ويعوّض من رضي بما كتبه الله له أضعافاً كثيرة لا تقارَن بما فاته من حظّ الدنيا، بل أعظم مما يناله أعظم الملوك.

أمّا إذا كان المعترض غير مؤمن بالله فليَلُم الطبيعة على تصرّفها هذا!

والخلاصة:

إنّ توهُّم الإجبار وتسيير الله للإنسان في الأفعال الاختياريّة أمر ينكره العقل والواقع، فهل سمع أحد أنّ رجلاً اختار أن يذهب إلى المسجد فساقته قدمه إلى الخمّارة دون إرادة منه؟!

وهل سمع أحد بأنّ مجرماً ذهب إلى بيت فسرق المتاع وقتل الأولاد ولم يقدّم المجني عليه أيّ شكوى بل عذره؛ لأنّ ذلك المجرم كان مسيّراً لا اختيار له، وقد فعل جريمته دون إرادته؟!

 

[1] انظر مسألة القضاء والقدر: (101) عبد الحليم قنبس.

[2] نهج البلاغة: (4/17).

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *