لماذا لا ينقذ الله عزوجل أهل غزة

Loading

لماذا لا ينقذ الله عز وجل أهل غزة 

كم ترتعد الفرائص وتتفطَّر القلوب من تلك المشاهد التي تعرضها الشاشات، فالصواريخ تتفجَّر كالبراكين الملتهبة في سماء غزّة، ويتدفّق منها الدُّخان الأسود القاتم المختلط بغبار الركام كالغيوم المكفهرّة، وتتهاوى الأبنية على رؤوس ساكنيها من النساء والأطفال والشيوخ، فترتسم تلك الصور على الخواطر بألوانٍ داكنةٍ مُرْبَدّة، وتنعكس خيبةً في النفوس، وضيقاً في الصدور، وحزناً وألماً في القلوب.

   لا شكّ أنّ هذا الحزن والتأثّر والرّقّة دليلٌ على حياة القلب، وأنَّه مليءٌ بالرحمة، والله يحبُّ هذه الصفة من العباد؛ لأنّها من صفات المؤمنين.

   وإذا توقّف الأمر عند هذا الشعور، مع التسليم لأمر الله، والدعاء والتضرّع لهم، وتحديث النفس بالرغبة في نصرتهم والنزول إلى الميدان لو أتيح المجال، يكون المؤمن حينئذٍ في أعلى المراتب.

   ولكنّ الخلل يكون عند اجتماع الهواجس النفسية والوساوس الشيطانية لإفساد هذه الحالة الإيمانيّة، وتحويلها إلى اعتراضٍ أو إنكارٍ في سؤال معهود: أين الله من أهل غزّة، أليسوا مسلمين؟

لماذا يسلّط عليهم أعداء الدين والإنسانيّة، ولا ينقذهم من هذا الدمار والأهوال التي تحيط بهم؟

والجواب:

  إنّ من يعجب مما وقع لأولئك الشهداء ويطرح هذا السؤال، لم يدرك سنّة الله في الكون، ولم يدرِ أنّ ما يقع هو الخطّة الحقيقيّة التي أخبرنا الله عنها في القرآن، وحدّثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالخطأ في تصوّر المنكر وتفكيره، وليس في مجريات الأحداث.

 وإنّ مَثل مَن ينكر ويعترض كالذي التحق بدورةٍ تدريبيّةٍ ليرفع من رتبته العسكريّة، وهو يظنّ أنّه يقضي نزهةً واستجماماً، فإذا أُمِر بالمسير وتسلّق الجبال الشاهقة، يعترض حتّى لا يُنهك التعبُ جسمَه، وإذا فُرِضت عليه التدريبات الشاقّة، يقول: ينبغي استبدال هذه التدريبات بالألعاب المسلّية!

   وأمّا من يعلم الخطّة المرسومة، فيُقبِل إليها وهو في أهبة الاستعداد، ولا ينظر إلى المتاعب والمشاقّ التي تصيبه؛ لأنّه يدرك أنّ طبيعتها مبنيّة على الصبر والجلَد، ومواجهة المصاعب، وأنّ التَّرقي ورفعة المراتب لا تتحصّل إلّا بعد مجاوزة تلك الصعوبات والمشاقّ بنجاح.

   هذه هي الحقيقة التي غابت اليوم في ظلّ التوجّه العالمي إلى المتع الدنيويّة، والخلود إلى راحة الأجساد على حساب المبادئ والقِيَم، تلك المعاني التي صدّرها الغرب، حتّى ظنّ الناس أنّ متاع الدنيا هو الغاية العظمى من الحياة، وإذا تكدّر صفوها فقد فات الحظّ ووقعت الخسارة الكبرى، وغفلوا بالكلّيّة عن الفصل الثاني من حياة الإنسان، وهي الدار الآخرة.

 لذا فإنّ هذه المقالة غير موجّهة لمنكري الأديان؛ لأنّ مناقشة أفكارها مبنيّةٌ على الإيمان بالله واليوم الآخر، وبيان الاتّساق والانسجام بين ما أخبر الله ورسوله، وبين ما يجري من سنن الله في الكون.

  وأمّا منكر الأديان فلا يؤمن بذلك كلّه، ومن التناقض أن يطرح هذا الإشكال؛ لأنّه يلوم إلهاً وهمياً حسب تفكيره، وعليه أن يلقي اللوم على الطبيعة العمياء، إلّا أنّ الطبيعة معذورةٌ لأنّ الأعمى لا عتب عليه!

وللعودة إلى الجواب فلا بدّ من تقرير الحقائق الآتية:

أولاً- أحكمت الشريعة عوامل القوّة والتحصين في تعليماتها، وأمرت بالاعتصام بحبل الله، وعدم التفرّق والتنازع، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وقال أيضاً: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، ليلوذ المسلمون بحصن هذه الوحدة التي تشكّل قوّةً وهيبةً تحفظ النفوس وتصون كلّ من يحتمي بحماها، ولا يكون للعدوّ سبيلٌ للفتك بالمسلمين، فإذا خالف المسلمون تعاليم الله ضعفوا وزال ذلك الحصن، ومن ثمّ نتج الوهن وتسلّط العدو بمخالفة أوامر الشرع.

   وقد ربط الله المسبَّبات بأسبابها؛ ولن تُخرَق العادة إلّا في أحوالٍ خاصّة، فعندما سلك العدوّ مسالك القتل والتدمير تحقّق لهم ذلك؛ ومن الوهم أن ننتظر من الله تعطيل حركات العدوّ وإبطال مفعول أسلحتهم، أو إهلاكهم بخارقة، فلن تخرق العوائد إلّا لمن دخل ميدان القتال، وقام بالواجب التكليفي، حيث يأتيهم الإمداد من الله، وينصرهم على ضعفهم، وهذا أمرٌ مشهود.   

ثانيا- لا اعتبار للحياة الدنيا عند الله تعالى، ولو كانت لها قيمة لما سلّط الله العدوّ على المؤمنين: 

فقد بيّن تعالى هوان الدنيا وحقارتها، وأنّ الآخرة هي الحياة الحقيقيّة الباقية، قال تعالى: {وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

قال الزمخشري: (هذِهِ فيها ازدراءٌ للدنيا وتصغيرٌ لأمرها، وكيف لا يصغّرها وهي لا تزن عنده جناح بعوضة، يريد: ما هي لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها، إلا كما يلعب الصبيان ساعةً ثم يتفرّقون، {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ} أي ليس فيها إلا حياةٌ مستمرةٌ دائمةٌ خالدة لا موت فيها، فكأنَّها في ذاتها حياة) [الكشّاف: (3/463)]

وقال r: (لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ) [الترمذي، وابن ماجه].

   لذا لم يعصم الله المؤمنين من تسلّط الظالمين أبداً، ولم يعهد لأحدٍ بذلك، بل إنّ المؤمنين على مرّ الأزمان تعرّضوا لظلم الكفّار وتعذيبهم وقتلهم، حتّى بعض الأنبياء قُتِلوا على أيدي الكفرة الفجرة، كسيدنا يحيى وسيّدنا زكريّا، وكثير من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام.

   وكذلك نجد المسلمين في مكّة تعرّضوا لأشدّ أنواع العذاب من المشركين، وأنّ آل ياسر رضي الله عنهم ماتوا تحت التعذيب، وأنّ المسلمين في شِعب أبي طالب حوصروا زهاء ثلاث سنين، قاطعهم المشركون فيها مقاطعة تامّة، ومنعوا عنهم البيع والشراء والنكاح وكل ما يتعلّق بالحياة، حتّى صار الأطفال يبكون من شدّة الجوع ولا يستطيعون النوم، وأكل المسلمون أوراق الشجر والجلود من شدّة المسغبة.

ولم يكن آنذاك في الأرض كلّها مؤمن يوحّد الله غير هؤلاء المحاصَرين، ومعهم سيّد الكونين محمد r، فالكفرة كانوا يتمتعون بالدنيا، وأفضل خلق الله محرومون ممّا يسدّ رمقهم! 

   وقد وردت قصّة أصحاب الأخدود في الكتاب والسنّة، بأنّ أهل القرية عندما آمنوا بالله رب الغلام، أمر الملك بحفر أخدود في أفواه الطرقات، وأضرم فيها النيران، وأمر بإحراق كلّ من لم يرجع عن دينه، فثبت المؤمنون على دينهم وأُلقوا في تلك الحفر المشتعلة بالنيران واستشهدوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبيّ لها فتقاعست أن تقع في الحُفَر؛ خوفاً على طفلها، فقال لها الغلام: (يا أُمّه اصبري فإنك على الحق) [أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه] فقد نطق الرضيع وأمر أمّه أن تلقي نفسها في النار، وأخبرها بأنّها على الحقّ.

ثالثاً- إنّ الابتلاء يلحق المؤمنين لإظهار صدقهم:

إنّ الله يمحّص عباده ويبتليهم ليُظهِر صدقهم وإيمانهم، فينزل عليهم البلاء والمصائب؛ ويكون النصر والفوز نتيجة الصبر والثبات، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] وقال أيضاً: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 – 157]

   وإنّ البلاء يشتدّ بالمرء كلّما ازداد إيمانه، ويخفّ كلّما ضعف دينه، قال سعد t، سألت رسول الله  r: أي الناس أشد بلاء؟ فقال: (الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، فيُبتَلى الرجل على حسب دينه، فإن كان رقيقَ الدين ابتلي على حسب ذاك، وإن كان صُلب الدين ابتلي على حسب ذاك، قال: فما تزال البلايا بالرجل حتى يمشي في الأرض وما عليه خطيئة) [أحمد والحاكم والبيهقي].

   وإنّ اشتداد المصائب والبلايا التي تنزل على المؤمنين إنّما هي لكرامتهم عند الله وليست عقوبة لهم، وهذا المعنى لا يستوعبه جلّ أهل هذا العصر الذي رسخت فيه مفاهيم الانغماس في الدنيا والجزع من مكدّراتها، لكنها الحقيقة، قال r : (فو الذي نفس أبي القاسم بيده، إن الله ليبتلي المؤمن بالبلاء، فما يبتليه إلا لكرامته عليه، لأنَّ الله قد أنزل عبده بمنزلة لم يبلغها بشيء من عمله دون أن ينزل به من البلايا ما يبلّغه تلك المنزلة) [مسند ابن أبي شيبة، والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم، والطبراني في الكبير، وابن شاهين في الترغيب].  

   لكنّ العاقبة للمؤمنين حتماً، فإنّ صبر النبي r وأصحابه قد أنتج نشر الإسلام في العالم، ودوامه على مرّ العصور، فللباطل جولة، وللحقّ دولة، وإنّ الصبر من بشائر النصر إن شاء الله. 

رابعاً- إنّ هذا الذي نراه عذاباً وقتلاً، هو في الحقيقة اصطفاء ومِنَح من الله؛ ليجتاز هؤلاء العباد دار الابتلاء والعناء بأعلى الدرجات، ويزول عنهم الخوف والحزن، وينتقلوا إلى الحياة الحقيقيّة حيث النعيم المقيم، قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169 – 171].

   ولو عُرِضت الدنيا بحذافيرها على أولئك الذين نراهم أشلاء وجثثاً على أن يعودوا إلى الحياة، ويكونوا ملوكاً، لرفضوا أن يتركوا ما هم عليه من النعيم، مهما أُعطوا من مُتَع الدنيا، إلا المقاتلين، فإنّهم يتمنَّون أن يعودوا إلى الدنيا عشر مرات، من أجل أن ينالوا الشهادة فحسب، لا لأجل الدنيا، قال r: «ما من أحدٍ يدخل الجنَّة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وأنَّ له ما على الأرض من شيء، غير الشهيد، فإنَّه يتمنَّى أن يرجع، فيُقتَل عشر مرات، لما يرى من الكرامة» [متفق عليه].

   ومن ثمّ نجد أنّ ما يحصل لأهل غزّة من القتل والدمار هو ذاته الذي حصل للمؤمنين الصادقين على مرّ العصور، وهو يتسق وينسجم مع سنّة الله في الكون، وأنّ ما نراه عذاباً وقتلاً هو في الحقيقة اصطفاء ومنحٌ إلهيّةٌ لينتقلوا من عذاب الدنيا إلى نعيم الآخرة.

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *