لماذا حُورب؟

Loading

لماذا حورب

كان لدى المشركين أكثرُ من سببٍ لعداوة الإسلام، والتجهُّم لرسالته، ومخاصمة أتباعه. ولسنا نظنُّ الاقتناع بصلاحية الوثنية والاطمئنان إلى ما فيها من جهالةٍ وخرافة أحدَ هذه الأسباب، بل إنَّنا نستبعد ذلك من رجالٍ اشتغلوا بشؤون التجارة، وطوَّفوا في آفاق الدنيا، واستعرضوا الآراء والأفكار، وقاموا برحلاتٍ عظيمة الأثر في رفع المستوى العقلي… ثمَّ استمعوا بعد ذلك لمحاجَّة القرآن وأسلوبه الناصع في عرض الدعوة وبسط آياتها…

أترى أولئك النفر من قادة قريش وساستها كانوا يتعصَّبون للأصنام ضدَّ الإسلام عن فقهٍ واعتقاد؟

إنَّ سرَّ التكذيب والخصومة أبعد من ذلك، إنَّ التعصُّب لهذه الحجارة المعبودة لم يكن إلَّا ستاراً للحرص على المنافع المبذولة في ظلِّها، والشهوات المنطلقة برضاها، والسيادة المقرونة باسمها.

إنَّ حرص أصحاب الأوضاع القائمة على ما يستفيدون منه، ويرون ضياعه ضياع مجدهم وسقوط منزلتهم. والدعوة إلى الإسلام لم تكن دعوةً لهدم الأصنام فقط، بل لهدم الرجال الذين ربطوا كبرياءهم ومصالحهم ببقائها، وهاجت في نفوسهم مشاعر الحقد والغطرسة ضدَّ من يُهاجمها، ونظروا إلى الدعوة الجديدة ورجالها من زاويةٍ خاصَّةٍ! زاوية المنافسة والاستكثار والاستنكار… وانظر إلى هؤلاء المشركين يكشفون عن عواطفهم الدفينة وأسباب تكذيبهم لصاحب الرسالة العظيم فيصيحون: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا… [سورة القصص الآية 57].

﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سورة الزخرف الآية 31].

﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ.. [سورة الأنعام الآية 124].

﴿أَءُنزِلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَيۡنِنَاۚ [سورة ص رقم ٨].

ماذا ترى في هذا التساؤل والاعتراض.

ألست تسمع فيه صراخ الهوى والأثرة ضدَّ الحقِّ المبين، لا لشيءٍ في هذا الحقّ غير الحسد لمن جاء به، والشعور بأنَّ انتصار الحقِّ سوف يقوِّض دولة الظلم، ويزلزل عظماءها، ويتخطَّفهم من أرضهم، ويمحو كافَّة ما لهم من امتيازاتٍ باطلة؟

ذاك سرُّ كراهية الجبَّارين والطغاة للإسلام ودعوته الجليلة في كلِّ زمانٍ ومكان. إنَّ فرعون لما تواقح على موسى، وألَّب حاشيته ضدَّ رسل الله لم يكن يعلم من نفسه أنَّه إله، وما كان أتباعه يحسبون أنفسهم عبيدَه الذين خلقهم من عدم… إنَّه الكبر والاستعلاء.

﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [سورة النمل الآية ١٤].

وإنَّه ليستنهض الهمم في مقاتلة عباد الله بهذا الأسلوب العاتي المغرور:

﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ(56) [سورة الشعراء الآية ٥٣ حتى ٥٦].

أترى في هذا الأمر الفرعوني غلَّ السفه والجبروت؟!

أترى فيه أثارةً لعقلٍ أو بحقّ…؟ كلّا.

رحمته في الجهاد

في هذا الطريق الجائر مشت العلاقة بين رسل الله إلى الناس، وبين حرَّاس الضلالة والفوضى بين الناس. ما إن يدور النقاش على هذا النحو الذي رأيت حتَّى يضيق المبطلون بما يسمعون، ثمَّ يبدأ النفي والاضطهاد، وتبدأ الهجرة والفرار.

﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ(14) [سورة إبراهيم الآية 13 و 14]

إنَّ الخبراء بأحوال المجتمعات الفاسدة يعرفون بفطرتهم ما سيلقاه مصلحوها من عناء. وقد كان ورقة بن نوفل صادق الحدس عندما قدَّر أنَّ مكَّة سوف تتمرَّد على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وتأبى مقامه فيها، وجاش في نفسه حبُّ النجدة والانتصار للحقِّ المستضعف، فقال: ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك. فتساءل النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، دهشاً:

(أوَ مُخرجيَّ هم…؟!) إنَّه تساؤل الرجل الشريف، البعيد عن خواطر الشرِّ ووساوس السوء، لا يمرُّ بفؤاده السمح ظلٌّ للعدوان فهو لا يفترضه في غيره! ثمَّ هو بأمانته ومروءته وطيد المنزلة بين الناس، فما الذي يؤلِّب الناس عليه ويحملهم على إخراجه؟

بيد أنَّ ورقة يؤكِّد ما يقول: (ما أتى رجلٌ قومَه بمثل ما جئت به إلَّا أخرجوه، ولئن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزَّراً).

وقد حدث ما توقَّعه ورقة، بل تمخَّضت الأحداث عن عدوانٍ أشدّ. فلم يخرج الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم فقط، بل وضعت الجوائز المغرية لمن يأتي به حيَّاً أو ميتاً بعد ما أخفقت المؤامرة المبيتة على سفك دمه!

إنَّ كبرياء السادة، وملق الأتباع يضع أمام المصلحين عقباتٍ جِساماً دون تحطيمها جهاد وجلاد، وينبغي أن يتهيَّؤوا لذلك حتَّى لا تروعهم المفاجأة، وما أحسن قول المتنبِّي:

عرفنا الليالي قبلَ ما صنعت بنا              فلمَّا دَهَتنا لم تزِدْنا بها علما

إنَّ العداوة بين التوحيد والشرك بدأت عنيفةً جدَّاً، برغم أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم حاول جاهداً أن يلطِّف من حدَّتها، وأن يتجنَّب مضاعفاتها، وأن يضفي من فضله ونبله على ما حوله، فهو يصلُ مَن قَطعَه، ويُعطي من حرمه، ويعفو عمَّن ظلمه، ويُصابر السفهاء، ويلين للمشاغبين.

لكنَّ ذلك كلَّه لم يجد فتيلاً مع من اتَّخذ إلهه هواه…!

وهكذا أثبت تاريخ (العنهجية الوثنية) أنَّ ترويضها مستحيل، وأن تلطُّف الأنبياء معها لم يزدها إلَّا ضراوة، وأنَّ وحشيتها لا علاج لها إلَّا تقليم الأظافر وتحطيم الأنياب، وأنَّها لو استطاعت سفك الدم الحرام قتلت، ولو استطاعت كبت الحريَّات فعلت، لا يُثنيها شيء أبداً. والعداوة الأزلية الأبدية بين المحقِّين والمبطلين ليست ممَّا يأسف الإنسان له أو يستوحش منه مادام يحمل عليها حملاً.

بل لقد كان الرجال أصحاب المبادئ يفخرون بها ويرونها آية الصدق والاستقامة. 

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *