لماذا تختلف أفهامنا

لماذا تختلفُ أَفهامنا؟

Loading

كان النَّاس أمَّةً واحدةً، أي لم توجد الأطماع، ولم يوجد حبُّ الاستئثار بالمنافع مما يجعلهم يختلفون, فأساس الاختلاف هو الطمع في متاع الدنيا، ومن هنا ينشأ الهوى

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّد المرسلين، وآله وصحبه والتابعين بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:

ليست أفهام البشر للأشياء والأمور واحدةٌ، فقد خلق الله تعالى الاختلاف بين البشر فقال جلَّ من قائل: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[البقرة: 213]

(ولقائل أن يقول: فمن أين إذن جاء الخلاف إلى حياة الناس؟ والجواب: كان النَّاس أمَّةً واحدةً، أي لم توجد الأطماع، ولم يوجد حبُّ الاستئثار بالمنافع مما يجعلهم يختلفون, فأساس الاختلاف هو الطمع في متاع الدنيا، ومن هنا ينشأ الهوى.

ومن رحمة الحقِّ سبحانه وتعالى بالخلق, ومن تمام علمه سبحانه بضعف البشر أمام أهوائهم واستئثارهم بالمنافع، أرسل الرُّسل إلى البشر ليبشِّروا ولينذروا.

فكأن الله تعالى لم يشأ أن يترك البشر ليختلفوا، وإنَّما الغفلةُ من الناس هي التي أوجدت هذا الاختلاف.

ومن هذا القول الحكيم نعرف أنَّ الاختلاف لا ينشأ إلا من إرادة البغي، والبغي: هو أن يريد الإنسان أن يأخذ غير حقه)([1]).

ومن هنا نستطيع أن نضع ثلاث نقاطٍ منطقيَّةٍ مهمَّةٍ مع أمثلةٍ عنها تودي بنا إلى الاختلاف في أفهامنا، وهي كالآتي:

أوَّلاً: تفاوُت المدارك والعقول:

فالله تعالى قسَّم بين الخلق أرزاقهم وأخلاقهم وعقولهم.

عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه([2]) قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ الْوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ([3])؟

قَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ([4])، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ([5])، مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْماً يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلاً فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ([6]). قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟

قَالَ: الْعَقْلُ([7]) وَفَكَاكُ الْأَسِيرِ([8]) وَأَلَّا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ([9]). [أخرجه الإمام البخاري في صحيح]

وإنما وقع التفاوُت والاختلاف من قبل الفهم، فمن رُزق فهماً وإدراكاً ووُفِّق للتَّأمل في آياته والتدبُّر في معانيه فتح الله سبحانه وتعالى عليه أبواب العلوم.

والمعنى المراد من الحديث المذكور: أي ليس عندنا أهلَ البيت إلَّا ما في المصحف، إلّا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن؛ يعني ما يفهم من فحوى كلامه ويستدرك من باطن معانيه التي هي غير الظاهر من نصِّه والْمُتَلقَّى من لفظه، ويدخل في ذلك جميع وجوه القياس والاستنباط التي يُتوصَّل إليها من طريق الفهم والتَّفهُّم([10]).

ثانياً: فهم الأشياء يختلف من شخصٍ إلى آخر:

فقد أفهمُ مسألةً بطريقةٍ ما، وتفهمها أنت بطريقةٍ أخرى، وأمرٌ طبيعيٌّ أن تختلف الأفهام للشَّيء الواحد.

عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ من الفجر[البقرة: الآية 187]  

عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ([11]) أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلَا يَسْتَبِينُ لِي!

فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: “إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ“. [أخرجه الإمام البخاري في صحيحه بلفظه، والإمام مسلم في صحيحه].

وفرض الصّيام كان في أوَّل الهجرة في السَّنة الثَّانية، وصام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تسعة رمضانات، وعديّ بن حاتم رضي الله تعالى عنه كان متأخر الإسلام، فيحمل قوله: (لما نزلت الآية) يعني: بعدما أسلم وبلغته الآية وعلم الآية، ففهم منها هذا الفهم، وأنَّه لما أسلم وبدأ يصوم، وقرأ الآية فهمها هذا الفهم، وعند ذلك جاء وسأل النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأخبره وقال له ما قال صلوات الله وسلامه عليه([12]).

وقال بعض شُرَّاح الحديث: (لم يكونوا يعدّون الفجر فجركم، إنَّما كانوا يعدّون الفجر الذي يملأ الطرق والبيوت) ([13]).

فالملاحظ الواضح في الحديث أنَّ فهم هذا الصحابي اختلف عن أفهام بقيّة الصّحابة، وكان فهمه لظاهر النّص، فبيَّن له النَّبيُّ الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم الفهم الصحيح.

ثالثاً: اختلافنا في المعرفة والعلوم:

فمن اكتسب معرفةً وعلماً يستطيع فهم كثيرٍ من الأشياء بصورةٍ أوضح ممَّن لم يحصل على هذه المعارف، وهذا ملاحظٌ بالمشاهدة والواقع.

عن المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قال: بَعَثَنِي رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلَى نَجْرَانَ، فقالُوا لِي: أَلَسْتُمْ تَقْرَؤونَ: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرَأَ سَوءٍ وَمَا كَانَت أُمُّكِ بَغِيًّا[مريم:28]  وَقَدْ كَانَ بَيْنَ مُوسَى وعَيسَى مَا كَانَ!

فلَمْ أَدْرِ مَا أُجِيبُهُمْ. فَرَجَعْتُ إِلَى النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فَأَخْبَرْتُهُ، فقال: “أَلا أَخْبَرْتَهُمْ أَنّهُمْ كَانُوا يُسَمَّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصّالِحِينَ قَبْلَهُمْ“. [أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، والإمام الترمذي في سننه واللفظ له].

حلَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم الإشكال وسوء الفهم، وبيَّن للمغيرة أنَّ هارون المذكور في الآية ليس هارون أخا موسى؛ بل هارون آخر سمّوه عليه؛ لأنَّهم كانوا يسمّون بأسماء الأنبياء؛ ولذلك يكثر مثلاً في اليهود اسم موسى وهارون.

ولا شكَّ أنَّ المغيرة لو كان يعلم هذا لما سأل النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عنه، لكن وقع الإشكال عنده لمَّا سأله النصارى، فسأل عنه النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فأجابه.

وجاء في كتاب تحفة الأحوذيّ شرح جامع الترمذي، للمباركفوري: (اختلف أهل التَّأويل في السبب الذي قيل لها يا أخت هارون، ومن كان هارون هذا الذي ذكره الله وأخبر أنَّهم نسبوا مريم إلى أنَّها أخته؟

فقال بعضهم: قيل لها: يا أخت هارون نسبةً منهم لها إلى الصلاح، لأنَّ أهل الصلاح فيهم كانوا يسمُّون هارون، وليس بهارون أخي موسى.

وقال بعضهم: عنّي به هارون أخو موسى، ونسبت مريم إلى أنَّها أخته لأنَّها من ولده، يقال للتميميِّ يا أخا تميم، وللمُضري يا أخا مضر.

وقال آخرون: بل كان ذلك رجلاً منهم فاسقاً معلن الفسق فنسبوها إليه.

والصواب من القول في ذلك ما جاء به الخبر عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم -يعني حديث المغيرة بن شعبة هذا- وإنَّها نسبت إلى رجلٍ من قومها)([14]).

والخلاصة من هذه المقالة الآتي:

  • اتِّباع هوى النَّفس والاستئثار والظلم أحد أهمِّ الأسباب في اختلاف الأفهام.
  • نستطيع أن نصل إلى الحقِّ ونبذ الخلاف والاختلاف باتِّباع الرُّسل والأنبياء المبلِّغين عن الله مراده.
  • هنالك أسبابٌ عدّة لاختلاف الأفهام، وفهم هذه الأسباب يوضح لنا أسباب الخلاف.
  • سيبقى الاختلاف في الأفهام ما دامت أسبابه قائمةً بين البشر.

    [1] -تفسير الشعراوي: (ص 217)

    [2] – اسمه وهب بن عبد الله العامري، نزل الكوفة، من صغار الصحابة، مات سنة أربع وسبعين ه. [الإصابة، لابن حجر]

    [3] – إنما سأله أبو جحيفة عن ذلك لأن جماعة من الناس كانوا يزعمون أن عند أهل البيت -لا سيما علياً- أشياء من الوحي خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بها لم يطلع غيرهم عليها. [فتح الباري، لابن حجر]

    [4] – أي شقها فأخرج منها النبات والغصن. [النهاية، لابن الأثير].

    [5] – أي خلقها والنسمة النفس وكل دابة فيها روح فهي نسمة. [النهاية، لابن الأثير].

    [6] – المراد بالصحيفة الورقة المكتوبة.

    [7] – أي الدية وأحكامها يعني فيها ذكر ما يجب لدية النفس والأعضاء من الإبل وعددها. [فتح الباري، لابن حجر]

    [8] – أي فيها حكم تخليصه والترغيب فيه، وأنه من أنواع البر الذي ينبغي أن يهتم به. [فتح الباري، لابن حجر]

    [9] – المراد بالكافر المذكور هو الحربي فقط. والله أعلم.

    [10] – انظر مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للقاري: (11/ 20). 

    [11] – العقال ما يربط به الإبلِ من حبال من شعر أوِ غيره. [النهاية، لابن الأثير].

    [12] – انظر شرح مسلم، للنووي (16 / 209)، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري (16/ 328).

    [13] – انظر شرح ابن بطال على صحيح البخاري:  (7 / 42)

    [14] – (16 / 74).

 

 

Recommended Posts

1 Comment

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بارك الله بكم وسدد خطاكم ونفع بكم وجزاكم عنا كل خير .. مقال مفيد قيم .. لاحظت مشكلة في عرض المقال وهو وجود كل كلمة في سطر منفرد وأحيانا تكون الكلمة الواحدة مقسومة على سطرين فأحببت أن ألفت نظركم إلى هذه المسألة لتداركها .. حفظكم الله وبارك في همتكم وجزاكم عني وعن المسلمين كل خير


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *