مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مستطيل

فإنَّ السُّنَّة تجيء بعد القرآن، وحُسن فقهها يجيء من حُسن الفقه في الكتاب نفسه.

الإتّزان العقليُّ نصابٌ لابدَّ من توفُّره في أيِّ جوٍّ دينيٍّ، ويعدُّ أساس التَّحدُّث إلى النَّاس باسم الإسلام، وسعة العلم ضرورةً لفهم وجهات نظر المجتهدين وترجيح مذهبٍ فقهيٍّ على آخر، أمَّا مرتبة الاجتهاد المطلق فإنَّها درجةٌ أسنى، تقوم على الفضل الإلهيِّ، كما جاء في الحديث: ((إلَّا فهماً يؤتاه رجلٌ في كتاب الله)) وكما جاء في الآيات ﴿فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ  وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً[الأنبياء: 79]

عمل الفقهاء أكمل جهد المحدِّثين

إنَّ جوَّ الفقه، والفتوى، وتربية الأمة، وتبصير أولي الأمر شأوٌ يُستبعد منه قصار الباع والهمَّة والفكر، ويستحيل أن يحيا فيه المتطاولون، الذين يحسنون الهدم ولا يطيقون البناء، نقول كلَّ ذلك لنلفت الأنظار إلى خاصَّةٍ بارزةٍ في ثقافتنا القديمة، هي أنَّ عمل الفقهاء أكمل جُهد المحدِّثين، وضبطَه، وأحسن تنسيقه، ويسَّر الإفادة منه.

والتَّأمُّل في الآثار الواردة يجعل وظيفة الفقهاء لا محيص عنها، ويجعل الاستقاء المباشر من السُّنَّة صعباً على العامَّة، ذلك لأنَّ هناك قضايا وردت فيها آثارٌ مُتقابلةٌ…

روى مالكٌ قال: (بلغني أنَّ عبد الرَّحمن بن عوف تكارى أرضاً (استأجرها) فلم تزل في يديه حتى مات، فقال ابنه: فما كنت أراها إلَّا لنا من طول ما مكثت في يديه، حتى ذكرها لنا عند موته وأمرنا بقضاء شيءٍ كان عليه من كرائها، ذهب أو ورق…) وهذا الحديث يُجيز استئجار الأراضي لزراعتها.

وروى الشَّيخان عن ابن عبَّاس قال: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أرضٍ وهي تهتزُّ زرعاً فقال: ((لمن هذه؟ قالوا: اكتراها فلانٌ، قال: لو منحها أيَّاه كان خيراً أن يأخذ عليها أجراً معلوماً…))

وفي روايةٍ عن رافع بن خديج: سألني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((كيف تصنعون بمحاقلكم؟ قلت: نؤجّرها على الرّبع وعلى الأوسُق من التَّمر والشَّعير، قال: لا تفعلوا، ازرَعوها -يعني بأنفسكم- أوِ ازرعوها -يعني امنحوها غيركم- أو أمسكوها، قال رافع: قلت: سمعاً وطاعة..))

وللفقهاء كلامٌ في هذه المرويَّات، منهم من رفض الإيجار، ومنهم من رفضه إذا كان هناك غبنٌ أو غررٌ، ومنهم من أبطل المزارعة، ومنهم من أباحها، وكلاهما غلب بعض النُّصوص على بعضٍ آخر لملحظٍ ما.

ولا بدَّ من التَّنبيه إلى أنَّ العقائد والعبادات الرئيسيَّة والسُّنن العلميَّة، جاءت كلُّها عن طريق التواتر القاطع، لا يرتقي إليها لبسٌ أو تفاوتٌ، وإنَّما يحدث الخلاف في أمورٍ ثانويَّةٍ لا يضخِّمها إلا أصحاب الفكر المختلّ.

روى أحدهم حديث: ((ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النَّار)) ثمَّ حكم على الألوف المؤلَّفة من عباد الله أنَّهم من أهل جهنَّم، قلت له: إنَّ إسبال الإزار كُبراً رذيلةٌ، وقد كان في الجاهليَّة الأولى شارة الرِّياسة والملك، أمَّا طول الإزار حتَّى الكعبين أو دونهما قليلاً؛ لستر الجسم أو تجميله دون استكبارٍ فهو لا يُدخل النار، فأبى المتحدِّث أن يستمع إلى شرحي، وعدَّني من علماء السوء.

ورأيت نفراً من هؤلاء يغشون المجامع، مذكِّرين بحديث أنَّ أبا الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم في النَّار؟ وشعرت بالاشمئزاز من استطالتهم وسوء خلقهم، قالوا لي:

كأنَّك تعترض ما نقول؟ قلت ساخراً: وهناك حديثٌ آخر يقول: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا[الإسراء: 15]

فاختاروا أحد الحديثين…قال أذكاهم بعد هنيهة: هذه آيةٌ لا حديث، قلت: جعلتُها حديثاً لتهتمُّوا بها، فأنتم قلَّما تفقهون الكتاب.

عندما تتعارض المرويَّات في ظاهر الأمر، وهنا يدخل علماء الفقه والأثر للتَّنسيق والتَّرجيح، وقد يصحُّ السَّند ولا يصحُّ المتن، وقد يصحَّان جميعا، ويقع الخلاف في المعنى المراد، وهذا بابٌ واسعٌ جدَّاً، ومنه نشأ ما يسمَّى بمدرسة الأثر ومدرسة الرَّأي، والأوَّلون أقرب إلى الفقه الظاهريّ، وإن خالفوه كثيراً، والآخرون أوسع دائرةً وأبصر بالحكمة والغاية، وكلاهما إلى خيرٍ إن شاء الله.

وعندما يُخالف أثرٌ صحيحٌ ما هو أصحُّ منه يسمَّى شاذَّاً، وعندما يُخالف الضَّعيف الصَّحيح يسمَّى متروكاً أو مُنكراً، وكم من أُناس يبنون كثيراً من المسالك على هذه المتروكات والمناكير باسم السُّنَّة، والسُّنَّة مظلومةٌ مع هؤلاء الجهَّال.

▪ ضرورة العناية بالقرآن الكريم

ولست أقرِّر جديداً في هذا الميدان، والذي أراني مضَّطراً إلى التَّنبيه اليه، هو ضرورة العناية القصوى بالقرآن نفسه، فإنَّ أُناساً أدمنوا النَّظر في كتب الحديث واتَّخذوا القرآن مهجوراً، فنمت أفكارهم معوّجة، وطالت حيث يجب أن تقصر، وقصرت حيث يجب أن تطول، وتحمَّسوا حيث لا مكان للحماس، وبردوا حيث تجب الثَّورة.

ذكر أبو داود حديثاً واهياً جاء فيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:

((لا تركب البحر إلَّا حاجَّاً أو مُعتمراً أو غازياً في سبيل الله تعالى، فإنَّ تحت البحر ناراً وتحت النَّار بحراً)) هذا الحديث ضعيفٌ أو موضوعٌ خدع به الإمام الخطَّابي، وعلَّل النَّهي عن ركوب البحر بأنَّ الآفة تُسرع إلى راكبه، ولا يؤمن هلاكه في غالب الأمر.

والكلام كلُّه باطلٌ فقد قال المحقِّقون لا بأس بالتِّجارة في البحر وما ذكره الله تعالى في القرآن إلَّا بحقّ قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[فاطر: 12]

إنَّ الغفلة عن القرآن الكريم، والقصور في إدراك معانيه عاهةٌ نفسيَّةٌ وعقليَّةٌ لا يداويها إدمان القراءة في كتب السُّنَّة، فإنَّ السُّنَّة تجيء بعد القرآن، وحُسن فقهها يجيء من حُسن الفقه في الكتاب نفسه.

وقد قال الإمام الشَّافعيُّ: كلُّ ما حكم به الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم فهو ممَّا فهمه من القرآن، فكيف يفقه الفرع من جهل الأصل!

إنَّ الوعي بمعاني القرآن وأهدافه يعطي الإطار العام للرِّسالة الإسلاميَّة، ويبيِّن الأهمَّ فالمهمّ من التَّعاليم الواردة، ويُعين على تثبيت السُّنن في مواضعها الصَّحيحة.

والمسلم الذي يحترم دينه وأمَّته لا يرى الصَّواب حكراً عليه فيما يعتنق من وجهات النَّظر، وقد قامت مذاهب كثيرةٌ متحابَّةٌ، حتَّى جاء من يرى في الحديث رأياً خطأً كان أم صواباً، ثمَّ يقول هذا هو الدِّين لا دين غيره.

لقد خامرني الخوف على مستقبل أمَّتنا لَمَّا رأيت مشتغلين بالحديث ينقصهم الفقه، يتحوَّلون إلى أصحاب فقه ثم إلى أصحاب سياسةٍ تبغي تغيير المجتمع والدَّولة على نحو ما رووا ورأوا.

إنَّ الرِّسالة التي استقبلها العالم قديماً استقبال المقرور للدِّفء، واستقبال المعلول للشِّفاء، هانت على الناس فلم يروا ما يستحقُّ التَّناول.

أليس مُضحكاً أن يدخل داعيةٌ في مسجدٍ فينظر إلى المنبر ثمَّ يقول: بدعة! لماذا؟ لأنَّه سبع درجات، ثمَّ يرى المحراب فيقول أيضاً: بدعة، لماذا؟ لأنَّه مجوّفٌ في الجدار!

إنَّ النَّبيَّ العربيَّ محمداً استطاع بسنَّته إحياء أجيالٍ بدَّلت الأرض غير الأرض، وخطَّت إمبراطوريَّاتٍ ذاهبةً في الطُّول والعرض.

إنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنعش بسنَّته اقواماً كانت في غيبوبة، وأطلقها تسعى بعدما أضاءها من الدَّاخل، فعرفت المنهج والغاية، إنَّنا بحاجةٍ إلى شُعاعٍ على مسار الدَّعوة؛ وحقيقة السُّنَّة، فكم ظُلمتِ السُّنَّة ممَّن يتشدَّقون بها.

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *