مع رجالات حوار -عبد القادر الجزائري-

في إثبات النبوة

Loading

رحمته في الجهاد

(اعلموا) وفقكم الله أن النبوَّة هي عبارة عن طور تنفتح فيه عين أخرى زائدة على طور العقل ونظره؛ ينظر بها النبي ما يكون في المستقبل من أمور؛ العقل معزول عن إدراكها ؛ كعزل قوة التمييز عن إدراك المعقولات؛ وكعزل الحواس عن مدركات التمييز. وانظروا إلى ذوق الشعر كيف يختص به قوم من الناس، وهو نوع إحساسٍ وإدراك، ويحرم منه بعضهم. وانظروا كيف عظمت قوة هذا الذوق في طائفة ؛ حتى استخرجوا بها الموسيقى، والأغاني، والأوتار، ونحوها، التي منها : المحزن، والمطلوب، والمبكي، والمضحك، والقاتل، والموجب للغشي. وإنما يقوى على استنباط هذه الأنواع من قوي له أصل الذوق، وأما العاطل عن خاصية هذا الذوق؛ فيشاركه في سماع الصوت وتضعف فيه هذه الآثار، وهو بتعجب من صاحب الوجد والغشي، ولو اجتمع العقلاء كلهم من أرباب الذوق تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا.

فلا تجعلوا الكمال وقفاً على العقل، فوراء كمال العقل؛ كمالٌ آخر أعلى من كمال العقل. وكما أن المميز لو عرضت عليه مدركات العقل لأنكرها، واستبعدها ؛ فكذلك بعض العقلاء استبعدوا مدركات النبوة، ولا مستند لاستبعادها، إلا أنها طور لم تبلغه العقول.

وقد خلق الله مثالاً للنبوة، من حيث إنها إدراك زائد على الإدراك المتعارف، وهو النوم. إذ النائم يدرك أموراً تكون في المستقبل، إما صريحاً، وإما بإشارة يعرفها المعبرون للرؤيا. وهذا لو لم يجربه الإنسان من نفسه ، وقيل له: إن من الناس من يسقط ؛ كالميت، ويزول إحساسه، وسمعه، وبصره، فيدرك المغيبات؛ لأنكره، وقال: القوى الحسية؛ أسباب الإدراك، والإنسان لا يدرك المغيبات مع وجود حواسه، فكيف يدرك مع غيبتها؟! والوجود والمشاهدة؛ قاضيان بصحة النوم.

وقد شاهدنا صحة كثير من المنامات، وبلغنا عن الثقات؛ بالنقل الصحيح أن الفردوسي الشاعر، لمَّا صنف كتابه المسمى بـ(شاهنامه)، على اسم السلطان محمود بن سبكتكين، وأنه ما قضى حقه كما يلزم، وما راعاه كما يليق بذلك الكتاب؛ ضاق قلب الفردوسي، فرأى رستم في المنام، فقال: إنك مدحتني في هذا الكتاب كثيرا، وأنا في جملة الأموات، فلا أقدر على قضاء حقك، ولكن اذهب إلى الموضع الفلاني، واحفر؛ فإنك تجد فيه دفيناً كنت دفنته ، فخذه؛ فذهب؛ فوجده وأخذه، فكان الفردوسي يقول: إن رستم بعد موته  كان أكثر كرماً من محمود؛ حال حياته.

والشك في النبوة، إما أن يكون في إمكانها، أو وجودها، أو حصولها لشخص معين. ودليل إمكانها ووجودها ؛ وجود معارف في العالم لا يمكن أن تدرك بالعقل، كعلم الطب، وعلم النجم، فإن من بحث في علميهما؛ علم يقينا، أن بعضها لا يدرك إلا من جهة الله تعالى ، ولا تكون التجربة طريقا إليها، فإن من الأحكام النجومية ما لا يقع إلا في كل ألف سنة مرة؛

فكيف يحصل ذلك العلم بالتجربة؟! وكذلك خواص الأدوية. فظهر بهذا؛ أن من الممكن وجود طريق إدراك هذه الأمور التي لا يدركها العقل، وهو المراد بالنبوة.

و ثمَّ أمور؛ تسمى: خواص، لا يدور العقل حولها أصلاً، فإن وزن دانق من الأفيون، سم قاتل؛ لأنه يجمد الدم في العروق لقوة برودته، ، والعالم بالطبيعات يقول: إنه يبرد؛ لأنه من المبردات التي يغلب فيها عنصر : الماء والتراب. ومعلوم أن أرطالاً من الماء

 والتراب، لا يبلغ تبريدها إلى هذا الحد. ولو أخبر طبيب بهذا، ولم  يجربه لقال : هذا كذب! ؛ لأن الماء والتراب، لو كانا وحدهما ما وصلا إلى هذا الحد، والأفيون فيه هوائية ونارية؛ فإذا جربه ؛ التزم أن يقول: إن في الأفيون خاصة في التبريد خارجة عن قياس المعقول.

ولو قيل لإنسان: هل يمكن أن يكون في الدنيا شيء، هو بمقدار حبة قمح في بلدة، فيأكل تلك البلدة بجملتها، ثم يأكل نفسه؛ فلا يبقى شيء من البلدة، وما فيها، ولا يبقى هو في نفسه؟! لقال : هذا محال، وهو من جملة الخرافات !! وهذه حاله؛ ينكرها من لم ير النار ، وأكثر العجائب التي يخبر بها الأنبياء؛ من هذا المعنى.

وإذا ثبت أن الله تعالى؛ فاعل مختار، لا علة موجبة، وثبت أن إرسال الأنبياء؛ ممكن غير محال في حقه، وجاءت الأنبياء بما يصدقهم من المعجزات الخارقة للعادة؛ لزم تصديقهم.

والدليل على أن الله تعالى؛ فاعل مختار، هو أن هذه الأجسام الموجودة متناهية؛ وكل متناه؛ فهو مشكل. ينتج؛ إن هذه الأجسام الموجودة مشكلة، وهذه الأشكال قسمان:

أحدهما: الأشكال التي حصلت على سبيل الاتفاق، من غير أن يحتاج حصولها إلى فعل فاعل حكيم.

والثاني: الأشكال التي يشهد صريح العقل، بأنها لم تحصل؛ إلا بقصد فاعل حكيم.

  أما القسم الأول: فمثل الحجر المنكسر، والكوز المنكسر، فإنه لا بد وأن یكون لتلك القطعة من الحجر والفخار شكل مخصوص معين، إلا أن صريح العقل؛ شاهد بأن ذلك الشكل المخصوص وقع على سبيل الاتفاق، ولا يتوقف حصوله على فعل فاعل مختار.

وأما القسم الثاني : فهو مثل الأشكال الواقعة على وفق المصالح والمنافع. مثاله: الإبريق، فإننا لما نظرنا إلى الإبريق؛ رأينا فيه ثلاثة أشياء: أحدها: الرأس الواسع، وثانيها: البلبلة الضيقة، وثالثها العروة.

فلما تأملنا في هذه الأحوال الثلاثة؛ وجدنا موافقة لمصلحة  الخلق، فإنه لا بد من توسيع رأس الإبريق؛ حتى يدخل الماء فيه بالسهولة، ولا بد من ضيق بلبلته ؛ حتى يدخل الماء منها بقدر الحاجة، ولا بد له من العروة؛ حتى يقدر الإنسان على أن يأخذه بيده .

فلما وجدنا هذه الأوصاف الثلاثة في الإبريق؛ مطابقة للمصلحة؛ شهد عقل كل واحد، بأن فاعل هذا الإبريق، لا بد وأن يكون قد فعله بناء على الحكمة، ورعاية المصلحة. ولو أن قائلا قال: إن هذا الإبريق تكون بنفسه من غير قصد؛ قاصد حكيم، ولا فعل فاعل، بل اتفق تكونه بنفسه؛ كما اتفق تشكل هذه القطعة بهذا الشكل الخاص من غير قصد قاصد حكيم، ولا جعل جاعل، لشهدت الفطرة السليمة بأن هذا القول باطل محال. ومتى ثبت القول بالفاعل المختار؛ ثبت حدوث العالم.

ومن عرف هذا؛ سهل عليه معرفة النبي، فإن من دخل بستانا، ورأى أزهاراً حادثة بعد إن لم تكن؛ ثم رأى عنقود عنب؛ قد اسودَّ جميع حباته إلا حبة واحدة، مع تساوي نسبة الماء، والهواء، وحر الشمس، إلى جميع تلك الحبات؛ فإنه يضطر إلى العلم بأن فاعله مختار، وحينئذ تحصل المعرفة الضرورية بصدق الرسول، لأن دلالة المعجزة على صدق الرسول ضرورية.

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *