غلاف مصطفى محمود

فزنا بسعادة الدنيا، وفزتم بالأوهام

Loading

فزنا بسعادة الدنيا، وفزتم بالأوهام

– قال صاحبي… وكانت في نبرته فرحة رجلٍ منتصر:

مهما اختلفنا، ومهما طال بنا الجدل فلا شكَّ أنَّنا خرجنا من معركتنا معكم منتصرين، فقد فُزنا بسعادة الدنيا وخرجتم أنتم ببضعة أوهامٍ في رؤوسكم، وماذا يجدي الكلام وقد خرجنا من الدنيا بنصيب الأسد فلنا السهرة والسكرة والنساء الباهرات والنعيم الباذخ واللذات التي لا يعكِّرها خوف الحرام، ولكم الصيام والصلاة والتسابيح وخوف الحساب، فمن الذي ربح؟

– هذا لو كان ما ربحتموه هو السعادة، ولكن لو فكَّرنا معاً بهدوءٍ لما وجدنا هذه الصورة التي وصفتها عن السهرة والسكرة والنساء الباهرات والنعيم الباذخ واللَّذَّات التي لا يعكِّرها خوف الحرام لما وجدنا هذه الصورة إلَّا الشقاء بعينه.

الشقاء… وكيف؟

لأنَّها في حقيقتها عبوديةٌ لغرائز لا تشبع حتَّى تجوع، وإذا أتخمتها أصابها الضجر والملال، وأصابك أنت البلادة والخمول، هل تصلح أحضان امرأةٍ لتكون مستقرَّ سعادةٍ، والقلوب تتقلَّب والهوى لا يستقر على حال، والغواني يغرهن الثناء. وما قرأنا في قصص العشَّاق إلا التعاسة فإذا تزوَّجوا كانت التعاسة أكبر وخيبة الأمل أكبر لأنَّ كلَّاً من الطرفين سوف يفتقد في الآخر الكمال المعبود الذي كان يتخيَّله، وبعد قضاء الوطر وفتور الشهوة يرى كلُّ واحدٍ عيوب الآخر بعدسةٍ مكبَّرة. وهل الثراء الفاحش إلَّا عبوديةً إذ يضع الغني نفسه في خدمة أمواله، وفي خدمة تكثيرها وتجميعها وحراستها، فيصبح عبدها بعد أن كانت خادمته، وهل السلطة والجاه إلا مزلقٌ إلى الغرور والكبر والطغيان.

وهل راكب السلطان إلَّا كراكب الأسد، يوماً هو راكبه، ويوماً هو مأكوله. وهل الخمر والسكر والمخدرات والقمار والعربدة والجنس بعيداً عن العيون وبعيداً عن خوف الحرام سعادة؟ وهل هي إلَّا أنواعٌ من الهروب من العقل والضمير وعطش الروح ومسؤولية الإنسان بالإغراق في ضرام الشهوة وسعار الرغبات. وهل هو ارتقاءٌ أم هبوط إلى حياة القرود وتسافد البهائم وتناكح السوائم؟ صدق القرآن إذ يقول عن الكفار أنَّهم:

﴿والذِيْنَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُوْنَ وَيَأَكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوَىً لَهُمْ[محمد-12].

فهو لم ينكر أنَّهم يتمتَّعون ولكن كما تتمتَّع الأنعام، وكما ترعى السوائم، وهل هذه سعادة؟ وهل حياة الشهوة تلك إلَّا سلسلةً من الشَّبق والتوتُّرات والجوع والتخمة الخانقة ولا تمتّ إلى السعادة بسبب.

وهل تكون السعادة الحقَّة إلَّا حالةً من السلام والسكينة النفسية والتحرُّر الروحي من كافَّة تلك العبوديات.
وهل هي في تعريفها النهائي إلَّا حالة صلح بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان والآخرين، وبين الإنسان والله… وهذه المصالحة والسلام والأمن النفسيّ لا تتحقَّق إلَّا بالعمل… بأنَّ يضع الإنسان قوته وماله وصحَّته في خدمة الآخرين، وبأن يحيا حياة الخير والبرّ نيَّةً وعملاً، وأن تتَّصل العلاقة بينه وبين الله صلاةً وخشوعًا فيزيده الله سكينةً ومدداً ونوراً… وهل هذه السعادة إلَّا الدين بعينه… ألم يقل الصوفيّ لابس الخرقة… نحن في لذَّةٍ لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف… والذين عرفوا تلك اللَّذَّة… لذَّة الصلة بالله والصلح مع النفس… يعلمون أنَّ كلام الصوفيّ على حقّ.
– ألم تكن مثلنا من سنواتٍ تسكر كما نسكر وتلهو كما نلهو وتسعد هذه السعادة الحيوانية التي نسعدها، وتكتب الكفر بعينه في كتابك (الله والإنسان) فتسبق به إلحاد الملاحدة، فماذا غيَّرك من النقيض إلى النقيض؟
– سبحانه يغيِّر ولا يتغيَّر.
– أعلم أنَّك تقول أنَّ كلَّ شيءٍ بفضل الله… ولكن ماذا كان دورك؟ وماذا كان سعيك؟ 

– نظرت حولي فرأيت أنَّ الموت ثمَّ التراب نكتةٌ وعبثٌ وهزلٌ، ورأيت العالم حولي كلَّه محكماً دقيقاً منضبطاً لا مكان فيه للهزل ولا للعبث… ولو كانت حياتي عبثاً كما تصوَّر العابثون ونهايتها لا شيء… فلماذا أبكى؟ ولماذا أندم؟ ولما أتحرَّق وألتهب شوقـاً على الحقّ والعدل، وأفتدى هذه القيم بالدَّم والحياة.
رأيت النجوم تجرى في أفلاكها بقانون… ورأيت الحشرات الاجتماعية تتكلَّم، والنباتات ترى وتسمع وتحسّ… ورأيت الحيوانات لها أخلاق… ورأيت المخَّ البشرىَّ عجيبة العجائب، يتألَّف من عشرة آلاف مليون خطٍّ عصبيٍّ تعمل كلُّها في وقتٍ واحدٍ في كمالٍ معجز… ولو حدث بها عطل هنا أوهناك لجاء في أثره الشلل والعمى والخرس والتخليط والهذيان، وهي أمورٌ لا تحدث إلَّا استثناءً… فما الذي يحفظ لهذه الآلة الهائلة سلامتها؟ ومن الذي زوَّدها بكلِّ تلك الكمالات؟

ورأيت الجمال في ورقة الشجر، وفي ريشة الطاووس، وجناح الفراش، وسمعت الموسيقى في صدح البلابل وسقسقة العصافير، وحيثما وجَّهت عيني رأيت رسم رسَّامٍ وتصميم مصمِّمٍ، وإبداع يدٍ مبدعة.
ورأيت الطبيعة بناءً محكماً متكاملاً تستحيل فيها الصدفة والعشوائية… بل كلُّ شيءٍ يكاد يصرخ، دَبَّرني مدبِّرٌ، وخلقني مبدعٌ قدير.
وقرأت القرآن فكان له في سمعي رنينٌ وإيقاعٌ ليس في مألوف اللغة، وكان له في عقلي انبهار، فهو يأتي بالكلمة الأخيرة في كلِّ ما يتعرَّض له من أمور السياسة والأخلاق والتشريع والكون والحياة والنفس والمجتمع رغم تقادم العهد على نزوله أكثر من ألفٍ وثلاثمئة سنة، وهو يوافق كلَّ ما يستجدُّ من علومٍ رغم أنَّه أتى على يد رجلٍ بدويٍ أميٍّ لا يقرأ ولا يكتب في أمَّةٍ متخلِّفةٍ بعيدةٍ عن نور الحضارات، وقرأت سيرة هذا الرجل وما صنع، فقلت: بل هو نبي، ولا يمكن أن يكون إلَّا نبيَّاً، ولا يمكن لهذا الكون البديع إلَّا أن يكون صنع الله القدير الذي وصفه القرآن ووصف أفعاله.
قال صاحبي بعد أن أصغى باهتمامٍ إلى كلِّ ما قلت، وراح يتلمَّس الثغرة الأخيرة:
– فماذا يكون الحال لو أخطأت حساباتك وانتهيت بعد عمرٍ طويلٍ إلى موتٍ وترابٍ ليس بعده شيء؟
– لن أكون قد خسرت شيئاً، فقد عشت حياتي كأعرض وأسعد وأحفل ما تكون الحياة، ولكنَّكم أنتم سوف تخسرون كثيراً لو أصابت حساباتي وصدقت توقُّعاتي، وإنَّها سوف تكون مفاجئةً هائلةً يا صاحبي.
ونظرت في عمق عينيه وأنا أتكلَّم، فرأيت لأوَّل مرَّةٍ بحيرةً من الرعب تنداح في كلِّ عينٍ، ورأيت أجفانه تطرف وتختلج.
كانت لحظةً عابرةً من الرعب، ما لبث أن استعاد بعدها توازنه، ولكنَّها كانت لحظةً كافيةً لأدرك أنَّه بكلِّ غروره وعناده ومكابرته واقفٌ على جرفٍ من الشكِّ والخواء والفراغ وممسكٌ بلا شيء.
قال لي بنبرةٍ حاول أن يشحنها باليقين:
– سوف ترى أنَّ التراب هو كلُّ ما ينتظرك وينتظرنا.
– هل أنت متأكد.
وللمرَّة الثانية انداحت في عينيه تلك البحيرة من الرعب.
قال وهو يضغط على الحروف وكأنَّما يخشى أن تخونه نبراته:
– نعم…
قلت: كذبت، فهذا أمرٌ لا يمكن أن نتأكَّد منه أبداً.

وحينما كنت أعود وحدي تلك الليلة بعد حوارنا الطويل كنت أعلم أنِّى قد نكأت في نفسه جرحاً، وحفرت تحت فلسفته المتهاوية حفرةً سوف تتَّسع على الأيام، ولن يستطيع منطقه المتهافت أن يردمها.
قلت في نفسي وأنا أدعو له: لعلَّ هذا الرعب ينجيه، فمن سدَّ على نفسه كلَّ منافذ الحق بعناده لا يبقى له إلَّا الرعب منفذًا.
وكنت أعلم أنِّى لا أملك هدايته، ألم يقل الله لنبيه:
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [القصص- 56].
ولكنّى كنت أتمنَّى له الهداية، وأدعو له بها فليس أسوأ من الكفر ذنباً ولا مصيراً. 

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *