فتعرضوا لها-تويتر

ما أكثر العطايا والهِبات والنفحات الإيمانية التي يمنُّ الله بها علينا؛ والمسلم الفطِن هو من يقتنص الفرصة، ويسارع ويسابق ويعمل؛ لينال النصيب الأوفى من النفحات والبركات.

ولقد حثَّنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على اغتنام تلك الأوقات الفاضلة على مدار العام فقال: (إنّ لله في أيَّام الدَّهر نفحات فتعرّضوا لها فلعلَّ أحدكم أن تصيبه نفحةٌ فلا يشقى بعدها أبداً) [رواه الطبراني].
ونحن الآن في منتصف مواسم الخير والنفحات الإيمانيّة: شعبان ما بين رجب ورمضان. ورجب شهرٌ محرَّم ورمضان شهرٌ مكرَّم. فشهر شعبان هو مقدِّمةٌ لرمضان، نشعر فيه بروحانيَّات رمضان. قال أنس رضي الله عنه متحدِّثاً عن حال الصحابة في شهر شعبان:
((كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبُّوا على المصاحف فقرؤها, وأخرجوا زكاة أموالهم تقويةً للضَّعيف والمسكين على صيام رمضان)). [لطائف المعارف: 135].
كيف لا وهم يهيِّئون أنفسهم لشهر رمضان، ويجتهدون في شهرٍ ترفع فيه الأعمال إلى الله!
 جاء في الحديث الشريف عن سيِّدنا أسامة رضي الله عنهما أنَّه قال: قلتُ –أي لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم-:
لم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (ذاك شهرٌ يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهرٌ تُرفع الأعمال فيه إلى ربِّ العالمين فأحبُّ أن يرفع عملي وأنا صائم). [رواه أحمد والنسائي].

-ليلة النصف من شعبان:
إنَّ في هذا الشهر ليلةً لها أهميةٌ خاصَّةٌ، ومنزلةٌ كبيرةٌ عند المسلمين: إنَّها ليلة النِّصف من شعبان، ليلة البراءة. قال فيها بعض المفسرين: إنَّ ليلة النصف من شعبان هي المقصودة بالآية الكريمة: ((فيها يُفرق كلُّ أمرٍ حكيم[سورة الدخان:4]. [انظر: تفسير الطبري:21/9، تفسير القرطبي:16/126].

ليلة المغفرة:
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
((يطَّلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)) [رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه]. وفي مسند الإمام أحمد: (إلا لاثنين: مشاحن وقاتل نفس).

وفي حديثٍ آخر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
((إنَّ الله تبارك وتعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب)). [رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد في مسنده].

وفي قيام ليلها وصيام نهارها:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
((إذا كان ليلة نصف شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها, فإنّ الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا فيقول: ألا مستغفر فأغفر له, ألا مسترزق فأرزقه, ألا مبتلٍ فأعافيه, ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر)). [رواه ابن ماجه].

حال التابعين في بلاد الشام ليلة النصف من شعبان:
كان التّابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظِّمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها.
فكانوا يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخَّرون ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك. ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال: في قيامها في المساجد جماعةً ليس ذلك ببدعة.
وكره بعضهم الاجتماع فيها في المساجد، ولم يكره أن يصلّي الرجل فيها لخاصّة نفسه، وهو قول الإمام الأوزاعي.

 أقوال الفقهاء والعلماء في ليلة النصف من شعبان:
روي عن سيّدنا عمر بن عبد العزيز أنّه كتب إلى عامله إلى البصرة: عليك بأربع ليالٍ من السَّنة فإنَّ الله يُفرغ فيهنَّ الرحمة إفراغاً، أوَّل ليلةٍ من رجب, وليلة النصف من شعبان, وليلة الفطر, وليلة الأضحى.
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: بلغَنا أنَّ الدعاء يستجاب في خمس ليالٍ، ليلة الجمعة والعيدين وأوَّل رجب ونصف شعبان. قال: وأستحبّ كلُّ ما حكيت في هذه الليالي.
وقال عطاء بن يسار: ما من ليلةٍ بعد ليلة القدر أفضل من ليلة النصف من شعبان, ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيغفر لعباده كلِّهم إلا لمشركٍ أو مشاحنٍ أو قاطع رحم.

ذهب جمهور الفقهاء (من المذاهب الأربعة) إلى ندب إحياء ليلة النصف من شعبان. [انظر: البحر الرائق (فقه حنفي): 2/5، حاشية ابن عابدين (فقه حنفي): 1/460، شرح الإحياء للزبيدي: 3/425، مواهب الجليل (فقه مالكي): 1/74، الخرشي (فقه مالكي): 1/366، الفروع (فقه حنبلي): 1/440، مراقي الفلاح (فقه حنفي): 219، لطائف المعارف: 162].
فينبغي للمؤمن أن يتفرَّغ في تلك الليلة لذكر الله تعالى، ودعائه بغفران الذنوب، وستر العيوب، وتفريج الكروب، وأن يقدِّم على ذلك النِّيَّة, فإنَّ الله يتوب فيها على من يتوب.

اعتراضٌ ونقدٌ أو ربَّما فتور همّة:
يعترض بعض الناس على تعظيم ليلة النصف من شعبان وقيام ليلها وصيام نهارها، وحجّتهم في ذلك أنَّ الأحاديث الواردة في فضلها هي أحاديث ضعيفة لا يُعمل بها.
إذاً لنرى ماذا قال العلماء في حكم العمل بالحديث الضعيف!
يقول الإمام النووي رحمه الله: (وقد قدَّمنا اتّفاق العلماء على العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال دون الحلال والحرام) [المجموع شرح المهذب:3/248].

ويقول العلامة ابن مفلح الحنبلي رحمه الله: (والذي قطع به غير واحدٍ ممن صنَّف في علوم الحديث حكايةً عن العلماء أنَّه يُعمل بالحديث الضَّعيف فيما ليس فيه تحليلٌ ولا تحريمٌ كالفضائل، وعن الإمام أحمد ما يوافق هذا) [الآداب الشرعية والمنح المرعية:1/301].
فالحديث الضعيف يُحتجُّ به في فضائل الأعمال في الترغيب والترهيب، وفيما كان بابه الاحتياط، ويستأنس بها في المناقب، وفضائل الأشخاص وفضائل الزمان والمكان.
إنَّ الإنسان الذي ينشد الخلاص من نفسه، ويريد الدخول في الرحمة الإلهية؛ كالغريق الذي يجد نفسه معرّضاً للهلاك، فيبحث عمَّا ينجيه ولو كان بسيطاً.
فمن شاء فليتعرَّض لنفحات الله، ويقوم ليلها، ويصوم نهارها -الذي هو من الأيام البيض- ويدعو الله من خيري الدنيا والآخرة ويستغفر ويقرأ القرآن, ومن شاء فليبقَ في رُقاده وفراشه إلى طلوع الفجر. وشتَّان بين الحالين.

يقول داود الطائي: (إنَّما الليل والنهار مراحلٌ ينزلها الناس مرحلةً مرحلة حتّى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدِّم في كلِّ مرحلةٍ زاداً لما بين يديها فافعل، فإنَّ انقطاع السفر عن قريبٍ ما هو والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك). [لطائف المعارف:10].

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *