مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مستطيل-

كان الدّين مختصاً بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالته فما معنى هذا الكلام الواضح؟!

يقال للمقلد: على أي شيء كان الناس قبل أن يوجد فلان وفلان الذين قلدتموهم، وجعلتم أقوالهم بمنزلة نصوص الشارع .. أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على هدى أو ضلالة؟ فلابد أن يقروا بأنهم كانوا على هدى، فيقال لهم فما الذي كانوا عليه غير اتباع القرآن والسنة والآثار وتقديم قول الله تعالى ورسوله وآثار الصحابة رضي الله عنهم ، على ما يخالفها و التحاكم إليها دون قول فلان وفلان برأيه؟ وإذا كان هذا هو الهدى فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى يؤفكون؟!.. (الكراس: ص۳۸)

ونحن نقول في الكشف عن هذا الدليل العجيب، ونجيب عن المقلد الذي يسأله صاحب الكراس هذا السؤال فنقول: كان الناس قبل أن يوجد فلان وفلان يفعلون كما قال ابن خلدون في الفصل الذي اعتمدت أنت بنفسك على كلامه، ألم يقل ابن خلدون في نفس ذلك الفصل: إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم، وإنما كان ذلك مختصاً بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالته فما معنى هذا الكلام الواضح؟

إذا كان أهل الفتيا والاجتهاد من الصحابة عددا محصوراً ومميزا فيهم كما يقول، وكان الباقون منهم دون هذه المرتبة، فممن يتلقى هؤلاء الباقون إذا دينهم؟ .. لا جرم أنهم يتلقونه من هذا العدد المحصور الممتاز عنهم بالقدرة على الاجتهاد والاستنباط، وهل التقليد شيء آخر غير هذا؟!.. إذا لم يختلف الأمر ولم يتبدل بين العهدين، كان العوام في عصر الصحابة يقلدون من اشتهر في عصرهم بالفتيا والاجتهاد وكانوا في عصر التابعين أيضا يفعلون ذلك، وفي العصر الذي يليه يفعلون ذلك أيضاً، وما الشافعي وأبو حنيفة وأحمد ومالك، إلا طائفة من هؤلاء المجتهدين جاز للعوام أن يقلدوهم كما جاز لمن قبلهم من العوام أن يقلدوا مثلهم، وكما جاز للعوام من الصحابة أن يقلدوا مجتهدة عصرهم من أمثال ابن عباس وابن مسعود وزید بن ثابت والخلفاء الراشدين

ألم يجمع كل علماء التاريخ وتاريخ التشريع على أنه كان في عهد التابعين مذهبان عظيمان مذهب أهل الحديث في الحجاز ومذهب أهل الرأي في العراق وأن عامة أهل الحجاز کانوا يقلدون المذهب السائد عندهم وعامة أهل العراق يقلدون المذهب السائد فيما بينهم وأنه كان لهذا المذهب أئمته وللمذهب الآخر أئمته؟!.

فما الذي حدث مما يخالف هذا الواقع عندما ظهرت المذاهب الأربعة؟ لم يظهر جديد كل ما في الأمر أن أئمة هذه المذاهب الأربعة وضعوا منهجا للاستنباط فيما بينهم، اشتقوه من أدلة الكتاب والسنة ضبطوا به الرأي والقياس السليم وميزوه عن الرأي والأقيسة الباطلة فتلاحم بذلك كل من مذهبي الرأي والحديث واختفى تدريجيا كل من طرفي الإفراط والتفريط.

وكان هذا من أكبر العوامل لتبوء المذاهب الأربعة مكانة عليا في صعيد البحث والاجتهاد ولإقبال مختلف الفئات والطبقات على التزامها والأخذ منها، وهذا الواقع شيء معروف ومدروس لا أظنني بحاجة إلى أن أنفق وقتا في سرد أدلة ونصوص عليه.

إذا، في اختلاف حصل في جوهر واقع الاجتهاد والتقليد حتى يقول صاحب الكراس: على أي شيء كان الناس قبل فلان وفلان، وكأنه ألزم بذلك الخصم إلزاما لا مخلص منه؟!.. وأي ضلال وأي إفك وقع فيه مقلدو المذاهب الأربعة وهم ليسوا في ذلك إلا كالذين قلدوا من قبلهم مذهب الرأي أو الحديث وكالذين قلدوا من قبلهم أئمة الصحابة ومجتهديهم ؟!

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *