سنتناول في هذا المقال موضوعاً يُثار كثيراً في هذه الأيّام، ويقع فيه الخلاف والتشويش على المسلمين، وهو ادّعاء بعضهم عدم صحّة دفع صدقة الفطر من النقود الماليّة

أنّ الواجب في صدقة الفطر أن تكون من غالب قوت البلد فحسب، وأنّ دفع النقود في صدقة الفطر ليس من الشريعة في شيء، وفيه مخالفةٌ صريحةٌ للحديث الذي ورد في تحديدها، وهو ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ((فرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم  زكاةَ الفطر صاعاً من تمرٍ، أو صاعاً من شعيرٍ على العبد والحرِّ، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة)) [متفق عليه].

وفي الحقيقة إنّ الأمر أهون من هذا التَّضييق والتشدّد، وهذا الحديث لا يدلّ على الاقتصار على التَّمر والشعير أو غالب قوت البلد، وليس فيه دلالةٌ على المنع من دفع النقود لا منطوقاً ولا مفهوماً، ولا يحقّ لمن لا يعرف طرق الاستنباط والاستدلال، ولم يقرأ الأدلّة كاملةً، ولم يتصوّر عصر النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم، أن يصدر الفتاوى ويخطِّئ المسلمين.

فإن قالوا: إنّ النقود كانت موجودةً في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم ولم يذكرها، ولو جاز دفع النقود لأرشد إليها، فدلّ ذلك على أنّ الأمر تعبّديٌّ لا يجوز تغييره.

فالجواب: ليست كلُّ تفاصيل أحكام الشريعة تعبّديّةً، وليست كلّها على قانونٍ واحدٍ ثابتٍ، بل تتفاوت ضمن منظومةٍ من الدَّرجات حسب طبيعة الحكم وتعلّقه، فمنها ما هو ثابتٌ، ومنها ما يقبل الاجتهاد والتعليل.

وإنّ صدقة الفطر تجمع بين التعبُّد والتعليل، أي إنّ مقاصدها واضحةٌ، فالمقصد التعبّدي: أن تكون طُهرَةً للصَّائم، والمقصد التعليليُّ: إغناء الفقراء والمساكين، كما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: ((فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم زكاة الفطر طُهْرَةً للصَّائم من اللغو والرَّفث، وطُعْمَةً للمساكين)) [أبو داود وابن ماجه].

وإنّ دفع القيمة يحقّق هذين المقصدين، بل إنّ المال يحقّق إغناء الفقراء, ويسدّ حوائجهم, ويحقِّق مصالحهم اليوم أكثر من الطعام والقوت.

وأمّا عدم ورود دفع صدقة الفطر مالاً في الحديث النبوي؛ فلأنّ النقود الماليّة آنذاك لم تكن متداولةً بكثرة، وهي في أيدي عددٍ قليلٍ من الناس، وكانت الدراهم والدنانير للمعاوضة في السلع الكبيرة كالدّوابّ والدُّور والبساتين، وليست لتبادل الأغراض اليوميّة، أمَّا شراء الحاجيَّات فكانت بالمقايضة، ومبادلة السلع ببعضها، فمن أراد أن يشتري زيتاً مثلاً يأخذ تمراً أو نحوه إلى السوق ويبادله به، فيدفع التمر ويشتري به الزيت، فكان التمر والشعير ونحوهما يقومان مقام القوت ومقام النقود في آنٍ واحدٍ.

وعندما يخاطب النَّبيُّ صلى الله عليه و سلم الناس فإنَّه يذكر لهم ما هو رائجٌ وقريبٌ من متناول الأيدي، ولم يخاطبهم بالأشياء القليلة المحصورة في أيدي الأغنياء. 

وإنّ الخلاف الفقهي الذي يدور بين صحّة دفع القيمة وعدمه مبنيٌّ على طريقة تفكير واجتهاد كلّ فريقٍ من الفريقين، فذهب الجمهور إلى وجوب دفع صدقة الفطر من غالب قوت البلد، وذهب الحنفيّة ومن وافقهم إلى جواز دفع القيمة في صدقة الفطر، وكلا الفريقين من الأئمّة الكبار، ولكلّ منهما حجّته وأدلّته النقليّة والعقليّة المستفيضة.

وهذان الرأيان في الحقيقة هما من باب اختلاف التنوّع وليس التعارض، ووجود أكثر من رأيٍ في المسائل الفرعيّة من طبيعة هذه الشريعة؛ لأنّ أحكامها صالحةٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ وحال، فقد يكون دفع القوت في بعض الأزمنة والظروف هو الأنفع، كما كان في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم وفي أيام القحط والجوع التي مرّت على النَّاس عبر العصور، وفي بعض الأوقات يكون دفع القيمة هو الأوفق, والأنفع, والأقرب إلى تحقيق المصلحة والمقصد، كما في عصرنا.

فإنّ الحاجيّات آنذاك كانت محصورةً في الطعام والكساء، ومن كان لديه فائض قوتٍ يستطيع شراء الثياب به، فيحقِّق به جميع متطلّباته.

أمّا اليوم فقد كثرت الحاجيّات، وتعقّدت الحياة، وأصبحت النقود هي التي تحقّق مقصد الإغناء للفقراء الذي ذُكر في الحديث: ((أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ)) [نصب الراية (2/ 432) أَخْرَجَهُ الدَّارَ قُطْنِيُّ: عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم زَكَاةَ الْفِطْرِ، وَقَالَ: ((أَغْنُوهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ))، والبيهقي في سننه، وابن وهب في موطَّئه بألفاظٍ مختلفة].

فالشريعة الإسلاميَّة أوسع من نظر بعض المتسرّعين الذين يحصرون الحقّ بما يرونه، وليس لمبتدئٍ أو قارئٍ أن يضعّف رأياً من الرأيين، فقد أفنى العلماء حياتهم بتتبّع أحكام الشريعة, ولم يدَعوا شاردةً ولا واردة إلّا بحثوا فيها.       

وسنذكر في هذه المقالة طرفاً من الأدلَّة العامّة في جواز دفع القيمة في صدقة الفطر، ومن أراد الاستزادة فليقرأ البحث على الرابط هذا 

فإنّ دفع القيمة ليس بدعاً من القول، بل فعله الصحابة رضى الله عنهم، كما قال التابعيُّ أبو إسحاق السبيعي رحمه الله: ( أدركتُهم [أي الصحابة] وهم يُعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام) [مصنف ابن أبي شيبة: (10371)].

وكذلك فإنَّ الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قد أجاز أخذ القيمة في زكاة الفطر، وهو أشدّ الناس تحرّيّاً لأحكام الشريعة، وكان لا يصدر أمراً إلا بمشاورة كبار العلماء، فقد حدّث وكيعٌ عن قرّة قال: (جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز في صدقة الفطر: نصف صاعٍ عن كلِّ إنسانٍ, أو قيمته نصف درهم) [مصنف ابن أبي شيبة: (10369)].

وقال الحسن البصري رحمه الله، وهو سيِّد التابعين: (لا بأس أن تُعطى الدَّراهم في صدقة الفطر) [مصنف ابن أبي شيبة: (10370)], وهو رأي عطاء بن أبي رباح أيضاً, وغيره من علماء التابعين.

فإذا كان الصحابة, والتابعون, وكبار العلماء من سلف الأمّة, وأكبر المذاهب الفقهية يجيزون دفع النقود المالية في صدقة الفطر، فكيف يسوّغ لبعضهم اليوم أن يخطّئوا من يدفع المال، ويعدّونه مبتدعاً؟

ومن يدّعي أنّه بإنكاره دفع القيمة في صدقة الفطر متمسّكٌ بالحديث النَّبويِّ، فنقول له: إنّ البخاري إمام المحدّثين وأعلمهم وأشدّهم تمسُّكاً بالسُّنَّة وافقَ السادة الحنفيَّة في جواز دفع القيمة في صدقة الفطر وغيرها. قال ابن رشيد: (وافق البخاري في هذه المسألة الحنفيَّة، مع كثرة مخالفته لهم، لكن قاده إلى ذلك الدليل) [فتح الباري شرح صحيح البخاري: (3/312)].

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *