سؤال الملائكة

بسم الله الرحمن الرحيم

هل يخلق الله الشَّرَّ؟

الجزء الثاني (دفاع الإرادة الحرَّة)

ناقشنا في الجزء الأوَّل من المقال جزءاً من معضلة أبيقور، وقلنا: إنَّ أبيقور قد صاغ حجَّته الفلسفية بشكلٍ يبيّن تناقضاً بين (وجود الشَّرِّ في العالم) و (وجود إلهٍ كامل القدرة والعلم والخير)، وذلك أنَّ خيريَّة الله ستمنعه من فعل الشَّرِّ إلا إذا كان ناقص العلم (أي لا يعرف أنَّ هذا الفعل سيؤدي إلى شرّ)، أو ناقص القدرة (فلا يستطيع دفع هذا الشر).

وقد سردنا الحجَّة على شكل أسئلةٍ متتاليةٍ:

  • هل يريد الله أن يمنع الشرَّ ولكنَّه غير قادر؟
    • إذن هو عاجز.
  • هل هو قادر ولكنَّه لا يريد؟
    • إذن هو شرِّير.
  • هل يريد أو يقدر أن يمنعه؟
    • إذن لماذا وُجد الشَّرّ؟
  • هل هو غير قادرٍ وغير مريد؟
    • إذن فلم تسمُّونه إلهاً؟

وقد بيّن الجزء الأول من المقال أصل الإشكاليَّة عند أبيقور ومن سار على نهجه، وهي عدم التسليم بالعلم الكامل لله، ولكن بقيت الإشارة إلى الاحتمالين الآخرين المتحصِّلَين من معضلة أبيقور، وهما احتمالا (نقصان القدرة) أو (نقصان الخيريَّة) وما يترتَّب على ذلك من ادعاءاتٍ وعقائد تتعارض مع الإسلام والقرآن الكريم.

والشَّرُّ لَيسَ إِلَيكَ:

أمَّا ادِّعاء (نقصان الخيريَّة) فهو أن يدَّعي أحدهم أنَّ الله يخلق شراً مطلقاً، يخلق الشَّرَّ وهو يعلم أنَّه شرٌّ مع القدرة على دفعه، ولكنَّه لا يدفعه لأنَّه شرِّير –سبحانه وتعالى عن ذلك علوَّاً كبيراً– وهو مذهبٌ يندر أن تجده بين الناس، ويميل أصحاب هذا الاتّجاه إلى تحدِّي الله مع الاعتراف بوجوده، فغالباً ما تجده يقول: لماذا يفعل الله هذا الأمر؟

 معترفاً بأنَّ الله سبحانه هو الفاعل والقيّوم على مخلوقاته (خلافاً لمن يدّعي غير ذلك كما سيمرُّ معنا في مذهب “دفاع الإرادة الحرة”) إنَّما قد غاب عنه التسليم بحكمة الله وعلمه المطلق.

والعجيب أن تجد بعض الناس لا يعترفون بوجود الله بسبب وجود الشرور في العالم، مع أنَّ إدراك الشّرِّ بحدِّ ذاته هو أكبر دليلٍ على وجود معيارٍ للخير داخل الإنسان، وبالتالي دليلٌ على وجود الله سبحانه. فمن أين للبشر أن يأتوا بالخير ومعرفة الصواب من الخطأ لولا وجود الفطرة الإلهية في قلوبهم.

ويستطيع المؤمن أن يدفع هذه الوساوس عنه بتسليمه المطلق لحكمة الله تعالى وعلمه، وتلاوة القرآن الكريم، وتدبُّر آياته ومعانيه، مثل الآيات التي تتحدَّث عن الابتلاء والفتنة، وتدبّر بعض معاني سورة الكهف كالتي مرت معنا في الجزء الأول من المقال.

ومن أراد دليلاً عقليَّاً على خيريَّة الله فلينظر في معاني العدل والرَّحمة والشَّفقة بين الناس، وليسأل نفسه من أين جاءت هذه المعاني للبشر إن لم يكن مصدرها من الله؟ وإذا سأل عن الوحشيَّة والظلم والتعدِّي فيكفي أن يعرف أنَّ هذا من ظُلم الناس وإعراضهم عن نور الله، ولو عرّضوا قلوبهم لنور الله لما فعلوا ما فعلوه. فالقسوة والظلم لا تكون إلَّا بإعراض الناس عن الله.

((أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين)) [سورة الماعون1..3]

((مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ)) [سورة المدثر42..44]

((كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا))  [سورة الفجر17..20]

دفاع الإرادة الحرَّة:

أمَّا الاحتمال الأخير من الاحتمالات الثلاثة، فهو احتمال “نقص القدرة” الذي صيغ في االتَّساؤل:

 (هل يريد الله دفع الشَّرِّ ولكنَّه غير قادر)؟

ويندرج تحت هذا الادِّعاء مذهبان:

  • مذهبٌ يؤمن بالطبيعة، ويؤمن بوجود مسبِّبٍ أوّل خلق الكون، ولكنَّه لا يعتقد بالعديد من صفات الله سبحانه كالقيُّوميَّة والقدرة والإرادة وغيرها، فيعتقد أنَّ الإله غير قادرٍ على تغيير شيءٍ من قوانين الطبيعة وأنَّ هذه الشرور هي نتيجةٌ طبيعيَّةٌ للحتميَّات المادية، وأنَّ الله لا يستطيع دفعها، ويعتقدون أنَّ هذا النقصان في طبيعة الإله نفسه لا يستطيع به ردَّ شيءٍ من الحتميَّات المادية.

وهذا ادِّعاءٌ قال به بعض الفلاسفة الدَّهريِّين ولا يجد صدىً كبيراً بين الناس، ومعلومٌ لدى جميع المؤمنين بالله أنَّه سبحانه على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّه هو من أذن بوقوع الشَّرِّ لحِكَمٍ يريدُها، يسلّم بها المؤمن سواءً علمَها أم جهلها.

  • أمَّا المذهب الثاني فهو مذهبٌ يعتقد به كثيرٌ من المؤمنين بالله من اللادينيين وأصحاب الديانات الأخرى، وبعض المسلمين، وهو الاعتقاد بأنَّ الله ترك هذا الكون دون تدخُّلٍ منه –مع أنَّه قادرٌ على منع الشَّرِّ– ليحاسب السَّيِّء على فعله والخيِّر على فعله، فهم يعتقدون أنَّ الله ترك الناس لتفعل ما تشاء في هذا العالم دون تدخُّلٍ منه، ثمَّ يحاسبهم يوم القيامة على أفعالهم الخيِّرة والشّريرة، فما تجده من شرٍّ في هذا العالم هو لأنَّ الله ترك الناس تفعل ما تشاء، وليس لأنَّ الله أراد ذلك.

ومنهم فلاسفةٌ غربيّون اشتهروا بالردِّ على مشكلة الشرِّ مثل: “ألفين بلانتينغا Alvin Plantinga” أحد أشهر الفلاسفة الغربيين المعاصرين في الردِّ على الإلحاد من منظورٍ إيمانيٍّ، وقد اشتهرت حججه الدفاعية باسم: دفاع الإرادة الحرّة Free will defense، حيث قرَّر أنَّ الشَّرَّ هو ضريبة الإرادة الحرَّة، وأنَّ الله لا علاقة له بالشرور التي تحدث في العالم، واعتبر أنَّ أيَّ تدخُّلٍ إلهيٍّ يُفقد حريَّة الإرادة معناها، بل إنَّه عزى الابتلاءات التي تصنَّف على أنَّها كوارث طبيعيَّةٌ إلى أرواحٍ شرِّيرةٍ هي التي اختارت الشَّرَّ وفعلته بما يعزِّز نظرة أنَّ الله ترك العالم يجري حسب اختيار المخلوقات التي فيه.

وهذا ادعاءٌ خطيرٌ قد تجده عند بعض المسلمين، وقد اشتهرت به “المعتزلة” في التاريخ الإسلامي.

 [انظر تفصيل هذه المسألة في مقال “هل تنزل الأمطار برحمة الله أم بتكاثف الغيوم؟” للمؤلف]

وتبرز الإشكاليَّة في هذا المذهب في ادِّعاء وجود شركاء لله في الفعل، وأنَّ الله لا علاقة له في كلِّ ما يجري في الكون وأنَّه تركه همَلاً، خلافاً للعديد من الآيات في القرآن الكريم التي يخبرنا فيها الله عن أفعاله وقدرته سبحانه.

لذلك نجد أنَّ بعض من أراد إثبات كمال الله وقع في نسب نقيصةٍ إليه سبحانه، أمَّا المسلم فإنَّه يبحث عن صفات الله جلَّ جلاله في القرآن الكريم، ويعلم أنَّه ليس للبشر أن يحيطوا بشيءٍ من علم الله إلَّا بنطاق ما علّمهم إيَّاه سبحانه: ((وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ))[ البقرة255]

والمتأمِّل في القرآن الكريم يجد بطلان هذا الادِّعاء بوضوح، ففي الآيات القرآنية ينسب الله الابتلاء لنفسه وذلك من تمام التوحيد الإلهي:

((كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)) [سورة الأنبياء:35]

((وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ)) [سورة البقرة:49]

ويخطئ من يعتقد أنَّ تنزيه الله عن الشَّرِّ يكون بنفي العلاقة بين الله وبين الأفعال التي تجري، وقد أثبتنا تنزيه الله عن الشَّرِّ مع تسليمنا بأنَّه سبحانه هو الفاعل في نقاش ادِّعاء نقصان علم الإله في الجزء الأول من المقال.

أمَّا من يسأل: كيف يحاسب الله الناس على فعلٍ مع أنَّه ينسبه لنفسه، فجواب ذلك أنَّ المرء إنَّما يحاسب على كسب قلبه وإراداته الشَّرَّ والسوء، أمَّا أن يأذن الله للسوء بالوقوع فذلك يتبع لمشيئته سبحانه:

((وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ)) [سورة آل عمران:166]

((وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)) [سورة آل عمران:141]

أمَّا صاحب الإثم فيُحاسَب على سوء نيَّته وإن لم يأذن الله له بإتمام مراده، ودليل ذلك هو الحديثُ الذي رواه أبو كبشة الأنصاري عن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال:

(أُحدِّثُكم حديثاً فاحفظوه: إنَّما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رزقه الله مالاً وعلماً… وعبدٌ لم يرزقه الله مالاً ولا علماً، فهو يقول لو أنَّ لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيَّته، فوزرهما سواء) [أخرجه الإمام أحمد والترمذي في سننه وقال: حسن صحيح]

فالعمل بالنِّية، وذلك مقرَّرٌ في حديث: (إنَّما الأعمال بالنِّيات)، ومن ذلك نجد أنًّه ليس لمن كسب إثماً أن يحتجَّ بالقدر، فإنَّ الإنسان استحقَّ إثم العمل بكسب قلبه. [انظر تفصيل هذه المسألة في مقال “هل يفعل العباد ما يشاؤون هم أم ما يشاء الله؟” للمؤلف]

ماذا عن المشوَّهين:

أمَّا عن السؤال الذي يرد في أذهان كثيرٍ من الناس (لماذا يخلق الله المشوَّهين) فإنَّه بعد الاستعراض السابق تبيَّن لنا أنَّ أصل (سؤال الشَّرِّ) ينبع من جهل الإنسان وقلَّة إدراكه، ولا سبيل لإدراك بحر علم الله ومعرفة الحكمة من كل أمرٍ يريده سبحانه، ولا بدَّ أن يعتقد المؤمن أنَّ هذا الأمر أو غيره هو ابتلاءٌ يريد الله تعالى أن يبتلي به الشخص ومن حوله.

ولا سبيل للاعتقاد أنَّ هذا الأمر محض صدفةٍ عشوائيَّةٍ من فعل الطبيعة، وقد تبيَّن بطلان هذه العقيدة بنصِّ القرآن الكريم، حتَّى وإن تبيّن علمياً أنَّ هذه التشوهات جاءت نتيجةً لفعل الإنسان الذي أساء استخدام العلم التجريبي (كالتجارب النووية، أو العقاقير الطّبية)، فإنَّه على المؤمن أن يعتقد أنَّ هذه الأفعال الإنسانيَّة لا تخرج من دائرة الكسب (قد يستحقُّ فاعلها إثماً إن آخذه الله بها) مع التسليم المطلق بأنَّ الله هو من أذن بإجرائها لأنَّه هو المتصرِّف في الكون يفعل ما يشاء.

وقد يتبين لبعضنا الحكمة من هذا الابتلاء وقد لا يتبيّن، وقد ذُكرت بعض الحكم المستفادة من خلق المشوَّهين بشكلٍ عام، إذ يظهر كمال الخلق الإلهي في سائر المخلوقات الأخرى، حيث إنَّ نسبة التشوُّهات ضئيلةٌ جدَّاً، فيكون الاستثناء في الخلق سبباً خلقه الله يستشعر به بقيَّة الناس فضل الله عليهم بتمام الخِلقة.

ولكنَّ هذه الحكمة -إن صحَّت- فإنَّنا لا نستطيع إسقاطها على آحاد المبتلين بهذا البلاء، لأنَّ الله أراد لكلِّ مبتلىً من هؤلاء أن يُبتلى بالقدر الذي قدَّره له، وليس الأمر أنَّ الله أراد أن يبتلي طائفةً من الناس ليعتبر الآخرون، فكلُّ ابتلاءٍ من هذه الابتلاءات تمَّ بإرادةٍ إلهيَّةٍ، بالقدر الذي يريده الله، وعلى الوجه الذي يريده جلَّ جلاله، وهذا هو تمام التوحيد.

وبعد ذلك نجد أنَّه لا حجَّة للإنسان في الاعتراض على الشَّرِّ الموجود في العالم مهما بلغ، وعليه أن يردَّ كلَّ استشكال إلى نقصان علمه، وقصور إدراكه، ولكمال الله تعالى وحكمته وعلمه.

والله أعلم

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *