بسم الله الرحمن الرحيم
هل يخلق الله الشَّرَّ؟
الجزء الأول (سؤال لاملائكة)
وهو السؤال الذي يبحث في الحكمة الإلهية من بعض الأفعال التي تبدو للوهلة الأولى أفعالاً “غير مفهومة” أو “لا خير فيها” مما يستحيل في حق الله الحكيم الرَّحيم.
معضلة إبيقور:
إذا أردنا أن نؤصل لمشكلة الشر فلسفياً فإنّنا نحتاج إلى الاستعانة بصياغاتٍ فلسفية رصينة بشكل يمكن معه تبيين وجه الإشكال في سبيل حله؛ وعند البحث في المسألة نجد أنَّ “إبيقور” [فليسوف إغريقي عاش في اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد] وهو من أقدم الفلاسفة الذين صاغوا هذه المعضلة.
صاغ “إبيقور” حجته الفلسفية على شكل يبيّن تناقضاً بين (وجود الشر في العالم)، و (وجود إلهٍ كامل القدرة والعلم والخير)، وذلك أن خيرية الله ستمنعه من فعل الشر إلا إذا كان ناقصَ العلم، (أي لا يعرف أن هذا الفعل سيؤدي إلى شر)، أو ناقصَ القدرة (فلا يستطيع دفع هذا الشر).
ويمكن سرد هذه الحجة على شكل أسئلة متتالية:
- هل يريد الله أن يمنع الشر ولكنه غير قادر
- إذن هو عاجز.
- هل هو قادر ولكنه لا يريد؟
- إذن هو شرير.
- هل هو يريد أو يقدر أن يمنعه؟
- إذن لماذا وُجد الشرّ؟
- هل هو غير قادر وغير مريد؟
- إذن فلِمَ تسمُّونه إلهاً؟
ونلاحظ من الصياغة أعلاه أن إبيقور يتكلَّم من منطلق كونه يعدُّ نفسه المرجع في الحكم على الأمور إن كانت خيراً أو شراً. ولكننا إذا نظرنا إلى الإنسان بصفاته الأصيلة المرتبطة فيه من الضعف والجهل ندرك أنَّ ما يراه إبيقور أو أيُّ إنسانٍ من منظوره الإنساني شراً ليس بالضرورة أن يكون شراً بالمعنى المطلق.
وعند مراجعة عقيدة إبيقور نجد أنَّه لم يكن مؤمناً بالله الخالق كما يعرفه المؤمنون، كما أنه لم يكن يعتقد بيوم الحساب، بل كان يظن أن الكون لا نهائي وأبدي.لذلك نرى أن هذا الطرح مرتبطٌ بشكل أصيل بالمنظور الفلسفي الذي كان إبيقور يعتقده؛ فقد طرح هذه الإشكاليات بناء على جهله بصفات الله وعدم إيمانه بيوم القيامة الذي يجزل الله فيه الثواب لمن وقع عليه الابتلاء في الدنيا. فحقيقة الحياة عند المؤمن تتألف من فصلين هما الدنيا والآخرة، والمؤمن يعتقد بعدل الله سبحانه ويعلم أنَّه يعاقب المسيء في الآخرة ويجزل العطاء لمن آمن واتقى وعمل صالحاً في هذه الحياة الدنيا.
يعلم المؤمن بالله أنه سبحانه هو العالم بكل شيء، وأنَّ جهل الإنسان بإدراك حقيقة الأمور لا يعطيه الحق في أن يحتج على ما يجهله. أما إبيقور فقد انطلق من نظرته الفلسفية، ولم يعتمد على معرفة حقيقة نفسه البشرية المركبة على الضعف والجهل، فقلب الموازين وجعل نفسه حاكماً على الله سبحانه.
نوضح أكثر ونقول: إن ادّعاء إبيقور: “نقصان علم الإله” وأنَّه أحد الاحتمالات الثلاثة لتفسير وجود شرٍّ في هذا العالم فيه نقصٌ لإدراك صفات الله سبحانه. [مناقشة الاحتمالين الآخرين (نقصان الخيرية أو نقصان القدرة) في الجزء الثاني من المقال إن شاء الله] انظر مقال هل يخلق الله الشر؟ الجزء الثاني
إن ادعاء نقصان العلم أتى من منطلق النظرة إلى الله سبحانه نظرة “أنسنة” (وصف الإله بصفات الإنسان) ثم يحاكم الإنسانُ ربَّه من منظوره الضيق فيسأل: كيف قام الإله بهذا الفعل الذي أراه -أنا الإنسان- فعلاً شريراً؟ إذن لا بد أنَّك أيها الإله لا تعلم أنَّ هذا الفعل سيؤدي إلى شر، أو أنَّك شرير، أو لا تستطيع دفع الشر.
لذلك نجد أن عقدة المشكلة في هذه المعضلة هي ادعاء نقصان علم الله ويكون الحل لها بالاعتراف بنقصان العلم الإنساني مقارنة بالعلم الإلهي. وهنا نرى الأمور على حقيقتها، نرى المخلوق مخلوقاً والخالق خالقاً، فيتهم الإنسانُ معرفته البشرية القاصرة أمام بحر علم الله.
الحاسوب الذي تفوَّق على الإنسان:
قد يجادل البعض في حقيقة أن المخلوق لا يحقُّ له بأن يحكم على الخالق أو أنَّ المخلوق لا يعلم أكثر من الخالق، ولعله يضرب مثالاً لذلك بقدرة الحاسوب _ وهو من صنع الإنسان_ على تأدية مهارات لا يستطيع الإنسان نفسه أن يفعلها، فيقول: “انظر كيف تفوق المصنوع على الصانع”!
والفارق في التشبيه هنا: هو أنَّ الإنسان لم ينشئ شيئاً من مواد الحاسوب، ولم ينشئ النظام الذي تسير وفقه هذه المواد، بل استخدم ما خلقه الله سبحانه من مكوناتٍ مادية وعقل إنساني، وسار وفق نظام الكون الدقيق وهو من بديع الخالق سبحانه؛ فسخّر هذا المخلوق الصغير (الحاسوب) لخدمته وحاجياته، تماماً كما سخر من قبله الخيول والكلاب وغيرها من مخلوقات يتفوَّق كل منها على الإنسان في جانب من جوانب الحياة؛ كقدرة التحمل والسرعة وغير ذلك …
أما الله فهو خالق الإنسان وخلق المواد التي يستفيد منها، و العقل الذي يستطيع به الإنسان تسخير هذه المواد، وخلق الله الأنظمة الكونية فاستطاع الإنسان بعقله المخلوق أن يفهم أحجياتها دون أن يملك تغيير شيءٍ منها. فالله –سبحانه– خالق كل شيء، و العالم بكل شيء، ومهما بلغت العلوم الإنسانية المكتسبة من دقةٍ في أدوات النظر والتحليل التي وهبها الله للإنسان (أعني العقل البشري) فإنَّها ستبقى غارقةً في بحر علم الله الذي خلق كل شيء، و ثمَّة فارقٌ كبير بين الأمرين.
ولذلك لا يحقُّ للإنسان أن يعترض على الإله ويتهمه بنقصان العلم، ثمَّ يحاكمه بناءً على ما يملك هو من معلومات قلّت أو كثُرت هي من علم الخالق نفسه.
لذلك فإن أوَّل أمرٍ يجب على الإنسان أن يسلم به هو الجهل الملازم له منذ الخلق، وأنه ما من شيءٍ تعلَّمه إلا بقدرة الله سبحانه وإذنه، فهو الذي علّمه بعد أن كان جهولاً. وحينها يعرف الإنسان قدرَ نفسه وينزع عنه عباءة الغرور المعرفي، ويستطيع أن يفهم شيئاً من هذه الحقائق.
سؤال الملائكة:
قلنا في صدر المقال: إنَّه يمكن تسمية هذا النوع من التساؤلات بـ “سؤال الملائكة” وذلك نسبةً إلى التساؤل الملائكي الذي افتُتحت به قصة الخليقة في القرآن الكريم، حيث استغربت الملائكة فعل الله الحكيم، وهزَّها وجود مخلوقات تسفك الدماء في الارض وتتناحر فيما بينها:
((قالوا أَتجعَلُ فيها من يُفسِدُ فيها ويَسفِكُ الدِّماءَ ونحنُ نُسبِّح بِحَمدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ)) [البقرة30]
وقد أُتبعت الحيرةُ الملائكية بإجابةٍ بليغةٍ مُحكمةٍ لخّصت المسألة بخمس كلمات: ((إنِّي أَعلمُ ما لا تعلمون)) [البقرة30]
نلاحظ بين طيات هذه الكلمات جلالاً وهيبة يستدعي في نفس السامع تدبُّراً عميقاً ولسان حاله يقول: لا بدَّ أنَّ الله أجاب الملائكة ولكنني لم أفهم مراده، ثمَّ ما يلبث أن يجد ما كان يبحث عنه بين ثنايا الإجابة نفسها.
لقد أوضحت الإجابةُ الفرق بين كمال علم الله الذي لا تجادل فيه الملائكة ونقص علم الملائكة وما تبعه من استغرابهم وتساؤلهم، وإنَّ تسليم الملائكة بنقصان معرفتهم هو أصل حل المعضلة التي يرونها “شراً”. وهذا متَّسقٌ مع ما ذكر آنفاً حول علاقة نقصان معرفة المخلوقات مع تساؤلهم عن حكمة الأفعال الإلهية.
تجدر الإشارة إلى أن هذا التساؤل الملائكي قاد أحد أشهر الأساتذة الجامعيين في الولايات المتحدة –أستاذ الرياضيات في جامعة كنساس الدكتور: جيفري لانج إلى الإسلام، بعدما كان متشككاً في حكمة الله؛ وقد وصف نفسَه بأنَّه كان لا دينياً نشأ في أسرةٍ كاثوليكية، ليؤلف بعد إسلامه كتاباً بعنوان (حتى الملائكة تسأل)!
موسى عليه السلام يسأل سؤال الشر:
وهنا يجدر بالقارئ أن يسأل: إذا كانت معلوماتنا قاصرة، وقد سلّمنا بذلك؛ فهل من سبيل لمعرفة شيءٍ من الحِكَم الخفيّة كي تستقرَّ نفوسُنا وترتاح أفئدتنا؟
والحقيقة أنَّ الله سبحانه لم يترك الإنسانَ دون الإجابة عن هذه التساؤلات، فبيّن شيئاً منها ليروي ظمأ شغفه للمعرفة. هذا الإنسان الذي وصفه الله في سورة الكهف: ((وكانَ الإنسانُ أكثرَ شيءٍ جدلاً)) [الكهف54]، وأجابه في السورة ذاتها عن حيرته بثلاث قَصص تروي شيئاً من عطش الإنسان المجادل.
هذه القَصص التي عاش أحداثها موسى –عليه السلام– إذ آثر التعب والعناء في سبيل تحصيل علمٍ من عبدٍ رحيمٍ: ((لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ)) [الكهف60]، فهو يستعذب السير لبلوغ تلك الغاية ولو أمضى من عمره سنين ((أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)) [الكهف60]
ما هو ذلك العلم الذي يريد موسى –عليه السلام– تحصيلَه؟ إنَّه علمٌ من نوع خاص لا يُحصَّل في كتاتيب، ولا يوجد في مكتبات. فما أطيب التعب في سبيله! سيتعلم شيئاً من العلوم التي ذكرها الله للملائكة بقوله: ((إِنِّي أعلمُ ما لا تعلمون)) [البقرة30]. فيلتقي بعد رحلةٍ طويلةٍ من الجوع والنَّصَب بالخضر الرجل الذي شكل في قصصه الغامضة تجسيداً لمعاني عميقة في القدر تجيب عن شيء من أسئلة الإنسان الحائر.
ثم تنبه السورة في خاتمتها أن على الإنسان أن يعترف أنه لن يبلغ شيئاً من علم الله مهما عظم شأنه ((قُل لو كانَ البحرُ مِداداً لِكلماتِ ربي لَنفدَ البحرُ قبلَ أن تنفدَ كلماتُ ربي ولو جِئنا بمثلهِ مدداً)) [الكهف109]، فلن تستطيع مع تلك الحال صبراً إلا إن سلمت بقلَّة حيلتك، وضعف علمك أمام علم الله سبحانه.
لذلك لا عجب أن يوصينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقراءة سورة الكهف في كلِّ جمعة لتضيء نوراً للمؤمن يمشي به في ظلمات الحياة، فقال صلى الله عليه وسلم: (مَن قَرَأَ سورةَ الكَهفِ يومَ الجُمُعةِ أضاءَ له من النورِ ما بَينَ الجُمُعتينِ) [رواه الحاكم والبيهقي وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه]
حِكَمٌ أخرى:
وفي سورٍ أخرى أشار الله إلى بعضٍ من حكمته في ابتلاء المؤمنين وتمحيصهم، وفتن العباد بعضهم ببعض وبألوان من مصائب الدنيا، وبين جلَّ جلاله أنَّه لم يكن ليترك المؤمنين بلا فتنة بل أقسم بأنه سيبلوهم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات ليبشر الصابرين:
((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)) [المُلك 2]. ((الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) [العنكبوت3]. ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) [البقرة214]. ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)) [محمد 31].
هذه الابتلاءات قدّر الله أن يستخرج بها أفضل ما في النفس البشرية من القيم الراقية كالصبر والتضحية والإخلاص، ولا يمكن لعقلٍ بشري أن يدركها دون التسليم بنقصان علمه ومعرفته، إذ لا بد من إعادة الموازين إلى نصابها، ولابد للإنسان أن يعرف قدر نفسه وأن ينزع عنها عباءة ظنِّ المعرفة المطلقة التي أوصلت فلسفة “إبيقور” إلى ادعاء نقصان علم الإله ((وما قَدَروا اللهَ حقَّ قدرِهِ)) [الأنعام91].
بقيت الإشارة إلى الاحتمالين الآخرين المتحصلين من معضلة إبيقور، وهما احتمالا: (نقصان القدرة) أو (نقصان الخيرية)، وما يترتب على ذلك من ادعاءاتٍ وعقائد تتعارض مع الإسلام والقرآن الكريم، نجيب عنها في المقال القادم بإذن الله تعالى.
No comment yet, add your voice below!