رحمته بالطبيعة

رحمتُهُ ﷺ بالطبيعة

Loading

رحمته في الجهاد

إنّ بين الرحمة والمحبّة ارتباطاً وثيقاً، فالمحبّة من أخصِّ أنواع الرحمة، وكلَّما ازدادت الرَّحمة في القلب نمت المحبّة فيه، وفاض إرهافاً ورِقّةً، وأحبّ كلّ ما حوله من الطبيعة.

ولا أقصد بذلك ما يعتري الرومانسيين، الذين اتّسموا بالإحساس المرهف، والمشاعر الوجدانيّة العميقة، فعشقوا الطبيعة وبادلوها مشاعرهم، واتّخذوها حبيبتهم.

فإنّ هؤلاء العشّاق عاشوا في حالةٍ من التشاؤم والسوداويّة والكآبة، والانزواء عن الحياة، والابتعاد عن الواقع، ولم ينشأ هذا التعلّق بالطبيعة عن نفسٍ سويّةٍ تتكامل فيها معاني المحبّة والرَّحمة، بل هو مذهبٌ يلجأ إليه من اسودّت الدنيا في وجوههم وأرادوا إفراغ مشاعرهم في الطبيعة التي بين أيديهم.

فالعشق عند هؤلاء ليس بصادق، بل هم أشدّ الناس قسوةً إلّا على محبوبهم؛ وقد هربوا من الواقع بقصد ملء الفراغ الذي شتّت قلوبهم، ولم يجدوا ملجأً لهم إلَّا الطبيعة، فاعتاضوا بها عن البشر، وتجاوز هذا التعلّق حدّه عند بعضهم، حتى أصبح حالةً مَرَضيّةً جليّة، فجعل العلاقة بينه وبين الطبيعة علاقة تزاوجٍ مادّيٍّ كما يتزوّج من المرأة.

 أمّا المقصود من محبّة الطبيعة في هذه المقالة: فهي المحبّة الحقيقيّة الصادقة الممتزجة بالرحمة، النابعة من نفسٍ سويّةٍ، ونظرةٍ إيجابيّةٍ إلى الكون بأسره، وهذا ما كان عليه رسول الله من كمال الرحمة والمحبّة التي استوعبت كلّ ما في الخليقة، حتَّى عمّت البشر والطبيعة والجماد، ولم تكن محبّته  للطبيعة نابعةً عن حالةٍ نفسيّةٍ نافرةٍ من البشر، منزويةٍ في زاويةٍ من مشاعر الكآبة والإحباط كما يفعل الرومانسيون، بل كانت محبّته فيضاً من الرحمة التي جعلها الله تعالى في قلبه، والكمال الذي تفوّق به الأنبياء على سائر البشريّة.

فقد شخّص رسول الله  الطبيعة من حوله، وبادلها المحبّة…

فإنّه حين خرج من مكَّة التفت إليها ومَشاعرُ الحبِّ تلتهب بين جوانحه، فخاطبها بلسان الوداد كما يخاطب حبيباً معتذراً عن فراقه وقال لها: (ما أطيبَكِ من بلد، وأحَبَّك إليَّ، ولولا أنَّ قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيرَك) [الترمذي وابن حبان وغيرهما واللفظ للترمذي].

وأَحبَّ حجارتها وأحبّته، فكان فيها حجرٌ يسلّم على رسول الله  فقال: ((إني لأعرف حجراً بمكّة كان يُسلّم عليّ قبل أن أُبعَث، إنّي لأعرفه الآن)) [مسلم والترمذي].

وأَحبَّ جبل أُحُد، وأخبر بأنّ هذا الجبل أيضاً يحبّه حين نظر إليه فقال: «هذا جبلٌ يُحبّنا ونُحبّه» [متفق عليه].

فكان  يبني علاقته مع ما حوله من الأرض والحجارة والجبال والأشجار والطبيعة على المحبّة، فضلاً عن الإنسان، فقد نال شأواً رفيعاً في الرحمة والرّقة والعطف والمحبّة لم يبلغه أحد.

ولم يكن هذا الأمر من طرفه فحسب، بل بادلته تلك الجمادات التي نراها ساكنةً هذا الشعور، فكانت ذرَّاتها مشحونةً بمحبَّة رسول الله وتحنّ شوقاً إليه، كما يحبّها ، وقد ثبت في الحديث الصحيح بل قال ابن كثير (المتواتر) أنَّ رسول الله لمّا صُنِع له المنبر، وقد كان يوم الجمعة يقف إلى جانب جذعٍ من جذوع المسجد، وكان يضع يده عليه، فلما وُضِع المنبر وجاء النَّبيُّ ليخطب وتجاوز الجذع ومضى نحو المنبر، وكان الجذع متشوّقاً إلى رسول الله متشوِّفاً إلى قربه ومسّه له، ففوجئ بأنَّ النَّبيّ قد جاوزه ولم يعرّج عنده، فلم يطق صبراً، فحنّ الجذع وجعل يئنّ كما يئنّ الصبيُّ الذي يُسَكَّن لما يسمع من الذِّكر والوحي عنده، ولم يَسكُن حتّى وضع رسول الله  يده عليه…

قال جابر رضي الله عنه : (فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار، حتَّى جاء النَّبيُّ  فوضع يده عليها فسكنت) [حديث حنين الجذع أخرجه البخاري في عدّة مواضع عن جابر وابن عمر، وكذلك أخرجه الترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وغيرهم].(والعشار هي النوق الحوامل)

 وكان الحسن البصريُّ رحمه الله إذا حدّث بهذا الحديث بكى ثمَّ قال: (يا عباد الله، الخشبة تحنّ إلى رسول الله  شوقاً إليه لمكانه من الله، فأنتم أحقُّ أن تشتاقوا إلى لقائه) [البداية والنهاية لابن كثير من رواية البغوي: (6/132) وابن حبان (6507)].

وكأنّي ببعض القُرّاء يتعجّب ويلوح بباله ما يقوله المنكرون بأنّ الدّين يصدّق الخرافات، فهل من المعقول، أن يسلّم حجرٌ، ويئنَّ جذع…!

فالجواب:

إنّ الحياة ليست مادّةً فحسب، بل هناك ما بعد المادّة ما لم يتوصّل إليه الإنسان، فالحواس لا تُدرك إلَّا النزر اليسير من الحقائق، أمّا الروح فبها يسمو الإنسان، ويتذوّق الحقائق الإيمانيّة والوجدانيّة التي لا يشعر بها ذوو النظرة المادّيّة السطحيّة.

وإنّنا لم ندرك شعور ما حولنا من الطبيعة لأنّ أجناسها مختلفةٌ عنّا، ولكن بيَّنت الدراسة والتجارب أنّ النبات له شعورٌ، ولا عجب إذن أن يحنّ الجذع ويئنّ. وقد أُجرِيَت دراساتٌ في إيطاليا على النباتات، وتبيّن أنّ النباتات تتأثّر وتحبّ وتكره وتخاف. [انظر يوتيوب قناة العربيّة تحت عنوان: (النباتات تتأثّر بمشاعر الإنسان ..تحبّ وتكره، وأحياناً تنتحر) بتاريخ 20/4/2018 ]

وكذلك أجريت دراسةٌ على الماء -وهو جماد- من عدّة باحثين منهم: العالم الفرنسي (جاك بنفنست) وهو أوّل من أثار هذا الموضوع، وتبعه الفرنسي (جاك كولين) واليابانيّ (ماسارو إيموتو) وغيرهم.

 وتبيّن لهم أنّ الماء يحتفظ بذاكرةٍ تُخزّن المعلومات، وأنّه يتأثّر ويتغيّر تشكيله الهندسيّ مع كلِّ صوتٍ أو ضوء أو تفاعلٍ مغناطيسيٍّ ونحوه، وأيّ تشكيلٍ هندسيٍّ فيه فهو بمثابة خليّةٍ معلوماتيّة، وأنّ أقوى التأثيرات التي تقع على الماء هي المشاعر التي تصدر عن الإنسان سواء كانت إيجابيّة أو سلبيّة، كالحبّ والعطف والحنان، أو البغض والحسد والكراهية ونحو ذلك، [انظر صحيفة الاتحاد، مقال تحت عنوان: (ذاكرة الماء) 14 فبراير 2019م، موقع إسلام أون لاين: مقال تحت عنوان: انتبه من ذاكرة الماء] فالماء يتأثّر بالحبّ وبالبغض.

وقبل هذا كلّه، وسواء أُجرِيَت هذه الدراسات أو لم تُجْرَ، فالمؤمن يصدّق الأحداث التي وردت في السنّة عن رسول الله ، ولا يشكّ أحدٌ من المؤمنين بأنّ الله تعالى الذي خلق كلَّ شيءٍ قادرٌ على أن يُنطِق الحجر والنبات وجميع المخلوقات، وأن تعبّر عن محبّتها، فإذا بلَغَنا إنطاقها بالخبر الصادق فلا يسع المؤمن إلّا أن يصدّق به، لأنّ الإيمان منظومةٌ متكاملة، فالإيمان بالله ورسوله يقتضي التسليم بكلّ ما ورد في القرآن الكريم وصحيح السنّة النبويّة.

 وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك النطق والشعور الذي في الطبيعة، وصرّحت به السنّة النبويّة.

فقال تعالى في نطق تلك الكائنات وتسبيحها: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ[الإسراء: 44]

وقال في ما يتعلّق بمشاعرها: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ[الدخان: 29] أي عندما أُغرِق قوم فرعون لم تحزن عليهم الأكوان.

وقال رسول الله  في هذه الآية: (ما من مؤمنٍ إلا وله بابان، بابٌ يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بَكيَا عليه، فذلك قوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوْا مُنْظَرِيْنَ﴾) [أخرجه الترمذي]

وقال عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه في هذه الآية: (إنّ المؤمن إذا مات بكى عليه مُصَلّاه من الأرض، وبابه الذي يصعد منه عمله) [الزهد لأبي داود (ص: 118)].  

وقال رسول الله  في أحاديث آخر الزمان عن نطق الحجر والشجر: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهوديُّ من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهوديٌّ خلفي، فتعال فاقتله، إلَّا الغرقد، فإنَّه من شجر اليهود) [أخرجه مسلم وغيره].

وكلّما ازداد الإيمان في القلب تذوّق هذه المعاني، وأدرك تلك المشاعر المتبادَلة بين البشر والطبيعة، كونهم جميعاً عباد الله وعلى فطرة التوحيد.

فنجد المحبّين العاشقين يشعرون بأنّ كلّ ذرّةٍ في الكون لها قلبٌ ينبض بالمحبّة؛ لأنّ الأرواح تدرك ما لا تدركه الحواسّ، قال المحبّ العالم عفيف التلمساني يخاطب الذات الإلهيّة:

سَبَيْتَ الورى طُرّاً وأنت مُحَـــجَّبُ     فكيف بمن يهواك لو زالت الحُجُبُ

وأصبحتَ معشوقَ القلوب بأسرِها    ولا ذرّة في الكـــــــون إلّا ولـــــها قلــــــــبُ

فها هو حال المحبّين والعاشقين، فإنّهم يشعرون أنّ كلّ شيءٍ في الكون يشاركهم العشق والوله، وهذا الشعور حقٌّ، ولكن لا يلمسه إلَّا أهل الأذواق الرفيعة.

أمّا المنكرون فيتتبّعون ما يَرِد عن النَّبيِّ بالنَّقد والتكذيب، لعدم وصولهم إلى تلك المعاني العميقة الرقيقة، مع أنّ أقواله وأفعاله  جاءت بعين الكمال، فهو مسدّدٌ بالوحي من عند الله تعالى، لكنّهم لم يدركوا ما جاء به لقصور نظرهم.

 وبالمقابل فإنّهم ينظرون إلى المذاهب المبنيّة على الأساطير، والفلسفات، والأوهام، والخيالات، بعين الاحترام والإكبار، ويسمّونها إبداعاً ورومانسيّة.

والحقيقة فإنّ كمال الرحمة والمحبّة والعطف، والمشاعر الراقية إنّما هي في قلب رسول الله ، الذي يتّسع لمحبّة كلّ شيء، فيعامل كلّ ما حوله معاملة عطف وحنان.

ومن ثمّ نجده يشخّص النّعم التي حوله من طعامٍ وشراب، ويجعل العلاقة بينه وبينها كعلاقة الجيران الذين يجب الإحسان إليهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل عليَّ رسول الله  فرأى في بيتي كسرةً مُلقاة، فمشى إليها فشمّها، ثمَّ أكلها فقال:ا عائشة أحسني جوار نعم الله، فإنّها قلَّما نفرت من أهل بيتٍ فكادت أن ترجع إليهم)) [الطبراني في المعجم الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان].

وإنّ هذه النظرة المليئة بالرحمة والمحبّة إلى الطبيعة تفضي إلى الحفاظ على البيئة؛ لذا نجد رسول الله  كان ينهى عمّا يضرّ بالبيئة من هدرٍ وإسرافٍ وقطعٍ للأشجار ونحو ذلك، ويدعو إلى كلِّ ما يُصلحها من ترشيدٍ وإحياء الأراضي بالزراعة والاستثمار ونحو ذلك.   

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنّ النبيّ  مرّ بسعدٍ وهو يتوضّأ، فقال: (مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟) قال: أفي الوضوء سَرَف؟ قال: (نعم، وإن كنت على نهرٍ جار) [أحمد وابن ماجه].

لذا كان الاقتصاد والحفاظ على النِّعَم سجيّةً فيه دون تكلّف، فعن أنس رضي الله عنه قال: (كان النَّبيُّ  يتوضأ بالمدّ، ويغتسل بالصاع، إلى خمسة أمداد) [متفق عليه].

وللتَّرغيب في الحفاظ على البيئة، وإكثار النباتات والزروع والأشجار فقد منح الأرض لكلّ من يحيي مواتاً فيزرعها أو يغرسها، ويرعاها فقال : ((من أحيا أرضاً ميتةً فهي له)) [البخاري وأبو داود والترمذي] وهذا من أعظم القوانين التي تعتمد عليها بعض الدول في الحفاظ على البيئة، والحثّ على الزراعة، وزيادة الثروة النباتيّة.

فرحمته  بالطبيعة ومحبّته لها تتّسق مع هذه التشريعات التي قرّرها في الحفاظ على البيئة.

وبهذا نجد تلك الرحمة والمحبّة والإحساس المرهف مع الإيجابيّة في السلوك عند رسول الله  وامتزاج ذلك بعظمة التشريع الذي جاء به، والتي تصبّ جميعها في محبّة الطبيعة وتنعكس على البشريّة بالخير والنفع. 

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *