رحمتُهُ ﷺ بالمخالف

Loading

 

 

يحتفي المسلمون عامَّةً في مثل هذا الوقت من كلِّ عامٍ بمولد خير البشرية، رسول الله محمَّدٍ ﷺ، الرؤوف بأصحابه، الرحيم بأعدائه، الذي ما خالطه أحدٌ من الخلق إلَّا نال حظَّاً من معين حنانه ووابل محبَّته.

لكنَّ زمن الشُّبُهات بات يعكِّر صفو العاشقين، ويكدِّر على المشتاقين والمتولّهين صفاء هذه الأيام الطيِّبات. فمع تعالي صيحات المنكرين، وكثرة طعون المغيبين؛ يجد المرء نفسه مضطراً إلى إجلاء نور الشمس في وضح النهار، لا من عيبٍ أصاب ضياءها، بل من رمدٍ في بصر الناس، وغشاوةٍ علت بصائرهم وأفئدتهم. فصاروا يسألون عن سناها، متألِّبين محتارين لا يهتدون سبيلاً.

﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُۥ مُنكِرُونَ

في معرض توبيخ الله للمشركين المنكرين لنبوَّة محمَّدٍ ﷺ، ذكر جلَّ جلاله علامةً من علامات النُّبوَّة تسترعي انتباه السامعين، فقال سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُۥ مُنكِرُونَ﴾ [سورة المؤمنون : 69].

وفي الآية السابقة دلالةٌ قويَّةٌ على علاقةٍ بين معرفة النَّبيِّ ﷺ وطرد الشُّبُهات والأقاويل حول شخصه صلَّى الله عليه وسلَّم، فمن الطَّبيعيّ على من لم يخالط إنساناً أن يشكَّ فيه لأوَّل وهلةٍ حتَّى يتبيَّن له صدقه من كذبه. لكنَّ العجيب أن ينكر عظيمَ خُلُقه ﷺ قومٌ عاشوا معه، وشهدوا معه المواقف تلو المواقف، ثم تراهم  ينكسون على رؤوسهم بعد كلِّ ذلك منكرين مستكبرين.

لذلك سنتعرَّف في هذا المقال على شيءٍ من عظيم خُلُق النَّبيِّ ﷺ ورحمته مع من خالفه بالعقيدة، فضلاً عن إخوانه وأصحابه؛ كي تكون تلك المواقف شاهداً لكلِّ من حالت بينه وبين رسول الله ﷺ الحجب، ولم يوفَّق ولم يهتد إلى قراءة شيءٍ من سيرته ليشهد على عظيم رحمته ﷺ.

((زِدْهُ مَكَانَ ما روَّعْتَهُ)) [رواه الطبراني]

تدور أحداث هذه القصَّة مع حَبرٍ من أحبار اليهود، يدعى زيد بن سَعنة إذ قام ببيع النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم تمراً إلى أجلٍ معلوم، فيقول زيد:

((قُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنِي تَمْراً مَعْلُوماً مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ إِلَى أَجْلِ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: «لَا يَا يَهُودِيُّ، وَلَكِنِّي أَبِيعُكَ تَمْراً مَعْلُوماً إِلَى أَجْلِ كَذَا وَكَذَا، وَلَا تُسَمِّي حَائِطَ بَنِي فُلَانٍ» قُلْتُ: بَلَى، فَبَايَعَنِي فَأَعْطَيْتُهُ ثَمَانِينَ مِثْقَالاً مِنْ ذَهَبٍ فِي تَمْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجْلِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ: فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، أَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُ بِمَجَامِعِ قَمِيصِهِ وَرِدَائِهِ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ غَلِيظٍ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا تَقْضِيَنِي يَا مُحَمَّدُ حَقِّي؟ فَوَ اللهِ مَا عَلِمْتُكُمْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَمَطْلٌ، وَلَقَدْ كَانَ لِي بِمُخَالَطَتِكُمْ عَلِمٌ، وَنَظَرْتُ إِلَى عُمَرَ، وَإِذَا عَيْنَاهُ تَدُورَانِ فِي وَجْهِهِ كالْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ، ثُمَّ رَمَانِي بِبَصَرِهِ، فَقَالَ: يَا عَدُوَّ اللهِ أَتَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَسْمَعُ، وَتَصْنَعُ بِهِ مَا أَرَى، فَوَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَوْلَا مَا أُحَاذِرُ فَوْتَهُ لَضَرَبْتُ بِسَيْفِي رَأْسَكَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى عُمَرَ فِي سُكُونٍ وتُؤَدَةٍ، ثُمَّ قَالَ: «يَا عُمَرُ، أَنَا وَهُوَ كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا، أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الْأَدَاءِ، وتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التِّبَاعَةِ، اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ وأَعْطِهِ حَقَّهُ وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ مَكَانَ مَا رَوَّعْتَهُ» قَالَ زَيْدٌ: فَذَهَبَ بِي عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَأَعْطَانِي حَقِّي، وَزَادَنِي عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَزِيدَكَ مَكَانَ مَا رَوَّعْتُكَ، قُلْتُ: وتَعْرِفُنِي يَا عُمَرُ؟ قَالَ: لَا، مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ، قَالَ: الْحَبْرُ، قُلْتُ: الْحَبْرُ، قَالَ: فَمَا دَعَاكَ أَنْ فَعَلْتَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَعَلْتَ وَقُلْتَ لَهُ مَا قُلْتَ؟ قُلْتُ: يَا عُمَرُ، لَمْ تَكُنْ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أَخْبُرْهُمَا مِنْهُ، يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلَا يَزِيدُهُ الْجَهْلُ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْماً، فَقَدْ أُخْبِرْتُهُمَا، فَأُشْهِدُكَ يَا عُمَرُ أَنِّي قَدْ رَضِيتُ بِاللهِ رَبّاً وَبِالْإِسْلَامِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيّاً، وَأُشْهِدُكَ أَنَّ شَطْرَ مَالِي -وَإِنِّي أَكْثَرُهَا مَالاً- صَدَقَةٌ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ)). [رواه الطبراني في قصَّة إسلام زيد بن سعنة]

 العجيب في هذه القصَّة أنَّ النَّبيَّ ﷺ لم يكن يعرف مراد اليهوديّ قبل أن يسلم، ومع ذلك فقد عامله ﷺ بالخُلُق الذي يعامل به جميع الناس، بَرَّهم وفاجرهم، وعامله وفقاً للرَّحمة التي أتت بها الشريعة، إذ أنصفه من سيِّدنا عمر رضي الله عنه؛ فاليهوديُّ معاهدٌ ولا يحقُّ لأحدٍ من المسلمين أن يؤذيه فضلاً عن أن يهدِّده بالقتل، مهما كان سيِّئ الخُلُق، فالحقُّ أحقُّ أن يُتَّبع ولو على الأعداء والمخالفين في الدِّين.

قال سبحانه وتعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعْدِلُواْ ۚ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سورة المائدة: 8] (شنآن: أي بغض)

لذلك نجد أنَّه لا يحقُّ لسيِّدنا عمر رضي الله عنه أن يفعل ما فعله، فكان جزاء فعلته هذه أن يعوِّضه رسول الله ﷺ فوق حقِّه مكان ما روّعه، إضافةً إلى أنَّه ﷺ قد عفا عن الإساءة المادِّية والمعنوية لليهوديّ إذ جذبه من ردائه واتَّهمه بمطل الدَّين؛ فكان من الممكن أن يؤدِّي النَّبيُّ ﷺ حقَّ اليهوديّ في الدَّين، وأن يُسقط حقَّ ترويعه مقابل حقِّ النَّبيِّ ﷺ في إساءة اليهودي له، لكنَّ النَّبيَّ ﷺ عامل اليهوديَّ بالعفو في إساءته له ﷺ، وعامله بالحقِّ والعدل في ترويع عمر رضي الله عنه له، فتأمَّل!

((أحْسِنُوا إسَارَهُ)) [مسلم]

ومن عجيب رحمته ﷺ مع مخالفيه، قصَّة ثمامة بن أثال، سيِّد بني حنيفة، إذ أسره المسلمون وهم يجهلون أنَّهم قد أسروا سيِّد قومه؛ فقدموا به المدينة وربطوه بساريةٍ من سواري المسجد، فلمَّا خرج إليه رسول الله ﷺ قال :”أَتَدْرُونَ مَنْ أَخَذْتُمْ؟ هَذَا ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيّ، أُحْسِنُوا إسَارَهُ” أي: أحسنوا معاملته في الأسر، فلا يعامل سيّد القوم إلَّا كما يليق به.

ورجع رسول الله ﷺ إلى بيته، وأخذ من طعامه ﷺ الذي في بيته إلى ثمامة، وأمر بناقته يشرب من حليبها؛ فبعدما أكل ثمامة من طعام سيِّد الخلق وشرب من حليب ناقته، وشعر بإكرام وفادة النَّبيِّ ﷺ له وكيف استقبله استقبال الملوك، سأله النَّبيُّ ﷺ: «مَاذَا عِنْدَك يا ثمامة؟» فقال: عندي يا محمَّد خير، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُل ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِر، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رسول الله ﷺ حتَّى كان بعد الغد، فقال: «ما عندك يا ثمامة؟» قال: ما قلت لك، إن تُنعِم تُنعِم على شاكر، وإن تقتل تَقْتُل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله ﷺ حتَّى كان من الغد، فقال: «ماذا عندك يا ثمامة؟» فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تُنعم على شاكر، وإن تقتل تَقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تُعط منه ما شئت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَطْلِقُوا ثمامة»، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ، فاغتسل، ثمَّ دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله، يا محمَّد، والله، مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، والله، ما كان مِن دِين أبغَضَ إليَّ مِن دِينَك، فأصبح دينُك أحبَّ الدِّين كُلِّه إليَّ، والله، ما كان من بلدٍ أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدُك أحبَّ البلاد كلِّها إليَّ…)) [أخرجه مسلم في صحيحه مختصراً، وذكر الرواية بطولها ابن هشام في السيرة]

ماذا عن موقفه في ساحات الجهاد؟

هذان نموذجان من نماذج كثيرةٍ عن رحمة النَّبيّ ﷺ مع المخالفين في حال السلم، ويزداد العجب في مواقف أخرى للنَّبيّ ﷺ مع من نابذه العداء أثناء حربه وجهاده في ساحات الجهاد، تبيّن لكلِّ منصفٍ من هو محمَّد بن عبد الله ﷺ نتحدَّث عنها في المقال القادم إن شاء الله، كي لا يبقى لجاهلٍ بالنَّبيّ ﷺ شكٌّ بأنَّه رحمةٌ للعالمين.

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *