دين الفقر

دين الفقر

Loading

الزُّهد الحقيقيَّ هو الثَّقة بالله, وأن تكون بما عند الله أوثق ممَّا في يدك

لقد زهّد القرآن الكريم بالدَّنيا, وبيّن النَّبيُّ في أحاديث عديدةٍ خشيته على المسلمين من الانشغال بها، ونتيجةً لهذا اعتقد بعض المسلمينَ –خطأً– أنَّ الإسلام رغّب بالانعزال عن الدُّنيا، وأمر بتركها، وأنَّ حياة الفقر خيرٌ من حياة الغنى، لذلك اعتقد غير المسلمين أنَّ الإسلام لا يصلح للحياة.

لكنَّنا نبيِّن في هذا المقال خطأَ هذه النَّظرة, والفهم لآيات الزُّهد، الذي جعل بعضَهم ينظر إلى الإسلام نظرةً سلبيّةً، ويعتقد أنّه لا يصلح للحياة؛ لأنّه يدعو إلى الفقر والزُّهد وترك الدُّنيا، مع أنَّ الحياة في تطوّرٍ مستمرّ.

 وقد استدلوا على هذه النَّظرة الخاطئة بالآتي:

أوَّلاً- إنّ الإسلام يدعو إلى الزُّهد، كما جاء في كثيرٍ من الآيات والأحاديث، والزُّهد هو العزوف عن الدُّنيا، ويتناقض مع العمل والإبداع والإنتاج الذي تدور به عجلة الحياة.

ثانياً- إنّ الإسلام يدعو إلى الفقر؛ والدَّليل هو أنّ كتب الحديث النبوي أفردت باباً أسمته (فضل الفقر)، ومن هذه الكتب: صحيح البخاري، وسنن الترمذي، وسنن ابن ماجه وغيرها، وإنّ الحياة قائمةٌ على القوَّة الاقتصادية.

والجواب على ذلك:

أولاً: أمّا دعوة الإسلام إلى الزُّهد فنقول: نعم لقد دعا الإسلام إلى الزُّهد، ولكن بالمعنى السَّامي الذي قصده، وليس بالمعنى السَّطحيّ الذي يظنّه كثيرٌ من النَّاس (من المسلمين وغير المسلمين) بأنّه البطالة والابتعاد عن الحياة.

فالزُّهد ليس تركاً للعمل، وليس عُزوفاً عن الدُّنيا، وإنّما هو حالةٌ إيمانيّةٌ تجمع بين اليقين بالله، والرِّضا بقضائه، والتَّواضع، والإخلاص، والقناعة، والعفاف، والكرم، والصبر، وتحرّي الحلال، والابتعاد عن أكل الحرام، فمن اجتمعت لديه هذه المعاني فهو زاهد.

فالزُّهد لا يتناقض مع العمل والإبداع أبداً، بل إنَّ النَّبيّ أمرنا بالعمل فقال: «ما أكل أحدٌ طعاماً قطّ، خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإنَّ نبيَّ الله داود عليه السلام، كان يأكل من عمل يده» [البخاري: (2072)] فقد مدح النَّبيُّ داود عليه السلام بهذه الخصلة، أي إذا كان نبيُّ الله داود يعمل بيده، فأنتم أولى بالعمل والكسب.

كما أمر صلَّى الله عليه وسلَّم بإتقان العمل فقال: «إنَّ الله يحبُّ إذا عملَ أحدُكم عملاً أن يتقنه» [أخرجه الطبراني في الأوسط رقم: (897) البيهقي في شعب الإيمان: (4929) الهيثمي في مجمع الزوائد: (6457)].  

وإذا عدنا إلى تعريف النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم للزُّهد نجده يعرّفه بالحقائق الإيمانية، لا بالمظاهر الشَّكلية، فقد قال: «الزَّهادة في الدُّنيا ليست بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكنّ الزّهادة في الدُّنيا ألّا تكون بما في يديك أوثق ممّا في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أُصِبتَ بها أرغب فيها لو أنّها أُبقِيَت لك» [أخرجه الترمذي: (2340)، ابن ماجه: (4100)، الطبراني في الأوسط: (7954)]. أي أنَّ الزُّهد الحقيقيَّ هو الثَّقة بالله, وأن تكون بما عند الله أوثق ممَّا في يدك، والرِّضا والصَّبر عند المصائب، واحتساب الثَّواب عند الله تعالى.

فالزَّاهد ليس سلبيَّاً مُنعزلاً عن الحياة، وإنَّما هو الذي يقدّم النفع للخلق بكلِّ وسعه، حتَّى لو قَبِل الإمارة والسُّلطة فإنّ ذلك لا يتنافى مع الزُّهد؛ شريطة ألّا يتشوّف إليها حبَّاً للرِّياسة والتَّعالي، وإنَّما ينظر إليها على أنّها تكليفٌ من الله لينفع النَّاس، وأنّه يخدم عباد الله من خلال سلطته لإصلاح معاشهم، وتأمين حاجياتهم، وتحقيق مطالبهم، وإقامة العدل فيهم، فلا يتحيّز لفئةٍ دون فئة، ولا يستغلّ منصبه لمصالحه الشَّخصيّة، ولو تحقّق كلُّ ذي سلطةٍ بالمعنى الحقيقيِّ للزُّهد، لزال الفساد الذي تسعى كلّ الدول إلى محاربته، ولَما وقع كيدٌ ولا مكرٌ ولا صراعاتٌ من أجل السُّلطة، وما تبدّدت الأموال في الأطماع.

وإذا عدنا إلى الإسلام العمليّ نجد أنّ تجّار الصحابة وأغنياءهم كانوا مُبَشَّرين بالجنّة، مثل عثمان بن عفّان، وعبد الرَّحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وقد كانوا أغنياء وزُهّاداً ربّانيّين. وأنّ أفضل الصحابة وأزهدهم هم الذين تولّوا مناصب الخلافة والإمارة، كالخلفاء الرَّاشدين الأربعة، وسلمان الفارسيّ، وسعيد بن عامر الجمحيّ، وأبي موسى الأشعريّ رضي الله عنهم، وغيرهم كثير.

 كما أنَّ أفضل التَّابعين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تولَّى زمام الحكم، وسار على نهج الخلفاء الراشدين، فهؤلاء وأمثالهم أزهد الأمَّة، وأعلمهم بحقائق الدِّين، فقد أنجزوا أعظم الإنجازات، وأقاموا العدل، ونفعوا البشريَّة، وملكوا الدُّنيا لكنَّها لم تملكهم، فلم يتغيّر حال أحدهم عندما انتقل من فردٍ من عامَّة الرَّعيَّة إلى السُّلطة والإمارة. 

قال الملا عليّ القاريّ: (الزُّهد عبارةٌ عن عزوف النَّفس عن الدُّنيا مع القدرة عليها لأجل الآخرة… ولا يُتَصَوَّر الزُّهد ممّن ليس له مالٌ ولا جاهٌ) [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 3247)].

وقد سُئل الإمام أحمد بن حنبل عن الزَّاهد، هل يكون معه مئة دينار؟ فقال: (نعم، على شريطةٍ إذا زادت لم يفرح، وإذا نقصت لم يحزن) [الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح الحنبلي: (2/ 241)].

ثانياً: أمّا قولهم إنّ الإسلام يدعو إلى الفقر من خلال الآيات والأحاديث الواردة في فضله: فهذا فهمٌ مغلوطٌ عن الإسلام، وإنّ إفراد بعض المحدّثين باباً في فضل الفقر، ليس المقصود منه الدَّعوة إلى الفقر، وإنّما المقصود منه (فضل الصَّبر على الفقر لمن ابتُلِي به)؛ لأنّ الفقر يدعو صاحبه إلى التسخّط على الله، ويبعث في الفقير صفات الإجرام، والسرقة، وكسب المال بالطرق المحرّمة؛ ولذا كان النَّبيُّ يتعوّذ كلّ يومٍ من أشياء منها شرُّ الفقر، فيقول: (…وأعوذ بك من شرّ فتنة الفقر) [البخاري: رقم: (6375) مسلم: (589)] فكيف يدعو النَّبيُّ إلى شيءٍ ويتعوّذ منه!

فإنّ قولهم:  فضل الفقر، كقولهم فضل المرض، ولقد حرَّم الإسلام على الإنسان أن يضرّ بنفسه، وأن يتسبّب بإمراضها، ولكنَّه إذا وقع في المرض وصبر فله الأجر والثَّواب، وينال الفضل من الله تعالى، وكما أنَّ المرض ليس مقصوداً للشَّرع, ويحرم على الإنسان أن يُمرض نفسه، فكذلك الفقر ليس مقصوداً في الإسلام، ولا يجوز للمسلمين أن يقصّروا في العمل والكسب، وإنّما المقصود أنّ مَن ابتُلي بالفقر فعليه أن يصبر, ويحافظ على إيمانه ودينه وأخلاقه, ولا يتحوّل إلى مجرم، وهذا قمّة التَّعاليم السَّامية التي جاء بها الإسلام، ولما غابت هذه الأخلاق في بلاد الغرب تحوّل فقراؤهم هناك إلى لصوصٍ ومجرمين يهدّدون أمن البلاد.

وقد جاءت أحاديث كثيرةٌ في فضل الغنى لمن أدّى حقَّ المال، لأنّه يُنفقه في الخير، ويستثمره فيما ينفع النَّاس، فقال : «نِعْمَ المال الصَّالح للرَّجل الصَّالح» [أخرجه أحمد: (17763)، البخاري في الأدب المفرد: (299)، ابن حبان: (3210)]، وقوله : «لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالاً فسلّطه على هلكته في الحق…) [البخاري: (1409)، مسلم: (816)] وقوله لسعد بن أبي وقّاص عندما أراد أن يوصي بماله: «إنّك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكفّفون الناس» [البخاري: (1295)، مسلم: (1628)]، وقوله لأبى لبابة حين قال: يا رسول الله، إنَّ توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله ورسوله: فقال له النَّبيُّ : «أمسك عليك بعض مالك فإنَّه خيرٌ لك» [البخاري: [(2757)، مسلم: (2769)]، ودعا النَّبيُّ  لخادمه أنس بقوله: «اللهمَّ أكثِر ماله، وولده، وبارك له فيما أعطيته» [البخاري: (6334)، مسلم: (268)] فلو كان الإسلام يدعو إلى الفقر لما دعا النَّبيُّ  لمن يحبّه بالغنى.

قال ابن الملقّن: (المختار عندنا: أنَّ الغنيَّ الشَّاكر أفضل من الفقير الصَّابر؛ لأنَّ الغنى هي الحالة التي توفّي عليها الشَّارع، أي النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهي أكمل الحالات.

وقد سئل سيدي أبو عليٍّ الدَّقّاق: أيّهما أفضل الغنى أو الفقر؟ فقال: الغنى؛ لأنَّه وصف الحقّ، والفقر وصف الخلق) [التوضيح لشرح الجامع الصحيح (29/ 467)]

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *