خلق الله الكون في ستة أيام
أوهام الباحثين في هذا المضمار لها ساحتها الواسعة، يعودون منها كلَّ يومٍ بجديدٍ مُختلفٍ… أمَّا کلام الله فيسمو في أحكامه وأخباره فوق ذلك كلِّه
يقول قائلهم:
القرآن يقرِّر أنَّ الله خلق السَّماوات والأرض وما بينهما في ستَّة أيَّام، فيقول مثلاً: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [سورة ق ۳۸ ] وهذا القرار مکرَّرٌ في القرآن. ولكنَّه يقرِّر من خلال كلام أكثر تفصيلاً في سورة “فصِّلت” أنَّ السماوات والأرض إنَّما خُلِقت في ثمانية أيَّام. وهذا تناقضٌ بيِّن لا يحتمل تأويلاً، فكيف يكون القرآن كلام الله وفيه مثل هذا التَّناقض؟
وأقول: حديث هؤلاء النَّاس عن التناقض في إخبار القرآن عن أيَّام خلق السماوات والأرض ليس كالتَّناقض الذي نسبوه إلى القرآن عند حديثه عن خلق الله الإنسانَ من تُرابٍ, من طينٍ, من صلصالٍ… وليس كالتَّناقض الذي فهموه من حديث القرآن عن المشرق والمغرب، والمشرقين والمغربين، والمشارق والمغارب.
وقد مرَّ بيان تهافُت هؤلاء النَّاس في الفهم جهلاً منهم إن حسَّنَّا الظَّنَّ، وتجاهلاً إن جنحنا إلى سوء الظَّنّ.
إليك الآيات التي هي أكثر تفصيلاً في بيان الزَّمن الذي استغرقه خلق السَّماوات والأرض وما بينهما، أي خلق سائر المكونات. يقول الله تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)﴾ [فصِّلت9-12].
إنَّ الشُّبهة التي سرت إلى أذهان بعض النَّاس ممَّن لم يتمتَّعوا بالملكة العربيَّة ووجوه التعبير فيها إنَّما سرت إليهم من قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾
وذلك بعد أن قال: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ فالمجموع إذن ستَّة أيَّام، فإذا أضيف إليها اليومان اللذان استغرقهما خلق السَّموات، فيما ذكره البيان الإلهيُّ بعد ذلك، فهي إذن ثمانية أيَّام كاملاتٍ.
أين يكمن الوهم؟… إنَّه يكمن في سوء فهم الآية الثَّانية التي تتحدَّث عن خلق ما فوق الأرض من رواسٍ وما في داخلها من أقوات… إنَّ الأيَّام الأربعة التي خُتمت بها هذه الآية هي الزَّمن الذي استغرقه خلق الأرض بكلِّ ما عليها من جبالٍ, وما فيها من أقوات.
وهذا كما لو قلت –ولله المثل الأعلى- لقد استغرق الهيكل العظمي لهذا البناء ستَّة أشهر، ولقد تكامل بعد ذلك كسوةً ومكمّلاتٍ في عامٍ كاملٍ… من الواضح لكلِّ بصيرٍ باللغة العربيَّة أنَّ العام الكامل هو مدَّة إنشاء البناء من التأسيس إلى الكمال النهائيّ. وليس في أصحاب السّليقة العربيّة من يفهم من هذا الكلام بهذه الصّياغة أنَّ الذي استغرق من الزَّمن عاماً كاملاً إنَّما هو مرحلة الإكساء وحدها أي فيكون المجموع عاماً ونصف عام. لا يعلق هذا الفهم السَّقيم إلَّا بذي ذوقٍ أعجميٍّ ولسانٍ يُعاني من ركاكة النّطق.
عُدْ بعد هذا التَّقريب الذي لا يحتاج إليه -كما قلنا- إلَّا من يعاني ذهنه من فهاهة العُجمة، إلى بيان الله تعالى لتتبيَّن التَّعبير المشرق الدَّالَّ على المعنى المقصود المتَّفِق مع بيان الله عن میقات خلق المكوِّنات في الأماكن الأخرى من القرآن.
إنَّه يقول: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ إذن فالهيكل الأوليُّ للأرض خلق في يومين, ثمَّ أضاف فقال: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾ إذن فتكامل خلق الأرض تأسيساً لهيكلها, وإتماماً لمتطلَّباتها, وما يحتاج الإنسان إليه منها، في أربعة أيَّام, ويُضاف إليها اليومان اللَّذان استغرقهما خلق السَّموات، كما ذكرته الآية الأخيرة.
فيكون المجموع ستَّة أيّام, وهو ما يقرِّره بیان الله في الآيات والسُّوَر الأُخرى.
وأقول هنا بالمناسبة: إنَّ في النَّاس من يدخل وهمُّه في تفسير الأيَّام السِّتَّة التي ذكرها الله تعالى ميقاتاً استغرقه خلق المكوّنات، فيؤوِّلها بالدَّورات الفلكيّة، أي يجعل من كلِّ يومٍ دورةً فلكيَّةً برأسها ليقرِّب بذلك كلام الله تعالى إلى ما يقوله أصحاب الافتراضات والنظريَّات العلميَّة اليوم عن المدَّة التي استغرقها خلق السَّماوات والأرض وما بينهما.
إنَّ هذا التأويل لكلمة «الأيَّام» في كتاب الله تعالى افتراضٌ باطلٌ لا دليل عليه ولا موجب له, والاحتجاج بالحاجة إلى تقریب معنى «الأيَّام» إلى الدَّورات الفلكيَّة أوغلُ في الفساد والبطلان, فمتى ثبت علميَّاً الزَّمن الذي استغرقه إيجاد الله لهذه المكوّنات حتى نجعل منه إماماً لكلام الله وحجَّةً لتأويله؟
عجیبٌ شأن من ينظر إلى التّخيُّلات العلميَّة هذه النَّظرة المقدَّسة، وسرعان ما يُحيل الخيالَ والوهمَ إلى قانونٍ علميٍّ ثابتٍ، ثمَّ يمضي ويدير کلام ربِّ العالمين بالتَّطواف على تلك الأخيلة، بل يزيد على ذلك فيُسابق المتخيِّلين والمتوهِّمين، زاعماً أنَّ القرآن سبقهم إلى ما يقولون فأثبت لنفسه بذلك الإعجاز العلميّ الذي أغلق على الباحثين طرق السَّبق عليه إلى أنباء الكون وقوانينه… ولعلَّه لا يعلم أنَّه بهذا السِّباق اللاهث الذي يسوق في مضماره کلام الله تعالى ليقطع الطريق على الباحثين في أسبقيَّة بحوثهم، يزيدهم كراهية وسوء ظنٍّ بكتاب الله عزَّ وجلَّ.
أوهام الباحثين في هذا المضمار لها ساحتها الواسعة، يعودون منها كلَّ يومٍ بجديدٍ مُختلفٍ عمَّا توهَّموه في أمسهم الدَّابر… أمَّا کلام الله فيسمو في أحكامه وأخباره فوق ذلك كلِّه… ويصكُّ أسماء التَّائهين في افتراضاتهم وقراراتهم الوهميَّة بكلامه الرَّبَّانيِّ القائل: ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾ [الكهف51] إذن الأيَّام في إخبار الله تعالى عن خلقه للسَّماوات والأرض هي الأيَّام… لا نتزيَّد في كلامه، ولا نُحمِّله أثقالاً من التَّأويلات والأوهام إرضاءً لأصحاب النَّظريَّات العلميَّة المتناسخة.
No comment yet, add your voice below!