حكم من لم تبلغم الدعوة -مستطيل-

 

طفلٌ وُلِدَ ونشأ في كنف والديه “غير المسلمَين”، وعاش عمره في مدينته “غير المسلمة” ومات فيها ولم يسمع بالإسلام، فهل من العدل أن يُدخله الله النَّار؟

ودخول هذا الإنسان ومن على شاكلته إلى النَّار بسبب عدم سماعه عن الإسلام ودخوله فيه, ألا يتعارض مع طبيعة العدل الإلهيِّ، خاصَّةً وأنَّ سُبُل الإيمان لم تتوفَّر لهم مثلما توفَّرت لغيرهم!
إنَّ الادّعاء بأنَّ الذين يولدون في غير ديار الإسلام سيدخلون النار ادِّعاءٌ مُغرِضٌ ومنافٍ للحقيقة، إذ لا وجود له في العقيدة الإسلامية, وليس من تعاليم الإسلام، ولم يقل أحدٌ من علماء المسلمين به، فلا يوجد حكمٌ يقول: إنَّ جميع هؤلاء سيذهبون إلى جهنَّم؛ لكنَّ القاعدة الأصليَّة المقرَّرة تتمثَّل في:
* الذين وصلتهم دعوة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكنَّهم أبَوا وعاندوا هذه الدعوة، فسيكون مصيرهم إلى النار.
*أمَّا من لم تبلغهم الدَّعوة في مجتمعات غير المسلمين -في عصرنا الحاليِّ أو العصور السابقة- فهؤلاء جميعاً حكمهم حكم (أهل الفترة)، وأهل الفترة هم: أهل المدَّة التي تقع بين رسولين.
وأمَّا حكمهم: فهو النَّجاة في يوم القيامة، ومما استدلَّ به العلماء على ذلك قوله تعالى: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِيْنَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُوْلَاً)) [سورة الإسراء: 15]. فأهل الفترة لم تقم عليهم حجَّة الله بالرُّسل، فلا يعذِّبهم، وقال تعالى في أهل النار: ((كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيْهَا فَوْجٌ سَأَلَهُم خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيْرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيْرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ)) [سورة تبارك:8-9].
قال الإمام السيوطي: (لمّا دلّت القواطع على أنَّه لا تعذيب حتَّى تقوم الحُجَّة عَلِمنا أنَّهم –أي أهل الفترة- غير معذَّبين). [الحاوي للفتاوي: 253/2].
وقال بعض العلماء: ويُمتحن في عرصات يوم القيامة من كان من هؤلاء, ويُرسل إليهم هناك رسولٌ، فمن أطاع الرَّسول دخل الجنة، ومن عصاه أدخله النار.
وخلاصة الأمر إذن تكمن في بلوغ الدَّعوة أو عدمه، فالدعوة إذا لم تبلغ رجلاً ما فلا يُكلَّف كما يُكلَّف من بَلَغته, والناس عند تلقِّيهم الدعوة التي تبلغهم أنواع:
– منهم من يتقبَّل وينصر ويؤيّد، فهذا من المسلمين، وإن كان يعيش في بلاد غير المسلمين.
–  ومنهم من يرفض ويجابه الدعوة, وربَّما يموت في سبيل ذلك.
المهم أنَّ قضية مولد الإنسان ونشأته في بيئةٍ معيَّنةٍ، سواءً كانت إسلاميَّةً، أو غير إسلاميةٍ، فإنَّها لا تتدخَّل في تحديد المصير. وبلوغ الدَّعوة مناط أحكام الدنيا وجزاء الآخرة، وليس موطن الإنسان وبيئته.
إنّ من عظيم رحمة الله بعباده أنَّه لا يحاسب أحداً إلا بعد أن يصل إليه أمره وبلاغه عن طريق المرسلين، والآيات القرآنيَّة في هذا المعنى كثيرةٌ، وهي حاكمةٌ بأنَّ الله تبارك وتعالى لا يُدخل أحداً من البشر النار إلا بعد إرسال الرسول إليه، يهديه إلى الحقِّ، ويردعه عن الضَّلال، ويقيم الحُجَّة، ويبلِّغه دعوته. ولا فرق بين زمن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم والأزمنة المتتالية من بعده، فمن لم تبلغه الدَّعوة، ولم يسمع بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فحكمه حكم “أهل الفترة” الذي ذكرناه آنفاً.
هذا هو منهج الإسلام، فلا ظلمَ فيه ولا جَوْر، ولا يُؤاخذ إنسانٌ بجريرة غيره، بل إنَّ جزاء كلِّ إنسانٍ مرهونٌ بعمله، كما قال الله تعالى: ((كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)) [المدثر:38]، وكيف يُعذَّب إنسانٌ بذنبٍ لم يقترفه سوى أنَّ القدر أوجده في بيئةٍ معيَّنةٍ، أو أنه وُلد لأبوين غير مسلمَين!
وهكذا دلَّت النصوص الإسلاميَّة على أنَّ من لم تبلغه دعوة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فليس في حقِّه تكليفٌ، وبالتالي لا يقوم في حقِّه ثوابٌ أو عقابٌ، حتَّى يبلغه ما جاء به الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم.

هـذا هـو مـنـهـج الـرَّحـمـة الـرَّبـانـيـة الـــذي قــال عـنـه الـقـرآن الـكـريـم: ((وَمَــا أَرْسَــلْـنَـاكَ إِلَّا رَحْـمَـةً لِلْـعَـالَمِـيـنَ)) [الأنبياء:107].

 

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *