ذهب جمهور الفقهاء إلى منع إخراج صدقة الفطر من النقود، وقالوا: إنّ النَّبيَّ صلى الله عليه و سلم قد نصَّ على جنس هذه الصدقة في حديث ابن عمر : ((أنّ رسولَ اللهِ ﷺ فرض زكاةَ الفطر من رمضانَ صاعاً من تمرٍ أو صاعاً من شعيرٍ، على كلِّ حرٍّ أو عبدٍ ذكرٍ أو أنثى من المسلمين))
البخاري: (1440)، مسلم: (984).

كما وردت أحاديث أخرى ذكرت البُرّ والزبيب والأَقِط، ونحوها من الأقوات التي كانت في عهده .

ولكنَّهم اتفقوا في الأمر ذاته على أنّ هذه الأصناف ليست مقصودةً لذاتها، وإنّما عُلِّل الحكم بسدّ الخلّة وكفاية المحتاجين، وأنَّه يقبل القياس والإلحاق.

قال القرافيّ: (ويؤكد الْقيَاس قَوْله: ((أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ))فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ غِنَاهُمْ عَنِ الطَّلَبِ).

  وعلى هذا فقد قال الفقهاء: الواجب هو إخراج الغالب من قوت البلد، فإذا تغيّرت الأقوات فلا يلزم إخراج الشعير, أو التمر, أو الزبيب, أو الأَقِط، بل إنّ إخراج هذه الأصناف عند هجرِها وتَغَيُّر قوت الناس يخلّ بالحكمة التي شرعت من أجلها زكاة الفطر، وهي كفاية الفقراء في يوم العيد، لذا زاد الفقهاء على الأصناف التي وردت في السُّنَّة أصنافاً أخرى.

 فذهب الحنفيَّة والمالكيَّة وبعض الحنابلة إلى جواز دفع زكاة الفطر من الأرز, والذرة, واللحم, وغيرها

وذكر الشافعية أنواع الحبوب واللبن، مع أنّ الأصناف التي أضافوها لم ترد في الحديث النبوي.

وما دام الأمر معلَّلاً بكفاية المحتاجين، فيسوّغ القياس على أصناف الطعام ما هو أشدّ حاجةً وأكثر نفعاً للفقراء، وهي النقود؛ لذا حمل الإمام أبو يوسف والحنفيَّة من بعده تلك الأصناف على الظاهر، واعتبروا أحاديث زكاة الفطر نَصّاً في دفع حاجة الفقراء والمساكين، ورأوا أنَّ الحاجة إلى الدراهم أشدّ من الحاجة إلى الطعام، فقرّروا إخراج النقود، وقد أحسنوا بذلك صنعاً.

قال الإمام أبو يوسف: (والدَّقيق أولى من البرّ, والدَّراهم أولى من الدَّقيق…لأنَّه أدفعُ للحاجة وأعجل به).

وعلى هذا جرت الفتوى عند الحنفية، وقالوا: دفع القيمة من النقود أفضل من الطعام.

كما قال بجوازها ابن القاسم من المالكية في رواية عيسى عنه.

على أنَّ ما ذهب إليه الإمام أبو يوسف والحنفية ومن تبعهم، من إخراج القيمة، ليس بدعاً من القول, ولا مخالفة فيه للسُّنَّة النَّبويَّة، وإنَّما تقف معهم أدلّة من السُّنَّة والآثار قبل أدلّة المقاصد والمصالح.

ولقوّة مَدْرَكِهم في ذلك وقف معهم إمام المحدّثين الإمام البخاري رحمه الله، ووافقهم في إخراج القيمة في زكاة الفطر وزكاة المال، قال ابن رشيد: (وافق البخاريّ في هذه المسألة الحنفيّة، مع كثرة مخالفته لهم، لكن قاده إلى ذلك الدّليل).

فقد ثبت أنّ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان يأخذ القيمة في زكاة الفطر، كما حدّث وكيع عن قرّة قال: (جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز في صدقة الفطر: نصف صاعٍ عن كلِّ إنسانٍ أو قيمته نصف درهم).

وقال التابعي أبو إسحاق السّبيعيّ رحمه الله: ( أدركتُهم [أي الصحابة] وهم يُعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام).

وقال الحسن البصري رحمه الله: (لا بأس أن تُعطى الدراهم في صدقة الفطر), وهو رأي عطاء بن رباح أيضاً, وغيره من علماء التابعين .

أمَّا الدَّليل من السُّنَّة: فممَّا نقله الإمام البخاريُّ في صحيحه معلِّقاً: َقَالَ طَاووسٌ: قَالَ مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَهْلِ اليَمَنِ: ((ائْتُونِي بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ بِالْمَدِينَةِ)) فقد كان معاذ tيأخذ من أهل اليمن ثياباً بدلاً من الحبوب في الزكاة، حيث يُقوِّم القمح والشعير ونحوهما، ويأخذ بقيمتها ثياباً؛ لأنّ حاجة فقراء المدينة إلى الثياب أشدّ من حاجتهم إلى الحبوب، إضافةً إلى أنَّ نقل الثياب أيسر وأخفُّ، وإخراجها أهون لأهل اليمن. 

 وبهذا الحديث ونحوه احتجَّ الحنفيَّة، وقالوا: كان معاذ tينقل الصَّدقات إلى المدينة، فيتولَّى رسول الله قسمتها، فإن كانت هذه الصدقة نقَلَها إلى المدينة في حياة النَّبيِّ ، فقسَّمها بين فقراء المدينة، فلا محالة أنَّه قد أقرّه على جواز أخذ البدل في الزَّكوات؛ لأنَّه قد علم أنَّ الزكوات ليس فيها ما هو من جنس الثياب، وأنَّها لا تؤخذ إلّا على وجه البدل، فصار إقراره له على فعله دلالةً على الجواز، وإن كان بعد موته فقد وضعها أبو بكرٍ بحضرة الصحابة في مواضعها, مع علمهم أنَّ الثياب لا تجب في الزَّكاة، فصار ذلك إقراراً منهم على جواز أخذ القيمة، فتحصّل للمسألة اتّفاقٌ بين الصحابة.

وللنَّظر في مسألة إخراج القيمة في زكاة الفطر، لا بدّ أن نتصوّر الحياة في عهد النبي والتعاملات المالية آنذاك، فلم يكن التعامل بالنقود في صدر الإسلام إلّا في الأمور الكبيرة، كشراء الدوابّ والبيوت ونحو ذلك؛ أمَّا شراء الأمور المعاشيّة اليوميّة من طعامٍ وشرابٍ فكان بالمقايضة، وليس بالدَّراهم، فمن أراد أن يشتري صاعاً من التمر مثلاً في عهد النَّبيِّ فإنّه يأخذ معه إلى السوق ما يساوي قيمته قمحاً أو شعيراً, ثمَّ يبادله بالتَّمر من البائع، ولم يكن آنذاك وضوحٌ بين السلعة والثمن في التعامل بالحاجات اليومية، فالثّمن هنا بُرٌّ والسّلعة تمرٌ، وكلاهما أقوات؛ لأنّ قيمة الدراهم والدنانير عاليةٌ لا تتناسب مع قيمة المدّ والصاع من الطعام.

ولم تكن للمسلمين سكّة من النقود في ذلك الوقت، حتّى عهد عبد الملك بن مروان، حيث أنشأ السّكّة ثمّ راجت النقود, وكثر التّعامل بها.

 وعلى هذا المعنى فهم معاوية tأنّ الواجب في صدقة الفطر إخراج الأصناف التي نصّ عليها النبي أو قيمتها، ووافقه جُلّ المسلمين في ذلك، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضى الله عنه، قَالَ: (كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ، وَكَبِيرٍ، حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ، صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ» فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ أَنْ قَالَ: ((إِنِّي أَرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ، تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ)) فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ)، والمقصود بـ (سمراء الشام) أي الحنطة الشامية، فقد كانت أجود أنواع الحنطة، وثمنها أغلى من جميع تلك الأصناف المذكورة، فقيمة الصاع من التمر والشعير والزبيب متساويةٌ، أمّا قيمة الحنطة الشامية فهي ضعف قيمة تلك الأصناف، فنظر معاوية إلى قيمة السمراء الشامية, وقال: (إخراج مُدَّين أي نصف صاعٍ يعدل صاعاً من تمر) وهذا معنىً صريحٌ في اعتبار القيمة في صدقة الفطر، ووافقه بذلك أكثر المسلمين.

 فما الفرق بين إخراج القيمة من الطعام وإخراج القيمة من النقود؟ إنّ إخراج القيمة من النقود اليوم أكثر نفعاً، وحاجة الفقراء إليه أشدّ.

وبناء على ذلك:

فعلى من يخرج صدقة الفطر أن ينظر في تصرّفات ربّ الأسرة الفقيرة، فإذا كان القائم على النفقة يراعي مصلحة عياله من طعامٍ وكسوةٍ وتأمينٍ لاحتياجاتهم، فإنّ اعتماد قول الفقهاء الذين رجّحوا إخراج المال في صدقة الفطر هو الأوفق والأصلح؛ لأنّ الحاجة إلى المال في يوم العيد أشدّ من الحاجة إلى الطعام، أمّا إذا كان الفقير القائم على الأسرة سفيهاً ومُضيِّعاً لعياله، بأن يضع المال في غير موضعه، كشراء الأمور التي لا فائدة منها، فلا ينبغي أن يُعطى من المال، وإنّما يُتَصدَّق عليه من غالب قوت البلد؛ كي تقع صدقة الفطر في موضعها ويستفيد منها عياله.  

وإنَّ ممّا رأيناه في بعض الدول التي ترى عدم صحّة إخراج صدقة الفطر إلا من الأصناف الواردة، أن يتجمّع لدى الفقراء التمر الكثير ولا حاجة لهم به، فيذهبون لبيعه، لحاجتهم الماسّة إلى النقود، فيشتريه منهم التجار والأغنياء بالغبن الفاحش، وبذلك يتضرّر الفقراء ويستفيد الأغنياء والتُّجار، ولا شكّ أنّ هذا يخالف أصول الشرع ومقاصده.

 

 

[1] ابن خزيمة: (2411)،

[2] نصب الراية (2/ 432)

أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ: عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ، وَقَالَ: «أَغْنُوهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ»، والبيهقي في سننه وابن وهب في موطئه بألفاظ مختلفة.

[3] الذخيرة للقرافي: (3/168).

[4] انظر: الهداية: (1/116)، القوانين الفقهية: (76)، شرح الزركشي: (1/402).

[5] انظر: حاشية البجيرمي: (2/51).

[6] الهداية: (1/117).

[7] انظر: مجمع الأنهر وملتقى الأبحر: (1/339).

[8] انظر: البيان والتحصيل لابن رشد الجد: (2/468).

[9] هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري، له شرح نفيس على البخاري ولم يكمله، أسماه: (ترجمان التراجم على أبواب البخاري) وكان ابن حجر يقتبس منه، توفي بفاس سنة:721هـ  انظر: الديباج المذهب: (310).

[10] فتح الباري: (3/312).

[11] مصنف ابن أبي شيبة: (10369).

[12] هو شيخ الكوفة وعالمها، رافق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وغزا الروم زمن معاوية، توفي سنة: 127هـ انظر: العبر: (1/165).

[13] مصنف ابن أبي شيبة: (10371).

[14] مصنف ابن أبي شيبة: (10370).

[15] صحيح البخاري: (2/116).

[16] انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال: (3/448).

[17] البخاري: (1508)، مسلم: (985).

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *