مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مستطيل-

حرية الرأي والسلوك

Loading

حرية الرأي والسلوك

أمَّا حرِّيَّة الرَّأي والسُّلوك: فإنَّ ممَّا لا نعلم فيه خلافـاً، أنَّ صفة التكليف وهي من أخصّ ما تميّز به الإنسان عن سائر الحيوانات لا تتحقَّق إلَّا في مناخ الحرية، فحيثما ملك الإنسان حرِّيَّته في النظر والفكر وحرِّيّة اتِّخاذ القرار تجاه الأفعال والتصرُّفات وتمكَّن من تنفيذ قراراته، تعلّق به التكليف الصادر إليه من قبل الله عزَّ وجلَّ.

ومن هنا قرّر العلماء امتناع تكليف الغافل، وهو الذي لا يدري شيئاً عن الخطاب التكليفي الذي توجّه إليه، كما قرَّروا امتناع تكليف الْمُلجأ، وهو من لا يملك أيَّ خيارٍ في الفعل الذي يصدر منه أو الذي يُطلب منه، كالـذي يُلقى من شاهقٍ على شخصٍ فيقتله.

ومقتضى هذا أنَّ الانصياع لأمر الله لا يتحقَّق إلَّا من خلال إمكان توفُّر الرَّغبة الذاتية في الامتثال لأمره، وهو لا يتأتَّى إلَّا ممَّن علم بـالتكليف المتَّجه إليه أوَّلاً ثم أحسّ من نفسه الحرّية في اختيار أن يفعل أو ألَّا يفعل ما طلب منه ثانياً، وهـذا معنى قولنا:

إنَّ التكليف الإلهيَّ لا تتأتَّى حقيقة الاستجابة له إلَّا في تربة حرّية التَّصرُّف إذ يملكها الإنسان، أي إلَّا لدى شعوره بأنَّه متمكِّنٌ حقَّاً من أن يفعل أو لا يفعل ما طلب منه.

وبهذا يتبيَّن الفرق بين أوامر الله التكوينية التي تصدر إلى مختلف مكوَّناته فتنفَّذ قسراً ودون المرور بأيِّ حرِّيَّةٍ أو اختيار، وأوامره التكليفية التي توجّه خطاباً إلى عبـاده الـذين بلغوا الرشد وتمتَّعوا بالقدرة وحرِّيَّة اتِّخاذ القرار، فيتوقَّف التنفيذ على توفُّر رغبة العبد المكلَّف في الطاعة والانقياد.

وكم هو دقيقٌ وأخَّاذٌ قول الله عزَّ وجلَّ وهو يحدِّثنا عن هـذين النـوعين من أوامره:

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ[الحج-18]

إذن، فقـد كان لا بدّ لعنصر الحرية أن يصاحب واقع التكليف، وبذلك يتضح الانسجام الكامل بين كون الإنسان عبداً مملوكاً لله ومكلَّفا من قِبله بشرائع وأحكام، وبين كونه حرَّاً في الوقت ذاته، أي ممكَّناً من فعل ما يشاء. 

والقرآن مليءٌ بالآيات الصريحة في بيـان أنَّ الإنسان يملـك في هذه الدنيا كامل حرِّيَّته في أن ينصاع أو لا ينصاع لأوامره عزَّ وجلَّ، سواء منها ما يتعلَّق بالفكر والاعتقاد أو السلوك والتصرُّفات. 

من ذلـك قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف-29]، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة-256]

وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ *  ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ[الحجر-2,3]،

وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ۖ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ[ق-45]

فإذا تحوَّلنا من الإصغاء إلى هذا البيان القاطع في دلالاته على أنَّ الإنسان حرٌّ في أن ينفِّذ التكاليف المـوجَّهة إليه أو ألَّا ينفِّذها إلى التأمُّل في التجربة العملية التي سجَّلها تـاريخ المجتمعات الإسلامية بدءاً من صدر الإسلام؛ نجد مصداق هذا البيان الإلهيّ على أتمّ وجه. 

كان الرأي الآخر بل الآراء الأخرى تعلن عن نفسها بصريح البيان في سائر الأمكنة والمجالات وفي مقدِّمتها المساجد التي كانت الموئل الأوَّل للثَّقافات والعلوم. 

ففي عصر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كانت الـدعوة الإسلامية التي يقودها عليه الصلاة والسلام قائمةً على أساس الحوار المنبثق عن ضرورة الإصغاء إلى سائر الآراء الأخرى، فإمَّا أن ينتهي الحوار إلى هدايةٍ ورفاق، وإمَّا أن يظلَّ أصحاب المذاهب والآراء الأخرى متمسِّكين بقناعاتهم أو عصباتهم، فما يزيد المصطفى عليه الصلاة والسلام على أن يختم الحوار بالإعذار بأنَّه قـد بلَّغ… 

ثمَّ يَكِل الشاردين والتَّائهين والمعـانـدين إلى أنفسهم وقـد حمَّلهم مسؤولية جنوحهم، وبوسعنا أن نطلع على أسمى صورةٍ لهذا الحوار في كتاب الله تعالى في سورة آل عمران، وهو يحدِّثنا عن وفد نصارى نجران والحوار الممتدّ بينهم وبين رسول الله في مسجده. 

وفي القرن الثاني اتَّسعت الفتوحات الإسلامية، وتسرَّبت الفلسفة الإغريقيَّة إلى بعض المجتمعات الإسلاميَّة، وانتشرت فيها ثقافاتٌ وأفكارٌ مختلفةٌ لدياناتٍ ومذاهب شتَّى، فكان أن ظهرت من جرَّاء حرِّيَّة الفكر والنَّظر والبحث فرقٌ إسلاميَّةٌ جانحة، وسرعان ما راحت تتكاثر ويتوالد بعضها من بعض، كالمعتزلة والمرجئة والقدرية والجبرية والخوارج… وراح كلٌّ منها يجادل عن نفسه في كلِّ مجالٍ، وبكلِّ صراحةٍ وقوَّة.

لقد كانت حلقات هذه الفرق تمتزج بحلقات أهل السُّنَّة والجماعة في مسجد البصرة والكوفة، وتتعالى أصوات الجـدل والحوار بين الأطراف والفئات في حرِّيَّةٍ تـامَّةٍ وطمأنينـةٍ كاملةٍ، ولم يكن لأئمَّة المسلمين في ذلك إلَّا دورٌ واحدٌ هو تشجيع الحوار وإقامة المزيد من مجالس النقاش بين ذوي الأفكار والمذاهب المختلفة. 

 نعم، لم يكن المسلمون الملتزمون بهدي الكتاب والسُّنَّة يألون جهداً في الـدعوة والصَّدع بكلمة الحقّ، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وملاحقة ذوي الأفكار الجانحة بالحجج العلمّية الدامغة، وذلك هو واجب المسلمين الصادقين في كلِّ عصر. 

وبالجملة، فإنَّ هيـاج تلـك الفرق المتكاثرة إنَّما كان بسبب وفرة مناخ الحرية وإمكانية التعبير المعلَّن عن الفكر والعقيدة…

ثمَّ إنَّ خمود ذلك الهياج وذوبان تلـك الفرق إنَّما كان بسبب قيام علماء المسلمين بواجب الدَّعوة والحوار والثَّبات على التنفيذ الصَّادق والدَّقيق لأمر الله تعالى القائل: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ[النحل-125]، ولم يكن نتيجةً لأيِّ قمعٍ أو خنقٍ لأصوات تلك الفرق أن تعبر عن رأيها أو تُدلي بحجَّتها.

ولعل ما يزيد هذه الحقيقة نصاعةً ووضوحاً ما هو معلومٌ من أنَّ الصورة الوحيـدة للقمع الفكريّ في تاريخ السَّلف الصالح إنَّما صدرت من أقلِّيَّةٍ مذهبيةٍ شاذَّةٍ وهي المعتزلة ضدّ الجمهرة الإسلامية التي تمثلت آنذاك في إمامٍ من أجَلِّ أئمَّة المسلمين وهو الإمام أحمد، بينما كانت الجمهرة الإسلاميَّة لا تستعمل إلَّا سلاح المناقشة والحوار.

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *