قد يشرف المهندسون والبناؤون على تشييد عمارة ضخمة ، ثم ينفضون أيديهم منها ، أو يموتون عنها . وتبقى العمارة بعدهم أمدا بعيدا ، قائمة الجدران ، مستوية الأركان .
إن هذه العمارة لم تخلق من عدم ، والفَعَلة فيها لم يزيدوا أن ضموا حجراً حجراً ، ثم انتهى عملهم إلى هذا الحد.
أما بناء هذا الكون الفسيح ، وتشييد سقفه المحفوظ ، وتمهيد أرضه وتهيئتها للعمران ، فهو عمل آخر أساسه الإبداع من العمل المطلق.
وكما أن العالم في وجوده احتاج إلى ربه ، فهو في بقائه يحتاج إليه لحظة بعد لحظة .
ولا توجد ذرة في الأرض ولا في السماء تستمد وجودها من ذاتها ، حتى يتصور استغناؤها بنفسها ، بل على العكس ، هذا الوجود المُفاض عليها يتلاشى ويضمحل إذا شاء مُفيضه أن يحرمها منه ، مثلما يتقلص الظل إذا ذهب ما يلقيه .
لن يكون نهار إلا مع وجود الشمس ، ولن يكون عالم إلا مع وجود الله . .
((ولله المثل الأعلى)) [النحل : 6۰]، ((يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد * إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيزه ))[فاطر: ۱5 – ۱۷] .
فالعقول وما يتردد فيها من أفكار ، والقلوب وما يتجدد فيها من مشاعر ، والأجسام وما يتدفق فيها من دماء ، وما يتحرك فيها من أجهزة وعضلات ، في كل بلد ، بل في كل قارة ، منذ بدء الخلق وإلى قيام الساعة ، ما نعرف وما لا نعرف ، إنما يقوم بقيام الله عليه ، ولو شاء تركه لأصبحنا ولما وجدنا وقتا نفكر فيه بأننا فنينا، لأننا سنكون فنينا فعلا .
إن الأرض التي تسير عليها بقدميك لا تمسك نفسها تحتك ، فهي لا تشعر بك ، ثم هي لا تصنع شيئا من الحبوب والفواكه التي تغلها .
فأنى لها الخلق والإتقان وهي جامدة هامدة لا تحس ولا تعلم؟
إن الإمداد الإلهي وحده ، هو الذي قام ويقوم بما ترى ، قياما لا تتوهم معه غفلة ولا تفريط ولا فتور ، وإلا لهلكنا واختل كل شيء !! .
الفارق بين وجودنا ووجود الله ، أن الله – تبارك وتعالى – وجوده واجب له من ذاته .
أما نحن فليس لنا من ذواتنا شيء قط ، إن منحنا نعمة الوجود بقينا ما بقيت معارة لنا ، وإلا اختفينا فلم يمسكنا شيء .
No comment yet, add your voice below!