مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مستطيل

تزوير التاريخ

تزوير التاريخ

للاستعمار الحديث براعةٌ منكرةٌ في تزوير التاريخ، وإخفاء بعض معالمه، وإبراز البعض الآخر بعد تشويه المفاهيم، وتحريف الكلم عن مواضعه… وغرضه من هذا هو خداع الأجيال الناشئة عن أصلها.

ولَّى زمامها عن وجهتها العتيدة، وكما ينتقل مجرى النهر لتنسكب مياهه في مصبٍّ آخر، أو لتذهب بدداً في أرضٍ عمياء، يُنقل مجرى التاريخ، وتُحوَّر أحداثه وأحكامه حتَّى يصبح لها مـعنى بدل معنى، وتوجيه غير توجيه… 

وقد تضافر المستعمرون على تمزيق التاريخ الإسلامي وتحريفه خلال القرنين الأخيرين ليكون في سياقه الجديد المختلق عوناً على الغزو الثقافي الواسع المنظَّم، وليمكن على إيحائه الـمصنوع صبّ الأمَّة الإسلامية الكبرى في القوالب الكثيرة التي أُعدَّت لها. 

وهى قوالب شُكِّلت بعنايةٍ ودهاء، كي تتبدَّد خلالها رسالة القرآن، وتتلاشى في طول العالم وعرضه أُمَّته الواحدة… 

وقد ساعد على نجاح هذه الخطَّة إلى حدٍّ ما؛ الضعفان الخلقيّ والعلميّ اللذان صارت إليهما الأمَّة أيَّام العثمانيين. 

وأبرز مظاهر هذا النجاح وجود جماعاتٍ غفـيرةٍ تعـتقـد أنَّ الدِّين لـم يكن وراء حركات المقاومة للحملات الأجنبية على البلاد.

أي إنَّه –خلال القرن الماضي– لم يكن له دورٌ في مدافعة الاحتلال الفرنسي ثمَّ الاحتلال الإنجليزي الطويل… 

كانت الـمقاومة نابعةً من بواعث أخرى مادية، أو محلّية، أو عنصرية، أو أيَّ شيءٍ آخر… إلَّا الدِّين! ويتبع ذلك الفهم عزل الدِّين مستقبلاً عن حركات التحرُّر، وميادين المقاومة.

ومن يدري؟ فقد ينمو هذا الوهم، ويوغل في الشرود لِيُتَّهم الدِّين نفسه بأنَّه قيدٌ على حركات الشعوب، وآمالها في حياةٍ أرقى، وأرغد!  

ولا يطلب الاستعمار الثقافيُّ أكثر من هذا الضلال… ونرى لزاماً علينا أن نكشف الحقائق التي يُراد طمسها، وأن تُقطع هذه السلسلة من الترَّهات والأباطيل التي راجت بين القاصرين والأغرار. 

عندما احتلَّ الفرنسيون مصر، كان الإسلام وحده، ولا شيء غيره هو الذى أشعل نار المقاومة المسلَّحة، والمقاومة السلبية. 

لقد استمات المسلمون في مناضلة الغزاة، وتعويق تقدُّمهم، وأرخصوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، ولم يجبنوا أمام تفوُّق الفرنسيين العسكري، ورجحان كفَّتهم في كلِّ شيء، ولا أمام الخيانات المفاجئة من بعض المواطنين! 

وقاد الأزهر حرب الدفاع المقدَّس، فحكم الفرنسيون على عشراتٍ من علمائه الشبَّان بالقتل، ونفَّذ فيهم حكم الإعدام فرادى وجماعات!

كما نفَّذ حكم الإعدام بطريقةٍ بشعةٍ قذرةٍ في سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر، ودخل الغزاة بخيلهم ورجلهم صحن الأزهر.

ولكنَّ الثورة التي اشتعلت في القاهرة والأقاليم لم تنطفئ جذوتها، وظلَّت جثث القتلى تفوح روائحها في القاهرة وحدها أكثر من ثلاثين يوماً. 

ويقدَّر عدد المسلمين القتلى في مقاومة الغزو الفرنسي بنحو نصف مليون قتيل في مُدن الوجهين القبليّ والبحريّ والقاهرة. 

ولكنَّ الغريب المخزي أنَّ صور هذه المقاومة الباسلة طُويت طيَّاً، بل مُحيت محواً من صحائف التاريخ المدروس بين جماهير الطلاب والمثقفين…! وسطر فصول المأساة نفَس باردٌ ميت! 

وقام جهد مزوِّري التاريخ على أمرين

أوَّلهما سحب ذيول النسيان على دور الإسلام في المعركة، وإغفال تضحيات المسلمين الجسيمة، وخسائرهم الفادحة في الأرواح والأموال. 

الأمر الآخر –وهو ما يطيش له اللبّ-: إبراز الحملة الفرنسية على أنَّها خيرٌ وبركةٌ لمصر والمصريين!

فأيُّ زورٍ هذا الزور؟ وأيُّ هوانٍ هذا الهوان؟ 

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *