تحويل القبلة-تويتر

يطرح بعضهم إشكالاً فيقول: لماذا يحول النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، أليس هذا تردّداً، فكلا الاتجاهين سواء، وإن قلتم: هناك حكمة في تحويل القبلة، فأين تظهر هذه الحكمة؛ لأنّه لا فرق بين الاتجاه إلى بيت المقدس والاتجاه إلى الكعبة.

الأصل في القبلة التي يتّجه إليها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته هي الكعبة؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل، وعلى ملّة إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، والكعبة قبلة آبائه في شريعتهم الحنيفية التي جاء بها صلى الله عليه وسلم، وأمّا اتّجاه النبيّ صلى الله عليه وسلّم في بادئ الأمر إلى بيت المقدس فهو الحكم الاستثنائي الذي يخرج عن الأصل، والحكمة من ذلك هي ما يلي:

1- إنّ اتّجاه النبيّ صلى الله عليه وسلم أولاً إلى بيت المقدس هو من الأدلة على نبوته صلى الله عليه وسلم، وأنّه لم يأت بشيء من الدين من عنده، إنما هو وحي من عند الله تعالى، لأنّه صلى الله عليه نشأ في مكة، وهو من أهل الحرم، وكان جميع العرب يعظّمون مكة ويقدّسونها، وكانت قريش شديدة التعصّب للحرم، وكانوا يُسَمَّون الحُمس، (حتى كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحُمس يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلا من الحرم) [متفق عليه]

قال سفيان: ((والأحمس هو الشديد على دينه، وكانت قريش تسمى الحُمس، وكان الشيطان قد استهواهم، فقال لهم: إنكم إن عظّمتم غير حرمكم استخفّ الناس بحرمكم، فكانوا لا يخرجون من الحرم)) [مسند الحميدي: (569)].

وبناء على هذا التفكير والعقيدة: لو كان محمد صلى الله عليه وسلّم جاء بالدين من عنده لما خطر بباله أن يتّجه إلى غير الكعبة التي نشأ بجوارها، ونال قومه بها الحرمة والشرف والتعظيم، وقالوا: نحن قطين الله، أي سكّان حرم الله.

فكان اتّجاهه صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس في بداية الأمر يخالف المألوف والمتوقَّع، ولو كان يبحث عن جاه أو شرف أو إرضاء قومه لاتّجه إلى البيت الحرام دون تردّد، فالكعبة أقدم القبلتين وأدعى  لإيمان العرب بنبوته، مع أنّه صلى الله عليه وسلم كان يحبّ أن يتوجّه إلى الكعبة، ويتشّوف إلى أن تكون هي القبلة التي يرضاها الله له ولأمته، قال ابن كثير: ((وذلك أن رسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة-وكان أهلها اليهود- أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ قبلة إبراهيم عليه السلام، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله: ((قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ ))[البقرة144] [تفسير ابن كثير: (1/ 391)]، وهذا من الأدلّةِ الدامغةِ على نبوّتهِ صلى الله عليه وسلّم وأنّه مأمور، وأنّ الأحكام التي يأتي بها وحيٌ من الله تعالى وليست من اختياره.

2- وللدلالة على أنّ شريعة الإسلام شاملةٌ جميع الأديان السماوية، وأنّها كاملةٌ ومكمّلةٌ لها، فقد كان بيت المقدس قبلة أنبياء بني إسرائيل، والكعبة قبلة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فجمعت شريعة الإسلام بكمالها وتصديقها للشرائع السابقة بين القبلتين، قال تعالى: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عليه))[المائدة: 48] 

3- كان من حِكَمِ توجّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس هي أن ينال عنايةً وتعظيماً عند المسلمين، فهو أوّل القبلتين، وبذلك يثبت حقّ المسلمين به وأنّه من مقدّساتهم؛ ولأنّ شريعة الإسلام خاتمة الشرائع وأنّ إرث الأنبياء لا بد أن يعود إلى الشريعة الخاتمة، ويؤكّد هذا المعنى أنّ إسراء النبي صلى الله عليه وسلم كان إلى المسجد الأقصى، ومعراجَه منه، وأنّ أحداث المسلمين آخر الزمان ستكون حول المسجد الأقصى كذلك.     

 4- في اتّجاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس تقريبٌ وتأليفٌ لأهل الكتاب إلى الإسلام؛ لأنّ اليهود كانوا من سكّان المدينة المنوّرة آنذاك، فإذا رأوا المسلمين يتّجهون إلى قبلتهم علموا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيِّدٌ لأنبيائهم، فيأنسون بذلك ويكونون أقرب إلى اتّباعه.

4- كانت القبلة في بادئ الأمر إلى بيت المقدس ثمّ نُسخَ الحكم وتحوّلت إلى الكعبة ؛ لأنّ الكعبة هي القبلة التي أرادها الله تعالى للمسلمين على مرّ الأزمان، والحكم الناسخ أدوم من الحكم المنسوخ. (نسخ الحكم الشرعي هو رفعه وإزالته بحكمٍ آخر، وذلك بأمرٍ من الله تعالى)

5- ليعلم الناس أنّ العبادة لله تعالى وليست للكعبة ((فليعبدوا ربّ هذا البيت))[قريش-4]، فالمسلم يتّجه حيث أمره الله تعالى، وإنّ شرف المكان ليس ذاتيّاً إنّما باختيار الله تعالى وتفضيله.  

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *