حديث بدء الوحي الذي رواه الإمام البخاريُّ عن السَّيِّدة عائشة رضي الله عنها هو الأساسُ الذي تترتَّبُ عليه جميع حقائق الدِّين بكلِّ عقائده, وتشريعاته، وفهمه, واليقين به.
وهما المدخل الذي لابدَّ منه إلى اليقين بسائر ما جاء به النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم من إخباراتٍ غيبيَّةٍ وأوامر تشريعيَّةٍ, ذلك أنَّ حقيقة (الوحي) هي الفيصل الوحيد بين الإنسان الذي يفكِّر ويشرِّع بواسطة رأيه وعقله, وبين الإنسان الذي يبلِّغ عن ربِّه دون أن يغيِّر أو ينقص أو يزيد.
من أجل ذلك يهتمُّ محترفو التَّشكيك بالإسلام بمعالجة موضوع الوحي في حياته ﷺ، ويبذلون جهداً فكريَّاً شاقَّاً متكلَّفاً من أجل التلبيس في حقيقته، والخلط بينه وبين الإلهام وحديث النفس، بل وحتَّى الصرع، لعلمهم بأنَّ موضوع الوحي هو منبع يقين المسلمين وإيمانهم بما جاء به محمَّدٌ ﷺ، فلئن أتيح لهم التَّشكيك بحقيقته، أمكن تكفيرهم بكلِّ ما قد يتفرَّع عنه من عقائد وأحكام، وأمكنهم أن يمهِّدوا لفكرة أنَّ كلَّ ما دعا إليه محمّدٌ ﷺ من المبادئ والأحكام التشريعية ليس إلا من تفكيره الذاتيّ.
ولهذه الغاية أخذوا يحاولون تأويل ظاهرة الوحي وتحريفها عمَّا يرويه لنا المؤرِّخون أو تُحدثت به صحاح السُّنَّة الشريفة، وإبعادها عن حقيقتها، وراح كلٌّ منهم يسلك إلى ذلك ما يروق لخياله من فنون التَّصوُّرات المتكلَّفة الغريبة.
فمِن مُتَصَوِّرٍ بأنَّ محمَّداً عليه الصلاة والسلام لم يزل يفكِّر حتَّى تكوَّنت في نفسه بطريقة الكشف التدريجيِّ المستمرِّ عقيدةٌ كان يراها الكفيلة بالقضاء على الوثنيَّة، ومنهم من أشاع القول بأنَّه ﷺ تعلَّم القرآن ومبادئ الإسلام من بحيرا الرَّاهب، ومن قائل بأنَّه ﷺ كان عصبيَّاً أو مصاباً بداء الصرع.
هذه أسئلةٌ طبيعيَّةٌ بالنِّسبة للشَّكل الذي ابتدأ به الوحي، ولدى التفكير في أجوبتها نجدها تنطوي على حكمةٍ باهرةٍ، ألا وهي أنَّ المفكِّر الحرَّ فيها لا بدَّ أن يجد الحقيقة الناصعة الواقية من الوقوع في شرك محترفي الغزو الفكريِّ والتأثّر بأخيِلتهم الباطلة.
– لماذا رأى الرَّسول ﷺ جبريل بعينيه في أوَّل مرَّة، وقد كان بالإمكان أن يكون الوحي من وراء حجاب؟
– لماذا قذف الله في قلب نبيِّه الرُّعب منه, والحيرة في فهم حقيقته؟
– لماذا انفصل الوحي عنه بعد ذلك مدَّةً طويلةً، وجزع النبيُّ ﷺ بسبب ذلك جزعاً عظيما؟
لقد فوجئ محمَّد ﷺ وهو في غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينيه، وهو يقول له: اقرأ، حتَّى يتبيَّن أنَّ ظاهرة الوحي ليست أمراً ذاتيَّاً داخليَّاً مردُّه حديثُ النَّفس المجرَّد، وإنَّما هو استقبالٌ وتلقٍ لحقيقةٍ خارجيَّةٍ لا علاقة لها بالنَّفس. وضمُّ الملك جبريل له ثمَّ إرساله ثلاث مرات قائلًا له في كلِّ مرَّةٍ: اقرأ، يعتبر تأكيداً لهذا التلقِّي الخارجيِّ, ومبالغةً في نفي ما قد يتصوَّر من أنَّ الأمر لا يعدو كونه خيالاً داخليَّاً فقط.
ولقد داخله الخوف والرعب ممَّا سمع ورأى، حتَّى أنَّه قطع خلوته في الغار وأسرع عائداً إلى البيت وفؤاده يرتجف، وهذا يوضح لكلِّ مفكِّرٍ عاقلٍ أنَّ رسول الله ﷺ لم يكن مُتَشوِّفاً للرّسالة التي سيُدعى إلى حملها وبثِّها في العالم. وأنَّ ظاهرة الوحي لم تأتِ منسجمةً أو متمِّمةً لشيءٍ ممَّا قد يتصوره أو يخطر على باله، وإنَّما طرأت طروءاً مُثيراً على حياته، وفوجئ بها دون أيِّ توقعٍ سابقٍ، ولا شكَّ أنَّ هذا ليس شأن من يتدرَّج في التأمُّل والتَّفكير إلى أن تتكوَّن في نفسه -بطريقة الكشف التدريجيِّ المستمرِّ- عقيدةٌ يؤمن بالدَّعوة إليها.
ثمَّ إنَّ شيئاً من حالات الإلهام, أو الكشف, أو حديث النفس, أو الإشراق الروحيِّ, أو التأمُّل العلويِّ, لا يستدعي الخوف والرُّعب وتغيُّر اللون. وليس ثمَّة أيّ انسجامٍ بين التدرُّج في التفكير والتأمُّل من ناحية، ومفاجئة الخوف والرعب من ناحيةٍ أخرى، وإلا لاقتضى ذلك أن يعيش عامَّة المفكِّرين والمتأمِّلين نهباً لدفعاتٍ من الرُّعب والخوف المفاجئة المتلاحقة.
ومن المعلوم أنَّ الخوف, والرُّعب, ورجفان الجسم, وتغيُّر اللون, كلُّ ذلك من الانفعالات القسريَّة التي لا سبيل إلى اصطناعها والتَّمثيل بها.
أمَّا انقطاع الوحي, فقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يحتجب عنه الملك الذي رآه لأوَّل مرَّةٍ في غارة حراء مدَّةً طويلةً، وأن يستبدَّ به القلق من أجل ذلك ثم يتحوَّل القلق لديه إلى خوفٍ في نفسه من أن يكون الله عزَّ وجلَّ قد قلاه بعد أن أراد تشريفه بالوحي والرسالة، لسوءٍ قد صدر منه، حتى ضاقت الدنيا عليه, وراحت تحدِّثه نفسه كلَّما وصل إلى ذروة جبل، أن يلقي بنفسه منه، إلى أن رأى ذات يومٍ الملكَ الذي رآه في حراء، وقد ملأ ما بين السماء والأرض, وهو يقول له: ((يا محمَّد أنت رسول الله إلى الناس)) فعاد مرَّةً أخرى إلى بيته وقد استبدَّ به الخوف والرُّعب, فنزل عليه قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ¤ قُمْ فَأَنْذِرْ)) [المدَّثر1_2].
إنَّ هذه الحالة التي مرَّ بها رسول الله ﷺ تجعل مجرَّد التفكير في كون الوحي إلهاماً نفسيَّاً ضرباً من ضروب الجنون، فمن البداهة بمكانٍ ألَّا يمرَّ صاحب الإلهامات النفسيَّة والتأمُّلات الفكريَّة بمثل هذه الأحوال.
إذن فإنَّ حديث بدء الوحي على النحو الذي ورد في الحديث الثابت الصحيح ينطوي على تهديم كلِّ ما يحاول المشككون تخييله إلى الناس في أمر الوحي والنُّبوَّة التي أكرم الله بها محمَّداً ﷺ، وإذا تبيَّن لك ذلك أدركت مدى الحكمة الإلهيَّة العظيمة في أن تكون بداية الوحي على النَّحو الذي أراده الله عزَّ وجلَّ.
وربَّما يسأل المشكِّكون: لماذا كان الوحي ينزل عليه ﷺ بعد ذلك وهو بين أصحابه, فلا يرى الملكَ أحدٌ منهم سواه؟
الجواب: ليس من شروط وجود الموجودات أن تُرى، إذ إنَّ الإبصار فينا محدودٌ بحدٍّ معيَّنٍ، وإلَّا لانعدم الشَّيء حين يبتعد عن البصر بعداً يمنع من رؤيته، ومن اليسير على الله جلَّ جلاله -وهو الخالق لهذه العيون- أن يزيد من قوَّتها ما شاء فترى ما لا تراه العيون الأخرى.
ثمَّ إنَّ استمرار الوحي بعد ذلك يحمل الدِّلالة نفسَها على حقيقة الوحي, وأنَّه ليس كما أراده المشكِّكون, ظاهرةً نفسيَّةً محضة.
ونستطيع أن نُجمل هذه الدِّلالة فيما يلي:
1- التمييز الواضح بين القرآن والحديث، إذ كان ﷺ يأمر بكتابة القرآن فوراً، على حين يكتفي بأن يستودع الحديث في ذاكرة أصحابه، لا لأنَّ الحديث كلامٌ من عنده لا علاقة بالنُّبوَّة فيه، بل لأنَّ القرآن موحىً به إليه بنفس اللفظ والحروف بواسطة جبريل عليه السلام, أمَّا الحديث فمعناه وحيٌ من الله عزَّ وجلَّ ولفظه من عنده ﷺ.
2- كان ﷺ يُسأل عن بعض الأمور فلا يُجيب عنها، وربَّما مرَّ على سكوته زمنٌ طويلٌ، حتَّى تنزل آيةٌ من القرآن في شأن ذلك السؤال.
3- كان رسول الله ﷺ أمِّياً، وليس من الممكن أن يعلم إنسانٌ بواسطة المكاشفة النفسيَّة حقائق تاريخيَّة، كقصَّة يوسف عليه السَّلام، وقصَّة موسى عليه السَّلام وأمَّه، وقصَّة فرعون…
4- إنَّ صدق النَّبيِّ ﷺ مع قومه واشتهاره فيهم بذلك، يستدعي أن يكون ﷺ صادقاً في هذا كذلك، ولذا فلا بدَّ أن يكون في دراسته لظاهرة الوحي قد قضى على أيِّ شكٍّ يُخايل لعينيه أو فكره.
وكأنَّ هذه الآية جاءت ردَّاً لدراسته الأولى لشأن نفسه مع الوحي: ((فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)) [يونس: 94]
ولذا رُويَ أنّ النَّبيَّ ﷺ قال بعد نزول هذه الآية: ((لا أشكُّ ولا أسأل)).
No comment yet, add your voice below!