المعراج-تويتر

بعدما تقرّر في المقال السابق أنّ الإيمان بالمعجزات من أصول الدين، وأنّ إنكارها يتعارض مع الإيمان بالله تعالى، وأنّ المعجزات وإن خالفت القوانين الكونيّة فإنّها من الممكنات وليست من المستحيلات العقليّة…

يأتي بعضهم ليدّعي بأنّ لديه أدلّةً تؤيّد رأيه في إنكار الإسراء والمعراج، وإليك أهمّ تلك الأدلّة مع الردّ عليها

أهمّ أدلَّة منكري الإسراء والمعراج:    

منهم من يقول: إنّ المعراج يعارض القرآن ذاته؛ لأنَّه أنكر صعود النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى السماء في قوله تعالى: ((أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا)) [الإسراء: 93].

والجواب: هذا الاستدلال يقودنا إلى ما هو أدهى وأمرّ، إذ يجعلون كتاب الله عُرضةً للآراء الخاصَّة، فيفسِّره كلُّ واردٍ وصادرٍ بما يحلو له، وهذا ليس علماً يا أخي، فقد سئل الصِّدِّيق رضي الله عنه عن تفسير آيةٍ من القرآن, فقال: (أيُّ أرضٍ تُقلّني، وأيُّ سماءٍ تُظلّني، إذا قلت في كتاب الله برأيي) [الفصول في الأصول (4/ 60)], ويأتي اليوم من يدَّعي أموراً تناقض الدِّين, ويلوي عُنُقَ الآيات ليخضعها لرأيه ثمَّ يستدلّ بها، وما أُنزل القرآن لهذا، بل أنزل لنتّبعه لا ليتَّبعنا.

فلا علاقة لهذه الآية بحادثة الإسراء والمعراج لا من قريبٍ ولا من بعيد، وإنَّما ذكر الله هذه الآية في بيان تعنُّت الكفّار، ومطالبهم العبثيّة، وكفرهم برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان ذلك في بداية الدعوة، قبل حادثة الإسراء والمعراج، وسياق الآيات: ((وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا))[الإسراء: 90 – 93], فالاستدلال بهذه الآية على إنكار المعراج يضاعف الغلَط والخلْط والخبْط.

ومنهم من يقول: لم يثبت المعراج في القرآن، وإنَّما ذكره المحدِّثون بعد وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أحاديث مكذوبة.

والجواب: قد ورد المعراج في القرآن الكريم بدلالةٍ ظنّيّةٍ، وهو قوله تعالى: ((ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)) [النجم: 6 – 18], وقد جاءت أحاديث صحيحةٌ تفسِّر هذه الآيات بمعجزة المعراج على أحد الوجهين.

وأمّا قولهم: إنّ أحاديث المعراج مكذوبة: فإنّ تكذيب الأحاديث الصحيحة دعوى عريضة، بعيدةٌ عن النقد العلميِّ، وإذا أحسنَّا الظنّ بالطَّاعنين، نقول: إنّها تدلّ على جهلهم المطبق بالمنهجيَّة العلميّة الدَّقيقة التي راعاها علماء السُّنَّة، ومن الإسفاف أن يؤخذ العلم من أمثال هؤلاء، فقد وردت أحاديث المعراج في أصحّ الرِّوايات المشهورة من طرقٍ عديدةٍ، ولا يمكن لأحدٍ شمَّ رائحة العلم أن يُنكرها لقوّتها وكثرة طرقها. 
وإنّ الطَّعن في السُّنَّة النَّبويّة طامّةٌ أشدُّ من إنكار المعراج، وهي من صنيع المستشرقين وأتباعهم.

ومنهم من يقول: إنَّ حادثة الإسراء والمعراج مقتبسةٌ من الأساطير والقصص التي وردت في الديانات الأخرى:

والجواب: إنَّ أوَّل من اختلق هذه الشبهة هو المستشرق (وليام سنت كلير تسديل) في كتابه مصادر القرآن: (5/65), فادَّعى أنَّ الإسراء والمعراج مذكورٌ في كتاب (إرتاويراف نامك) وهذا تدليسٌ منه، فإنّ كتاب الزرادشتية كان مفتوحاً، يكتب فيه كهنتهم ما يشاؤون، ويضيفون إليه كلَّ جديدٍ على مرّ القرون، وينقِّحون فيه ما يريدون، ولم يأخذ شكله النهائيَّ إلا في القرن التاسع أو العاشر الميلاديِّ، أي بعد الإسلام بقرنين أو ثلاثة، وتبيّن أنّ قصَّة الإسراء والمعراج أضيفت إلى هذا الكتاب بعد الإسلام، أي أنّ هذا الكتاب هو الذي أخذ من المسلمين قصَّة الإسراء والمعراج، وليس القرآن والسُّنَّة هما اللذان استندا إلى أساطيره.

وقد اعترف الزرادشتيون أنفسهم بأنَّهم أخذوا من كتب المسلمين بعد فتح بلاد فارس ونقلوها إلى كتبهم.
[مختارات من الفتاوى الإسلامية المعاصرة، مقال بعنوان: (شبهة الإسلام أخذ من الزرادشتية عدة أمور والرد عليها)].  

وإن (إرتاويراف نامك) صاحب المعراج الموهوم، كاهنٌ مجوسيٌّ عاش سنة (400 ق.م) وتقول الأسطورة بأنّه عرج إلى السماء ودام عروجه سبعة أيَّامٍ بتفاصيل تختلف عن الإسراء والمعراج الثابت لدى المسلمين.

إلا أنّ الكتاب المقدَّس الحقيقيَّ لدى الزرادشتية والمسمى: (الأبستاق) أُتلِفَ كاملاً عام (330ق.م)، وفُقِدَت جميع نسخه بعد غزو الإسكندر لبلاد فارس.

وفي القرن التاسع الميلادي دوِّن عددٌ من كتب الزرادشتية، واستمرّت الإضافة على ما بقي منها، ودُمّرت مرةً أخرى على يد التركمان والمغول. [كتاب المعتقدات الدينية لدى الشعوب (ص: 117) وما بعدها], فمدوّنات الزرادشتيَّة القديمة كلّها أُتلفت، ولم يسلم من بقاياها إلا ما دُوّن بعد الإسلام.

على أنَّ هذا الاعتقاد يُعيدنا إلى الدائرة الأولى، وهي الشَّكُّ في القرآن الكريم، وهذا يُناقض أصل الإيمان، فالمُستدلُّ بهذا على إنكار الإسراء والمعراج يقع في ظلماتٍ بعضها فوق بعض، فيستدلّ في عتمات الإنكار بظلمات الكفر والتشكيك.

فإن قال قائل: ألم تذهب عائشة وبعض التابعين وبعض العلماء إلى أنّ الإسراء والمعراج كان بروحه صلَّى الله عليه وسلَّم وليس بجسده؟ فلماذا تشنّعون على من ينكر هذه الحادثة ويقول هي رؤيا منام؟!

فالجواب: إن صحّ أنّ بعض السلف قالوا كان الإسراء والمعراج بروحه صلَّى الله عليه وسلَّم وليس بجسده، فهم لم يبنوا هذا الرأي على الفكر الإلحاديِّ أو الطَّعن في الدين أو الكتاب والسُّنَّة، ولا على إنكار المعجزات ولا على تحجيم قدرة الله تعالى وعدم الإيمان به، ولا على تشكيك المسلمين بعقيدتهم، بل كان لهم تأويلٌ في هذه المسألة، مع اعتقادهم بكمال قدرة الله، وصدق نبيّه صلَّى الله عليه وسلَّم، والإيمان بالمعجزات وبكلِّ ما جاء في القرآن الكريم، فالأمر عندهم مبنيٌّ على التأويل وليس على الإنكار.

على أنّ جمهور المسلمين ردّوا على الذين قالوا: إنَّ الإسراء والمعراج كان بروحه دون جسده. ولكن لمّا عُلِم حالهم من صحَّة الإيمان، وأنّ مخالفتهم للجمهور ليست إنكاراً لثوابت الدين، بل فهماً  خاصّاً بهم، عذرهم العلماء في اجتهادهم وتأويلهم.

وخلاصة القول: إنّ منكري الإسراء والمعراج اليوم لم يسلكوا منهج علماء المسلمين، ولم يقصدوا من ذلك تحرّي الدِّقة العلميَّة، بل يخفون وراء ذلك مآرب وغاياتٍ، وهي زعزعة الإيمان في قلوب المسلمين شيئاً فشيئاً بمزيجٍ من الطعون في الدين، كالتَّشكيك في ثبوت القرآن الكريم، وادّعائهم أنّه من تأليف النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وليس من عند الله، وتفسيره بالأهواء والآراء المخالفة، وإنكار أحاديث النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والقيام بالمهمّة التي قام بها المستشرقون من قبل، فقد أراد بعض المستغربين اليوم أن يسيروا على خطاهم ويُتمّوا مسيرتهم.

مع الصِّدّيق أم مع أبي جهل؟

ومن وحي ما تقدَّم نستطيع أن نُبرز صورةً جليّةً لحادثة الإسراء والمعراج من السِّيرة النَّبويّة، تمثّل كلا الفريقين:      

الفريق الأول وهُم المشركون: فعندما أخبر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قومه بأنَّه أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثمَّ عُرج به إلى السماء في ليلةٍ واحدةٍ، استعظم المشركون ذلك، ورأوا أنّ هذا مستحيلٌ لا تصدّقه العقول، فازدادوا تكذيباً له، وفرحوا بهذا الخبر؛ ليشكّكوا المسلمين بنبوّته؛ لأنّهم يرون ذلك طعناً في صدقه.

الفريق الثاني: أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه: فقد أسرع المشركون إلى الصِّدِّيق رضي الله عنه ليخبروه بذلك؛ أملاً منهم أن يُكذِّب النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وقَالُوا لَهُ: هَذَا صَاحِبُكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ رَجَعَ مِنْ لَيْلَتِهِ.

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَوَ قَالَ ذَاكَ؟

قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: فَأَنَا أَشْهَدُ إِنْ كَانَ قَالَ ذَاكَ لَقَدْ صَدَقَ.

قَالُوا: تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ الشَّامَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَرَجَعَ قِبَلَ أَنْ يُصْبِحَ؟

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: نَعَمْ، أَنَا أُصَدِّقُهُ بِأَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً.
[الشريعة للآجري (3/ 1539) ، المستدرك للحاكم: (3/ 65)]

فقد جاء جواب الصِّدّيق رضي الله عنه عن قوَّة إيمانٍ ورسوخ يقين.

فَلِلَّٰه دَرُّك يا صِدِّيق هذه الأمّة… أصبت بذلك كبد الحقيقة، إنّ إيمانك الرَّاسخ أنار عقلك، وسدّد فكرك، ووسّع فهمك.

لقد أشار إلى أصل القضيّة، فإنّ من آمَن بالله تعالى، وصدّق بخبر السماء، لا يُنكر ما هو أدنى من ذلك.

إنّ حادثة الصِّدِّيق رضي الله عنه مع المشركين تشبه ما عليه بعض الناس اليوم تماماً، فإنّ منطق الإيمان الذي بيّنه الصدّيق يقرّر أنّ هذا أمرٌ جائزٌ ولا غرابة فيه، ما دام أنّه تيقّن صدق نبوّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنّ الوحي يأتيه من خالق الأكوان صباحاً ومساءً، فهل يُعجزه أن يسري بنبيِّه في ليلةٍ واحدةٍ، أو جزءٍ من ساعات الليلة؟

ويلزم من الإيمان بالله ورسوله اعتماد الخبر الصادق، الذي أنزله الله تعالى في القرآن، أو نطق به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في السُّنَّة، أمّا المنكرون فيضعون أنفسهم فوق كلام الله وفوق حديث رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا يمكنهم أن يتصوّروا المعجزات والغيبيّات؛ لأنّ مسالك المعرفة لديهم ناقصةٌ ومقتصرةٌ على المحسوسات فحسب، فهم لا يؤمنون بما وراء المادة.
لذا فالخلاف بيننا وبينهم ليس في حادثة الإسراء والمعراج فقط، وإنَّما في منهجيَّة التَّفكير.

ولكنّ العجب العجاب من أولئك الذين ينبذون تفكير الصِّدِّيق، ويتبنّون تفكير أبي جهل وهم ينتمون إلى الإسلام!

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *