الاسراء-تويتر

من المستحيل أن نُفرغ البحر في فنجان…

نعم من المستحيل أن يحيط الإنسان بهذا الكون الشاسع المترامي الذي لا حدود له، أو أن يدرك عقله تلك الأعداد الهائلة من الكواكب والنجوم والمجرّات الدَّالة على قدرة الله تعالى، مهما وظّف علومه ومعارفه الناتجة عن حضاراته المتراكمة…

أجل إنّه مع تسخير كلّ علومه ومعارفه، استطاع أن يرصدها في مَسابره، ويطّلع في أبحاثه على نزرٍ يسير منها،  بما يعادل ذرّةً من مجرّة.

ولنقترب أكثر فأكثر حتى نلتصق بالإنسان ذاته… فهل يستطيع أن يتحكَّم بنبضات قلبه، ووظائف أعضائه وسيّالات دماغه؟ أو أن يمنع الفيروسات من اختراق جسمه، وهي أصغر البُنى؟

ومن جهة أخرى:

أين قوة ذلك الصنديد الذي أقعده الفالج فلم يستطع حراكاً، أو طرحه فيروسٌ فلم يستطع منه فكاكاً، وربَّما لقي بسببه حتفه؟

 وأين ذكاء العالِم العبقري والداهية الألمعيِّ، الذي أصيب عقله، فصار يهذي ويتصرَّف بما لا يرضى أن يفعله الصبيان؟

تجتمع هذه المقدمات والتساؤلات لتقرِّر حقيقةً مسلَّمةً، وهي: أنّ الإنسان مهما اتَّسعت مداركه، وغزر علمه، وعظُم تفكيره، واتسق منطقه، ودهى عقلُه، لا يستطيع أن يتجاوز قدرته المحدودة، ولا يدرك من مخلوقات الله إلا بمقدار قطرة من بحر …

وأنّ الإنسان مهما بلغ من القوة والعظمة فهو عاجزٌ عن أن يتحكّم بنفسه، فذكاؤه وقوَّته وفهمه ليست من عنده، بل محض هبةٍ من الله له، ولا يستطيع أن يمدّ جسده بالحركة والحياة إلا بإمداد الله له، وأنّ أصغر المخلوقات ترديه طريحاً هالكاً.

ثمّ يخرج بعضهم ليقيس قدرة الله العظيمة على قدراتهم الكليلة، وعقولهم المحدودة، ويحجّمون أفعال الله في قالب القوانين الفيزيائية، فإذا أخبر الله ورسوله في الكتاب والسُّنَّة عن معجزةٍ ثابتةٍ، وجدوها كبيرةً على مقاس تفكيرهم، ولا تستوعبها عقولهم، فينكرونها ويقولون: هذا مستحيلٌ يخالف العقول.

أجل مستحيلٌ يخالف العقول؛ لأنّ العقول صغيرةٌ أمام قدرة الله المطلقة، ومهما اتَّسعت مداركها فلن تتجاوز مقدار كوبٍ من بحر تصريف الله للأكوان؛ وأنّى للعقول أن تستوعب ذلك، فهل يمكن أن نفرغ بحراً في فنجان؟

وقد وصف الله تعالى أمثال هؤلاء المنكرين للمعجزات والذين لا يؤمنون إلا بما تدركه حواسّهم بقوله: ((فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)) [النجم: 29، 30], فمن أعرض عن الإيمان فإنّ أقصى ما يصل إليه علمه لا يتجاوز حدود هذه الحياة الدنيا وهذا الكون المحسوس، فهذا مبلغه من العلم.

وينعكس تكذيب المعجزات على مذهب المنكرين بالإبطال والتناقض، فكيف ينكرون المعجزات ويدّعون أنَّها تخالف العقول، ولا ينكرون على أنفسهم عدم الإيمان بخالق هذا الكون أصلاً؛ أليس إنكار وجود الله يناقض العقول، فهل يمكن أن يوجد شيءٌ ما صدفةً من غير موجد؟

إنهم يتخبّطون في تفكيرهم، فيؤمنون بالمستحيل الحقيقي، وهو أنّ هذا الكون المنظَّم البديع موجودٌ دون خالقٍ له، ويكفرون بواجب الوجود الذي لا يستقيم المنطق والتفكير إلا بالإيمان به.

على أنّ المعجزات والخوارق التي أخبرنا عنها القرآن الكريم هي من الممكنات وليست من المستحيلات العقلية… نعم هي تخالف قانون الكون، وتعجز عنها قدرة البشر، وتقع دون أسبابٍ طبيعيَّة، لكنّها لا تناقض المنطق والعقل، بل تتَّسق معه اتِّساقاً تامّاً، ما دامت متلازمةً مع الإيمان بوجود إلهٍ قادر.

وليس من شأن المؤمن أن يصغي إلى المشكّكين بآيات الله ومعجزاته؛ لأنّ منهجهم يختلف عن منهج أهل الإيمان اختلافاً جذرياً، فالمشكّكون لا يؤمنون إلا بما تدركه حواسّهم، ويقع تحت التجربة والاختبار، ويكفرون بالغيبيات.

فإن قيل: إنّ كثيراً ممن ينكر الإسراء والمعراج وغيرها من المعجزات هم مسلمون وليسوا ملحدين:

فالجواب: إن كانوا مسلمين فإنَّهم يتناقضون مع أنفسهم؛ لأنّهم في إنكارهم هذا يتَّبعون طريقة تفكير الملحدين لا يخرجون عنها قيد شعرة، ولا يجتمع الإيمان والكفر في آنٍ واحد، ولا يستقيم إنكار المعجزات الثابتة في تفكير المؤمنين أبداً.

فالمسلم الحقيقيُّ اتسع عقله، ونظر بنور الإيمان إلى مسيّر الأكوان، وشعر بعظمته وقدرته، واستصغر تلك الخوارق أمام قدرة الله العظيمة، فآمن بها وصدّق بخالقها؛ لأنّه يؤمن بأنّ الذي أبدع هذا الكون ونظّمه بالنواميس والقوانين، قادرٌ على أن يخرق هذه القوانين في أيِّ لحظة، ويجعلها معجزةً يُكرم بها رسله وأنبياءه، فيسلب خاصيّة الإحراق لإبراهيم عليه السلام، ويفلق البحر ويجعله يبساً ويحوّل العصا إلى ثعبان تأييداً لموسى عليه السلام، ويتجاوز بمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم حدود المكان والزمان في معجزة الإسراء والمعراج إكراماً له.

وقد جعل الله تعالى المعجزات خوارق للعادات، تفوق طاقة البشر وعلومهم وتفكيرهم، ليؤيّد بها أنبياءه، ويظهر قدرته لخَلقه.

فالإيمان بالمعجزات لا ينفكُّ عن الإيمان بالله تعالى، ولا ينكرها إلا من يُجانب جادّة الإيمان، ويسير في مهاوي الكفر والضلال.

هل الأنبياء قادرون على الإتيان بالمعجزات؟

إنّ الأنبياء بشرٌ تحكمهم الطبيعة البشريَّة، ويسيرون ضمن قوانين الكون كسائر الناس، وليس بأيديهم أن يتجاوزوها إلّا بإذن الله تعالى.

والمعجزات من أفعال الله التي يُجريها على أيدي أنبيائه، وليست من فعل الأنبياء أنفسهم، قال تعالى: ((قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)) [إبراهيم: 11]

أي (ليس لنا أن نأتيكم ببرهانٍ وحجَّةٍ ومعجزةٍ إلا أن يشاء الله ذلك، أي: ليس لنا ذلك من قِبَل أنفسنا) [التفسير الوسيط للواحدي (3/ 25)].

لذا نجده سبحانه وتعالى ينسب الإسراء لفعله وليس لفعل النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وما محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم إلّا عبدٌ تسيّره قدرة الله تعالى وعنايته في تلك المعجزة، قال تعالى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الإسراء: 1]

 

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *