جهلوا في الأمس فعاملوها على أنَّها متاعٌ يورَّث، شأنه شأن أي جمادٍ لا روح فيه، وفي عصر الحداثة اليوم صدّروا صوراً حديثةً للجاهليّة فاستخدموها سلعةً، وجعلوها أداةً لتسويق منتجاتهم، وقَصَرُوا رؤيتهم لها على مفاتن شهوانيَّة تحرِّك الغرائز، لتكون وسيلةً لإنفاق سلعهم بمختلف أشكالها وألوانها، في ظلِّ هيمنة الفكر الماديّ.

أهانوها فاختزلوها وجعلوا منها جسداً وشكلاً مجرَّداً من أيِّ مضمونٍ بعد أن قاموا بتعريته من كلِّ سترٍ جميلٍ، أو فكرٍ منيرٍ. فو الله ما لهذا خُلقت، وما لهذا أنشأها الله خلقاً آخر بعد أن استوحش آدم في وحدته في جنان الخلد، إنَّما خُلقت شريكةً للرجل في الحياة، وسكنى يسكن إليها وتسكن إليه، فتستقيم الحياة بالمودَّة والتراحم بينهما:
((وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ)) [الروم-21]

رغم دعوات الحريَّة، ونداءات المساواة، والإعلان الصريح عن الرَّغبة في تحصيل حقوقها المسلوبة والتي أُطلقت مراراً في العالم الغربي، أُهينت المرأة بشتّى الوسائل في عالمٍ لا يعرف إلا مركزيَّة المادة، عالمٌ  انتُهكت فيه كرامتها وإنسانيَّتها علناً بحجَّة أن تساوى في الحرية مع الرجل كذباً وافتراءً، فهي لم تُخلق لتكون مثله أصلاً… وليس الذَّكر كالأنثى.

فهل المساواة بين المرأة والرجل أمرٌ جيد؟

الله الخالق وحده هو الذي أنشأها بتركيبةٍ مختلفةٍ عن الرجل، وهو أعلم بها وبما يصلح شأنها، وقد أرسى الإسلام للتَّعامل معها قواعد عظيمةً فمنحها حقوقها، وأعلى شأنها، وحمى كرامتها. جعلها شريكة الرجل قولاً وفعلاً، وأعزَّها فكانت أحياناً أعلى رتبةً من الرجل، ولا يخفى على أحدٍ شأن الأمِّ ومكانتها فقد وصّى ببرِّها رسولنا صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله: ((أُمُّك ثمَّ أُّمُّك ثمَّ أُمُّك ثمَّ أبوك)) [صحيح مسلم].

ففي ديننا تتزاحم النصوص الشرعية من القرآن الكريم، والسُّنَّة النَّبويَّة تدعو إلى العدل والإحسان إلى المرأة، وتُعلي قدرها، ثمَّ يأتي الإعلام الغربي فلا يألوا جهداً في ترويج الزّيف وتشويه الحقيقة، ويوجّه أصابع الاتهام في كلِّ حينٍ مدعياً أن الإسلام سلب المرأة حقوقها وجعلها في مكانةٍ  أدنى من الرجل، وذلك حين جعل للرجل الوصاية عليها، وكأنَّها لا تفقه شيئاً، أو لا تستطيع إدارة شؤون حياتها.

 ويتَّهم الإسلام بظلم المرأة واضطهادها، سواءً بالطَّلاق أو غيره فهل ظُلمتِ المرأة بالطلاق؟

أو بالميراث! هل ظُلمت في أيٍّ من مناحي الحياة؟

هل أهان الإسلام المرأة وسلبها حقوقها الإنسانية حقَّاً؟!

تثبت الحقائق التاريخية أنَّ المرأةُ تعرّضت للإهانة في زمن الجاهليةِ بكلِّ أنواع الإهانات فلم يُعرف لها حقٌّ أو كرامةٌ، اعتبروها نكرةً بل عاراً على أهلها، وكان الرجل فيهم إذا علم أنَّ زوجته وضعت له أنثى اسودَّ وجهه وراح يفكِّر كيف يتخلَّص من هذا العار.

 هل يدفنه تحت التراب، أم يرميه من شاهقٍ أم يقذفه في البحر. روحٌ بشريَّة ليس لها أيُّ ذنبٍ، إلَّا أنَّ القدر أرادها  أنثى لتكون مكمِّلةً للذكر، ويستنكر القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: ((وَإِذَا الموءودَةُ سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ)) [التكوير-8].

أيُّ منطقٍ أعوج ساد ذلك الزمان فعرَّض المرأة لأنواعٍ شتَّى من الإهانة في نكاح الرهط، أو الاستبضاع، أو السفاح العلني، ظلامٌ قاتمٌ، وسلطةٌ سوداء، خيَّمت على المجتمع الأنثوي في عصر الجاهلية. لكنَّ ذلك لم يقتصر على العرب في شبه الجزيرة العربية بل شاركهم فيه الإغريق واليونان والصينيون القدامى، وغيرهم من الأمم التي لم تعرف لنور الوحي  أثراً عليها.

هكذا كان حال المرأة حتى جاء نور الإسلام إلى شبه الجزيرة العربية فانتشل المرأة من قاع الظلم، ورُفع عنها كلَّ ما يؤذي كرامتها، وأعلى شأنها، وجعل النساءَ شقائقَ الرجالِ، وساوى بينها وبين الرجل في الأحكام، وفي الأخوَّة الإنسانية، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )) [الحجرات-13].

فضلاً عن المساواة بينهما في العمل والجزاء عليه، فكانت مكافئةً للرجل وليست أقلَّ منه شأناً أو كرامةً، قال تعالى:
 ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى)) [آل عمران-195]

    المرأة من عبوديَّة الجاهليَّة إلى عرش الكرامة في الإسلام

في زمن عزِّ الإسلام الأوّل ومنعته، وامتداد سلطان دولته من مشرق الأرض إلى مغربها، أميرُ المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه وهو السلطة الأعلى في الدولة يتراجع عن قوله أمام الناس وهو على منبر الخلافة فيقول: (أصابت امرأةٌ وأخطأ عمر) بعد أن صوَّبت له امرأةٌ حكماً شرعيَّاً أبدى فيه رأيه فتعترض تلك المرأة العجوز وتقول: (ليس لك ذلك يا بن الخطاب).

لقد قُلِّدت المرأة في عهد عمر منصباً معتبراً في رقابة السوق، فها هي “الشفاء العدويَّة” تستلم ضبط المشتريات، وتهذِّب سلوك الباعة بوضعها أسس التعامل في البيع والشراء وأخلاقياته، بعد أن نحجت وتميَّزت في التَّعليم.

وها هي الصحابيَّة الجليلة “سُميَّة بنت الخياط” زوجة ياسر بن عامر رضي الله عنهما، تثبِّت المسلمين بثباتها على التوحيد، وبفضلها وبفضل زوجها تتنزَّل على آل ياسر رحماتٌ، ومن سيد الكائنات سيّدنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم بشرى بالجنة …. ((صبراً آل ياسر فإنَّ موعدكم الجنة)).

لقد أعلى القرآن الكريم من شأن المرأة في كثيرٍ من الآيات، وأولت السُّنَّة النبويَّة أمور المرأة عنايةً فائقةً.

  وضرب الله تعالى للمؤمنين المثل ببعض النساء التقيَّات العابدات، وجعلهنَّ قدواتٍ للرِّجال والنساء في الصلاح والتقوى، فقال تعالى: ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)) [التحريم11، 12]

أمَّا علماؤنا وأئمَّة الدّين، فكثيرٌ منهم يحدِّثنا في رحلة حياته عن فضل أمِّه أو شيخاته من النساء ودورهنَّ في نشأته كالإمام الشافعي والإمام النووي، فينسب لها كلَّ فضلٍ, ولسانُ حاله يقول: وراء كلِّ عظيمٍ امرأة.

فهل حازت المرأة في الديانات والمجتمعات الأخرى غير المسلمة تلك المكانة العظيمة التي كرَّمها بها الإسلام وأعطاها لها؟!

لقد أكَّد الإسلام مراراً على احترام المرأة في جميع المجالات، وحرَّم كلَّ ما يمتهن كرامتها أو يستغل أنوثتها، فالمجتمع الآمن المستقر هو الذي تُراعى فيه حقوق المرأة فتُحفظ وتؤدَّى على أكمل وجه، وفي ذلك تقرُّبٌ من الله تعالى مع جزيل الأجر والثواب، سعياً لتنمية المجتمع الإسلاميِّ والسّير به نحو الأفضل.

وبعد أن كان وأد البنات عادة العرب في الجاهليّة، جاء الإسلام فحرّم ذلك، وبشَّر الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلَّم من ولدت له أنثى بقوله: ((من كانت له أنثى فلم يئدها، ولم يُهِنها، ولم يُؤْثِرْ ولده عليها -يعني الذّكور- أدخله الله الجنَّة)) [رواه أبو داود في سننه والإمام أحمد في مسنده]

فهل للمسلمين من منهجٍ يتَّبعونه في معاملة النساء إلّا ما وجدوه في هدي نبيِّهم صلى الله عليه وسلَّم وسنَّته قولاً وفعلاً، سواءً كانت أمَّاً أو بنتاً أو أختاً أو زوجةً أو غيرهن، فأنصفها ودعا إلى الإحسان إليها عليه الصلاة والسلام  وقال: ((خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي)) [رواه الترمذي وابن ماجه].

ويُرسي نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم قواعد اللين في التعامل مع النساء قائلاً: ((رويدك بالقوارير)) [أخرجه البخاري] ،وهذا ما تعلَّمناه في ديننا.

  واليوم تظهر بعض الإحصاءات الغربيَّة الحديثة مقدار العنف الذي تتعرَّض له النساء بعيداً عن رحمة الإسلام وعدله،

وتخبرنا كارول بوتوين في كتابها: (رجالٌ ليس بوسعهم أن يكونوا مخلصين) أنَّ 70 % من الأمريكيين يخونون أزواجهم، و 79 % من الأمريكيين يضربون زوجاتهم، وحسب تقريرٍ للوكالة الأمريكية للفحص والتحقيق، فإنَّ هنالك زوجةً يضربها زوجها كلَّ ثمانية عشر ثانية في أمريكا). ومن هنا يدخل أعداء الدين لإظهار فهمٍ مغلوطٍ لمراد الله تعالى في قوله:((واضربوهن))[ النساء34]

أكَّد الإسلام في أكثر من موضعٍ أنَّ المرأة والرجل متساويان في الكرامة الإنسانيَّة، وأنَّ للمرأة من الحقوق وعليها من الواجبات ما يلائم فطرتها وتكوينها، وأنَّ الرّجل والمرأة متكاملان في المسؤوليّات المنوطة بكلٍّ منهما في الشريعة الإسلامية، وقد أعلى الإسلام قدر المرأة فكانت آخر وصايا نبيّنا عليه الصلاة والسلام في حجَّة الوداع: ((استوصُوا بالنساء خيراً)) [رواه ابن ماجه].

زياد الوتار

بقلم: أ.محمد زياد الوتار

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *