العقوبات في الإسلام عدل أم قسوة -مستطيل-

للإسلام قولٌ وحُكمٌ في كل شيء، ولم يُغفل الحاجة التشريعية للإنسان حتى لا يتركه عبداً لمصالحه وتقلُّباته وفهمه المتأثر القاصر للحياة. 

أولاً: التمهيد:  

يُعتبر الإسلام النظام الوحيد في الفكر الإنساني الذي استطاع أن يشمل جميع نواحي الحياة، فهو ليس نظاماً روحياً فقط يُحبس داخل جدران المعابد وفي العلاقة بين العبد وربِّه، دون أن تكون له انعكاسات في الحياة والسلوك والمجتمع، وليس نظاماً قلبياً فقط، يشتمل على أعمال القلوب وأمراضها ويُنظّر فلسفات في الأخلاق والقيم، وليس نظاماً مادياً بحتاً غير متصل بحاجات النفس الإنسانية للصلة بالخالق والالتجاء إليه بالعبودية، بل هو نظامٌ روحيٌ وقلبيٌ ومادي شامل جميع نواحي الحياة وما يحيط بالإنسان. 

فللإسلام قولٌ وحُكمٌ في كل شيء، ولم يُغفل الحاجة التشريعية للإنسان حتى لا يتركه عبداً لمصالحه وتقلُّباته وفهمه المتأثر القاصر للحياة. 

وهو مع كل هذا يحمل ميزةً عجيبة، وهي ميزة المرونة في التعامل مع التشريعات والأحكام، مرونة أعطته أحد صفات التشريع المناسب لكل زمان ولكل مكان ولكل إنسان. 

ولمَّا اتصف الإسلام بالشمولية والمرونة فقد ضمَّ في طيات تشريعه الأحكام التي تتعلق بضبط سلوك الإنسان وحمايته من الجرائم، ونحن لا نبالغ إذ نقول:  إنَّ الإسلام هو الدين الأشمل، والأكثر وضوحاً بين أديان وتشريعات البشرية في فقه الجنايات والعقوبات، كجزء من شريعته. 

لكن هذا الفقه فقه الجنايات- لم يسلم من النقد أحياناً، ومن التشكيك أحياناً، ومن الهجوم الاتهامي أحياناً أخرى، وستحاول هذه المقالة نقاش تشريع الحدود والعقوبات والقصاص في الإسلام وفهمها بشكلٍ مختصر.    

العقوبات في الإسلام نوعان: نوعٌ محدَّدٌ بالنص الشرعي، ونوعٌ أُوكلَ إلى المشرِّعين ليختاروا الأنسب. 

أعطى التشريع الإسلامي السلطة التشريعية في الدولة الحقَّ في تقدير العقوبات المناسبة فيما لم ينصّ عليه الشرع نصّاً واضحاً، وهذا الحق يُسمى ((التعزير))، أما الأحكام الجنائية المحددة بالنص الشرعي الواضح والتي تُسمى ((الحدود)): فهي أحكامٌ غير قابلة للتغيير، ولا يحقّ للسلطة التشريعية رفضها، إلا أنّها قد تختار عدم تطبيقها في حالات معينة.  

منطلق الحدود والعقوبات في الإسلام هو تحقيق مقاصد الشريعة، وهذه ميزةٌ عظيمةٌ في التشريع الإسلامي. 

يقصد التشريع الإسلامي في أحكامه تحقيق مقاصد معينة، وهذا يُفهمنا أنّ الإسلام ليس ديناً ذا تشريعات عشوائية ارتجالية غير مترابطةٍ بل هو تشريعٌ له غايات يسعى لتحقيقها، منها: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، إضافةً إلى غيرها من المقاصد، وقد ضمن الإسلام للإنسان الذي يعيش في مجتمع تحكمه الشريعة الإسلامية أن يكون محفوظاً في هذه الأمور التي تشمل في مجموعها حفظ إنسانية الإنسان، وإنسانية المجتمع. 

إقامة الحدود جزءٌ من مسؤوليات الدولة تجاه المجتمع وذلك من منحيين؛ الأول: تهيئة البيئة المناسبة للتشريع، والثاني: تهيئة الظروف المناسبة لإقامة الحدود. 

فالإسلام دينٌ واقعي، لا يطلب تكاليف، ولا يُشرّع تشريعاتٍ إلا بمناسبة للواقع الذي يعيشه المُكلَّف، ونلحظ ذلك في الحدود والعقوبات التي شرعها، فتشريع الحدود لم يُفرض إلا عندما أصبح المجتمع المسلم جاهزاً من حيث القابلية والإمكانية في الفترة المدنية من التشريع، إضافةً إلى ما تعلّمناه من سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووافقه عليه الصحابة الكرام من إيقافِ تطبيقِ حدِّ السرقة في عام المجاعة، وذلك مردّه إلى الفهم العُمَري الصحيح لغايات الأحكام ومقاصدها، والتي لم تكن مُتحققةً في ظلِّ ظروف المجاعة. 

وتأتي هذه الفكرة لتؤكد أن فقه الجنايات ليس مقصوداً بذاته في الإسلام بل هو وسيلةٌ من الوسائل التشريعية لتحقيق مجتمعٍ آمنٍ مطمئن، والوسيلة تُستخدم عند إمكانية استخدامها وتحقُّقِ الحاجة إليها. 

ثانياً: مفاهيم: 

تقول لنا القاعدة الفقهية العظيمة: “الحكم على الشَّيء فرعٌ عن تصوّره” وعليه فإن الكثير من الأحكام والانطباعات عن الحدود والعقوبات في الإسلام ناتجةٌ عن فهمٍ مشوّه أو مغلوط، مما أدّى إلى تشويه صورة هذا التشريع في العقول والأذهان. 

لذلك وجب بيان بعض المفاهيم في محاولة لتصحيح صورة هذا التشريع أو جزء منها. 

1-إقامة الحدود والعقوبات في المجتمع ليست الغاية من الدعوة الإسلامية 

فكثير من التنظيمات والمدارس الفكرية تسوّق فكرةً مفادها أنّ المجتمع المسلم هو الذي تطبّق فيه الحدود والعقوبات، أمَّا الحقيقةُ فإن المجتمع المسلم هو الذي تتحقق فيه المعايير الأخلاقية والقيمية والعقائدية والحضارية للإسلام، ولو لم يكن في مرحلة من مراحله يقيم الحدود والعقوبات، فهو مجتمعٌ يحقق ثلاثية العلاقات السوية للإنسان؛ العلاقة السوية بين الإنسان وخالقه، وبين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، ثم يتبع هذا المرحلة وجود فقه الجنايات كقانون يحفظ للناس حياتهم واستقرارهم فيها. 

وليس المقصود من هذه الكلمات التقليل من دور الحدود والعقوبات في المجتمع المسلم بل المقصود منها ألا نحصر صورة هذا المجتمع في الحدود والعقوبات فقط دون ما هو أولى وأهمُّ منها. 

ويُستدل على هذه الفكرة بفعل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإسلام الحقيقي في فهمه الصحيح وتطبيقه الصائب الحكيم، وهو القرآن سلوكاً و عملاً، وقد قامت دعوته أولاً على تحقيق البناء العقائدي والأخلاقي والقيمي بل والعاطفي الوجداني في المجتمع المسلم، واعتبر القرآن أبناء هذه المرحلة “المهاجرين” خير الأمة وأفضلها على الرغم من أنهم لم يطبقوا الحدود والعقوبات فيما بينهم، إلا لمّا تكامل هذا البناء وتهيأت البيئة المناسبة ففرض الله على الجميع تطبيق الحدود والعقوبات وغيرها من التشريعات للحفاظ على هذا المجتمع. 

2- الحدود والعقوبات والقصاص في الإسلام يحقق معنى الردع عن الجريمة. 

 يذكر الله تعالى  معنيين مهمَّين  أثناء بيانه لحد القتل: ((ذلكَ تخفيفٌ مِنْ ربِّكم ورحمةٌ)) [البقرة178]، ويقول أيضاً: ((ولكم في القِصاصِ حياةٌ يا أولي الألبابِ لعلَّكم تتَّقون)) [البقرة179]. 

فكيف يكون في القصاص من القاتل حياةً؟ وكيف يكون فيه تخفيف من الله على العباد؟ 

الحياة في أحد معانيها المقصودة في هذه الآية تكونُ في الحفاظ على حياة أكبرِ عددٍ ممكنٍ من الناس، وإنَّ إقامة حدِّ القصاص في القتل أو غيره على قاتلٍ واحدٍ سيردع مئات القتلة عن القيام بجرائمهم وبالتالي سيحفظ حياة الناس من أن يشيع فيهم القتل، وكذلك الحال في بقية الحدود، فالمجتمعات الإنسانية بطبيعتها يوجد فيها القاتل والسارق والمجرم والخائن والشهواني، وهذه الأصناف من الناس سيقتلون ويسرقون ويخونون ويجرمون إن لم تكن العقوبات رادعةً لهم، فقسوة العقوبة متناسبةٌ مع قسوة أثر الجريمة في المجتمع، وقد أثبتت الوقائع وأحوال المجتمعات اليوم حاجتها إلى عقوبات رادعة لإيقاف مسلسل القتل والظلم والتسلط المستمر فيها.   

3- الحدود والقصاص في الإسلام  ليست مطلباً بل إن الإسلام يدعو ويشجع ألّا تطبق 

ويأتي هذا المفهوم استكمالاً للمفهوم السابق حيث إنَّ وجود الحدود والعقوبات بحدِّ ذاته كافٍ لتحقيق الردع عن ارتكاب الجريمة وبالتالي انقاذ الأرواح والأموال والأعراض بشكل أكبر، وإذا كان وجود التشريع وحده كافياً للردع فإن الإسلام يميل إلى عدم تطبيق الحد والعقوبة قدر الإمكان، فعمل بذلك على جعل العقوبة في ظاهرها قاسية لكنها في شروط القيام بها صعبة، وجعل تطبيق العقوبة متوقفاً على قرار من أولياء المجني عليه أو من المجني عليه نفسه، بأن يعفوا عن المجرم حتى لا يُطبق عليه حدٌّ، وشجَّعهم على العفو فقال لهم: ((وأنْ تعفوا أقربُ للتقوى)) [البقرة237]، أو أن يقبلوا بالعوض المادي في مقابل العفو عن المجرم، إلى غير ذلك من الأساليب والشروط التي تجعل تطبيق الحد غير مطلوب بذاته بل بمظهره الرادع فقط. 

ثالثاً: تساؤلات: 

1-تشريعات العقوبات في الإسلام تخالف شرعة حقوق الإنسان العالمية. 

2-منظومة العقوبات الحديثة أكثر إنسانية وتحقيقاً للعدالة. 

3-الإسلام دين الرحمة وعقوباته عقوبات قاسية عنيفة تخالف مفهوم الرحمة. 

تُعتبر شرعةُ حقوق الإنسان النصَّ التشريعي المفروض من هيئة الأمم المتحدة _الــسيئة الصيت_على البشرية، كما تُعتبر الدولُ الليبرالية الاحتلالية الراعيَ الأبرز لهذه الوثيقة التشريعية، والمُعدَّ لبنودها وصياغتها، حيث استخدمتها كغطاء للهيمنة والمصادرة الإقصائية الفكرية والعقائدية. 

وليس المقال بصدد تقييم دور الأمم المتحدة وميثاقها، وشرعة حقوق الإنسان المنبثقة عنها، وما يمارس من ظلم وهيمنة بذريعتها، بل في الرد على من يرون في تشريعات الحدود والقصاص في الإسلام مخالفة لهذه الوثيقة، وتأتي هذه المخالفة في أن وثيقة حقوق الإنسان قد قررت مبدأ (أنّ لكل فرد الحق في الحياة حراً كريماً)،  لكن الإسلام يسلب حق الحياة من إنسان في تطبيقه لعقوبة القصاص. 

والسؤال المطروح: هل يوجد تشريع عقوبات في دولة من دول العالم موافق لهذا المبدأ؟ 

الوهم المفترض في الأذهان أن العقوبات في الدول الليبرالية الغربية موافقة لهذا المبدأ الذي يخالفه التشريع الإسلامي حين يسلب حق الحياة من إنسان في عقوبة القصاص منه إذا قتل، لكن من يعيش في هذا الوهم يأخذ شطراً من المبدأ ويترك الآخر، فلكل فرد الحق في الحياة حراً كريماً، ومنظومة العقوبات في الدول الليبرالية تترك القاتل حياً لكن ليس حراً كريماً بل تفرض عليه سلب حريته في أكثر سنوات عمره، وهذا مخالفٌ لمبدأ حقوق الإنسان الأساسي مثله مثل مخالفة تشريع القصاص له، مع اختلافهما في الشكل والغاية. 

بل إن التشريع الإسلامي أكثر قرباً لهذا المبدأ من التطبيق الليبرالي له، فالقصاص يحقق معنى حق الحياة والحفاظ عليها من خلال ردع المجرمين عن الاستمرار في سلب هذا الحق من الناس، بينما أثبتت المنظومة الليبرالية  فشلها في ردع الجريمة والحفاظ على الحياة الآمنة المستقرة للمجتمع. 

وهذا يدعونا لنقاش التساؤل القائل بأن منظومة العقوبات الحديثة أكثر إنسانية وتحقيقاً للعدالة. 

تنتشر في أمريكا العديد من جرائم إطلاق النار التي يقضي فيها عشرات الأشخاص يومياً، وتحدث مثل هذه الجرائم أحياناً في أوربا، فقد يقتل إنسان واحد من المتأثرين بأفلام التحريض على العنف الكثير من الأشخاص في دقائق، فماذا يحدث له حين تقبض عليه الشرطة، وما العقوبة التي ينالها وفق منظومة العقوبات الحديثة التي ترتضيها منظمة العفو الدولية وميثاق حقوق الإنسان . . . إلخ. 

العقوبة هي السجن، وكلما كانت الجريمة أكبر وأشنع زادت سنوات السجن، على تباين في عددها بين الدول، وهذا يعني أن القاتل المجرم سوف يجلس في زنزانة فيها كل المقومات التي يحتاجها للراحة، وسوف يكون له الحق في االقيام بالنشاطات الرياضية والترفيهية داخل سجنه، وله إن شاء أن يتدارك ما فاته من تعليم فيحصل على الشهادات الجامعية، وكل هذا على حساب دافعي الضرائب، ومنهم أمُّ أو ابنةُ أو زوجةُ أو أبُ المقتول، وإذا كان القاتل سجيناً جيداً فسوف يخرج من السجن بعدد سنوات أقل نظراً لحسن سلوكه، فهل هذه العقوبة متناسبة مع فعل المجرم، ومع حق المقتول وأهله؟ 

وأما السارق فعقوبة السجن لا تخلو من ظلم له ولعائلته وللمجتمع أيضاً، فالسارق سوف يؤخذ من عائلته لسنوات ويُبعد عنهم وكأنَّ أولاده بلا أب وزوجته بلا زوج وأمه بلا ابن، وذهابه إلى السجن يعني تدمير كل ما بناه في حياته العملية، وسيخرج منه عالة على المجتمع وعلى أهله، لا يستطيع أن يعمل عملاً جيداً، ولا يرضى أغلب أصحاب الأموال توظيفه خوفاً من سابقته الإجرامية، وسيضطر إلى الجريمة من جديد لتحقيق ذاته ورفاهية حياته. 

ثم إنّ الإنسان بحقيقته هو بنيةٌ فيزيولوجية عُمْرية يعني أنه جسد مادي في وقت زمني-  وقطع شيء من  بنيته الفيزيولوجية – كقطع يده- ليس أمراً أسوأ من قطع شيء من البُنية العمرية بسجنه لعدة سنوات.  

ربما يقول قائل بأنّ قتلنا للقاتل هو  إزهاقٌ لروح أخرى إضافة للروح التي  أزهقها، وبالتالي نكون قد زدنا في  الدماء المسفوكة.  

لم يدرِك صاحب هذا القول أن القصاص من القاتل بعقوبة رادعة سيؤدي إلى الحفاظ على أرواح عشرات الناس الآخرين وذلك عندما نردع غيره عن التفكير بالقتل، فقد أثبتت عقوبة السجن بأنها لم تستطع أن تشكل رادعاً للمجرمين عن الجرائم. 

من ناحية أخرى فإن فكرة السجون بحد ذاتها فكرة خطيرة على المجتمع، فالسجن مركز تجميع للمجرمين، على اختلاف جرائمهم، واجتماع هؤلاء المجرمين سوف يسهم في تبادل الخبرات الإجرامية وتلاقي العقليات العنيفة، وسوف يحول السجن إلى مركز لتجنيدهم وتعليمهم، ولو كان السجن يقوم بدوره الموهوم في التهذيب والردع لرأينا الخارجين من السجن أبعد الناس عن ارتكاب الجرائم والجنايات، بينما نرى عكس ذلك تماماً فأغلب الخارجين من السجون يعودون إليها بجرائم جديدة أكبر وأخطر، وقد تعلموا حروفها الأولى في لقائهم مع المجرمين الآخرين في السجن. 

وعليه فإن منظومة العقوبات الحديثة تسهم في زيادة الجريمة في المجتمع، وتعزز فكرة المجتمع غير الآمن، بينما يُشكل تشريع الحدود والعقوبات في الإسلام نظاماً رادعاً للمجرمين ومانعاً للجريمة، وحامياً لاستقرار المجتمع وأمانه، والواقع والتاريخ شاهد عدل على هذا. 

ومما سبق نستطيع أن ندرك أنَّ القسوة المنضبطة في حقيقتها رحمةٌ للفرد والمجتمع، وأنَّ على الإنسانية الوثوق بهذا التشريع العظيم إما عبوديةً لخالق الإنسان، وإما تحقيقاً للمصلحة، أو لكليهما معاً. 

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *