الحضارة_المعاصرة

العقوبات الشرعية لا تناسب الحضارة المعاصرة

Loading

أنّ من يطعن بالإسلام ويحاول تشويهه هم الذين صنعوا الحروب، واحتلّوا البلاد، واختلقوا حججًا واهية وأكاذيب مفضوحة لتبرير جرائمهم في الاستيلاء على الثروات، وقتلوا الأبرياء

يطرح بعضهم إشكالاً حول كون العقوبات في الإسلام قاسية، فهي تنافي الحرّيّة الشخصيّة، ولا تصلح للطبيعة البشريّة اليوم التي أصبحت أكثر لطفاً ورقّة ونظاماً ودبلوماسيّة.

وقبل البدء بالجواب نقول:

– إذا كان المعترض ينكر على الإسلام تحريم الرذائل، ويرى أنّه يتنافى مع الحرية وانفتاح العصر، فإنّ هذا المقال لا يخصّه؛ لعدم الاتفاق على المسلّمات ونقطة الانطلاق، ومن العبث الحوار في هذه الجزئية وهو ينكر أصل تشريع العقوبات المتعلّقة بالرذائل، ويقتنع بالقوانين التي تقرّ بالتحلل والتحرّر.
إنّما الحوار مع من يقبّح الرذائل، ويستحسن الفضائل؛ لكنّه يرى أنّ العقوبات في الإسلام لا تصلح للطبيعة البشريّة اليوم التي أصبحت أكثر لطفاً ورقّة ونظاماً ودبلوماسيّة.

وإليك الجواب على هذا الإشكال:

أولاً: إذا قارنّا بين المصلحة العامّة للمجتمع ومصلحة المجرمين الخاصّة، فإنّ تقديم المصلحة العامّة أولى، وحفظ الأمن العامّ وصيانة النفس والعرض والمال مقدّم على الفساد وانتشار الجريمة والرذيلة والشفقة على المجرمين.

ولماذا يجعل المعترضون أنفسهم في صفّ المجرمين، وأهل الرذائل، ويطعنون بالدين، أليس الأجدر بهم أن يجعلوا أنفسهم في موقع الأغلبية العظمى من الشعب الذين يرغبون بمجتمع طاهر ينعم بالأمان على الأنفس والأعراض والأموال؟!

وإذا قارنّا بين أثر العقوبات الشرعيّة في الماضي والعقوبات القانونيّة اليوم، نجد أنّ العقوبات الشرعية قد حسمت الفساد، وجعلت المجتمع آمناً مطمئنّاً، وأمّا العقوبات القانونيّة اليوم فقد وقفت مع المجرم فزادت نسبة الجرائم وانتشرت الرذائل، ممّا أخلّ بالأمن العامّ. 

ثانياً: وضع الشرع شروطاً لإقامة الحدّ تكاد تكون مستحيلة، فيغدو هذا الحدّ تخويفاً وزجراً أكثر من كونه عقوبة، ولا تتحقق شروطه إلا إذا تحوّل الأمر من نزوة نفسيّة إلى تحدٍّ للحياء وللآداب العامّة، وأعلن الرذيلة أمام الملأ جهاراً نهاراً، وأراد نشرها في المجتمع العامّ، فحينئذٍ يكون قد حقّق شروط الحدّ بإرادته وإظهاره للفاحشة، لذا لا يقام حدّ الزنا إلّا أن يشهد أربعة رجال عدول صادقين بأنّهم رأوا الذنب بأعينهم صراحة، و حتى لو رأى الشهود رجلاً وامرأة أغلقا على أنفسهما الباب فإن قولهم يردُّ، بل إذا شهد الشهود في هذه الحالة أنَّ الرجل والمرأة قد فعلا الفاحشة فسيحكم بجلدهم حدّ القذف، لأنّهم اتّهموهما دون أن يروا الفعل بأمّ أعينهم، وهل يقوم الزاني بفعلته أمام أربعة رجال؟! 

ثالثاً: العقوبات في الإسلام زواجر وروادع وليست نكاية، والشرع لم يتشوّف إلى العقوبة، وإنّما يقصد درأها عن الجاني بأيّ وسيلة كانت، لذا رغّب النبي صلى الله عليه وسلم المجنيّ عليه بالعفو، وألا يرفع أمره إلى الإمام؛ لأنّه إذا وصل إلى الإمام وجبت إقامة الحد للحقّ العامّ، فقال صلى الله عليه وسلم: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حدّ فقد وجب» [أبو داود والنسائي] وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفع الحدّ وعدم إقامته بأيّ شبهة، فقال: «ادْفَعُوا الْحُدُودَ مَا وَجَدْتُمْ لَهُ مَدْفَعًا» [ابن ماجه].

 وروي عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وغيرهم من الصحابة «درء الحدود بالشبهات» [السنن الصغير للبيهقي (3/ 302)] فصار درء الحدود بالشبهات أصلاً عامّاً في باب العقوبات.

ولا يُستحبّ في حقّ من يملك البيّنة أو الشهادة أن يرفع هذا الأمر إلى القضاء، ولا أن يقرّ من ارتكب شيئاً من ذلك على نفسه بهذا الفعل، وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم، بل صرّح به النبي فقد أخرج الإمام مالك: أنّ رجلاً من أسلم جاء إلى أبي بكر الصديق، فقال له : إنه زنى، فقال له أبو بكر، هل ذكرت هذا لأحد غيري؟ فقال، لا، فقال له أبو بكر: فتب إلى الله، واستتر بستر الله، فإنّ الله يقبل التوبة عن عباده، فلم تقرّره نفسه، حتى أتى عمر بن الخطاب، فقال له مثل ما قال لأبي بكر، فقال له عمر مثل ما قال له أبو بكر، فلم تقرّره نفسه، حتى جاء إلى رسول الله، فقال له : إنّه زنى، فأعرضَ عنه رسول الله ثلاث مرّات، كل ذلك يعرض عنه رسول الله » [الموطأ: (1594)]. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه لكي ينصرف ويتراجع عن اعترافه، لكنّه أصرّ على الاعتراف بذنبه.

وكان إقراره بإشارة من عمّه هزال، حيث قال : «انطلق فأخبِرْ رسول الله فعسى أن ينزل فيك قرآن»، فانطلق، فأخبره، فرُجم، وعندما شعر بالألم أراد أن يهرب، فلحقوه وصرعوه، وعندما ذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، لم يوافقهم على ذلك، وقال لهم (ألا تركتموه)، ثمّ عنّف هزال الذي أمره أن يعترف أمام النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث (فلمّا مسته الحجارة خرج يشتدّ وخرج عبد الله بن أُنَيس من نادي قومه بوظيف حمار فضربه فصرعه، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فحدّثه بأمره فقال: «ألا تركتموه لعله يتوب، فيتوب الله عليه» ثم قال: «يا هزال لو سترته بثوبك كان خيرًا لك» [النسائي الكبرى: (7234)]. (والوظيف هو عظم الساق أو الذراع)

وعلاوة على ذلك: يستحبّ تلقين السارق إذا أقرّ بالسرقة أن يتراجع عن إقراره، والزاني كذلك، كما ورد عن أبي أميّة المخزومي، أن النبي صلى الله عليه وسلم، أُتِي بلصّ قد اعترف اعترافاً ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما إخالك سرقت» [أبو داود: (4380)، النسائي: (4877)] أي: ما أظنّك سرقت، ليتراجع عن إقراره، وكذلك أُتِي عمر بن الخطاب برجل فسأله: (أسرقتَ؟ قل: لا) , فقال: لا , (فتركه ولم يقطعه) [مصنف عبد الرزاق: (18920)]

قال عطاء: كان من مضى يؤتى أحدُهم بالسارق, فيقول: أسرقتَ؟ قل: لا, أسرقتَ؟ قل: لا (علمي أنه سمى أبا بكر, وعمر، وأخبرني أن عليّاً أتي بسارقَين معهما سرقتهما, فخرج فضرب الناس بالدرّة, حتى تفرّقوا عنهما, ولم يدْعُ بهما، ولم يسأل عنهما) [مصنف عبد الرزاق: (18919)] أي تركهما وجعلهما ينصرفان عنه ولم يُقِم الحدّ عليهما.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحزن حزناً شديداً إذا أقيم الحدّ، ويأمر ذوي الحقوق ألّا يرفعوا إليه الأمر، وأن يصطلحوا فيما بينهم؛ كي يدرأ عن الجاني الحدّ، كما جاء في الحديث: (إنّ أول رجل قُطع في الإسلام – أو من المسلمين – رجل أتي به النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: يا رسول الله، إن هذا سرق، فكأنّما أَسِف وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رمادًا [أي حزن حزناً شديداً]، فقال بعضهم: يا رسول الله، ما لَكَ؟ فقال: «وما يمنعني؟ وأنتم أعوان الشيطان على صاحبكم، والله عز وجل عفوّ يحب العفو، ولا ينبغي لوالي أمر أن يؤتى بحدّ إلا أقامه، ثم قرأ: )وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( [النور: 22]) [مسند أحمد: (4168)].

وممّا تقدّم نجد أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده درؤوا الحدود بأدنى شبهة، بل لقّنوا المعترف أن يتراجع عن اعترافه كي لا تقع عليه العقوبة؛ لأنّ الدين يقصد الستر والإصلاح ولا يقصد العقوبة أبداً، وهذه هي الحقيقة بخلاف ما ينشره أعداء الإسلام من أكاذيب وتشويه للشريعة بأنها جاءت بالقتل وقطع الأيدي وبثّ الرعب بين الناس.

على أنّ من يطعن بالإسلام ويحاول تشويهه هم الذين صنعوا الحروب، واحتلّوا البلاد، واختلقوا حججًا واهية وأكاذيب مفضوحة لتبرير جرائمهم في الاستيلاء على الثروات، وقتلوا الأبرياء، وخلّفوا الدمار والمآسي والمجاعات، وتفنّنوا في صناعة الأسلحة الفتاكة.

 وقد طرح أ. جفري لانغ إشكالية أنّ زماننا ألطف من زمان نزول القرآن، وأنّ العقوبات كانت قاسية ولا تتناسب مع هذا الزمن، فقال: (أنا لست مقتنعاً أنّ زماننا ألطف وأرقّ من الزمان الذي أُنزل فيه القرآن، فالقرن العشرون كان أكثر القرون عنفاً، ربّما يبدو العالم من زاوية ستارة الحرم الجامعي الآمنة والساكنة مكاناً رحيماً، ولكنّه لا يبدو كذلك من زوايا الشوارع الوضيعة في المدن الأمريكيّة الداخلية، أو إذا ما نظرنا إليه من أمكنة أخرى في العالم تواجه عنفاً متطرّفاً، وظلماً فادحاً، بصورة روتينية وكجزء من حياتها اليومية.

صحيح أنّ قليلاً من العقوبات القرآنية لا تنسجم مع المشاعر الغربية الحالية، ولكن ليست المشاعر الغربية الحالية هي المعيار الموضوع الذي تقاس به إنسانية النظام الاجتماعي إجمالاً…فإذا أمكن سنّ قانون مثلاً يلغي الجريمة كلّيّاً، ولا يسبب أيّ متاعب أو معاناة للمواطنين، فسيكون أفضل قانون ممكن، بغضّ النظر عن نظام العقوبة فيه) [ضياع ديني: (ص:79)]

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *