الظلم حتى في ميراثها 2
يصدر هذا السؤال غالباً من المعترضين على أحكام الشريعة الإسلاميَّة، ليقولوا: إنَّ الإسلام قد انتقص من شأن المرأة, ونظر إليها نظرةً دونيَّةً إذ جعل ميراثها نصف ميراث الرجل, ولو أنَّه احترمها حقَّاً لجعلها ترث كالرَّجل تماماً, ولساوى بينهما…
ويمكننا صياغة الاعتراض بشكلٍ مبسَّطٍ كما يلي:
(ينتقص الإسلام المرأة, ويجعلها أقلَّ من الرَّجل بدليل أنَّه يجعلها ترث نصف ما يرثه الرجل)
للإجابة على هذا الاعتراض يمكن تقسيم المبحث إلى أربعة تساؤلاتٍ فرعيَّة:
هل جزَّأ الإسلام نظرته إلى الكرامة الإنسانية على أساس الجنس؟
- هل ترث المرأة نصف الرجل حقاً؟
- ما هو البديل؟
- هل يأتي الفرع قبل الأصل؟
وقد تقدَّمت الإجابة عن التساؤلين الأوَّلَين في الجزء الأول من المقال. (انظر مقال: هل ترث المرأة نصف الرجل– الجزء الأول) وخصص هذا الجزء للإجابة عن التساؤلين الأخيرين: ما هو البديل؟ وهل يأتي الفرع قبل الأصل؟
النقطة الثالثة: ما هو البديل؟
قد يجادل البعض في نظرة الإسلام إلى مفهوم الأدوار الموكَّل بها كلٌّ من الرجل والمرأة، وطبيعة المسؤوليات المترتِّبة على كلٍّ منهما, فيقول:
“أنا لا أسلّم بأنَّ على الرجل أن ينفق على المرأة؛ بل على كلٍّ من الرجل والمرأة أن يعملا، فلا تنتظر المرأة مالاً من أحد، بل هي مستقلَّةٌ بذاتها تعمل لنفسها. وبالتالي فإنَّ مفهوم: (الواجبات الماليَّة على الرجل) قد سقط فلا يجب على الرجل أن ينفق على المرأة, ولا أن يرث أكثر منها، فأنا أوافق على جعلها تصرف على نفسها, ولكن اجعلها ترث كالرجل”.
وينتقل النقاش في هذه الحالة من ادِّعاء ظلم المرأة والانتقاص منها بسبب الميراث، إلى نقاش طبيعة المسؤوليّات المترتِّبة عليها, وهذا مبحثٌ آخر يمكن الإجابة عنه باختصارٍ بعد فهم الأساس الذي ظهرت منه هذه الإشكاليَّة.
نشأت فكرة المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة بعد استفحال النظرة الفردية في الغرب، حيث بات ينظر إلى الفرد من حيث إنتاجه المادي دون اعتبار أيِّ دورٍ للمسؤوليَّات النفسية والعاطفية والاجتماعية الأخرى. وسقطت مفاهيم اجتماعيَّة مثل الأمومة والحضانة؛ وأصبح على المرأة في هذا المجتمع أن تعمل كي تستطيع أن تأكل وتشرب, وإلا فهي لا تستحقُّ العيش، فمن لا يعمل لا يأكل! ومن أراد أن يستهلك من موارد البلاد عليه أن يجتهد حتى يحقَّ له الاستمتاع بها.
وتزداد هذه النظرة قسوةً كلَّما ازدادت البلاد في رأسماليتها.
فلا تسمح قوانين العمل للمرأة في الولايات المتحدة الأمريكية بأخذ إجازةٍ مأجورةٍ في فترة الحضانة الأولى (أو ما يعرف بإجازة الأمومة) فهي كالرجل تماماً, لا يحقُّ لها أن تزيد عليه في شيء، وفي بعض الحالات قد تضطر المرأة لأن تعمل أعمالاً شاقَّةً لا تراعي أنوثتها: كالعمل في المناجم أو قيادة الشاحنات والعربات الكبيرة في سبيل تحصيل لقمة عيشها بكرامة.
لذلك فإنَّ من يعترض على توزيع المسؤوليات بما يتوافق مع الطبيعة البشرية لكلٍّ من الرجل والمرأة، لا يدرك حجم الضرر الذي تسبَّب به النموذج الغربي الماديُّ المغرق في الأنانية والفردية، حيث لا مراعاة للقضايا الأسريَّة والاجتماعية. ولا يدرك أنَّ الفلسفة الفردية التي قامت عليها هذه المفاهيم لا تصلح لخلق بيئةٍ ملائمةٍ يعيش فيها الإنسان بطمأنينة، وأنَّ البديل المعروض هو بديلٌ مخيفٌ يحوِّل حياة الإنسان من عِشرةٍ بالمعروف إلى نظرةٍ تُقدِّس الفرد بشكلٍ مطلقٍ، حيث يمكن للإنسان أن يحرم أولاده من ماله بعد وفاته وأن يوصي به لغريبٍ أو عابر سبيل، وربَّما أوصى بكامل ثروته لكلبه الوفي أو قطَّته المدلَّلة ليترك ورثته الحقيقيين عالةً على الناس.
أمَّا أحكام الشريعة فهي ثمرةٌ لمنظومة قيمٍ تتوافق مع الفطرة الإنسانية، ترتقي بالفرد من الأنانيَّة والاستئثار إلى التضحية والبذل والعطاء، فيضحِّي كلٌّ من الرَّجل والمرأة في سبيل الأسرة، فينفق الرَّجل ماله في سبيل معيشةٍ كريمةٍ لزوجته وأولاده، وتنفق المرأة جهدها ووقتها في سبيل سكينة وطمأنينة زوجها وأولادها؛ فيعيش الإنسان بمودَّةٍ ورحمةٍ بعيداً عن قسوة الفردية وجحيم الأنانية الغربية.
النقطة الرابعة: هل يأتي الفرع قبل الأصل؟
يعرف كلُّ من درس الإسلام أنَّ الأحكام الشرعيَّة قد نزلت في المدينة المنوَّرة، بعد سنواتٍ طويلةٍ من بناء العقيدة والإيمان في نفوس المسلمين.
ولمن يريد فطرةً نقيَّةً في قلبه، فليتدبَّر القرآن الكريم وليركِّز على الإشارات التي تزيد يقينه وإيمانه بالله وقرآنه ونبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم.
وبعد أن يبنى الإيمان يكون تسليم المؤمن بأحكام الله فرعاً بعد أصلٍ، وغصناً يتدلى من شجرة التوحيد التي وصفها الله بأنها:
﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ [سورة إبراهيم : 24 – 25]
لذلك فإنَّه لا تصلح مناقشة القضايا الفرعيَّة قبل الأصليَّة، وعندها يمكن لكلِّ من استعصت على فهمه حكمةٌ في كتاب الله أو سنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يردَّها إلى أصل إيمانه.
لذلك نقول إنَّ تسليمنا لحكم الله, واستسلامنا لتشريعه يأتي فرعاً عن أصل تسليمنا بالقرآن وحياً منزلاً من عند الله تعالى.
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ [سورة الأحزاب : 36]
﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [سورة النساء : 65]
ينبغي التنبُّه إلى أنَّ هذه الآيات لا تعني تحريم سؤال المؤمن عن حكمةٍ خفيت عنه وأرّقت باله، خاصَّةً وأنَّنا في زمنٍ انتشرت فيه الشُّبهات، فصارت باباً من أبواب الشَّكِّ في الإسلام، وحال السَّائل يقول: لا أثق بالإسلام مرَّةً أخرى حتَّى اقتنع، وإنَّ هذه الشُّبهة قد شكَّكت في أصل إيماني بالقرآن فكيف تطلب أن أردَّها إلى إيماني بالقرآن؟
وهنا لا بدَّ أن يعثر المتشكِّك على إجابةٍ تشفي قلبه، وإنَّ تمام العقل والمنطق يفرض أن يجيب عن الشُّبهة التي سبَّبت شكَّه في القرآن قبل أن يطالب بالإيمان بما جاء به القرآن.
ولكن بعد أن يجاب عن كلِّ الشُّبهات وتستقرَّ العقيدة في النفوس، لا يمكن للمؤمن إلا أن يسلِّم بما جاء به الوحي، ولا يحقُّ له أن يعترض على حكم الله إذ آمن أنَّ القرآن وحيٌ من عند الله! وإن وجد شيئاً خفيت عنه حكمته ردَّ ذلك إلى جهله وعلم الله.
وقد ترى من يقول إنَّه يؤمن بالله ربَّاً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً؛ ثمَّ يجادل في حكم الله معتقداً أنَّه لا يصلح لهذا الزمان، مع إيمانه بأنَّ القرآن آخر الكتب السماويَّة المنزلة من عند الله. فهل كان الله جاهلاً بما سيحدث وكان عليه أن ينزِّل كتاباً آخر؟ أم إنَّه كان يعلم ما ستؤول إليه السنوات وأنزل كتاباً لا يصلح؟
﴿أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [سورة النور : 50]
﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [سورة التوبة : 44 – 45]
ومثل هؤلاء يخاطبون بمثل الآيات السابقة، وهي آياتٌ مدنيَّةٌ نزلت في المؤمنين, ونلاحظ أنَّها آياتٌ شديدةٌ؛ فهي تعزو المؤمنين إلى إيمانهم، فكيف يعترضون على حكم الله بعد إيمانهم أنَّه من عند الله!
أمَّا من كان الإيمان يتردَّد في قلبه فليترك النقاش في الجزئيات -التي لا حصر لها- ولينصرف إلى الكلّيات؛ إلّا إذا وجد شبهةً شكَّكته في أصل الإيمان, فهذا لا بدَّ وأن يجاب على سؤاله قبل أن يطالب بالإيمان.
وفي الختام..
الإنسان هو المخلوق المكرَّم من الله، ولا سبيل لانتقاص كرامته تحت أيِّ ظرفٍ؛ وإنَّ هذه الكرامة واحدةٌ لا تتجزَّأ على أساس الجنس أو اللون. لذلك فإنَّ قسمة الميراث كانت وفقاً لمعيارين موضوعيَّين لا محاباة فيهما لأحدٍ على حساب أحد. وإنَّ البديل الذي يطرحه من يعترض على أحكام الإسلام أوصل المجتمعات غير الإسلامية إلى التفريط في حقوق الأسرة والمجتمع، لذلك فإنَّ من آمن بالإسلام ديناً من عند الله, وبالقرآن كتاباً ووحياً ورسالةً خاتمةً لا يمكن له أن يعترض على شيءٍ من حكم الله. أمَّا من شكَّ في أصل الدين فيُجاب عن شكوكه وشبهاته إلى أن يوقن أنَّ الله الخالق قد شرَّع للإنسان ما فيه سعادته في الدنيا والآخرة.
والحمد لله ربِّ العالمين
المراجع:
- لقد تطرق إلى هذه الحالات بإسهاب كبير الدكتور صلاح الدين سلطان في كتابه “ميراث المرأة وقضية المساواة” من الصفحة 32 إلى الصفحة 41،
- إتحاف الكرام بمائة وأربعين حالة ترث المرأة فيها أضعاف الرجل في الإسلام – علي محمد شوقي
- أكذوبة أن ميراث الرجل ضعف ميراث المرأة.. محمد عمارة : فيديو: https://youtu.be/fkd3mcwp4nU
- هل ظلم الإسلام المرأة في الميراث؟ فيديو: https://youtu.be/NwdWW3VlrUM
No comment yet, add your voice below!