الحاكم والحدود -مستطيل-

حين يسرق السارق، أو يزنى الزاني، أو يشرب شاربٌ الخمر، فقد خالف أمر الله وحكمه، ولكن هل هذا الخروج عن حكم الله وأمره يفضي بصاحبه إلى الكفر؟

لقد اتفق أهل الحقّ من المسلمين على أنّ مرتكب المعصية لا يكفر، قال الطحاوي: (إنّ أهل السنة متفقون كلّهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملّة) [شرح الطحاوية: (ص: 301)]

وإنّما الذين كفّروا المسلمين بالمعصية هم الخوارج ومن وافقهم، قال الشاطبي عنهم: (وأشهر بدعهم هو تكفير مرتكب الكبيرة) [الاعتصام: (3/ 358)].

وإذا اتفقنا على أن السرقة والزنا وشرب الخمر خروج عن حكم الله، وأنّ علماء السنة اتفقوا على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر ولا يخرج عن الإسلام بمجرّد المعصية، مع إثمها العظيم، وخطرها الجسيم، نقول:

إذا جئنا  بالسارق و الزاني وشارب الخمر إلى القاضي، فلم يقطع يد السارق، ولم يُقِم الحد على الزاني وشارب الخمر، فما حكم هذا القاضي الذي عطّل حدود الله؟

فإن قيل: إنه يكفَّر لأنه لم يحكم بما أمر الله، يقال لهم: ألم يجترئ السارق والزاني وشارب الخمر على حدود الله  ومخالفة حكمه، وقد اتفق أهل الحقّ من المسلمين أنّ السارق والزاني والشارب لم يكفروا بهذا الفعل، فلماذا لا يكفر الجاني الذي اجترأ على حدود الله، ويكفر من لم يعاقبه، وكلاهما خرجا عن حكم الله؟! 

فإن قيل: إنّ ما فعله السارق والزاني معصية، وأما ما فعله الحاكم فإنّه جعل نفسه ندّاً لله تعالى، وحكم عليهما بغير الحكم الذي أمر الله به، وبهذا قد كفر.

فنقول لهم: وما أدراك أنّ الحاكم جعل نفسه ندّاً لله عندما عطّل إقامة الحدّ؟ ولماذا لا تحكم على السارق والزاني والشارب بأنّهم فعلوا ذلك تحدّياً لدين الله مستحلّين لمعصيته ؟

فإن قيل: ما دام العصاة مسلمين لا نحكم بأنهم فعلوا المعصية استحلالاً لها وتحدّياً للدين، وإنما فعلوها وهم مقرّون بالخطأ؛ لأنّ الظاهر أن المسلم لا يفعل المعصية استحلالاً لها ولا تحدّياً لدين الله، لذا فلا يكفر بفعلها.

فنقول لهم: وكذلك الحاكم إذا كان مسلماً ولم يُقِم الحدود فلماذا نحكم بكفره، ونحمل تعطيله للحدّ على أنّه جعل نفسه ندّاً ومشرّعاً من دون الله؟! فكما أن الظاهر من مرتكب الكبيرة أنّه لم يفعلها استحلالاً لها وتحدّياً للدين، فكذلك الحاكم المسلم لم يعطّل الحدّ لكونه جعل نفسه مشرّعاً من دون الله، بل يحكم عليه بأنّه مقرّ بأنّ شرع الله هو الأصل، ولا شكّ أنّه عاصٍ مذنب بترك إقامة الحدود؛ لكنه لا يكفر، ، وإن الشرع قد درأ شُبَة التكفير عن المسلمين؛ لأنّ أصل عقدة الإسلام ثابتة له بيقين، ولا يخرج منها إلا بيقين.

والأدلة على ذلك في السنة النبويّة كثيرة، منها:

 أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالسمع والطاعة لوليّ الأمر، ونهى عن الخروج عليه مهما كان، إلا إذا ظهر منه كفر صريح بواح بدليل قطعي لا خلاف فيه، كما روى عبادة بن الصامت قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعَناه، فقال فيما أخذ علينا: «أن بايعَنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثَرَة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحاً، عندكم من الله فيه برهان» [متفق عليه].

فقد أكّد النبيّ صلى الله عليه وسلم صفة الكفر التي تبيح منازعة ذلك الحاكم بأنه كفر ظاهر بواح، مع الأدلة والبراهين الساطعة التي لا تقبل الشك أبداً بأنه فعل شيئاً مكفّراً.

 وإنّ عدم إقامة الحدود ليست كفراً بواحاً باتفاق أهل الحق من المسلمين، بل جاء في حديث آخر: عن عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلّون عليكم وتصلّون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم»، قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يداً من طاعة» [صحيح مسلم (3/ 1481)]

فعندما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأئمة بصفات السوء والجور نهى عن الخروج عليهم إذا أقيمت الصلاة بالبلاد، ولم يقل: إن جَور الحكام كفر لأنّ الله يأمر بالعدل، وهم يجعلون أنفسهم أنداداً لله، ويخالفون حكمه، ويظلمون العباد، وإنما اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم من الحكام بإقامة الصلاة في البلاد لمنع الخروج عليهم، ويلزم من ذلك أنه حكم بإسلامهم مع سوء الصفات التي ذكرها فيهم؛ لأنّ الكفر الصريح البواح يجيز الخروج عليهم، وعندما نهى عن الخروج عليهم دلّ ذلك على إسلامهم، ثمّ أكّد مرّة أخرى الأمر بطاعتهم في قوله: «وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يداً من طاعة».

قال ابن البطال: (والذى عليه جمهور الأمة أنه لا يجب القيام عليهم، ولا خلعهم إلا بكفرهم بعد الإيمان، وتركهم إقامة الصلوات، وأما دون ذلك من الجور فلا يجوز الخروج عليهم إذا استوطأ أمرُهم وأمْرُ الناس معهم؛ لأن في ترك الخروج عليهم تحصين الفروج والأموال وحقن الدماء، وفى القيام عليهم تفرق الكلمة وتشتت الألفة.) [شرح صحيح البخاري لابن بطال: (5/ 126)]

ثمّ إذا نظرنا في الأحكام والقوانين، نجد أنّ الأحكام التي تجب إقامتها وفق الشريعة الإسلاميّة على الأفراد وجوباً محتّماً لا تخالف قوانين أي بلد إسلامي تطبق فيه أحكام الشريعة، كأحكام الزواج والطلاق والميراث،  وإقامة شعائر الإسلام كاملة من صلوات وجُمْعات، وتحرّي هلالي رمضان والعيد، وتنظيم أداء الحجّ، وإقامة التعليم الشرعي في المدارس والجامعات، وإتاحة الدروس الدينية في المساجد، وتحفيظ القرآن الكريم ونحو ذلك.

ولم يبق من الأحكام سوى العقوبات، والعقوبات نوعان: تعزيرية، وحدود وقصاص، أما العقوبات التعزيرية فهي موكولة إلى الحاكم، أي فسح الشرع للإمام والقاضي أن يختار العقوبة المناسبة، وهي كثيرة.

أما القصاص: فإن أكثر الدول تقيم القصاص على القاتل عمداً، مع أنّ الشريعة رغّبت بالعفو عنه، وأنّ عدم إقامته هو الأولى، ومن ثمّ فقد اتّفقت القوانين مع الشريعة في هذه الأحكام.

وبقي عدم تطبيق أحكام الشريعة عمليّاً في أضيق نطاق من القوانين، وهي إقامة الحدود، كقطع يد السارق، وإقامة الحدّ على الزاني والمرتد، وإنّ عدم إقامة هذه الأحكام لا تؤدّي إلى الكفر في الظاهر كما يُظَنُّ ، ما دامت شعائر الإسلام قائمة .

على أنّ الشريعة تريد دائماً دفع هذه الحدود بأدنى شبهة، حتى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا إذا جاءهم سارق اعترف بالسرقة يلقّنونه ليتراجع عن قوله كي لا يقام عليه الحدّ.

ومن ثمّ نجد أنّ هذه الجزئيّة الصغيرة المبنيّة على الدرء بأدنى شبهة قد ضُخّمت كثيراً من قِبل المتطرّفين، ومن قِبَل أعداء الدين، حتّى اختزلوا معنى (الحُكم بالشريعة الإسلاميّة)، بقطع يد السارق، وجلد الزاني، وقتل المرتدّ، ورسّخوا ذلك عند الناس لتشويه صورة الدين، فغيّبوا المعاني السامية التي جاء بها الإسلام.

 ولم يعدّ المتطرّفون إقامة أحكام الشريعة من صلاة، وشعائر، ونكاح، وطلاق، وميراث، وإقامة التدريس الديني، والتعليم الشرعي، وتحفيظ القرآن الكريم، والسنّة النبويّة، ونحوها، لم يعدّوها إقامة لحكم الله، وحكموا على الدول المدنية بأنّها كافرة، ونظروا فقط إلى عدم قطع يد السارق ورجم الزاني وقتل المرتدّ.

لذا كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يرى الخوارج شرار خلق الله؛ لأنهم سلكوا مسلك التكفير، وقال: «إنهم انطلقوا إلى آياتٍ نزلت في الكفّار، فجعلوها على المؤمنين» [صحيح البخاري (9/ 16)].   

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *