التطرف اللاديني

التطرف اللاديني غذاء يتقوى به التطرف الديني

التطرف اللاديني غذاء يتقوى به التطرف الديني

يعتمد انتشار أيِّ فكرٍ متطرِّفٍ وازدياده على وجود فكرٍ أو مجموعة أفكارٍ متطرِّفةٍ مُعاكسةٍ له، فظهور التطرُّف الديني يزداد عند وجود تيَّاراتٍ متطرِّفةٍ لا دينية، بحيث يجعل الكثير من أبناء المجتمع المتأثِّرين بردَّة الفعل العاطفية يتبنَّون فكراً دينياً متطرِّفاً كردِّ فعلٍ على التطرُّف اللاديني، فالأفكار المتطرِّفة تفقد أحد أهمِّ أسباب قدرتها على الاستمرار إذا اختفت الأفكار المتطرِّفة المعاكسة لها.

لذلك فمن الضروري لأيِّ فكرٍ متطرِّفٍ دينيٍ وجود فكرٍ لا دينيٍّ متطرِّفٍ يُعطيه الشرعية، والدافع الوجدانيَّ لوجوده، وبهذا تبقى الوسطية عند الجميع هي الضمان لمواجهة الأفكار المتطرِّفة.

 ففي المجتمعات المتنوِّعة فكرياً، يحتاج الوسطيون إلى بعضهم على اختلافاتهم وتنوُّعهم لضمان استقرار المجتمع على المنهج الوسطي، كذلك يحتاج المتطرِّفون على اختلافاتهم وتنوعهم إلى بعضهم لترسيخ فكرة الخوف من الآخر التي يقتات عليها الفكر المتطرِّف لضمان قوَّته وتشريع وجوده.

يبدو هذا جلياً في أغلب المجتمعات التي ظهر فيها التطرُّف الدينيُّ، كالحالة الأفغانية، حيث تحوّلت أفغانستان سابقاً إلى قبلةٍ للتنظيمات الدينية المتطرِّفة، ومن ثمَّ حاضنةٍ لها، وذلك بسبب وجود تطرُّفٍ إلحاديٍّ في مرحلةٍ من مراحلها، مدعومٍ من الفكر الشيوعيّ المتطرّف في نظرته وعدائه للدين، بل إنَّنا نجد هذا جلياً في أغلب الجمهوريات ذات الغالبية المسلمة التي كانت تخضع للهيمنة السوفيتية في مرحلة تطرُّفها، حيث كانت تحارب أيَّ مظهرٍ من مظاهر الدين، وتمنع التعليم الديني، وتغلق المساجد، فكان من نتيجة هذا الأسلوب المتطرِّف في التعامل مع التدين أن أصبح أكثر تعداد الأفراد في التنظيمات المتطرفة التي نشأت فيما بعد قادماً من تلك الجمهوريات.

في دراسةٍ منشورة ([1]) عن أعداد مقاتلي ما يُسمّى التنظيمات المتطرّفة، والذي تنامى خلال فترة ما يُسمّى “الربيع العربي” يظهر أنَّ من الدول العربية الأكثر تصديراً لهؤلاء المقاتلين كانت تونس، وهذا الأمر من شأنه أن يثير الانتباه والتساؤلات، فجمهورية تونس قبل فترة إفرازات الأزمات المتلاحقة كانت تتبع سياسةً متشدِّدةً في التعامل مع الدين، مشابهةً إلى حدٍّ كبيرٍ لسياسة مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، حيث لم تكتفِ بما يُسمّى “تجفيف المنابع” بل تمادت أكثر من ذلك إلى التطاول على الثوابت. ([2])

فوجد الفكر المتطرِّف الفرصة لتقديم نفسه إلى المجتمع بوصفه مدافعاً عن الدين ومنقذاً له، ولم يستطع المجتمع سماع الخطاب الديني الوسطي لعلوِّ صوت التطرُّف أمامه.

ولأنَّ المجتمعات الإسلامية مجتمعاتٌ عاطفيةٌ استطاع الفكر المتطرّف أن يجد لنفسه حاضنةً تدفعها عاطفة الخوف من الإقصاء والإلغاء وذلك عبر المساس بالثوابت والالتجاء نحو التطرّف المعاكس الذي يملك القدرة وطريقة الخطاب التي تلبّي خوفه.

ساهمت إجراءات التطرُّف اللاديني في تراجع  إقبال الناس على المساجد في كثيرٍ من الدول، وبالتالي ازدياد جهلهم بوسطية الدين وسماحته

وفي العراق، ورغم وجود نظامٍ علمانيٍّ يحكم البلاد لعقود إلَّا أنَّنا لم نر تنظيماتٍ متطرِّفة تخرج من أبنائه إلَّا بعد دخول التطرُّف الليبرالي الأمريكي الهمجي إلى العراق واحتلاله، وكذلك فعل التدخُّل الأمريكيُّ المتطرِّف في أفغانستان حيث ساهم في تعزيز وجود التطرُّف فيها وتنميته، فضلاً عن دعمه له.

   إذن يبقى التطرُّف دفيناً في أيِّ مجتمعٍ حتَّى يأتي تطرُّفٌ مُعاكسٌ له فيعطيه أسباب الظهور، وبقدر قوَّة التطرُّف اللاديني وسطوته فإنَّه سينتج تطرُّفاً دينياً أكثر قوَّةً وسطوةً أيضاً.

وأهمُّ سببٍ يعتمد عليه التطرُّف الدينيُّ في تبرير وجوده وتعزيز شرعيته هو مواجهة التطرُّف اللاديني بالاعتماد على استغلال العاطفة الدينية، والخوف من طمس الهوية.

يبقى التطرُّف دفيناً في أيِّ مجتمعٍ حتَّى يأتي تطرُّفٌ معاكسٌ له فيعطيه أسباب الظهور

وقد أثبتت التجارب أنَّ أنجح الوسائل لشلِّ قدرة التنظيمات المتطرِّفة دينياً على الانتشار والجذب يكون في أمرين:

1- منع أيِّ شكلٍ من أشكال التطرُّف اللاديني من الدخول أو التأثير في المجتمع، والحرص على الحفاظ على وسطية الطرح اللاديني في الإعلام، وعدم اجترائه على الثوابت.

2- تعزيز وجود الفكر الوسطي المعتدل المنبثق من الثوابت الدينية لا المصنوع في مراكز الأبحاث، ومؤسسات صناعة الرأي العام، حيث يُعتبر الأقدرَ على ردِّ شبهات التطرف وكسر هيمنة خطابه العاطفي.

ولعل مقولة الرئيس بشار الأسد: “هناك فئتان تتحدَّثان بالطائفية اليوم، الأولى تدّعي العلمانية والثانية تدّعي التديُّن، وكلاهما جاهلٌ بالدين، والجهل بالدين هو الذي يؤدي إلى الطائفية” كافيةٌ للدَّلالة على اقتيات التطرُّف الديني والتطرُّف اللاديني على بعضهما، واشتراكهما بالنتائج رغم تباعدهما بالأفكار.


[1]https://www.europarl.europa.eu/EPRS/EPRS-Briefing-579080-Foreign-fighters-rev-FINAL.pdf

[2]https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?ID=753

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *