التحسين الوقائي والعلاجي من الشبهات

التحصين من الشبهات
أ. أدهم العاسمي

Loading

رحمته في الجهاد

تكلَّمنا سابقاً عن التَّحصين الوقائيِّ والعلاجيِّ من الشُّبُهات، وذكرنا أنَّ الفروق بينهما متعدِّدةٌ أهمُّها فرقان اثنان:

  1. الوقائيّ، يكون قبل وقوع الشُّبهة، أمَّا العلاجيّ فيكون بعدها.
  2. الوقائيّ، يكون علاجاً عامَّاً لكلِّ الشُّبُهات، أمَّا العلاجيُّ فيتعلَّق بشبهةٍ بعينها، والوقاية خيرٌ من العلاج، لذلك فإنَّ نقاطهما أكثر من نقاط العلاج كما سيتبيَّن لنا الآن.

وليُعلم أنَّ عالَمَنا يشهد اليوم تغيُّراتٍ كثيرةً وسريعةً، وهذه التَّغيُّرات تستهدف الشباب في عقولهم وأرواحهم، حيث صاروا يعانون من فراغٍ فكريٍّ وروحيٍّ أفضى بهم ليكونوا ضحيَّة صراعاتٍ وآلامٍ داخليَّةٍ، وصار لزاماً على الشباب الحريص أن يمتلك الدِّراية والمعرفة بكيفيَّة التعامل مع هذه الشبهات، وكيفية التحصين منها.

وقد صحَّ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حديثٌ جامعٌ في طريقة التَّعامل مع الشُّبُهات المالية، وهذا الحديث نفسه يصلح ميزاناً للتَّعامل مع الشُّبُهات الفكرية، وهو: ((الحلالُ بيِّنٌ والحرام بيِّنٌ، وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من النَّاس، فمن اتَّقى الشُّبُهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشُّبُهات وقع في الحرام…)) فقد بيّن لنا هذا الحديث ماهيَّة الشُّبهة، ومن هو الذي سيقع فيها، وسُبُلَ التَّخلُّص منها، ثمَّ ختمه بالحديث عن منبع حصانة الإنسان من الشُّبُهات ألا وهو القلب.

وبناءً على ما تقدَّم أبدأ الحديث عن الطريق الأول وهو: الطريق الوقائيُّ من خلال نقاطٍ كلِّيَّةٍ خمسة:

1- الاهتمام بالعلم الشرعيّ: فمن المعلوم أنَّ الشُّبُهات الفكريَّة مرتبطةٌ بالدِّين والشَّرع، وعلى قدر الوعي بعلوم الشريعة يكون التَّحصين، فكلَّما ازداد فهم الإنسان لدينه كانت حصانته أقوى، وضاقت عنده منافذ الشُّبُهات. وفي المقابل كلَّما نقص فهمه ووعيه للدِّين كان عرضةً لسهام الشُّبُهات، وعرضةً للغرق في أمواجها التي تستهدف أوَّلاً وبالذات الجاهلَ لا العالم، وكما يقول علماؤنا: (العلم في الرَّدِّ على الشُّبهة لا في اختراعها)، والردُّ والتحصين يحتاج إلى العلم.

2- القراءات المنظَّمة: فالقراءة العشوائية هي الأكثر انتشاراً بين الناس اليوم، خاصَّةً الشَّباب، وفي الأخص في عصرنا هذا عصر الإنترنت والمعلومات والرسائل الكثيفة مجهولة المصدر، وهذه المعلومات الفوضوية تولّد لدى قارئها إشكالاتٍ كثيرةً، لأنَّ منابع الشُّبُهات خارجيةٌ لا داخلية، أي أنَّ الشُّبُهات لا تنبع غالباً من ذات الإنسان بل من المعلومات الخارجية المشوِّشة للفكر، خاصَّةً إذا كان القارئ لا يرتكز على بناءٍ فكريٍّ رصين، وهذا هو الأغلب لدى من تهزُّهم الشُّبُهات، وقد قيل (ليس المهمُّ أن تقرأ بل المهمُّ أن تعرف ماذا تقرأ).

3- وضع الشُّبهة على موائد النقد عند أهل الاختصاص: لفحصها ونقدها حتَّى لا تتراكم ويصعب انتشالها.

فالسابق للعقل يصير ملكةً وقاعدةً للبناء الفكري كما يذكر العلّامة ابن خلدون، بمعنى أنَّ المعلومات الخاطئة تصير هي القاعدة التي ينطلق منها القارئ في تكوين معارفه وعقائده وتوجُّهاته، فإن كانت القاعدة هشَّةً كان البناء الفكريُّ والعقديُّ كذلك.

4- البعد عن مواطن الشُّبُهات: أي عدم التعرُّض لها، فالراعي حولها يوشك أن يقع فيها، فحذارِ من الفضول والتطفُّل على الأشياء الغريبة بهدف التعرُّف عليها دون وجود حصانةٍ فكريَّةٍ وخلفيَّةٍ علميَّة، ولنعلم أنَّ الذين يشيعون الشُّبُهات لا يريدون أجوبتها بل يريدون التشويش علينا، وقد أشار النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى خطر التعرُّض للشُّبُهات من خلال حديثه الذي رواه أبو داوود عن عمران بن حصين، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((من سمع بالدَّجَّال فَلْيَنْأَ عنه)) [سنن أبي داود]، أي: فليبتعد عنه ولا يحسّن الظنَّ بنفسه أنَّه لا يُفتن به، فالدَّجَّال يُثير الشُّبُهات من خلال ما يُعطى من قدرات والتَّعرُّض له خَطِرٌ جدَّاً، وكذلك مُطلق التعرُّض للشُّبُهات.

5- تقوية الصِّلة بالله: فضعف العبادة يؤدِّي إلى ضعف الإيمان، والشهوات باب الشُّبُهات، والمعاصي بريد الكفر، ولذلك بيّن لنا القرآن الكريم أنَّ إنكار البعث يتولَّد تارةً من الشُّبهة، وتارةً من الشَّهوة، حيث قال: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ[القيامة3]، ثمَّ قال بعد ذلك ﴿بّلْ يُرِيْدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ[القيامة5]، أي أنَّ الإنسان الذي يميل طبعه إلى الشهوات واللذات فإنَّ فكرة البعث والحشر تنغِّصها عليه، وبالتالي فالرَّاحة في إنكار هذا البعث، وقد قيل: (القلوب ضعيفةٌ والشُّبهةُ خطّافة).

 أمَّا الحديث عن الطريق الثاني وهو الطريق العلاجيُّ فيكون من خلال نقاطٍ أربع:

1- عدم التسرُّع في اتِّخاذ القرار حين الاقتناع بالشُّبهة: وبناء عليه عدمُ التسرُّع في إذاعة الشُّبهة، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي خاصَّة، فقد يظهر لك الخطأ فيما بعد، وبالتالي: يصعب التراجع عنه.

2- التمسُّك بالأصل: وهو الإيمان، فالعقل لا يترك ما هو عليه عند كل واردٍ يردُّ عليه وإلَّا ظلَّ طوال حياته منتقِّلاً من فكرة إلى أخرى بلا استقرار.

فنتمسَّك (بالأصل) وهو اليقين، ونطلب من العلماء رفع (العارض) وهو الإشكال والشُّبهة، قال تعالى: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوْهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُوْنَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرَاً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِيْنٌ[النور12].

قال أبو حيَّان الأندلسيّ: (فيه تنبيهٌ على أنَّ حَقَّ المؤمن إذا سمع قالةً في أخيه أن يبني الأمر فيه على ظنِّ الخير، وأن يقول بناءً على ظنِّه: هذا إفكٌ مُبين، هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه، كما يقول المستيقن المطَّلع على حقيقة الحال، وهذا من الأدب الحسن).

وإذا كنَّا نتمسَّك بالأصل وهو تحسين الظنّ بالمؤمن فكيف بالتعامل مع ربِّ العالمين سبحانه.

3- التجرُّد في طلب الحقِّ والتواضع له: فمن أعظم الحُجُب التي تحول بين الإنسان وبين معرفة الحقِّ حجاب الكبر والغرور، وهذا يقودنا إلى عدم الثقة بعقولنا ثقةً مُطلقةً، فالإنسان يُحابي نفسه ويتعاطف معها، وهذا التعاطف من موانع درك الحقيقة، وخوفاً من الكِبر والغرور لا أنصح صاحب شُبهةٍ أن يناقشها على الملأ فإنَّ الرجوع أمامهم إلى الحقِّ ثقيلٌ على النفس، فيعزُّ عليه الخضوع والتراجع عن موقفه المتبنِّي لتلك الشُّبُهات لأنَّه سيظهر بمظهر الضعيف المنهزم المتقهقر أمام الأخرين، وبالتالي يُصرُّ على موقفه، وينتقل الأمر من شُبهةٍ تُناقَش فكرياً إلى موقفٍ شخصيٍّ يمسُّ ذاته وجدانياً ونفسيَّاً.

 4- تعزيز اليقين: فاليقين الذي يجعلك تتمسَّك بعقيدتك على نوعين:

الأوَّل: اليقين الحاصل من الأدلَّة العقليَّة والفلسفيَّة، فوجود الله تعالى مثلاً له أدلَّةٌ متعدِّدة، لكنَّ هذا اليقين فيه عيبٌ وهو: عندما تأتيني شُبهةٌ ما عندي جوابٌ عنها فإنَّ يقيني يهتزُّ لأنَّ الجواب مبنيٌّ على برهان وهو غير موجودٍ عندي.                        

الثاني: اليقين الأقوى وهو الحاصل من العبادة، وأضرب مثالاً على ذلك: شخصٌ كُسرت يده فإنَّه يتألَّم ألماً شديداً، فإذا جبَّرها ورجعت إلى حالتها الطبيعية ثمَّ سألتَه: هل تتذكَّر ألم يدك عندما كسرت؟
يقول: نعم، لكن هناك فرقٌ بين ألم الكسر وألم تَذَكُّر الكسر، فالأوَّل: واقع الألم، والثاني: صورة الألم.

وكذلك ما نحن فيه: فإنَّ يقيني بالبرهان والأدلَّة الفلسفية هو صورة أدلَّةٍ على وجود الخالق، أمَّا يقيني الحاصل من العبادة فهو الدليل الواقعيُّ الحقيقيُّ لا الصوري، وهذا صعب التزلزل، (لذلك كان يقين العارفين أقوى من يقين الفلاسفة).

وختاماً، فهذا جهد المقلّ وقلم المقصّر، والله وليُّ التوفيق. 

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *