البخاري في ميزان العلم -مستطيلة-

يظهر بعضهم على القنوات التي تعرض الغثَّ والسَّمين، ويتكلَّمون بكلامٍ إنشائيٍّ لا يمتّ إلى العلم بِصِلة، يُفصحون فيه عن جهلهم المركّب، فينالون من الإمام البخاري وهم لا يدرون من هو البخاري.

فمرّة يصفونه بأنَّه جاهل، ومرَّةً يتّهمونه بالكذب على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليناقض القرآن الكريم، ويصوّرون للمستمعين أنّ المسلمين متعلّقون بشخصٍ اسمه: (البخاري) دون سبب، وأنَّهم يقدّمون أحاديثه على القرآن الكريم، ومستعدّون لتشويه الدِّين (كرمال عين البخاري) فيتخيّل المستمع أنّ البخاريَّ قد وضع (تِوَلة) خرزة، يسحر بها الناس ويستقطب محبَّتهم، ويخدعهم في دينهم، وهم منقادون له دون تفكير!  

وفي الحقيقة لا يتكلّم بهذا الهوَس والوهم ولا يتصوّر هذا التصوّر إلا جاهلٌ حاقد.

 فما الدَّاعي لأن  يُجلَّ المسلمون الإمام البخاري دون سبب؟

إنّهم يتكلّمون دون منطقٍ، ويصوّرون علماء المسلمين الذين يأخذون بحديث النبي صلى الله عليه وسلَّم بأنّهم أغبياء سطحيّون ذوو نظرةٍ ضيّقة.

 وفي الحقيقة إنّهم لا يقصدون البخاريَّ، وإنَّما يقصدون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم 

مع يقيننا بأنّ بعض الذين انتقدوا الإمام البخاري إذا قرؤوا هذا المقال لا يفهمون المصطلحات المتعلِّقة بعلم الحديث مع تيسير اللغة والعبارة؛ لأنَّهم لو شمّوا رائحة العلم لخجلوا أن يفضحوا أنفسهم ويُفصحوا عن جهلهم أمام الجماهير. والأدهى من ذلك أنّهم يروّجون هذا الوهم والجهل للبسطاء ويغرّرون بهم، فيصدّقونهم ويصفّقون لهم، ويشتمون الإمام البخاري وينالون منه.

وأَخالُك أيُّها القارئ الكريم ذا عقلٍ رشيدٍ، ورأيٍ سديدٍ، تبحث عن الحقيقة المجرّدة، وتسلك المنهجيَّة العلميَّة، وتروم معرفة الحقّ دون مبالغة، سواء من الموالِين أو المبغضين.  

ولنضع الإمام البخاري في ميزان العلم من خلال اجتهاده، ومؤلّفاته، واختباره، وشهادة علماء عصره له.

وبدايةً لا بُدَّ من التَّعريف بالإمام البخاريِّ: 

أوَّلاً: من هو البخاري؟

هو أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي، ولد في عام 194هـ في بخارى وتقع الآن في جمهورية أوزبكستان. كان أبوه من العلماء وعلى درجةٍ عاليةٍ من الصلاح والتقوى.

مات أبوه وهو صغير، ونشأ يتيماً في حجر أمّه، وكانت أمُّه أيضاً من الصالحات، فتولّته بالتربية والتأديب، وأسلمته إلى الكتّاب ليأخذ العلم. 

ثانياً: طلبه للعلم واجتهاده فيه:

بدأ البخاري بحفظ الحديث النبوي منذ نعومة أظفاره قبل أن يبلغ العاشرة من عمره، وأخذ مبادئ العلم والحديث عن شيوخ بلده، ثمّ طاف في البلاد في رحلةٍ طويلةٍ إلى مكة والمدينة والشام والجزيرة وبلخ وبغداد والبصرة والكوفة ومصر وغيرها من البلدان، ولم يدع عالماً إلا أخذ عنه واستفرغ كلّ ما عنده من حديث النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فدوّنه، حتى إنّه أخذ عن أكثر من ألف شيخٍ من المحدّثين، وجمع مئات آلاف الأحاديث في رحلته الطويلة، أكثرها من المرفوع إلى النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ومنها الموقوف على الصحابة، ومنها فتاوى التابعين وغيرهم.

وكان كلّ همّ البخاري ونهمته العلمُ, فلا يغيب فكره عن حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليلاً ولا نهاراً.

 يقول تلميذه محمد بن يوسف الفربري: ((كنت عند البخاريّ بمنزله ذات ليلةٍ، فأحصيت عليه أنَّه قام وأشعل السِّراج يستذكر أشياء يعلّقها في ليلةٍ ثماني عشرة مرَّةً)). [تاريخ بغداد:(2/322)].

وذكر مثله تلميذه محمَّد بن أبي حاتم، فقال: (( كنَّا في سفرٍ, وجمع بيننا بيتٌ واحدٌ إلا في القيظ أحياناً، فكنت أراه يقوم في ليلةٍ واحدةٍ خمس عشرة مرَّةً إلى عشرين مرَّةً، في كلّ ذلك يأخذ القداحة فيشعل ناراً بيده ويسرج ثم يخرِّج أحاديث فيُعلّم عليها ثم يضع رأسه)) [انظر: تاريخ لإسلام للذهبي: (19/ 248)].

الليل ليل العبقريّ نهار     والصَّمت فكرٌ ثاقبٌ وحوارُ

فكان لا يدانيه أحدٌ في علوّ الهمّة والجدّ والاجتهاد، وقد فرّغ كلّ وقته لحفظ الحديث الشريف وتصحيحه وتحقيقه وتدقيقه والتصنيف فيه، دون كللٍ أو ملل، حتَّى صار أعلم أهل زمانه بالحديث النبوي، فنقد الأحاديث ودرس رواتها وطُرُقَها ورجالها وأسانيدها، وبيّن صحيحها من عليلها، وتشهد كتبه ومصنَّفاته على سعة علمه وتفوّقه على أقرانه.

ثالثاً: أهمّ الكتب التي صنّفها:

صنّف الإمام البخاريُّ ما يزيد على عشرين كتاباً، أهمُّها: 

1- (التَّاريخ الكبير) الذي صنّفه قبل (صحيح البخاري) وكان عمره ثماني عشرة سنة، ترجم فيه للصَّحابة والتَّابعين وأتباع التابعين وجميع رواة الحديث، وتكلّم فيهم جَرحاً وتعديلاً، وحال كلِّ راوٍ، وكلام العلماء فيهم، وهو كتابٌ مطبوعٌ في ثمانية أجزاء من الحجم الكبير.

2- التاريخ الأوسط والتاريخ الصغير: وهما مختصران عن التاريخ الكبير.

3- الأدب المفرد: وقد ذكر فيه أحاديث الآداب والأخلاق.

4- خلق أفعال العباد.

5- صحيح البخاري: واسمه: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وسننه وأيَّامه.

وكلّ كلمة من هذا العنوان مقصودةٌ في التسميّة، وقد التزم بها.

رابعاً: اختبار الإمام البخاري:

عندما ذاع صيت الإمام البخاري، وشهد علماء عصره بسعة علمه وسبقه على أقرانه، توجّه إلى بغداد، فسمع أصحاب الحديث بقدومه فاجتمعوا واتَّفقوا على أن يختبروه في مئة حديثٍ يقلبوا متونها وأسانيدها، ووزّعوا المهمة على عشرةِ رجالٍ يسأله كلُّ واحدٍ منهم عشرة أسئلة، وعقدوا موعداً للمجلس فحضر البخاريُّ.

 وتقدّم الأول فقلب الأحاديث وتلاعب بالمتون والأسانيد وسأله، فقال البخاريُّ: لا أعرفها، حتَّى ذكر الأحاديث العشرة، والبخاريُّ يقول لا أعرفها، ثم سأله الثَّاني والثَّالث حتَّى العاشر، وهو يقول: لا أعرفها، وتعجَّب الحاضرون، فكيف  يقال: إنَّ البخاريَّ أعلم النَّاس بالحديث ولم يعرف حديثاً واحداً من أصل مئة حديث!

وعندما فرغوا من الأسئلة أعاد لهم البخاريُّ الأحاديث كما ذكروها مقلوبةً مغلوطةً، ثم صحَّحها واحداً واحداً، فتعجَّب النَّاس من علمه وحفظه. وعلّق الحافظ ابن حجر على هذه الحادثة بعد أن ذكرها فقال: (فما العجب من ردّه الخطأ إلى الصواب، فإنَّه كان حافظاً، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه مرّة واحدة) [تغليق التعليق: (5/415)]  

خامساً: ثناء العلماء على الإمام البخاري وكتابه (صحيح البخاري): 

كان الناس يتزاحمون على مجالس الإمام البخاري ليأخذوا عنه الحديث النبوي، وقد تتلمذ عليه عشرات الآلاف من أهل العلم، يقول تلميذه محمد بن يوسف الفربري: ((سمع كتابَ (الصحيح) لمحمَّد بن إسماعيل البخاري تسعون ألف رجل)) [تاريخ بغداد: (2/9)]    

وقد أثنى على الإمام البخاري عددٌ لا يُحصى من أعلام السُّنَّة، حتّى قال الإمام ابن حجر العسقلاّني: ((ولو فتحتُ باب ثناء الأئمَّة عليه ممَّن تأخَّر عن عصره، لفنيَ القرطاس، ونفدت الأنفاس، فذاك بحرٌ لا ساحل له)) [فتح الباري: (1/485)].

– قال الإمام أحمد بن حنبل-وهو شيخه-: ((ما أخرجت خراسان مثل محمَّد بن إسماعيل البخاريّ)) [شذرات الذهب في أخبار من ذهب (3/ 253)].

– وقال ابن حمدون الأعمشي: سمعت مسلم بن الحجّاج -صاحب الصحيح- يقول لمحمَّد بن إسماعيل البخاريّ: ((لا يعيبك إلّا حاسد، وأشهد أن ليس في الدّنيا مثلك)) [شذرات الذهب: (3/ 253)].

– وقال أبو عيسى التّرمذي: ((ولم أر أحداً بالعراق ولا بخراسان، في معنى العلل والتاريخ، ومعرفة الأسانيد، أعلم من محمَّد بن إسماعيل [البخاري])) [تاريخ بغداد: (2/ 348)].

– وقال النسائيّ: ((ما في هذه الكتب كلها، أجود من كتاب محمَّد بن إسماعيل [البخاري])).

– وقال ابن خزيمة: ((ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ولا أحفظ له من محمَّد بن إسماعيل البخاري)) [مختصر تاريخ دمشق (22/ 25) ، سير أعلام النبلاء: (12/431)]

– وقال عبدَ الله بن عبد الرَّحمٰن الدارميّ: ((محمَّد بن إسماعيل البخاريّ أعلمُنا، وأفقهُنا، وأَغوَصُنا، وأكثرُنا طلَباً)) [البداية والنهاية: (14/ 530)].   

– وقال أبو أحمد الحاكم: ((كان البخاريُّ أحد الأئمَّة في معرفة الحديث وجمعه، ولو قلت: إنّي لم أر تصنيف أحدٍ يشبه تصنيفه في المبالغة والحسن لرجوت أن أكون صادقاً)) [تاريخ الإسلام: (6/146)].

– وقال الإمام النووي: ((واعلم أنَّ وصف البخاري، رحمه الله، بارتفاع المحلِّ والتقدّم في هذا العلم على الأماثل والأقران، مُتّفَقٌ عليه فيما تأخَّر وتقدَّم من الأزمان، ويكفي في فضله أنّ معظم من أثنى عليه ونشر مناقبه شيوخُه الأعلام المبرزون، والحُذَّاق المتقنون)) [تهذيب الأسماء واللغات (1/71)] من أمثال الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. 

– وقال الحافظ المؤرِّخ ابن كثير: ((أبو عبد الله البخاريّ الحافظ، إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدَّم على سائر أضرابه وأقرانه)) [البداية والنهاية: (11/30)].

– وقال الحافظ الفقيه ابن حجرٍ العسقلاني: ((أبو عبد الله البخاريُّ جبل الحفظ، وإمام الدنيا في فقه الحديث)) [تقريب التهذيب: (1/468)], وقال عنه أيضاً: ((هو الإمام العلم الفرد تاج الفقهاء، عمدة المحدِّثين، سيِّد الحفَّاظ)) [تغليق التعليق على صحيح البخاري: (5/384)].

ومن ثمّ نجد أنَّ البخاريَّ قد حقّق كلَّ مقوّمات العلم والحفظ والإتقان من خلال اجتهاده وهمّته في طلب العلم، وكتبه التي تشهد له، واختبار العلماء له، وثناء محدّثي عصره ومَن بعدهم عليه. وإنّ علماء الحديث هم أعلم الناس بالإمام البخاري، ولو لم يَفُقْ أهل زمانه، ويبلغ الدرجة العليا من الحفظ والإتقان ومعرفة رجال الحديث، وطرقه، والحكم عليه، ومعرفة علله، لما ذكره أحدٌ، ولما ذاع صيته؛ لأنّ تحصيل الشهرة كان مبنيّاً آنذاك على العلم والكفاءة والتفوُّق وشهادة أهل العصر.

 ويبدو أنّ الطاعنين بالبخاري لم يتصوّروا حالة عصره، بل لم يشمّوا رائحة العلم، ولو كان لديهم أدنى اطّلاع على قيمة شهادة العلماء في عصر البخاريِّ لما طعنوا فيه؛ لأنَّه لا يمكن لأحدٍ آنذاك أن يتنازل عن مقامه ويشهد بالعلم لمن هو دونه، فكيف يشهد لكذّاب أو مدلّس أو جاهل؟

 وكان المحدّثون يعرفون كلّ مَن يكذب على النّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويزدرونه ويحذّرون منه، ويعرفون الأحاديث التي رواها كذباً.

وإنّ الطاعنين عليه اليوم لا يعلمون ذلك أبداً؛ لأنَّهم بعيدون عن العلم، ويظنّون أنّ الحديث كالكلأ المباح، ليس عليه رقيبٌ ولا محقّقٌ ولا مدقّق، وأنَّ الكذب على النَّبيِّ سهلٌ لا يكشفه أحد، وأنّ الشهرة تُنال بالكذب والتدليس-حسب تصوّرهم- كما نالها الطاعنون الذين سعوا إلى الشهرة بالخديعة ومخالفة الأمّة فوجدوها قريبة المنال، فقاسوا أنفسهم اليوم بالإمام البخاريّ وزمنه بالأمس، ولم يدركوا الفارق العظيم بين الثرى والثريّا، فلم يكن آنذاك ترويجٌ إعلاميٌّ خلاّبٌ للباطل وأهله.

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *