الإلحاد والدروشة

الإلحادُ والدروَشة، وجهان لعملةٍ واحدة

Loading

الإلحادُ والدروَشة، وجهان لعملةٍ واحدة

يروى أنَّ عجوزاً كانت تدعو الله في جوف الليل أن يرزقها طعاماً لأحفادها الأيتام؛ فسمع دعاءها أحدُ الملحدين المستهزئين بالأديان، فأرسل لها صباح اليوم التالي طعاماً، وقال لخادمه: إذا سألتك هذه العجوز: من الذي أرسل الطعام، فقل لها: (الشيطان).

فلما أوصل الخادم الطعام لها شكرته وأرادت أن تغلق الباب، فقال لها الغلام: مهلاً يا سيِّدة ألا تريدين أن تعرفي من الذي أرسل لك الطعام؟ فقالت: لا يهمُّ، لأنَّ الله إذا أراد أن يرزقني سخّر لي من شاء من عباده وإن كان الشيطان.

تلخِّص القصَّة السابقة جدليّةٌ قديمةٌ حديثةٌ عن العلاقة بين الدعاء والأسباب، فإن كان التاريخ الإسلاميّ قد عرف أشخاصاً ساذجين عُرفوا بلقب (الدراويش) تركوا العمل بالأسباب المادّية ظنَّاً منهم أنَّهم لا يحتاجون شيئاً من أسباب الدُّنيا لأنَّهم (متكلون على الإرادة الإلهية)، فقد عرف الحاضر اليوم أناساً تركوا الدعاء والالتجاء إلى الله، بل وربَّما تركوا الدِّين بالكلّية، ظنَّاً منهم أنَّ الأسباب المادية حلّت محلَّ الإرادة الإلهية.

 
تعارضٌ أم توافق؟

ناقشنا في المقال السابق (إله الفجوات المعرفية) إشكالية التعارض بين العلم والدّين في ذهن الملحد، فالنظرة الإلحاديَّة ترى أنَّ أيَّ سببٍ مادّي يعني الاستغناء عن قدرة الخالق؛ فمجرَّد أن يعلم الملحد السبب المادِّي وراء ظاهرةٍ كونيَّةٍ ما، صار الحديث عن القدرة الإلهية المحيطة بالظاهرة بالنسبة إليه عبثاً لا يُفهم.

والمتأمِّل في آيات القرآن الكريم يعلم أنَّ الله سبحانه لم يعطِّل الأسباب المادّية، لكنَّه بيّن أنَّها مسخَّرةٌ بأمره سبحانه، وأنَّه إذا أراد شيئاً دبَّر الأسباب الموصلة إليه. وقد استعرضنا باستفاضةٍ عدداً من تلك الآيات في مقال: (هل تنزل الأمطار برحمة الله أم بتكاثف الغيوم؟) وبيّنا الفرق بين الحكم الإلهي والأسباب المادية في مثال (القاضي والسجّان) في المقال نفسه.

لكن ما يهمُّنا في هذا المقال بيان أنَّه لا تعارض بين الإرادة الإلهية والأسباب المادية، وأنَّ قولي: (إنَّ الله أراد أن يرزقني)، لا يُنافي قولي: (رُزقت بسبب العمل)، بل إنَّ كلا القولين صحيحٌ في مجاله. لكن ظهرت الإشكالية عندما توهَّم بعض الناس أنَّ الإرادة الإلهية والأسباب المادّية يتصارعان على دائرةٍ واحدة، فنشأ التعارض في ذهن كلٍّ من (الملحد) و(الدرويش). ولو علم أحدهما أنَّ لكلٍّ مجاله لربما أعادوا النظر في عقيدتيهما! 

 
الدعاء وخوارق العادات

يحيط في أذهان العديد من البسطاء و”الدراويش” أنَّ دعائيَ بشيءٍ يعني أنَّ الله سيخرق العادات والسُّنن الكونية لكي يحقِّق لي هذا الشيء، وأنَّه إذا لم يتم هذا الأمر الخارق فإنَّ الله لم يستجب لي بعد.

ولو عاد “الدراويش” إلى البوصلة القرآنية، وتأمَّلوا سنن الله في إهلاك الأقوام السابقة، لرأوا أنَّ الله سبحانه وإن أهلك أقواماً بخوارق للعادات كفرعون وجنوده، إلَّا أنّه بيّن لنا في آياتٍ أخرى أنَّه سخَّر لإهلاك أقوامٍ آخرين سنناً كونيَّةً يراها كثيرٌ من الناس كوارث طبيعية. فقد أهلك سبحانه قوم عادٍ بالريح العاتية:

 ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ ۖ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ[سورة الأعراف : 15 – 16].

كما سخَّر سبحانه هذه السُّنَّة الكونية نفسها لينصر نبيَّه على الأحزاب:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا[سورة الأحزاب : 9].

وقد وردت في القرآن الكريم قصصٌ عن إهلاك زروع بعض الظالمين وفقاً لسننٍ كونية لا تحتاج إلى ما يخرق العادة، كقصَّة صاحب الجنَّتين في سورة الكهف، وأصحاب الجنَّة في سورة القلم.

فقال تعالى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَٰلَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّىٓ أَحَدًا[سورة الكهف : 42].

 ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ[سورة القلم : 19 – 20].

 
متى يعتبر الملحد؟

تفصل العقلية الإلحادية -كما أشرنا- بين الإرادة الإلهية والسنن الكونية، فلا يعتبر الملحد بما يراه من نُذرٍ كونيةٍ لأنَّه يعزوها إلى أسبابها المادّية دون أن يتبصّر أو يذّكر. فعندما يرى الملحد إهلاك قومٍ بسنَّةٍ طبيعيةٍ كالزلازل والبراكين والفيضانات، نجده يعلِّل الأمر بحركاتٍ طبيعيةٍ في القشرة الأرضية في عودةٍ إلى السجال الذي أشرنا إليه في المقال السابق: (إله الفجوات المعرفية) تحت عنوان: (معرفة الكيفية، والاستغناء عن الموجِد).

تكمن المشكلة في هذه العقلية في أنَّها عصيَّةٌ على الاعتبار، ففي قصَّة أصحاب الجنَّة التي أشرنا إليها، نجد أنَّ أصحاب الجنَّة قد تابوا بعد أن رأوا جنَّتهم قد احترقت، إذ علموا أنَّ ما أصابهم ليس إلَّا عقوبةً من الله سبحانه. فكان ما أصابهم نذيراً لهم بين يدي عذابٍ شديد، ولم يُرجعوا بلاءهم إلى الصدفة المحضة أو الحتمية المادية في مصير المزروعات التي كانت ستحترق بسبب (كذا وكذا) من جملة الأسباب المادية.

فلا فرق عند الملحد بين الجنَّة التي تصدَّق أصحابها، والجنَّة التي منع أصحابها زكاة أموالهم، فالأمر يرجع إلى الأسباب المادّية وحدها، لذلك يَسخَر الملحدون من المؤمنين عندما يردِّدون أذكار الصباح والمساء ويستعيذون بالله من شرِّ كلِّ يومٍ وليلة، ولا يفهمون معنى: (داووا مرضاكم بالصدقة، وحصِّنوا أموالكم بالزكاة) وما ذلك إلَّا لأنَّ العقلية الإلحادية لا تستطيع أن ترى ما كانت تراه العجوز في القصَّة التي ذكرناها في بداية المقال.

ربَّما يعتبر الملحد بحالةٍ وحيدة، وهي عندما يرى هلاك قومٍ بخارقٍ للعادة، مثل فرعون وجنوده، عندها فقط يرى الملحد أنَّ هذه العقوبة هي عقوبةٌ إلهيَّة، فإذا خرقت العادة فهذا دليلٌ على عقاب الله وإلَّا فإنَّ الله لم يعاقب، حاله كحال (الدرويش) الذي ينتظر خارقاً للعادة كي يعلم أنَّ الله قد استجاب له، فالحياة الدنيا وسننها لا علاقة لها بالله.

 مرَّةً أخرى نرى أنَّ كلَّاً من الملحد والدرويش يتشاركان الأفكار ذاتها! 

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *